تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن (١).

وفيه بالإسناد عن عبيد بن زرارة ، قال : دخل ابن قيس الماصر ، وعمر بن زرّة وأظنّ معهما أبو حنيفة على أبي جعفر عليه‌السلام ، فتكلم ابن قيس الماصر فقال : إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا عن الإيمان في المعاصي والذنوب.

قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : يا ابن قيس أمّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد قال : لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي يستفاد منها اعتبار العمل في حقيقة الإيمان وفي صدقه ، بل يستفاد من بعضها كالخبر الأخير أنّ المسألة كانت مطرحا للأنظار في عصر الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم ، وأنّه كان مذهب الإمام عليه‌السلام اعتباره في معناه ، ولعلّ هذه الأخبار هي الّتي ركن إليها متقدّموا أصحابنا فيما يعزى إليهم.

إطلاقات الايمان

والّذي يظهر لي من التأمّل في الأخبار والآيات هو أن له باعتبار مراتبه إطلاقات : أحدها ما مرّت إليه الإشارة من أنّه التصديق بالعقائد الحقّة والأصول الخمسة ، وهذا هو الّذي يترتّب عليه حقن الدماء والأموال ، وصحّة الأعمال واستحقاق الثواب والنجاة من الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة وغيرها

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٨٤ وعنه البحار ج ٦٩ ص ٦٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٨٥ وعنه البحار ج ٦٩ ص ٦٣.

١٢١

ممّا يعمّ خصوص الفرقة الحقّة دون غيرهم من أرباب المذاهب والملل ، وهذا المعنى هو الّذي يبحث عنه الفقهاء في مسألة شرايط الإمام ومستحقّ الزكاة ، والكفاءة في النكاح ونحوها ، وعليه ينزّل كثير من الآيات والأخبار.

بل في المعاني عن حفص الكناسي (١) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا؟ قال : يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، ويقرّ بالطاعة ، ويعرف إمام زمانه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن (٢).

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : المؤمن مؤمنان : فمؤمن صدق بعهد الله ، ووفى بشرطه ، وذلك قوله عزوجل : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٣) ، فذلك الّذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة ، وذلك ممّن يشفّع ولا يشفّع له ، ومؤمن كخامة الزرع تعوج أحيانا وتقوم أحيانا ، فذلك ممّن تصيبه اهوال الدنيا وأهوال الآخرة ، وذلك ممّن يشفع له ولا يشفع (٤).

أقول : الخامة من الزرع هي الطاقة الليّنة من الزرع ، والمراد باعوجاج المؤمن ميله الى الشهوات النفسانيّة وبقيامه استقامته على طريق الحقّ ومخالفته الأهواء الباطلة.

وفي الكافي مرفوعا عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ الله علم أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب ، ولو لا ذلك ما أبتلي مؤمن بذنب أبدا (٥).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على ابتلاء المؤمنين بالذنوب ،

__________________

(١) في البحار : عن جعفر الكناسي.

(٢) معاني الأخبار ص ٣٩٣ وعنه البحار ج ٦٩ ص ١٦.

(٣) الأحزاب : ٢٣.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٢٤٨ وعنه البحار ج ٦٧ ص ١٨٩ ح ١.

(٥) الكافي ج ٢ ص ٣١٣ وعنه البحار ج ٧٢ ص ٣٠٦ وفيه : لما أبتلي

١٢٢

وتمحيص ذنوبهم بالبلاء وأنواع المصائب في الدنيا ، وبشدّة النزع عند الاحتضار ، وببعض أنواع العذاب في البرزخ ، وفي المحشر ، وأنّ شفاعة والأئمّة صلّى الله عليهم أجمعين مدّخرة لأهل الكبائر من المؤمنين ، بل الظاهر تواترها معنى عليه ، ولذا ادّعى غير واحد منهم الإجماع على ذلك ، وإنّما عدّوا المخالف بعض المخالفين وسائر الفرق.

قال المحقق الطوسي في «قواعد العقائد» : اختلفوا في معنى الإيمان ، فقال بعض السلف : إنّه إقرار باللّسان ، وتصديق بالقلب ، وعمل صالح بالجوارح ، وقالت المعتزلة : أصول الإيمان خمسة : التوحيد ، والعدل ، والإقرار بالنبوة ، وبالوعد والوعيد والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال الشيعة : اصول الإيمان ثلاثة : التصديق بوحدانية الله تعالى في ذاته والعدل في أفعاله ، والتصديق بنبوّة الأنبياء وبامامة الأئمة المعصومين صلّى الله عليهم أجمعين ، والتصديق بالأحكام الّتي يعلم يقينا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم بها ، دون ما فيه الخلاف ...

إلى أن قال : وصاحب الكبيرة عند الخوارج كافر ، لأنّهم جعلوا العمل الصالح جزء الإيمان ، وعند غيرهم فاسق ، والمؤمن عند المعتزلة والوعيديّة لا يكون فاسقا ، وجعلوا الفاسق الّذي لا يكون كافرا منزلة بين المنزلتين : الإيمان والكفر ، وهو عندهم يكون في النار خالدا ، وعند غيرهم المؤمن قد يكون فاسقا وقد لا يكون ، وتكون عاقبة الأمر على التقديرين الخلود في الجنّة.

ويقرب منه ما ذكره في كتاب المسائل.

وقال الخواجة الطوسي (ره) في التجريد : الإيمان التصديق بالقلب واللسان ...

إلى أن قال : والفسق الخروج من طاعة الله مع الإيمان به.

وقال العلّامة أعلى الله مقامه في شرحه : اختلف الناس في الفاسق ، فقالت

١٢٣

المعتزلة : إنّ الفاسق لا مؤمن ولا كافر ، واثبتوا له منزلة بين المنزلتين ، وقال الحسن البصري : إنّه منافق ، وقالت الزيديّة : إنّه كافر نعمة ، وقالت الخوارج : إنّه كافر ، والحقّ ما ذهب إليه المصنّف ، وهو مذهب الإماميّة والمرجئة ، وأصحاب الحديث ، وجماعة الأشعريّة من أنّه مؤمن (١).

إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة أو الظاهرة في إطباق الإماميّة عليه ، بل وافقنا فيه كثير ممن خالفنا مستدلّين بظواهر كثير من الآيات ، ملخّصها لعطف عمل الصالح عليه ، واقترانه بالمعاصي في قوله تعالى :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (٢).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (٣).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (٤) ، وغيرها من الآيات الكثيرة.

الإطلاق الثاني للإيمان هو الإقرار بالعقائد الحقّة المتقدّمة مع الإتيان بجملة من الفرائض ، أو خصوص ما ثبت وجوبه من القرآن وترك الكبائر الّتي أوعد الله عليها النار.

وعلى هذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة والزكاة والحجّ ، إن لم تكن الأخبار محمولة على صورة الاستحلال ، ويحمل عليه أيضا ما ورد من أنّه لا يزني

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ط قم المصطفوي.

(٢) الحجرات : ٩.

(٣) البقرة : ١٧٨.

(٤) التوبة : ٣٨.

١٢٤

الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السّارق وهو مؤمن (١).

الإطلاق الثالث للايمان الإقرار بالعقائد المذكورة مع فعل جميع الفرائض ، وترك جميع المحرمات.

رابعها : أنّ الإيمان ـ مضافا ـ إلى الأمور السابقة :

فعل المندوبات وترك المكروهات بل المباحات.

وبين كلّ مرتبة وتاليتها مراتب متفاوتة ودرجات متفاضلة ولذا ورد : انّ من الإيمان التامّ الكامل تمامه ، ومنه الناقص المبيّن نقصانه ، ومنه الزائد البيّن زيادته (٢).

وفي «الخصال» عن عبد العزيز ، قال : دخلت على ابي عبد الله عليه‌السلام فذكرت له شيئا من أمر الشيعة ومن أقاويلهم ، فقال : يا عبد العزيز الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم له عشر مراقي وترتقي منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولنّ صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء ولا يقولنّ صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست علي شيء ، حتى انتهى إلى العاشرة ، ثم قال : وكان سلمان في العاشرة وأبو ذر في التاسعة ، والمقداد في الثامنة فيها ، يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك ، وإذا رأيت الّذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعا رفيعا فافعل ، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره لأنّك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته (٣).

ومن هنا يظهر أنّ إختلاف الأخبار محمولة على إختلاف المراتب

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٨٤ وعنه البحار ج ٦٩ ص ٦٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٤٠ ـ ٤٢ ج ٦ وعنه البحار ج ٦٩ ص ٢٣.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٤٤ وعنه البحار ج ٦٩ ص ١٦٥ ـ ١٦٦.

١٢٥

والدرجات باعتبار ما يختصّ به كلّ منها من الفوائد والثمرات ، وبهذا الإعتبار قد ينفى الإيمان عمّن فقد شيئا من المراتب.

ففي «الكافي» عن علي بن جعفر قال سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : ليس كلّ من يقول بولايتنا مؤمنا ولكن جعلوا انسا للمؤمنين (١).

وورد في أخبار كثيرة أنّ المؤمن قليل قليل ، وأنّه أعزّ من الكبريت الأحمر ، والغراب الأعصم (٢).

ويظهر من بعضها أنّ المؤمنين هم الأئمّة المعصومون عليهم صلوات الله.

بل قد ورد في وجه تسمية المؤمن مؤمنا ما يدلّ على اختصاصه بمن يسمع شفاعته لغيره في الدنيا والآخرة.

ففي العلل عن الّصادق عليه‌السلام قال : إنّما سمّي المؤمن مؤمنا لأنّه يؤمّن على الله فيجيز أمانه (٣).

وفي المحاسن عن سنان بن طريف عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ فقلت : لا أدري إلّا أنّه أراه يؤمن بما جاء من عند الله ، فقال : صدقت ، وليس لذلك سمّي المؤمن مؤمنا ، فقلت : لم سمّي المؤمن مؤمنا ، قال : إنّه يؤمن على الله يوم القيامة فيجيز إيمانه (٤).

أقول : وقد تضمّن هذا الخبر وجهين للتسمية ، ويظهر من غيرها وجوه أخر ، مثل ما رواه في العلل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أنبّئكم لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم ، ألا انبّئكم من المسلم؟ من سلم الناس من يده

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦٧ ص ١٦٥ عن الكافي.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٤٢ وعنه البحار ج ٦٧ ص ١٥٩ ح ٣.

(٣) علل الشرائع ج ٢ ص ٣١٩ وعنه البحار ج ٦٧ ص ٦٠.

(٤) المحاسن ص ٢٢٩ وعنه البحار ج ٦٧ ص ٦٠.

١٢٦

ولسانه (١).

وفي صفات الشيعة باسناده عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ قال : لأنّه اشتقّ للمؤمن اسما من أسمائه تعالى فسمّاه مؤمنا ، وإنّما سمّي المؤمن لأنّه يؤمن من عذاب الله ويؤمّن على الله يوم القيامة فيجيز له ذلك ، وأنّه لو أكل أو شرب أو قام أو قعد ، أو نام ، أو نكح ، أو مرّ بموضع قذر خوّله الله تعالى من سبع أرضين طهرا لا يصل إليه من قذرها شيء (٢).

ثمّ إنّه بعد ما علم عدم مدخليّة الأعمال مطلقا أو في الجملة في أدنى الإيمان ومسمّاه فهل المعتبر فيه هو التصديق بالجنان أو الإقرار باللّسان ، أو الأمران معا؟ ذهب الى كلّ فريق ، والأظهر الأشهر هو الأوّل ، لأنّه سبحانه قد أضاف الإيمان إلى القلب في قوله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٣) ، وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٤) ، وقوله تعالى : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٥) ، وقوله تعالى : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٦) ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٧).

هذا مضافا الى أنّه أقرب الى معناه اللّغوي الّذي قد سمعت أنّه مطلق

__________________

(١) علل الشرائع ص ٢١٩ وعنه البحار ج ٦٧ ص ٦٠.

(٢) مستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٢٠٣.

(٣) المجادلة : ٢٢.

(٤) المائدة : ١٤١.

(٥) الحجرات : ١٤.

(٦) النحل : ١٠٦.

(٧) الفتح : ٤.

١٢٧

التصديق ، فإنّه من أفعال القلوب ، وإن اختلفوا في أنّ المعتبر من التصديق هل هو التصديق اليقيني الثابت الجازم الناشئ من الأدلّة ، او أنّه يتحقّق مع فقد بعض القيود ، أو كلّها ، على أقوال لا داعي للتعرض لها في المقام.

وممّا سمعت وغيره يظهر ضعف القول الثاني المنسوب إلى الكرّاميّة (١) ، وإن استدلّوا له

بالنبوي عليه‌السلام : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله (٢).

وبقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسامة (٣) حين قتل من تكلّم بالشهادتين : هل شققت قلبه (٤).

واستدلّوا أيضا بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة كانوا يكتفون في الخروج عن الكفر بكلمتي الشهادة.

ولكن ضعف المجموع واضح ، فإنّ اعتبار اللسان إنّما هو بالنسبة الى الحكم الظاهري في الكشف عن حقيقة الإيمان ، واين هذا من اعتباره في نفس الحقيقة.

__________________

(١) هم أتباع محمّد بن كرّام السجستاني المتكلم المتوفى سنة (٢٤٤) في بيت المقدس.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٧ ص ١١٣.

(٣) هو اسامة بن زيد بن حارثة الكلبي وامّة أمّ ايمن توفي سنة (٥٤) ـ العبر في خبر من غبر ج ١ ص ٥٩.

(٤) بحار الأنوار ج ٢١ ص ١١ عن تفسير القمي في تفسير («وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) ... (سورة النساء : ٩٤).

قال بعث النبي (ص) اسامة بن زيد في خيل الى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم الى الإسلام وكان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك فلمّا أحسّ بالخيل جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل فأقبل يقول : اشهد ان لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، فمرّ به أسامة فطعنه وقتله ، فلمّا رجع الى رسول الله (ص) وأخبره بذلك فقال له رسول الله (ص) : قتلت رجلا شهد ان لا اله إلّا الله وانّي رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوّذا من القتل ، فقال رسول الله (ص) : «فلا شققت الغطاء عن قلبه ، لا ما قال بلسانه قبلت ولا ما كان في نفسه علمت ... إلخ تفسير القمي ص ١٣٦ ـ ١٣٧.

١٢٨

ولعلّ من هذا وغيره يظهر أيضا ضعف القول الثالث ، وان اختاره المحقق الطوسي في التجريد ، مستدلّا بأنّه لا يكفي التصديق بالقلب دون اللسان لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١) حيث أثبت للكفّار الاستيقان النفسي وهو التصديق القلبي ، فلو كان الإيمان هو التصديق القلبي فقط لزم اجتماع الكفر والإيمان وهو باطل لأنّهما متقابلان ، ولقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (٢) حيث أثبت لهم الكفر مع المعرفة القلبيّة ، ولا يكفي الإقرار باللسان دون التصديق أيضا ... لقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٤) حيث نفي عنهم الايمان مع اعترافهم به باللسان.

إذ فيه أنّ الاستدلال على الثاني وان كان صحيحا موجّها جدّا ، إلّا أن دليله على الأوّل أخصّ من المدّعى فإنّ الآية إنّما دلّت على ثبوت الكفر مع الجحود والإنكار الّذي هو سبب مستقلّ للحكم بالكفر كإنكار الضروري وغيره ، واين هذا من الحكم بالكفر بمجرد ترك الإقرار باللسان مع التصديق بالجنان ، ولعلّه هو السبب لرجوعه عن ذلك في غير التجريد من كتبه كقواعد العقائد ، والفصول على المحكي وان كان استفادته منهما لا يخلو عن تأمّل.

ولقد أجاد شيخنا الطبرسي حيث ذكر أنّ أصل الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله ، وكلّ عارف بشيء فهو مصدّق به ، واستدلّ عليه

__________________

(١) النمل : ١٤.

(٢) البقرة : ٨٩.

(٣) الحجرات : ١٤.

(٤) البقرة : ٨.

١٢٩

بهذه الآية من حيث دلالة عطف إقامة الصلاة وغيرها على المغايرة ، وبالنبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الايمان سرّ وأشار الى صدره ، والإسلام علانية ، قال : وقد يسمّى الإقرار إيمانا كما يسمّى تصديقا ، إلّا أنّه متى صدر من شكّ أو جهل كان إيمانا لفظيّا لا حقيقيا ، وقد يسمّى أعمال الجوارح أيضا ايمانا استعارة وتلويحا كما يسمّى تصديقا كذلك ، فيقال : فلان يصدّق أفعاله مقاله ، ولا خير في قول لا يصدّقه الفعل ، والفعل ليس بتصديق حقيقي باتّفاق أهل اللغة ، وإنّما استعير له هذا الإسم على الوجه الّذي ذكرناه ، فقد آل الأمر مع صحّة الرضوي الّذي رواه الخاصّ والعامّ من أنّه هو التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، وأنّه قول مقول ، وعمل معمول ، وعرفان بالعقول ، وإتباع الرسول الى أنّ الإيمان هو المعرفة بالقلب والتصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة ، ولا يطلق لفظه إلّا على ذلك ، إلّا أنّه يستعمل في الإقرار باللسان او العمل بالأركان مجازا واتّساعا (١) ، انتهى كلامه زيد مقامه.

ثم إنّك بعد الإحاطة بما قرّرناه لا يخفى عليك ضعف سائر الأقوال في المسألة وإن أنهاها بعضهم الى عشرة فصاعدا إلا أنّ الجميع مشترك في الضعف مردود بإجماع الإماميّة على خلافه بعد الكتاب والسنّة وإن ذهب إليها بعض المخالفين والخوارج والنصّاب.

الإيمان بالغيب

ـ تبصرة ـ : انظر كيف بدء الله سبحانه في أوّل هذه السورة الّتي هي أساس القرآن ، وهو مفتتح كتابه بأنّه هو النور المبين وهو هدى للمتقين ، ثمّ سمّاهم

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٨ ـ ٣٩.

١٣٠

بأحسن أسمائهم ، ووصفهم بأشرف صفاتهم ونعّتهم بما هو الأصل والأساس لساير أسمائهم الحسنى وصفاتهم العليا ، وهو إيمانهم بالغيب ، حتّى صار ما غاب عنهم لقوة الإيمان بمنزلة العيان ، فإنّ الإيمان نور إلهي ينقذف في القلب من التصديق والإذعان لله تعالى ولأنبيائه وأوليائه ، وهو يقبل الشدّة والضعف ، والزيادة والنقصان بحسب الكمّية والكيفيّة فيزيد شيئا فشيئا بزيادة الإعتبار والإستبصار ، والعلم الموجب لزيادة العمل وحسنه وخلوصه المؤدّي إلى زيادة المعرفة وجلاء البصيرة ، فإنّ كلّا من العلم والعمل يدور على الآخر ، الى ان ينتهي الى اليقين متدرّجا في مراتبه إلى أن يصل إلى معاينة الحقائق والتحقق بها في جميع المراتب. وهذا كلّه من مراتب الإيمان الّذي تنفتح معه البصيرة الباطنة ، ولذا ورد : إنّ المؤمن له أربعة أعين ، عينان في ظاهر البدن ، وعينان في باطن القلب ، وبهما يطّلع على الحقائق ، وينجلي ضياء المعرفة في قلبه ، ويترشّح النور من قلبه على ساير جوارحه فلا يصدر شيء منها من حركة أو سكون أو فعل او انفعال إلّا ما هو مقتضى الإيمان ، ورضى الرحمان ، ومطردة الشيطان.

وذلك لأنّه قد استولى وغلب على قلبه التصديق والإذعان والمعرفة بالله وبأنبيائه ورسله وحججه ، وباليوم الآخر ، ووعده ، ووعيده ، وغير ذلك ممّا رأته القلوب بحقائق الايمان ، وشهود الأنوار ، وإن لم ترها العيون الّتي في الأبدان بمشاهدة الأبصار ، بحيث لم يبق في قلبه متّسع لغير ذلك ، فصار إيمانه هو الحاكم المتصرّف في نفسه فضلا عن بدنه على جهة الاستقامة على مقتضى الولاية الّتي هي حقيقة العبوديّة لله سبحانه طوعا واختيارا بحيث لا يكاد يميل قلبه إلى غيرها رغبا أو رهبا بعد استقرار السكينة في قلبه.

والحاصل أنّ للإيمان الكامل آثارا من حيث التخلّق بالأخلاق الفاضلة الروحانية ، والإشتغال بالأعمال الصالحة البدنيّة ، وكلّها ناشية عن كمال الإذعان

١٣١

والتصديق بالأصول الحقيقيّة ، والعقائد الايمانيّة تفصيلا أو إجمالا ولو على وجه التسليم وردّ العلم بالتفصيل أو الكيفيّة إلى عالمه.

ولذا ورد في أخبار كثيرة الأمر بالتسليم وترك الإنكار فيما يعجز عقولنا عن إدراكه والإحاطة بكيفيّته كمعرفته سبحانه ، وكون صفاته عين ذاته بلا مغايرة اعتبارية ، إلى غير ذلك من غرائب علم التوحيد ، وغرائب أحوال النبيّ والأئمّة صلّى الله عليهم أجمعين من بدء كينونتهم واتحادهم في عالم الأنوار واحاطتهم الكليّة على ما في صقع عالم الأكوان ، وكينونة سائر الأنبياء والملائكة من فاضل طينتهم ، وأنّ قائمهم المهدي عجّل الله فرجه الشريف يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. وغير ذلك من أطوار البرزخ وأحوال القيامة وأهوالها ، والجنة والنار ممّا علم من الدين إجمالا او تفصيلا ، فإنّ ذلك كلّه من الإيمان بالغيب الّذي يتبعه العبوديّة والعمل الصالح من حيث الشدّة والضعف والزيادة والنقصان.

البداء ودفع الإشكال

لعلّك يختلج في بالك أنّ من الغيب الّذي يلزمنا الإيمان به هو القول بالبداء ، فإنّه ما عبد الله عزوجل بشيء مثل البداء (١) ، وما عظّم سبحانه بمثله (٢) ، وما بعث الله تعالى نبيّا قطّ حتى يأخذ عليه الإقرار بالعبوديّة وخلع الأنداد ، وأنّ الله تعالى يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤ ص ١٠٧ ح ١٩ عن توحيد الصدوق.

(٢) البحار ج ٤ ص ١٠٧ ح ٢٠ عن توحيد الصدوق.

(٣) البحار ج ٤ ص ١٠٨ ح ٢١ عن توحيد الصدوق.

١٣٢

وقد تواترت به الأخبار عن أهل البيت عليه‌السلام ، بل قد علم ذلك من ضرورة المذهب وإن طعن به علينا بعض الجهلة من المخالفين ، حسبما تسمع إن شاء الله تمام الكلام في تحقيقه وفي رفع شبه المخالفين في تفسير قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (١).

ثم إنّ مقتضى الإيمان به أنّ له سبحانه محو ما شاء من التكوينيّات وتبديله بغيره ما لم يظهر في الوجود العيني ، ومن البيّن أنّ ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليه‌السلام من ظهور الحجّة ، وأحوال الرجعة ، وتحقق القيامة ، والحساب ، والصراط ، والميزان ، والجنّة للمطيعين ، والنار للعاصين ، وغير ذلك من الأمور الكثيرة كلّها من التكوينيّات الّتي يتطرّق إليها احتمال البداء ، ويلزمنا الإيمان به ومعه كيف يمكن التصديق العلمي والإعتقاد الجزمي بتلك الأمور من حيث التحقّق والوقوع سيّما مع وقوعه فيما هو من اصول الاماميّة ، كإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق عليه‌السلام ، وغيره ممّا وقع فيه البداء.

والجواب أنّ هذه الأمور الّتي قد تواتر الأخبار بها من الأنبياء والأئمّة عليه‌السلام حتى صارت من ضروريات الدين بل من الأصول العلميّة الّتي يجب اعتقادها على جميع المؤمنين ممّا لا يتطرّق إليها احتمال المحو والتغيّر والتبدّل ، ولا مجال للقول بالبداء فيها ، حتّى أنّ الوعيديّة قالوا : بوجوب العذاب مع كثرة ما ورد من الوعد بالعفو والصفح ، فتلك الأمور وما ضاهاها من العقائد الإيمانيّة لم نؤمر باعتقاد البداء فيها بل أمرنا فيها بالاعتقاد بالتحقّق والوقوع كما هي كذلك في الواقع.

ولذا قال مولانا الباقر عليه‌السلام على ما رواه في المحاسن والعيّاشي في تفسيره قال عليه صلوات الله : العلم علمان : علم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه ،

__________________

(١) سورة الرعد : ٣٩.

١٣٣

وعلم علّمه ملائكته ورسله ، فأمّا ما علّمه ملائكته ورسله فإنّه سيكون لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون يقدّم فيه ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويثبت ما يشاء (١).

وروى العيّاشي باسناده عنه عليه‌السلام ، قال : من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة ، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدّم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا (يعني الموقوفة) فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته (٢).

والمراد بالاطلاع المنفي هو إطلاع الخلق على وجه التبليغ وإيصال الأنبياء من الله سبحانه ، ولذا قوبل بقوله : وأمّا ما جاءت به الرسل.

ومن هنا يرتفع التنافي أيضا بين ما دلّ منها على عدم وقوعه فيما وصل إليهم علمه وما دلّ على وقوعه في ذلك مثل ما دلّ على البداء في ظهور الحجّة عجّل الله فرجه للتوقيت والإفشاء (٣).

وفي دفع ميتة السوء عن اليهودي الّذي سلّم على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسام ثم أتبعه بالصدقة (٤).

وعن المرأة الّتي أخبر بموتها عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام في ليلة زفافها (٥) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

وأمّا وقوع البداء في إسماعيل فهو ممنوع بجملة من معانيها الّتي هي البداء

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤ ص ١١٣ ح ٣٦ عن المحاسن والعياشي.

(٢) البحار ج ٤ ص ١١٩ ح ٥٨ عن العيّاشي.

(٣) البحار ج ٥٢ ص ١١٧ ح ٤٢.

(٤) البحار ج ٤ ص ١٢١ ح ٦٧ عن الكافي.

(٥) البحار ج ٤ ص ٩٤ ح ١ عن امالي الصدوق.

١٣٤

في العلم ، أو في الإرادة ، أو في الأمر ، أو في العقل ، لذا أنكره المحقّق الطوسي ، وغيره ، بل من الواضح المتواتر من طرق الامامية وغيرهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضبط أسماء الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وصفاتهم ، وأنّها مكتوبة على الألواح السماوية وعلى العرش ، معروضة على الأنبياء عليهم‌السلام لا يتطرّق إليهم النقص والتبديل قد اختارهم الله تعالى (عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

ولذا قال شيخنا الصدوق رحمه‌الله في التوحيد : إنّ معنى قول الصادق عليه‌السلام : ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل ابني أنّه ما ظهر لله أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني إذ اخترمه (١) قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي (٢).

قال الصدوق بعد الرواية : وقد روي لي من طريق أبي الحسين الأسدي رضوان الله عليه في ذلك شيء غريب ، وهو أنّه روى أنّ الّصادق عليه‌السلام قال : ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل أبي ، إذ امر أباه بذبحه ثم فداه (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

وفي الحديث على الوجهين جميعا عندي نظر (٣).

هذا مع أنّه لم يرد النصّ على إسماعيل من أحد من الأئمّة عليهم‌السلام فكيف البداء ، نعم كان الصادق عليه‌السلام يحبّه حبّا شديدا ، ويكرمه إكراما عظيما بحيث يتوهم بعض الناس أنّه الإمام بعده.

وروي أنّه لمّا مات في حياة الإمام عليه‌السلام بالعريض قرب المدينة قبل وفاة الإمام بعشرين سنة حمل على أعناق الرّجال وجزع أبو عبد الله عليه‌السلام عليه جزعا شديدا ، وتقدّم سريره بغير حذاء ولا رداء ، وأمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه

__________________

(١) اخترمه : أهلكه.

(٢) بحار الأنوار ج ٤ ص ١٠٩ في ذيل ح ٢٦ عن التوحيد.

(٣) البحار ج ٤ ص ١٠٩ عن توحيد الصدوق.

١٣٥

مرارا ، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه ، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانّين خلافته له من بعده وإزالة الشبهة عنهم في حياته.

بل روي أنّه عليه‌السلام عقد على وفاته محضرا وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة ، وقد ظهر قريبا سرّ الإشهاد على موته وكتابة المحضر عليه ، ولم يعهد ميّت سجّل على موته ، وذلك أنّه لمّا رفع الى المنصور أنّ إسماعيل بن جعفر رئي بالبصرة واقفا على رجل مقعد فدعا له ، فبرأ باذن الله ، بعث المنصور الى الصادق عليه‌السلام أنّ ابنك إسماعيل في الأحياء ، وأنّه رئي بالبصرة ، فأنفذ عليه‌السلام السجلّ إليه ، وعليه شهادة عامله بالمدينة فسكت.

تفسير

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)

الإقامة إفعال من القيام بمعنى الانتصاب ، أو القوام بفتح القاف بمعنى العدل ، ومنه : قوله تعالى : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (١) والظاهر كونه حقيقة فيه كما هو الصّحاح والقاموس والمحكي عن تغلب وغيره ، بل قد يشعر به الخبر المروي في تفسير الآية ، والهمزة للتعدية فمعنى أقام الشيء على الأوّل جعله منتصبا ، وإذا قوّم العود قيل : أقامه أي سوّاه وأزال اعوجاجه ، ثم استعيرت الإقامة من تسوية الأجسام الّتي قيل إنّها حقيقة فيها إلى تسوية المعاني كإقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها.

إلّا أنّ الأظهر كما قيل أنّه لا حاجة إلى التزام التجوّز فإنّها حقيقة في التسوية والتعديل من غير اختصاص بشيء من الأجسام والمعاني ، والتسوية والتعديل في

__________________

(١) الفرقان : ٦٧.

١٣٦

الصلاة بحفظ حدودها واحراز قيودها ورفض نواقصها وموانعها.

أو مأخوذة من قامت السوق إذا نفقت وأقامها أي جعلها نافقة غير كاسدة ، فكأنّه جعلت المداومة عليها أو حسن المحافظة على حدودها ووظائفها بمنزلة نفاق السوق وعدم كسادها حيث إنّ كلّا من النفاق والمداومة وحسن المحافظة جعل متعلقه مرغوبا فيه متوجّها إليه ، ومنه قول الشاعر :

أقامت غزالة سوق الضراب

لأهل العراقين حولا قميطا

أو مأخوذة من قامت الحرب على ساقها ، أو قام فلان بالأمر ، إذا تجلّد وتشمّر لأدائها من دون توان فيها ولا فتور منها ، فإن حقيقة قيام الشخص بالأمر تلبّسه به قائما ويلزمه عرفا اعتنائه بشأن ذلك الأمر وتشمّره له وتجلّده فيه ، ولذا يقال في ضدّه : قعد عن الأمر وتقاعد.

أو من القيام الّذي هو من أجزاء الصلاة المتّصف بالوجوب الركني وغيره وبالاستحباب ولذا قال عليه‌السلام : «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له» (١).

قيل : ومنه : قد قامت الصلاة ، وإنّه إنما ذكر القيام لأنّه أوّل أركانها وأمدّها ، مع أنّه ربما يعبّر عنها بغيره من أركانها كالركوع والسجود ، بل ومن ساير أجزائها كالقنوت والتسبيح.

أو مأخوذة من القائم للشيء بمعنى الراتب الدائم ، ومنه قولهم : فلان يقيم أرزاق الجند ، أي يديمها ، قال في الصحاح : أقام الشيء أي أدامه من قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

أو أنّه بمعنى الفعل والأداء على وجه التجريد ، وقد يحمل عليه قول الصادق عليه‌السلام لحمّاد : «ما أقبح بالرجل منكم فأتى عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا

__________________

(١) الحدائق ج ٨ ص ٦٠ عن المحاسن والكافي.

١٣٧

يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة» (١) لكنّه بعيد في الآية ، بل في الخبر أيضا.

نعم ربما يرجّح المعنى الأوّل على غيره نظرا إلى أنّه أشهر ، وإلى الحقيقة أقرب ، وأفيد ، لتضمّنه التنبيه على أنّ الحقيق بالمدح من يراعي حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى ، لا المصلّون (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، ولذلك ذكر في سياق المدح (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) (٢) وفي معرض الذمّ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (٣).

أقول : وفيه أنّ دعوى الأشهريّة ممنوعة ، بل وكذا الأقربيّة ، ولو سلّمنا الأخيرة فهو إنّما يوجب الترجيح على غير الحقيقة ، وقد سمعت كونه حقيقة على الوجه الثاني.

وأمّا ما أفاده عن زيادة الفائدة فمن البيّن أنّه لا اختصاص له بالأوّل ، بل المداومة والتجلّد والنفاق أوجب لحسّ القبول بسبب الكمال أيضا كذلك وإن كان كلّ منها موجبا للكمال من وجه.

ومن هذا من بعد ملاحظة ما مرّت الإشارة إليها غير مرّة يظهر أنّ الأولى الحمل على المستجمع لجميع صفات لكمال من جهة حسن الفعل وتسويته ونفاقه وحسن الاهتمام به والتشمّر لأدائه والمداومة على فعله بعد اشتماله على الآداب والوظائف الداخلة والخارجة.

ولذا ورد في النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ تسوية الصفّ من اقامة الصلاة» (٤) ، وفي

__________________

(١) الحدائق ج ٨ ص ٢ عن الوسائل الباب ١ من افعال الصلاة.

(٢) النساء : ١٦٢.

(٣) الماعون : ٤.

(٤) الحدائق ج ١١ ص ١٦٨ عن صحاح العامّة مثل سنن ابي داود وصحيح مسلم وصحيح البخاري.

١٣٨

تفسير الإمام عليه‌السلام أنّه تعالى قال : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يعني بإتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها وحدودها ، وضيافتها عمّا يصدّها وينقضها ، ثم قال : وحدّثني أبي ، عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من خيار أصحابه أبو ذرّ الغفاري فجاء ذات يوم ، فقال : يا رسول الله إنّ لي غنيمات قدر ستّين شاة اكره أن ابدو فيها وأفارق حضرتك وخدمتك ، واكره أن أكلها إلى راع فيظلمها أو يسيء رعيها فكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابدأ فيها ، فبدأ فيها ، فلمّا كان في اليوم السابع جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا ذر ، قال : لبّيك يا رسول الله ، قال : ما فعلت غنيماتك؟ قال : يا رسول الله إنّ لها قصّة عجيبة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما هي؟ قال : يا رسول الله بينا أنا في صلاتي إذ عدا الذئب على غنمي ، فقلت : يا ربّ صلاتي ويا ربّ غنمي ، فآثرت صلاتي على غنمي ، وأخطر الشيطان ببالي : يا أبا ذر أين أنت إن عدت الذئاب على غنمك وأنت تصلّي فأهلكتها وما يبقى لك في الدنيا ما تتعيّش به؟

فقلت للشيطان : يبقى لي توحيد الله تعالى ، والإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموالاة أخيه سيّد الخلق بعده علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وموالاة الأئمة الهادين الطاهرين من ولده ، ومعاداة أعدائهم ، وكل ما فات من الدنيا بعد ذلك سهل ، فأقبلت على صلاتي ، فجاء ذئب فأخذ حملا وذهب به وأنا أحسّ به إذ أقبل على الذئب أسد فقطّعه نصفين واستنقذ الحمل وردّه الى القطيع ، ثمّ ناداني يا أبا ذرّ أقبل على صلاتك فإنّ الله قد وكّلني بغنمك الى أن تصلّي ، فأقبلت على صلاتي وقد غشيني من التعجّب ما لا يعلمه إلّا الله تعالى حتى فرغت منها فجاءني الأسد وقال لي امض الى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره أنّ الله تعالى قد أكرم صاحبك الحافظ لشريعتك ، ووكّل أسدا بغنمه يحفظها. فعجب من كان حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقت يا أبا ذر ، ولقد آمنت به أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال بعض

١٣٩

المنافقين : هذا المواطاة بين محمّد وأبي ذرّ ، يريد أن يخدعنا بغروره ، واتفق منهم عشرون رجلا وقالوا : نذهب إلى غنمه وننظر إليها وننظر إليه إذا صلّى هل يأتي الأسد فيحفظ غنمه؟ فذهبوا ونظروا وأبو ذر قائم يصلّي ، والأسد يطوف حول غنمه ويرعاها ، ويردّ إلى القطيع ما شذّ عنه منها ، حتّى إذا فرغ من صلاته ناداه الأسد : هاك قطيعك مسلّمة وافرة العدد سالمة ، ثم ناداهم الأسد : معاشر المنافقين أنكرتم لولي محمّد وعليّ وآلهما الطيّبين والمتوسّل إلى الله بهم أن يسخّرني الله ربّي لحفظ غنمه ، والّذي أكرم محمّدا وآله الطيبين الطاهرين لقد جعلني الله طوع يد أبي ذرّ حتى لو أمرني بافتراسكم وهلاككم لأهلكتكم ، والّذي لا يحلف بأعظم منه لو سئل الله بمحمّد وآله الطّيّبين أن يحوّل البحار دهن زنبق وبان والجبال مسكا وعنبرا وكافورا ، وقضبان الأشجار قضب الزمرّد والزبرجد لما منعه الله ذلك.

فلمّا جاء أبو ذر الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا ذر إنّك أحسنت طاعة الله فسخّر الله لك من يطيعك في كفّ العوادي (١) عنك ، فأنت من أفاضل من مدحه الله عزوجل بأنّه يقيم (٢) الصلاة (٣).

الصلاة بحسب اللغة

(والصّلوة) فعله بالتحريك من صلّى كالزكاة من زكى لا من ذوات الواو ، وإثباتها فيهما خطّا للتفخيم أي إمالة الالف نحو مخرج الواو ، ولا ثالث لهما ، وهو

__________________

(١) العوادي جمع العادية من العدوان ، أو من عدا على الشيء إذا اختلسه.

(٢) في نسخة : بأنّهم يقيمون الصلاة.

(٣) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٢٦ ـ ٢٧ وعنه بحار الأنوار ج ٢٢ ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤ ح ١.

١٤٠