تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد ، هذا هو الجزء الثاني من مقدّمة الكتاب القيّم «الصراط المستقيم» تأليف العلامة النحرير ، والرجالي الخبير ، والمفسّر البصير ، آية الله السيّد حسين بن السيد رضا البروجردي قدّس الله سرّه العزيز.

وهذا الجزء كسابقه يحتوي على مطالب رشيقة ، وحقائق دقيقة ينبغي لكلّ سألك يسلك سبيل فهم القرآن الكريم أن يعلمها.

المفتقر إلى رحمة ربّه الغفور

غلام رضا بن علي أكبر

الملقّب ب «مولانا» البروجردي

٥
٦

الباب الخامس

في أن في القرآن تبيان كل شيء

وجامعيته للعلوم والحقائق

وكيفية انشعابها منه

٧
٨

اعلم أن العلم التفصيلي بهذا الباب لا يحصل إلا لمن آتاه الله علم الكتاب ، وفصل الخطاب ، وميّز القشر من اللّباب ، وكان واقفا مقيما في الكون الكبير على باب الأبواب ، لإطاعه على حقائق الملك والملكوت ، وإفاضته على سرادق سلطان الجبروت ، ودوام فقره وعبوديته وانقطاعه الى الحّي الذي لا يموت ، كي يطّلع بعد ذلك بما هنالك من أسرار التشريع والتكوين ، وينطبق عنده إشارات التدوين ، وأما نحن ومن هو في درجتنا فإنّما آمنّا بذلك من جهة الإيمان بالغيب الذي هو من مراتب الإيمان ودرجات التقوى وذلك لما تقرر عندنا من مساوقة التدوين للتكوين بعد ما استفاضت به الأخبار من أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أشهده الله خلق خلقه ، وولّاه ما شاء من أمره وانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله يعلمون جميع ما في السّماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما فوقهن وما تحتهن ، كل ذلك علم إحاطة ، كما ورد في بعض الأخبار. ويشهد له الإعتبار ، أو علم اخبار كما هو القدر المعلوم من الشريعة.

هذا مضافا الى الآيات والأخبار الدالّة على اشتماله على كل شيء من التكوينات والتشريعات ، كقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، وقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٢) ، بناء على إرادة الكتاب منه ، وقوله :

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) يس : ١٢.

٩

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١) ، وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) ، الى غير ذلك من الآيات الظاهرة بنفسها لعمومها في ذلك ، سيّما بعد ورود البيان والتفسير لها في الأخبار.

فروى العيّاشي في تفسيره عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : (نحن والله نعلم ما في السّماوات ، وما في الأرض ، وما في الجنة ، وما في النار ، وما بين ذلك) ثمّ قال : إن ذلك في كتاب الله ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٣).

وفي الكافي عنه عليه‌السلام : (إن الله أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتى والله ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد أن يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن إلّا وقد أنزله الله فيه) (٤).

وفيه عنه عليه‌السلام : (إنّي لأعلم ما في السموات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنّة وأعلم ما في النّار ، وأعلم ما كان وما يكون ، ثم سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه) فقال عليه‌السلام : (علمت ذلك من كتاب الله عزوجل ، إن الله يقول : «فيه تبيان كل شيء» (٥).

وفيه عنه عليه‌السلام : ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله ، ولكن

__________________

(١) النمل : ٧٥.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) تفسير العياشي ... طبع طهران ج ٢ ص ٢٦٦ ، البرهان ج ٢ ص ٣٨٠.

(٤) الأصول من الكافي ج ١ ص ٥٩.

(٥) الأصول من الكافي ج ١ ص ٢٦١ ، ط. الآخوندي مع تعليقة الغفاري ، ولا يخفى أن جملة (فيه تبيان كلّ شيء) نقل بالمعنى لأنها تكون هكذا (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

١٠

لا تبلغه عقول الرّجال (١).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : إنّ الله لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل عليه دليلا يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا (٢).

وفيه عن أبي الجارود قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشيء فاسئلوني أين هو من كتاب الله عزوجل؟ ثمّ قال في بعض حديثه : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القيل والقال ، وفساد المال وكثرة السؤال ، فقيل له : يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله تعالى؟ قال عليه‌السلام : إنّ الله يقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (٣) ، وقال : (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) (٤) ، وقال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥) (٦).

وفيه عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : (والله إني لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي ، فيه خبر السّماء وخبر الأرض ، وخبر ما كان ، وخبر ما هو كائن ، قال الله عزوجل : «فيه تبيان كل شيء» (٧).

__________________

(١) الأصول من الكافي ج ١ ص ٦٠.

(٢) الأصول من الكافي ج ١ ص ٥٩.

(٣) النساء : ١١٤.

(٤) النساء : ٥.

(٥) المائدة : ١٠١.

(٦) الأصول من الكافي ج ١ ص ٦٠.

(٧) الأصول من الكافي ج ١ ص ٢٢٩ ، قد مرّ أنّ جملة «فيه تبيان كلّ شيء» نقل بالمعنى فإنّها في القرآن هكذا : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

١١

وفي «تأويل الآيات» نقلا عن «مصباح الأنوار» لشيخ الطائفة بالإسناد عن المفضّل قال : دخلت على الصّادق عليه‌السلام ذات يوم ، فقال لي يا مفضّل هل عرفت محمّدا وعليّا وفاطمة والحسن والحسين عليهما‌السلام كنه معرفتهم؟ قلت : يا سيّدي وما كنه معرفتهم؟ قال عليه‌السلام : يا مفضّل من عرفهم كنه معرفتهم كان مؤمنا في السّنام الأعلى (١) ، قال : قلت : يا سيدي عرّفني ذلك ، قال : يا مفضّل تعلم أنّهم علموا ما خلق الله عزوجل وذرأه وبرأه ، وأنّهم كلمة التقوى ، وخزّان السماوات والأرضين ، والجبال ، والرّمال ، والبحار ، وعلموا كم في السّماء من نجم ، وملك ، ووزن الجبال ، وكيل ماء البحار ، وأنهارها ، وعيونها ، وما تسقط من ورقة إلّا علموها ، (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٢) وهو في علمهم وقد علموا ذلك ، فقلت يا سيّدي وقد علمت ذلك وأقررت به وآمنت قال عليه‌السلام : نعم يا مفضّل يا مكرّم ، نعم يا محبور ، نعم طيّب طبت وطابت لك الجنة ولكلّ مؤمن بها) (٣).

وفي «البصائر» ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبيه ، عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام : قال : قلت له : جعلت فداك ، النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورث علم الأنبياء كلّهم؟ قال عليه‌السلام : نعم ، قلت : من لدن آدم إلى انتهى الى نفسه؟ قال : نعم قلت : ورثهم النبوّة وما كان في آبائهم من النبوّة والعلم؟ قال عليه‌السلام : ما بعث الله نبيا إلّا وقد كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم منه ، إلى أن قال عليه‌السلام وسليمان بن داود قال للهدهد حين فقده

__________________

(١) السنام الأعلى : أي أعلى مدارج الإيمان ، وسنام كلّ شيء أعلاه.

(٢) الأنعام : ٥٩.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ص ٣٠٣ ط القديم عن مصباح الأنوار.

١٢

وشكّ في أمره : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) (١) وكان المردة (٢) والريح ، والنمل ، والإنس ، والجنّ ، والشياطين له طائعين ، وغضب عليه ، فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣) وإنّما غضب عليه لأنه كان يدلّه على الماء ، فهذا وهو طير قد أعطي ما لم يعط سليمان. الى أن قال عليه‌السلام : إنّ الله يقول في كتابه : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (٤) فقد ورثنا نحن هذا القرآن ، فعندنا ما تسير به الجبال ، وتقطع به البلدان ، ويحيى به الموتى بإذن الله ، ونحن نعرف ما تحت الهواء ، وإن كان في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر من الأمور التي أعطاها الله الماضين النبيين والمرسلين إلّا وقد جعله الله تعالى ذلك كله لنا في أمّ الكتاب ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥) ، ثم قال عزوجل : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٦) ، فنحن الذين اصطفانا الله فقد ورثنا علم هذا القرآن الّذي فيه تبيان كل شيء. (٧)

وفي «تفسير القمي» وغيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر طويل وفيه : فجاءهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنسخة ما في الصحف الأولى ، وتصديق الذي بين يديه ،

__________________

(١) النمل : ٢٠.

(٢) المردة : بفتح الميم والراء والدال جمع المارد وهو العاصي والمراد بها الجن.

(٣) النمل : ٢١.

(٤) الرعد : ٣١.

(٥) النمل : ٧٥.

(٦) فاطر : ٣٢.

(٧) البحار ج ١٤ ص ١١٢ ح ٤ عن الكافي ج ١ ص ٢٢٦.

١٣

وتفصيل الحلال من ريب الحرام ، وهو ذلك القرآن ، فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخباره ، فيه علم ما مضى ، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحكم ما بينكم ، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون ، فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأنّي أعلمكم الخبر (١).

وفي «البصائر» عن الصادق عليه‌السلام إنّ في القرآن ما مضى وما يحدث وما هو كائن.

وفي «الكافي» عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث أنه قال : ما من شيء تطلبونه إلّا وهو في القرآن فمن أراد ذلك فليسألني عنه (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة له مذكورة في نهج البلاغة : ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقّده ، وبحرا لا يدرك قعره ومنهاجا لا يضلّ نهجه ، وشعاعا لا يظلم ضوئه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعزّا لا تهزم أنصاره ، وحقّا لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته (٣) وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه (٤) وأثافي (٥) الإسلام وبيانه ، وأودية الحقّ وغيطانه (٦) ، وبحر لا ينزفه

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٢٢ ط القديم.

(٢) بحار الأنوار ج ١٠ ص ٢٦ ط القديم.

(٣) بحبوحة المكان ـ بضم البائين ـ : وسطه.

(٤) الرياض : جمع روضة وهي مستنقع الماء في رمل أو عشب ، والغدران بضم الغين : جمع غدير : القطعة من الماء يغادرها السيل ، والمراد أن القرآن يجمع العدل تلتقي فيه متفرقاتها.

(٥) الأثافي : جمع أثفية وهو الحجر يوضع عليه القدر ، أي : عليه قام الإسلام.

(٦) غيطان : جمع غاط أو غوط ، وهو المطمئن من الأرض ، يقول عليه‌السلام : القرآن منابت الحق يزكو الحق بها وينمو.

١٤

المنتزقون (١) وعيون لا ينضبها الماتحون (٢) ومناهل لا يغيضها الواردون (٣) ومنازل لا يضلّ نهجه المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون وآكام لا يجوز عنها القاصدون (٤) جعله الله ريّا لعطش العلماء (٥) ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصلحاء (٦) ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزّا لمن تولّاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن أئتمّ به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاجّ به (٧) وحاملا لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله ، وآية لمن توسّع ، وجنّة لمن استلأم (٨) ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى (٩).

وفي «المناقب» عن بكير بن أعين قال : قبض أبو عبد الله عليه‌السلام ذراع نفسه وقال : يا بكير هذا والله جلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذه والله عروق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعلم ما في الأرض ، وأعلم ما في الدنيا ، وأعلم ما في الآخرة ، فرأى تغيّر جماعة ، فقال : يا بكير إنّي لأعلم ذلك من كتاب الله إذ يقول : (نَزَّلْنا عَلَيْكَ

__________________

(١) لا ينزفه : أي لا يفنى مائه ولا يستفرغه المغترفون.

(٢) ولا ينضبها ـ كيكرمها ـ : أي لا ينقصها ، والماتحون جمع ماتح : نازع الماء من الحوض.

(٣) المناهل : جمع المنهل : مواضع الشرب من النهر ، ولا يغيضها من باب الإفعال : أي لا ينقصها.

(٤) آكام : جمع أكمة : وهو الموضوع المرتفع وهو دون الجبل في غلظ لا يبلغ الحجرية.

(٥) الري ـ بكسر الراء وفتحها ـ : مصدر روي يروي من باب علم : روى من الماء : أي شرب وشبع.

(٦) المحاج جمع محجة : وهي الجادة من الطريق.

(٧) الفلج بفتح الفاء ، الظفر والفوز.

(٨) الجنة بضم الجيم : ما به يتقى الضرر ، واستلأم : لبس اللامة وهي الدرع أو جميع أدوات الحرب.

(٩) نهج البلاغة تأليف السيد الرضي المتوفي سنة ٤٠٦ في ذيل خطبة ١٩٦.

١٥

الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١) (٢).

وفي تفسير فرات عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : سلوني قبل أن تفقدوني فو الّذي فلق الحبّة وبرىء النسمة إنّي لأعلم بالتوراة من أهل التوراة ، وإنّي لأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل ، وإنّي لأعلم بالقرآن من أهل القرآن ، والذي فلق الحبّة وبرىء النسمة ما من فئة تبلغ مائة إلى يوم القيامة إلّا وأنا عارف بقائدها وسائقها ، سلوني عن القرآن ، فإنّ في القرآن بيان كلّ شيء ، فيه علم الأولين والآخرين ، وإنّ القرآن لم يدع لقائل مقالا : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٣).

وعن كتاب سليم بن قيس في خبر طويل أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها الله تعالى على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عندي بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّي بيده ، وتأويل كلّ آية أنزلها الله على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ حلال ، أو حرام ، أو حدّ ، أو حكم ، أو شيء تحتاج إليه الأمّة الى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطي بيدي ، حتى أرش الخدش الخبر (٤).

__________________

(١) النحل : ٨٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٣٠٢ وج ١٩ ص ٢٣ ط. القديم.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ باب جهات علومهم ص ٢٩٠ ط. القديم عن فرات بن إبراهيم.

(٤) بحار الأنوار ج ٧ باب جهات علومهم ص ٢٩١ ط القديم كتاب سليم بن قيس. ولا يخفى أن سليم بن قيس كان من كبراء أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ومصنفيهم وكان هاربا من الحجّاج لأنه طلبه ليقتله فلجأ الى أبان بن أبي عياش فآواه فلّما حضرته الوفاة قال لأبان : إن لك عليّ حقا وقد حضرتني الوفاة يا بن أخي أنه كان من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كيت وكيت ، وأعطاه كتابا وهو كتاب سليم بن قيس المشهور ، رواه عنه ابن أبي عياش لم يروه عنه غيره ، وكتابه هذا أقدم كتاب صنّف في الإسلام في عصر التابعين بعد كتاب السنن لابن أبي رافع وكان ذلك الكتاب في جميع الأعصار أصلا ترجع الشيعة اليه وتعول عليه حتى روي في حقه عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : ومن لم يكن عنده من شيعتنا ومحبّينا كتاب

١٦

وعن الحسن بن سليمان (١) في كتاب «المختصر» ممّا رواه من كتاب نوادر ـ الحكمة عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام في قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (٢) فقد أورثنا الله تعالى هذا القرآن ، ففيه ما يسير به الجبال وتقطّع به الأرض ويكلّم به الموتى ، إنّ الله تعالى يقول في كتابه العزيز : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) ، وقال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٤) فنحن الذين اصطفانا الله عزوجل فورثنا هذا الكتاب الّذي فيه كلّ شيء (٥).

وفي «البصائر» عن عبد الأعلى قال أبو عبد الله عليه‌السلام ابتداء منه : والله إنّي لأعلم ما في السموات وما في الأرض ، وما في الجنّة وما في النّار ، وما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة ، ثم قال : أعلمه من كتاب الله أنظر اليه هكذا ثم بسط كفيّه ثم قال عليه‌السلام إنّ الله يقول : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٦) (٧).

وفيه بأسانيد عديدة عنه عليه‌السلام : إنّي لأعلم ما في السموات وأعلم ما في الأرضين وأعلم ما في الجنّة ، وأعلم ما في النّار ، وأعلم ما كان وما يكون ، ثم

__________________

سليم بن قيس فليس عنده من أمرنا شيء. مقدمة بحار الأنوار للشيخ عبد الرحيم الشيرازي.

(١) الحسن بن سليمان بن خالد البجلي فاضل ، فقيه ، تلميذ الشهيد ، ويروي عنه ، له مصنفات منها مختصر بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله الأشعري ، ومنها المختصر في الرد على الذين أنكروا حضور النبي والأئمة عليهم‌السلام عند المحتضر.

(٢) الرعد : ٣١.

(٣) النمل : ٧٥.

(٤) فاطر : ٣٢.

(٥) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩١ باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب ط القديم.

(٦) النحل : ٨٩.

(٧) بحار الأنوار ج ٧ ص ٣٠٢ باب أنهم عليهم‌السلام لا يحجب عنهم علم السماء والأرض. ط القديم.

١٧

مكث هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه ، فقال عليه‌السلام : علمت ذلك من كتاب الله تعالى إنّ الله يقول : «فيه تبيان كل شيء» (١) (٢).

وفي «الخرائج» عن عبد الله بن الوليد السمان قال : قال الباقر عليه‌السلام : يا عبد الله ما تقول في عليّ وموسى وعيسى؟ قلت : ما عسى أن أقول ، قال عليه‌السلام : هو والله أعلم منهما ثمّ قال : ألستم تقولون : إنّ لعلي ما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من العلم؟ قلنا : نعم ، والنّاس ينكرون ، قال عليه‌السلام فخاصمهم فيه بقوله تعالى لموسى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) ، فعلمنا أنّه لم يكتب له الشيء كلّه ، وقال لعيسى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) (٤) فعلمنا أنه لم يبيّن له الأمر كله ، وقال لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٥) (٦).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ربما مرّ ويمرّ عليك ذكر بعضها في طي المقدمات ، وفي تضاعيف تفاسير بعض الآيات ، وهي كما ترى ما بين ظاهرة وصريحة في ذلك ، والعموم في بعضها كالمشتملة على ما تحتاج إليه الأمة ، وحد كلّ شيء حتى أرش الخدش ، وغيرها وإن من كان جهة الأحكام الشرعية ، والأمور التعبدية ، إلّا أنّه لا منافاة فيها لما يدلّ عليه غيرها ظهورا أو صراحة من

__________________

(١) قد مر سابقا ان هذه الجملة «فيه تبيان كل شيء» ليست من القرآن ، بل هي منقولة بالمعنى من آية : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ٣٠٢ باب أنهم عليهم‌السلام لا يحجب عنهم علم السماء والأرض. ط القديم.

(٣) الأعراف : ١٤٥.

(٤) الزخرف : ٦٣.

(٥) النحل : ٨٩.

(٦) بحار الأنوار ج ٧ ص ٣٢٢ باب أنهم عليهم‌السلام أعلم من الأنبياء. ط. القديم.

١٨

الشمول للحوادث ، والكينونات الدنيوية ، والأخروية ، ولذا صرّحوا عليهم‌السلام بأنّ فيه علم ما في السماوات وما في الأرض ، وما في الجنة ، وما في النار إلى غير ذلك مما يؤيّد به الآيات المتقدمة ، وإلّا فالإنصاف أنّها أيضا مستقلّة في الدلالة على ذلك بعمومها الذي ينبغي صرفه إلى الحقيقة.

وتوهّم أنّه مشتمل على آيات وألفاظ معدودة متناهية دالّة بوجوه الدلالات العرفية المنحصرة في الثلاث (١) فكيف يكون المدلول بها تلك المعاني الكثيرة المشتملة على جميع ما مضى وما يأتي إلى يوم القيامة ، بل وبعد القيامة من الأحوال ، والأطوار ، والأفعال الكثيرة المتجددة الغير المتناهية الدائمة بدوامه سبحانه.

مدفوع بأنّ قلة الألفاظ وتناهيها لا تمنع من كثرة المعاني ولا تناهيها إذا كانت هناك سعة من جهة الدلالة ، ألا ترى أنّ الحروف المقطّعة منحصرة في ثمانية وعشرين حرفا وبها يعبّر من حيث وجوه التركيب وفنون الترتيب عن جميع المعاني والمقاصد التي يقع التعبير عنها بين أهل العالم في محاوراتهم ، ومكاتباتهم ، وتصانيفهم ، فالمعاني لا ريب في لا تناهيها مع أنه يعبّر عنها بالألفاظ وإن لم يحط التعبير إلّا بالمحدود منها.

فإن قلت : إنّ وجوه الدلالة محصورة معروفة عند أهل المعرفة باللسان

__________________

(١) الدلالة اللفظية الوضعية تنقسم على ثلاثة أقسام : المطابقة والتضمن والالتزام كما قال التفتازاني في التهذيب : دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج التزام. وكما قال المتأله السبزواري في منطقه :

دلالة اللفظ بدت مطابقة

حيث على تمام معنى وافقه

وما على الجزء تضمنا وسم

والخارج المعنى التزام إن لزم

١٩

فلو دلّ القرآن على جميع المعاني والمفاهيم والحقائق والوقايع والحوادث اليومية الجزئية حتى خصوص الحركات الصادرة عن خصوص أفراد الإنسان في جميع الأزمان بل ساير الشؤون والأحوال والأطوار والحركات ، والخطرات ، والإرادات ، والاقتضاءات الواقعة في جميع العوالم من الغيب ، والشهادة في الفلكيات والعنصريات ، والمركبات المعدنية ، والنباتية ، والحيوانية لفهمها أهل اللسان الذين قد أنزل الله تعالى بلسانهم الرسول والقرآن كما قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (١) ، وقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢) وقال : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣) وقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٤).

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الدالّة على ذلك على أنّ المفسّرين من الخاصّة العامّة قد تصدّوا لتفسيره وتنقيره ، وتشمّروا للفحص عن تنزيله وتأويله فلم يزيدوا على ما دوّنوه من تفاسيرهم مع أنّهم ذكروا كلّ ما قيل من حقّ أو باطل ، وأين هذا من كلّ الأحكام التي ذكروا أنّ القرآن لا يستفاد منه إلّا أقل قليل من مجملاتها ، ولذا فزعوا إلى العمل بأخبار الآحاد ، بل إلى ساير الطرق الظنّية في استنباط الأحكام الشرعية ، بل أين هذا من جميع الحقائق التكوينية والحوادث الكونية المتعلقة بجميع ذرّات العالم مما كان أو يكون إلى يوم القيامة.

قلت : هذا كلّه اجتهاد في مقابل النصوص ، وجرأة في الردّ على أهل الخصوص ، وقد قال سبحانه : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

(٢) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٣) القمر : ١٧.

(٤) الزخرف : ٣.

٢٠