تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

ومنها : أنّ فيها إلزاما لليهود ، وحجّة عليهم ، حيث علموا بأخبار أنبيائهم أنّ الكتاب المنزل على خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفتتحة سورها بالحروف المقطّعة.

والى هذين الوجهين أشار مولانا العسكري عليه‌السلام في تفسيره حيث قال : كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا : سحر مبين (تَقَوَّلَهُ) ، فقال الله عزوجل (الم)(ذلِكَ الْكِتابُ) أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة الّتي أل م ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثم بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...) الآية.

قال الله عزوجل : (الم) هو القرآن الّذي افتتح بالم هو (ذلِكَ الْكِتابُ) الّذي أخبر به موسى ، ومن بعده من الأنبياء ، وأخبروا بني إسرائيل أنّي سأنزل عليك يا محمد كتابا عربيّا عزيزا (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ... (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ فيه لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم أنّ محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء (١) يقرأه هو وأمّته على سائر أحوالهم (هُدىً) بيان من الضلالة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتّقون الموبقات ، ويتّقون تسليط السفه على أنفسهم ، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم.

ثمّ قال : وقال الصادق عليه‌السلام : ثمّ الألف حرف من حروف قولك : الله ، دلّ بالألف على قولك : الله ، ودلّ باللام على قولك : الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين ، ودلّ بالميم على أنّه المجيد المحمود في كلّ أفعاله ، وجعل هذا القول حجّة على اليهود ، وذلك أنّ الله تعالى لما بعث موسى بن عمران ، ثم من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل ، لم يكن فيهم قوم إلّا أخذوا عليهم العهود والمواثيق ليؤمننّ بمحمّد العربي

__________________

(١) في نور الثقلين : لا يمحوه الباطل.

٦١

الأمّي المبعوث بمكّة الّذي يهاجر منها الى المدينة يأتي بكتاب الله بالحروف المقطّعة افتتاح بعض سوره ، يحفّظه أمّته فيقرءونه قياما وقعودا ومساء وصباحا ، وعلى كل حال ، يسهّل الله حفظه عليهم ، ويقرنون بمحمّد أخاه ووصيّه علي بن أبي طالب الآخذ منه علومه الّتي علّمها ، والمتقلّد عنه أماناته الّتي قلّدها ، ومذلّل كلّ من عاند محمدا بسيفه الباتر ، ومفحم كلّ من جادله وخاصمه بدليله القاهر ، يقاتل عباد الله على تنزيل كتاب الله حتّى يقودهم الى قبوله طائعين وكارهين ، حتى إذا صار محمّد الى رضوان الله تعالى ، وارتدّ كثير ممّن كان أعطاه ظاهرا الإيمان ، وحرفوا تأويلاته ، وغيّروا معانيه ووصفوها (١) على خلاف وجهها. قاتلهم بعد ذلك عليّ على تأويله حتى يكون إبليس الغاوي لهم هو الخاسئ الذليل المطرد المغلول.

قال : فلمّا بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهره بمكّة وسيّره منها الى المدينة وأظهره بها ، ثمّ أنزل عليه الكتاب وجعل افتتاح سورته الكبرى (الم) يعني ال م (ذلِكَ الْكِتابُ) ، وهو الكتاب الّذي أخبرت أنبيائي السالفين أنّي سأنزله عليك يا محمّد (لا رَيْبَ فِيهِ).

فقد ظهر كما أخبر به أنبيائه ، وأنّ محمّدا ينزل عليه كتاب مبارك لا يمحوه الماء يقرئه هو وأمّته على سائر أحوالهم ... الى آخر ما مرّ (٢).

ولعلّ المراد بقوله عليه‌السلام «لا يمحوه الماء» أنّه لا ينسخه شيء إلى يوم القيامة.

وفي «النهاية الأثيرية» : في الخبر أنّه قال فيما يحكي عن ربّه : «وانزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا» أراد أنه لا يمحى أبدا ، بل هو محفوظ (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ... (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ، وكانت الكتب

__________________

(١) في نور الثقلين : ووضعوها على خلاف وجوهها.

(٢) نور الثقلين ج ١ ص ٢٧ ـ ٢٨ ح ٧ عن تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام.

٦٢

المنزّلة لا تجمع حفظا ، وإنّما يعتمد في حفظها على الصحف ، بخلاف القرآن فإنّ حفّاظه أضعاف مضاعفة لصحفه.

وقوله : «تقرأه نائما ويقظانا» أي تجمعه في حالتي النوم واليقظة ، وقيل : أراد تقرأه في يسر وسهولة.

* تنبيه *

اعلم انّ هذه الوجوه الستّة المتقدمة المستفادة من آثار أهل البيت عليهم‌السلام ممّا لا تنافي بينها أصلا بعد ما سمعت من اشتمال كلمات القرآن وآياته على العلوم الغزيرة والبطون الكثيرة الّتي لا يعلمها (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، وعلى هذا فيصحّ إرادة الجميع ، وإن كان كلّ ذلك بعضا قليلا من أبعاض ما أريد منها ممّا لا نحيط به علما ، ولم يبلغنا علمها عن العالم بها ، ولذا قال عليه‌السلام : «إنّ فيها لعلما جمّا» (١) ، ولعلّه هو المراد بقول من قال : إنّها من المتشابهات.

بل قد سمعت أنّ بعض الأخبار الواردة في تفسيرها ، مثل ما يتعلّق بعدد سني القائم عليه صلوات الله وزمان ظهوره أيضا من المتشابهات.

بل في «مجمع البيان» : أختلف العلماء في هذه الحروف : فذهب بعضهم إلى أنّها من المتشابهات الّتي استأثر الله بعلمها ، ولا يعلم تأويلها إلّا هو ، وهذا هو المرويّ عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وروت العامّة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : إنّ لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.

وعن الشعبي قال : الله تعالى في كتاب سرّ ، وسرّه في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ١٠٦.

٦٣

قال : وفسّرها الآخرون على وجوه ، ثمّ ساق الكلام في عدّها (١).

ولعلّه أراد بكونها من المتشابهات عدم استفادة شيء منها أصلا حتّى الإفحام والإعجاز والتسكيت وغيرها ممّا عدّها في أقوال الآخرين ، ولذا قابله بها فيه وفي كثير من كتب التفاسير ، وهو وإن لم يكن به بأس في نفسه ، وإن لم أعرف قائله بالخصوص ، إلّا أنّه لا ينبغي حمل ما روي عن أئمتنا عليهم‌السلام ، لورود بعض البيانات عنهم فيها.

فالأولى هو القول بكونها باعتبار تمام ما هو المراد من معانيها وإشارتها وكيفيّات تأليفها والاستخراج منها من المتشابهات والأسرار ، وإن فزنا ببركة أهل البيت عليهم‌السلام برشحة من السحاب الماطر ، وقطرة من البحر الزاخر.

وأمّا في تفسير الرازي نقلا عن المتكلّمين من أنّهم أنكروا القول بالمتشابه فيها ، بل في القرآن مطلقا ، نظرا إلى الآيات الآمرة بالتدبّر والتذكر ، أو الدالّة على كون القرآن هدى ، وذكرا ، ونورا ، وتبيانا ، وبيّنا ، وبلاغا ، وعربيّا ، وغير ذلك مما يستفاد منه وضوح معانيه لعامّة العارفين باللّغة.

مضافا إلى أنّه لو ورد شيء لا سبيل الى العلم به لكانت المخاطبة تجري مجرى مخاطبة العربي باللّغة الزنجيّة.

وإنّ المقصود من الكلام الإفهام ، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا لا يليق بالحكيم.

وأنّ التحدّي وقع بالقرآن ، وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التعدّي به (٢) فضعفه واضح جدّا بعد ما سمعت في المقدّمات من اشتمال القرآن على

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢.

(٢) مفاتيح الغيب للفخر الرازي ج ٢ ص ٤.

٦٤

المتشابه الّذي لا يعلم تفسيره (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (١).

بل بعد دلالة ظاهر الآية بل صريحها عليه ، فكان الوجوه المذكورة في الرّد ردا على الله سبحانه وتعالى في صريح كلامه.

مضافا الى ما فيها من الضعف والقصور ، فإنّ التدبّر وغيره حاصل بالنسبة إلى غير المتشابه مطلقا ، وإلى المتشابه بعد ردّه إلى المحكم ، ووصول البيان من أهل الذكر ، والمخاطبة الكلّيّة إنّما كانت الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا ورد : إنّما يعرف القرآن من خوطب به (٢) إشعارا على أنّه لا علم به بتمامه لغيره من علّمه إيّاه.

مع أنّه قد يقال : إنّ من جملة المحكم في إنزال المتشابهات أنّ المبطل لمّا علم اشتمال القرآن عليها يتأمله ويصغى إليه ، ويجتهد في التفكر فيه رجاء أنّه ربما وجد بيانه في بقيّة كلامه ، أو يجد فيها شيئا يقوّي قوله ، وينصر مذهبه في إبطاله ، فيصير ذلك سببا لوقوفه على المحكمات المخلصة له من الضلالات.

وامّا ما ربما يتراءى من كلام المفسّرين في المقام من التنافر بين تلك المعاني بحيث يمنع من الجمع بينها ، ولذا حكوا الاختلاف فيها ونسبوا كلا من الأقوال إلى قائل.

بل قال الرازي : إنّ المفسّرين ذكروا وجوها مختلفة ، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي ، فإمّا أن يحمل على الكلّ وهو متعذّر بالإجماع لأنّ كلّ واحد من المفسّرين إنّما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة ، وليس فيهم من حملها على الكلّ (٣).

__________________

(١) راجع سورة آل عمران : ٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ١٣٩ ط ، القديم باب تأويل (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ)

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ٨.

٦٥

ففيه أنّه لا مانع من الحمل المذكور بعد قيام الدليل عليه من الأخبار المتقدّمة ، بل وكذا الحال في كثير من الكلمات والآيات ، بل كلّها بعد ما هو المعلوم من إرادة ظاهرها وباطنها إلى سبعة أبطن أو سبعين بطنا ، قد نبّهنا في المقدمات أنّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع كون الجميع حقايق أو مجازات أو ملفّقا منهما ، بل يجوز مع ذلك إرادة الإشارات المدلولة عليها بصور الحروف وترتيبها وتركيبها وإعدادها وغير ذلك بعد توجيه الخطاب الى العالم بالدلالة والإرادة.

وأمّا ما ادّعاه من الإجماع فلا ينبغي الإصغاء إليه ، سيّما بعد الإطلاع على ما هو الحجّة منه عند الإمامية.

بل قد ظهر مما مرّ جواز حملها مضافا إلى الوجوه المتقدّمة الّتي تضمّنها الروايات على غيرها أيضا من الوجوه.

الوجه السابع

أنّها أسماء للسور

بل الأقوال الكثيرة الّتي منها : أنّها أسماء للسور ونسبه الرازي الى أكثر المتكلمين وفي موضع آخر الى أكثر المحققين ، وحكاه عن الخليل وسيبويه وفي الكشّاف وتفسير القاضي أنّ عليه إطباق الأكثر ، وفي المجمع أنّه أجود الأقوال وعن القفّال : أنّ العرب قد سمّت بهذه الحروف أشياء فسمّوا بلام والد حارثة بن لام الطائي ، وقالوا : جبل قاف ، وبحر صاد ، وسمّوا السحاب عينا ، والحوت نونا ، والنحاس صادا ، الى غير ذلك.

٦٦

واستدلّ عليه القاضي تبعا للرازي وغيره بأنّها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل ، والتكلّم بالزنجي مع العربي ، ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى ، ولمّا أمكن التحدّي به ، وإن كانت مفهمة فإمّا أن يراد بها السورة الّتي هي مستهلّها على أنّها ألقابها ، أو غير ذلك ، والثاني باطل ، لأنّه إمّا أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب ، وظاهرا أنّه ليس كذلك ، أو غيره وهو باطل ، لأنّ القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى :

(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١) ، فلا يحمل على ما ليس في لغتهم.

ولا يخفى ضعفه من وجوه قد مرّ التنبيه على كثير منها ، كما لا يخفى ضعف ما في «مجمع البيان» بعد أن جعله أجود الأقوال قال : لأنّ أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية من أصولها للتفرقة بين المسمّيات ، فيكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية ، ولهذا في أسماء العرب نظير ، نحو أوس بن حارثة بن لام الطائي ، ولا خلاف في جواز التسمية بحروف المعجم ، كما يجوز أن يسمّى بالجمل ، نحو تأبط شرّا ، وبرق نحره ، وكل كلمة لم يكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق إلى آخر ما ذكره (٢).

إذ فيه مع كونه أعمّ من المدّعى ، أنّه شبه مصادرة ، للشكّ في طرفي النقل فضلا عن كون المنقول اليه السور.

نعم يمكن التقريب له بما ورد في الأخبار الدالّة على أنّ من قرأ سورة يس ، وصاد ، وحم ، ونون ، وإلى غير ذلك من السور ، فإنّ الظاهر منها كونها أسماء لتلك المسمّيات.

__________________

(١) النحل : ١٠٣.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣٣.

٦٧

وبقوله : (حم) لا ينصرون ، بل عن الفائق أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله شعارا لقوم يوم الأحزاب ، ومعناه على ما قيل : ومنزّل (حم) ، على النصب والجرّ ، بناء على التنوين والإضافة ، ولا ينصرون جواب القسم ، أو أنّه مرفوع على الابتدائية أو الخبرية ، أي مقولي (حم) ، أو هو مقولي ، ولا ينصرون استيناف ، كأنّه قيل : ماذا يكون إذا؟ فقال : لا ينصرون.

وبقول شريح بن أوفى العنسي قاتل محمد بن طلحة ، حيث شدّ عليه برمحه ، وهو قد شلّ درعه بين رجله وقام عليها ، وكلّما حمل عليه رجل قال : نشدتك ب (حم) حيث كان شعار حرب الحق يومئذ (حم) ، لقوله تعالى فيها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١) وكان محمد المعروف بالسجّاد يظهر بذلك أنّه ليس من حزب المخالفين ، فقتله شريح وهو يقول :

واشعث قوّام بآيات ربّه

قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

شككت له بالرمح جيب قميصه

فخرّ صريعا لليدين وللفم

على غير شيء غير أن ليس تابعا

عليّا ومن لا يتبع الحقّ يظلم

يذكّرني حاميم والرمح شاجر

فهلّا تلى حاميم قبل التقدّم

حيث أنه أشار بها إلى السورة المشتملة على الآية.

والمناقشة في الوجوه المذكوره بكفاية أدنى الملابسة في الإضافة مدفوعة بأنّها لا تدفع الظهور المستفاد من الانسباق بمجرّد الإطلاق.

وأمّا ما يقال في ابطال القول بالتسمية : من أنّها لو كانت اسماء السور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر ، لأنّها من الأمور العجيبة الّتي تتوفر الدواعي على نقلها.

وأنّ السورة الكثيرة قد اتفقت في (الم) ... و (الر) ، و (حم) ، فالاشتباه حاصل ،

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

٦٨

والمقصود من التسمية إزالته.

وأن القرآن قد نزل بلغة العرب الذين لم يتجاوزوا في التسمية عن اسم أو اسمين كبعلبك وتأبط شرا ، ولم يسمع منهم التسمية بثلاثة أسماء فضلا عن الأربعة والخمسة ، والقول بكونها أسماء للسور خروج عن طريقتهم الّتي يجب التوقف عليها.

وأنّها لو كانت أسماء السور لوجب اشتهارها بها لا بسائر الأسماء ، لكنّها قد اشتهرت بسورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، وغيرها ممّا أثبتوها في التراجم ، دون تلك الحروف.

ولوجب أيضا أن لا يخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه ، مع أنّه ليس كذلك.

وأنّ هذه الحروف من كل سورة جزئها ، ومن البيّن أنّ وضع الجزء للكلّ يؤدّي إلى اتحاد الاسم والمسمّى الّذي هو المجموع ولو ضمنا.

وأنّها تستدعي تأخر الجزء عن الكلّ ، من حيث إنّ الإسم يتأخّر عن المسمى رتبة.

وانّ جعله جزءا يتوقف على كونه اسما إذ يمتنع من البليغ جعل المهمل جزءا من كلامه ، وجعله اسما يتوقف على جعله جزءا ، إذ هو اسم للمركّب من حيث هو مركّب.

ففيه : أنّ الجميع مشترك في الضعف ، وغير ناهض لإثبات المطلوب ، لاندفاع الأوّل بمنع الملازمة ، ومنع توفّر الدواعي على النقل ، وإن توفّرت على الاستعمال ، وكم أمر أهم من ذلك لم ينقل لنا النقل فيه وإن ثبت من وجوه أخر ، كإثبات الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ العبادات وغيرها.

والثاني بجواز التميّز ببعض المشخّصات بعد فرض التسمية وحصول

٦٩

الاشتراك كغيرها من المشتركات.

والثالث باختصاص الامتناع بما إذا ركّبت وجعلت اسما واحدا كما في بعلبك لا فيما نثرت نثر أسماء العدد ، ولذا سوّى سيبويه بين التسمية بالجملة ، والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم.

والرابع بالمنع منه ، وأما ترك الإثبات في تراجم المصاحف فلعلّه لضرب من التوقيف الملحوظ فيها ، مع أنّ تلك التراجم غير محفوظة عن أصحاب العصمة ، وقد ورد كثير من الأخبار التعبير عن السور بتلك الحروف.

والخامس بمنع الملازمة سيّما مع اقتضاء الحكمة للتسمية في موضع دون موضع.

والسّادس بكفاية المغائرة الاعتبارية ، ولذا لم يقدح ذلك في الأسماء المتعارفة كالبقرة ، وآل عمران الى آخر سور القرآن وغيرها ممّا هو شايع.

وممّا ذكرنا وغيره يتّضح الجواب عن السابع والثامن ايضا.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ أدلة الفريقين لم تنهض لإثبات شيء من الأمرين ، وقضيّة الأصل العدم وما ذكرناه ، إنّما يثبت به الاستعمال أو غلبته ولو لا اشتمال السورة على الكلمة بعد النزول ، وأما نزولها على هذا الوجه فلا ، إلّا أن يقال بالاكتفاء بالأوّل واستلزامه للثاني ولو لا الأصل سيّما مع كون الدليل ظهور الأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام.

إلّا أنّه قد يقال : إنّ الإطلاق فيها نظير قول الناس : فلان يروي : «قفا نبك» و «عفت الديار» ، ويقول الرجل لصاحبه : ما قرأت : يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، و (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) ، و (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ، و (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد ، وهذه السور والآي ، وإنّما يعني رواية القصيدة الّتي ذاك استهلالها ، وتلاوة السورة والآية الّتي تلك فاتحتها ، فلمّا جرى الكلام على أسلوب

٧٠

من يقصد التسمية ، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية ، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة.

أقول : ويؤيّده شيوع التعبير بكلمات أوائل السور ، ولو مع عدم كونها من المقطّعة ، ولا مكتوبة في الترجمة ، كسورة (سُبْحانَ الَّذِي) وسورة (أَتى أَمْرُ اللهِ) ، ونحوهما.

ثمّ إنّه على فرض التسمية يكون هذا الوجه سابع الوجوه فلا تغفل.

الوجه الثامن

أنّها أسماء القرآن

ومنها : انّها من اسماء القرآن كما توهمه جمع من مفسّري العامّة ، كقتادة ، ومجاهد ، وابن جريح والسدّي والكلبي ، ولا وجه له عدى ما قيل : من أنه أخبر عنها بالكتاب والقرآن ، ونحوهما ، وهو كما ترى.

ومنها : أنّها أبعاض أسماء الله تعالى ، كما عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، بل حكوا عن الأخير أنّ هذه الحروف المقطّعة في أوائل السور اسماء الله تعالى لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنّك تقول : (الر) ، وتقول (حم) ، وتقول : (ن) ، فيكون (الرَّحْمنُ) ، وكذلك سايرها على هذا القول ، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.

أقول : ولعلّهم سمعوا الخبر المتقدم (١) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المعنى ، فراموا أن يتكلّموا ما لم يمنحوا علمه ، ولم يكونوا من أهله.

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٣ باب معنى الحروف المقطعة.

٧١

الوجه التاسع

أنّها أبعاض أسماء الله عزوجل

ومنها : ما يحكى عن ابن عبّاس وغيره من أنّها أقسام أقسم الله بها ، وعلى هذا يحتمل كونها من أسماء الله أو من أسماء القرآن أو السور ، أو من مبادي الأسماء أو أبعاضها.

وجوه آخر

أو أن المراد نفس الحروف المعجمة باعتبار معانيها ، أو لشرفها وتركيب الألفاظ منها.

أو لأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة ، وأصول كلام الأمم كلّها بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ويعبدونه مع أنّه ممّا كرّم الله به بني آدم.

أو لأنها من جملة خلقه سبحانه ، وله الإقسام بكلّ شيء من خلقه ، من خطير أو حقير ، كالسماء والشمس ، والقمر ، والتين والزيتون ، فإنّ الجميع من مظاهر قدرته وكماله ، وآثار صفة جماله ، كأنّه سبحانه يقول في كل ذلك و «عزتي وجلالي وربوبيتي وكبريائي» ، وأداة القسم فيها مقدّرة حسبما يأتي في اعرابها.

وهذا الوجه وإن كان جائزا إلّا أنّي لم أجد عليه دليلا.

ومنها : أن يكون المراد بها مدّة بقاء هذه الأمّة ، حكاه في «المجمع» عن مقاتل بن سليمان ، قال : حسبناها فبلغت بعد إسقاط المكرّر : (٧٤٤) وهي بقيّة مدّة هذه الأمّة.

وهو كما ترى غلط واضح ، ومثله ما عن علي بن فضّال المجاشعي النحوي

٧٢

إلّا أن يكون مراده مجرّد بيان العدد لا تحديد البقاء ، ولذا قال : إنّي حسبتها فبلغت (٣٠٦٥) فحذفت المكرّرات فبقي (٦٩٣) (١).

وأمّا ما يروى من أنّ اليهود لمّا سمعوا (الم) قالوا : مدّة ملك محمد قصيرة إنّما تبلغ إحدى وسبعين سنة ، فلمّا نزلت (الر) ، و (المر) ، و (المص) ، و (كهيعص) ، اتّسع عليهم الأمر (٢).

وأنّه عليه‌السلام لمّا أتاه اليهود تلى عليهم الم البقرة فحسبوه قالوا : كيف ندخل في دين مدّته احدى وسبعين سنة : فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : وهل غيره؟ فقال : (المص) ، و (الر) ، و (المر) ، فقالوا : خلطت علينا ولا ندري بأيّها نأخذ (٣)

ففيه : أنّه لا دلالة فيهما أصلا على ذلك ، ولعلّ الأصل في الخبر ما مرّت حكايته عن تفسير العسكري عليه‌السلام ، وقد سمعت فيه ما أجابهم به مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ومنه يظهر أنّ تبسّمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان تعجبا من جهلهم ، لا من اطّلاعهم على هذا الرمز.

وأمّا ما يحكى عن أبي العالية من أنّها إشارة الى مدد أقوام وآجالهم بحساب الجمل فلا بأس به ، ولعلّه استفاد ذلك من الأنوار المقتبسة من مهابط الوحي والتنزيل ومعادن العلم والتأويل.

ومنها غير ذلك من الأقوال الّتي لا شاهد على شيء منها. مثل أنّ المراد بها الحروف المعجمة ، استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها الّتي هي تمام الثمانية والعشرين حرفا ، كما يستغنى بذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة ،

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٣.

(٢) البرهان ج ١ ص ٥٥ عن تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه‌السلام.

(٣) البرهان ج ١ ص ٥٥ عن تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه‌السلام.

٧٣

وكما يقال : ا ، ب في أبجد (١).

ومثل ما يقال : إنّها تسكيت للكفّار ، حيث إنّ المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يسمعوا لهذا القرآن وان يلغوا فيه ، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢) ، فكانوا ربّما صفّروا ، وربّما صفقوا ، وربّما لغطوا ليغلّطوا النبيّ فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه ، وتفكروا واشتغلوا من تغليطه. فيقع القرآن في مسامعهم ، ويكون ذلك سببا موصلا لهم الى استماعهم وفهمهم وهدايتهم (٣).

ونحو ما قيل : أنّ بعضها يدلّ على اسماء الله تعالى ، وبعضها على أسماء غيره تعالى ، كما قيل في (الم) : إنّ الألف من الله ، واللام عن جبرئيل ، والميم من محمّد ، أي أنزل الله تعالى الكتاب على لسان جبرئيل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومثل ما قيل : إنّ كلّ واحد منها يدلّ على فعل من الأفعال ، فالألف معناه ألف الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعثه نبيّا ، واللام أي لامه الجاحدون ، والميم أي ميم الكافرون ، من الموم بمعنى البرسام.

ونحو ما قيل : إنّها في التقدير اسمعوها مقطّعة حتّى إذا أوردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، كما أنّ الصبيان يعلمون هذه الحروف أولا مفردة ، ثم يعلمون المركّبات.

ومثل ما يقال : إنّها تدلّ على انقطاع كلام واستيناف كلام آخر ، وحكي عن أحمد بن يحيى بن تغلب أنّ العرب إذا استأنف كلاما فمن شأنهم أن يأتوا بشيء من

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٣

(٢) فصّلت : ٢٦.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ٣٣.

٧٤

غير الكلام الّذي يريدون استينافه فيجعلونه تنبيها للمخاطبين على قطع الكلام الأوّل واستيناف الكلام الجديد.

ونحو ما قيل : إنّها ثناء من الله تعالى على نفسه.

ومثل ما قيل : إنّ إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسماء الحروف قبل أن يتعلّم من أحد من الآدميين يعلم منه أنّه تعلّم من معلّم آدم الأسماء ، فيكون أوّل ما يسمع معجزة دالّة على أنّه من عنده عزوجل.

ومثل ما قيل : إنّها للردّ على من قال بقدم القرآن ، فإنّه لمّا علم الله في القدم أنّ قوما سيقولون بقدم القرآن ذكر هذه الحروف تنبيها على أنّ هذا الكلام مؤلّف من الحروف الحادثة فلا يكون قديما.

ومثل ما قيل : إنّ المراد ب (الم) ألمّ بكم ذلك الكتاب ، أي نزل عليكم نزول الزائر ، لأنّ الإلمام الزيارة ، فإنّ جبرئيل نزل به نزول الزائر.

ومثل ما قيل : إنّ الألف من أقصى الحلق ، وهو أوّل المخارج ، واللام من طرف اللّسان وهو وسط المخارج ، والميم من الشفه وهو آخر المخارج ، فهذه إشارة الى أنّه لا بدّ أن يكون أوّل ذكر العبد ووسطه وآخره الله تعالى.

ومثل ما قيل : إنّ الألف إشارة الى ما لا بد منه من الاستقامة في أوّل الأمر ، وهو رعاية الشريعة ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (١).

واللام إشارة إلى الإلجاء الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢) ، والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام العبوديّة كالدائرة الّتي تكون نهايتها عين بدايتها ، وبدايتها عين نهايتها ،

__________________

(١) فصّلت : ٣٠ ، الأحقاف : ١٣.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

٧٥

وذلك إنّما يكون بالفناء في الله بالكلّية وهو مقام الحقيقة ، قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) (١).

الى غير ذلك من الأقوال والاحتمالات الّتي لا شاهد على شيء منها.

البحث السابع

احكام الحروف وعوارضها

في مستطرفات من أحكام تلك الحروف وعوارضها وهي أمور :

منها : أنّها وإن اشتهرت بالحروف إلا أنّها أسماء لمسمّياتها الّتي تتركّب منها الكلم لما هو واضح من دخولها تحت حدّ الاسم ، واعتداد ما يختصّ به من التعريف والتنكير ، والجمع ، والتصغير وغيرها عليها ، فكما أنّ الإنسان موضوع للمهيّة المعيّنة لها أفراد خارجيّة ، فكذلك الجيم مثلا اسم لمهيّة الحرف المفرد البسيط المعلوم الصادق على الحرف الأوّل من جعفر ، وجاء ، وجعل ، ونحوها.

ومن هنا قيل : إنّها من اسماء الأجناس لا من الأعلام الشخصيّة ، ولا أظنّ أحدا ينكر اسميّتها.

وبه صرّح الخليل حيث سأل أصحابه : كيف تنطقون بالجيم من جعفر؟ فقالوا : جيم ، فقال : إنّما نطقتم بالاسم ولم تنطقوا بالمسئول عنه ، والجواب (ج) ، لأنّه المسمّى.

بل قد يحكى الصريح به عن غير واحد من الأدباء.

وأمّا ما يحكى عن متقدّمي النحاة من تسميتها حروفا فمحمول على ضرب

__________________

(١) الأنعام : ٩١.

٧٦

من التسامح ، ومثله كثير في كلامهم كتسميتهم الباء من حروف الجارّة ، فإنّ مدخول اللام اسم قطعا ، نعم مصاديقه من الحروف كالباء في مررت بزيد ، وكذا اللام ، والواو ، وغيرهما من الحروف المفردة الّتي يعبّر عنها بأسمائها.

وأمّا ما ورد في الأخبار الكثيرة في فضل القراءة من أنّ للقارئ بكل حرف خمسين حسنة ، أو عشر حسنات ، أو غير ذلك ، بل في بعضها : لا أقول بكلّ آية ، بل بكل حرف ، باء ، أو تاء ، أو شبههما.

وفي خبر آخر أما إنّي لا أقول : (الم) عشر ، ولكن ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر فالمراد بالحرف فيها غير المعنى المصطلح عند النحاة ، لأنّه عندهم من المنقولات العرفيّة الخاصّة ، وفي العرف العام يطلق على ما يعمّ الإسم وغيره ، فالمراد به في الخبر هو ما يتركّب منه الكلم سواء لوحظت مفردة أو في ضمن المركّب.

ثمّ إنّهم راعوا في التسمية الدلالة على المسمّيات بصدور الأسماء إعمالا للمناسبة وترجيحا للخصوصية ، وليكون هو أوّل ما يقرع السمع من الإسم ، وهذه المناسبة ملحوظة في الجميع إلّا الألف الساكنة الّتي هي المدّة كوسط حروف (قال) فإنّه لا يمكن الافتتاح بها ، لضرورة استحالة الابتداء بالساكن مطلقا ، أو في لغة العرب ، ولذا اختاروا لها اللام لما مرّ.

وإنّما قيّدنا هنا بالساكنة الّتي هي المدة احترازا عن المتحركة الّتي راعوا فيها المناسبة وأمّا الهمزة فليست من الأسماء الأصيلة للحروف ، بل هي اسم محدث كما حكى عليه النّص عن ابن جني وغيره ، ولذا قال الفيروزآبادي في ((القاموس)) : الألف ككتف الرجل العزب ، وأول الحروف ، وبوّب في آخر الكتاب للألف الليّنة بابا ، وذكر فيه أنّ أصول الألفات ثلاثة ، ويتبعها الباقيات : أصليّة كألف (أخذ) ، وقطعيّة كأحمد وأحسن ، ووصليّة كاستخرج واستوفى.

٧٧

ثمّ عدّ من التوابع الألف الفاصلة بعد واو الجمع ، ونون الإناث ، وألف الإشباع ، والصلة ، وغيرها.

وفي : «الصحاح» و «مجمع البحرين» : أنّ الألف على ضربين ليّنة ، ومتحرّكة ، فالليّنة تسمّى ألفا ، والمتحرّكة همزة ثمّ ذكر انّ الهمزة على قسمين : ألف وصل ، وألف قطع ... إلخ

ومنه يظهر أنّ للألف إطلاقين ، والهمزة قسم منه يقابله بمعناه الأخصّ ، ولعلّه إنّما خصّ هذا القسم منه بها لما يظهر عند التلفّظ به من الغمز والعصر والانضغاط.

ولذا قال في «الصحاح» بعد تفسير الهمز بالغمز والضغط : ومنه الهمز في الكلام ، لأنّه يضغط ، وقد همزت الحرف فانهمز ، وقيل لأعرابي : أتهمز الفاء؟ فقال : السنّور يهمزها.

وفي «مصباح المنير» وغيره ما يقرب منه.

ومنها : أنّه لا ريب في أنّ هذه الأسماء ما لم يتعلّق بها شيء من العوامل تقدمت عليها أو تأخرت عنها ساكنة الأعجاز ، سواء كانت متفاصلة عند النطق بها أو متواصلة ، فنقول : ألف ـ با ، جيم ، دال ، من دون أن يظهر أثر الاعراب ، بل شيء من الحركات في أعجازها.

بل وكذا الأعداد المسرودة ، والأسماء المعدودة ، فتقول : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، كما تقول : زيد ، عمرو ، بكر.

وإنّما الكلام في أنّ سكونها هل هو للوقف ، أو للبناء ، فصريح الزمخشري وتابعيه هو الأوّل ، وهو المحكيّ عن جمهور المحقّقين من النحويين ، حيث حصروا سبب بناء الأسماء في مناسبته ما لا تمكن له أصلا ، وسمّوا الأسماء الخالية منها معربة ، وجعلوا سكون أعجازها وقفا ولو مع اتّصال الكلام في الظاهر ، إذ ليس في شيء منها ما يوجب الوصلة ، فكان بمنزلة الوقف عليها.

٧٨

وربّما استدلّوا عليه بأنّ العرب جوّزوا في الأسماء قبل التركيب التقاء الساكنين كما في الوقف فقالوا : زيد ، عمرو ، بكر ، صاد ، قاف ، ولو كان سكونها بناء لما جمعوا بينهما كما في ساير الأسماء المبنيّة ، نحو (كيف) وأخواتها ، ولذا تحرّكها إذا أعددتها وصلا ، فتقول : كيف ، أين ، حيث ، فلم يجوّزوا في المعدودة منها التقاء الساكنين.

وبأنّهم عرّفوا المعرب بما يختلف آخره باختلاف العوامل في أوّله ، وأرادوا ما يمكنه الإختلاف على قانون اللغة ، سواء اتصف به بالفعل ، أو كان من شأنه ذلك إمّا قريبا كما وقع في التركيب ولم يعرب أو بعيدا كما في التحديد.

وبأنّ القول ببنائها يؤدّي إلى الفرق بين سببي البناء أعني وجود مانع الإعراب ، وهو مشابهة الحرف وفقدان المقتضي كما في هذه الأسماء بتجويز التقاء الساكنين في الثاني دون الأوّل وهو تحكّم.

ويضعّف الدليل الأوّل بأنّ سكون أعجازها سردا وقفا ووصلا مع التقاء الساكنين وعدمه لعلّه من أثر البناء ، فلا يغيّر ، كما لا يغيّر الحركة في كيف وأخواتها ، وانحصار جواز التقاء الساكنين في صورة الوقف ممنوع ، كيف وهو أوّل الكلام.

والثاني أيضا يضعّف بأنّه تعريف من البعض وليس حجّة على غيره.

والثالث أيضا ضعيف بأنّه مجرّد استبعاد ، بل قد يستقرب الفرق بأنّ تلك الأسماء قد استمرّ بها السكون قبل التركيب فأشبهت الموقوف فاغتفر فيها ما جاز فيه.

وذهب ابن الحاجب وبعض المتأخرين إلى أنّها مبنيّة ، وقد عدّ غير واحد منهم من مقتضيات البناء الشبه الإهمالي الّذي ضبطوه بمشابهة الإسم الحرف في كونه غير عامل ولا معمول كأسماء الأصوات والأسماء المسرودة ، والفواتح.

وحكى عن ابن مالك إدخاله في الشبه المعنوي ، وعن غيره الشبه الاستعمالي

٧٩

ولكنّ الخطب فيه هيّن جدّا لعدم ظهور شدة للنزاع سيّما مع الاتفاق على سكونها على القولين إلّا في موضعين : أحدهما (ميم) أوّل العنكبوت على قراءة ورش (١) ، والأخر (ميم) أوّل آل عمران على قراءة جميع القرّاء إلّا أبا بكر بن عيّاش ، عن عاصم (٢).

إمّا لالتقاء الساكن الثالث الّذي هو لام التعريف بعد سقوط الهمزة في الدرج في لفظ الجلالة على مذهب سيبويه.

وإما لنقل حركة همزة لفظ الجلالة إلى ميم (الم) كما عن آخرين.

وعلى الوجهين فلا دلالة له على أحد القولين ، لأنّ المبنيّ ربما يحرّك لضرورة التقاء الساكنين نحو (مِنَ اللهِ).

ومن جميع ما مرّ يظهر النظر فيما يستدلّ به لكلّ من القولين من فقد المقتضي للآخر ، إذ مع إمكان المعارضة ربما يقال : إنّما ضدّان فلا يكونان من قبيل الأعدام والملكات حتى لا يمكن رفعهما.

بل قد ذكر بعض الأعلام في المقام أقوالا ثلاثة قال : قد اختلف في أنّ الأسماء قبل التركيب معربة ، أو مبنيّة ، أو لا معربة ولا ومبنيّة ولكن قابلة للإعراب ، وربما يعزى الى البيضاوي.

وأمّا ما في «مجمع البيان» من أنّ هذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجّي لأنّها مبنيّة على السكت ، كما أنّ العدد مبنيّ على السكت ، يدلّ على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك : لام ، ميم ، وتقول في العدد : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، فتقطع ألف إثنين مع أنها همزة وصل ، وتذكر الهاء في ثلاثة

__________________

(١) هو عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش ... ولد سنة (١١٠) ومات بمصر سنة (١٩٧) ه

(٢) هو عاصم بن أبي النجود الكوفي القاري المتوفى (١٢٨).

٨٠