تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

ثمّ ينزل من المزن الماء ومع كلّ قطرة ملك حتّى تقع على الأرض في موضعها (١).

ولذا قال شيخنا المجلسي رحمه‌الله انّ ما يشاهد من انعقاد السحب في قلل الجبال وتقاطرها مع أنّ الواقف على قلّة الجبل لا يرى سحابا ولا مطرا ولا ماء والّذين تحت السّحاب ينزل عليهم المطر لا ينافي الظواهر الدّالة على أنّ المطر من السّماء بوجهين : أحدهما أنّه يمكن أن ينزل المطر من السّماء إلى السّحاب رشحا ضعيفا لا يحسّ به أو قبل انعقاد السحاب على الموضع الّذي يرتفع منه ، وثانيهما أن نقول بحصول الوجهين معا وانقسام المطر إلى القسمين فمنه ما ينزل من السّماء ومنه ما يرتفع من بخار البحار والأراضي النديّة ويؤيّده ما رواه شيخنا البهائي رحمه‌الله في «مفتاح الفلاح» حيث قال نقل الخاص والعام انّ المأمون ركب يوما للصيد فمرّ ببعض أزقة بغداد على جماعة من الأطفال فخافوا وهربوا وتفرّقوا وبقي واحد منهم في مكانه فتقدّم إليه المأمون فقال له كيف لم تهرب كما هرب أصحابك ، فقال لأنّ الطّريق ليس ضيّقا فيتّسع بذهابي ولا بي عندك ذنب فاخافك لأجله ، فلأي شيء أهرب؟ فأعجب كلامه المأمون فلمّا خرج إلى خارج بغداد أرسل صقره فارتفع في الهواء ولم يسقط على وجه الأرض حتّى رجع وفي منقاره سمكة صغيرة فتعجّب المأمون من ذلك فلمّا رجع تفرّق الأطفال وهربوا إلّا ذلك الطّفل ، فانّه بقي في مكانه كما في المرّة الاولى فتقدّم إليه المأمون وضام كفّه على السّمكة وقال له قل أيّ شيء في يدي فقال عليه‌السلام انّ الغيم حين أخذ من ماء البحر تداخله سمك صغار

__________________

(١) مستدرك سفينة البحار ج ٩ ص ٣٨٢.

٤٢١

فتسقط منه فيصطادها الملوك فيمتحنون بها سلالة النّبوة فأدهش ذلك المأمون فقال له من أنت قال أنا محمّد بن عليّ الرضا عليهما‌السلام ، وكان ذلك بعد واقعة الرّضا عليه‌السلام وكان عمره عليه‌السلام في ذلك الوقت احدى عشر سنة وقيل : عشرا فنزل المأمون عن فرسه وقبّل رأسه وتذلل له ثمّ زوّجه ابنته (١).

السماء جهة العلو

أقول وهذا الخبر كما ترى صريح فيما ذكرناه ، سيّما مع شهادة المشاهدة به حسبما سمعت ، ولذا صرّح كثير من المحقّقين بأنّ المراد بالسّماء في مثل المقام هو جهة العلوّ وفسّرها شيخنا الطبرسي وغيره في المقام بالسحاب وقال عند قوله : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) (٢) أي من نحو السّماء عند جميع المفسّرين وفسّرها في كثير من المواضع بالسّحاب قال لأنّ كلّ ما علا مطبقا فهو سماء.

بل وهو الظّاهر من كلام الامام عليه‌السلام في تفسير الآية قال (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني المطر فينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم (٣) وأوهادكم ثمّ فرّقه رذاذا (٤) وهطلا وطلّا لتسقي أرضكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم (٥).

وفي «المتهجّد» في دعاء للحاجة : وأسألك باسمك الّذي خلقت به في الهواء

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٦ ص ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٢) الجاثية : ٥.

(٣) الهضاب : جمع الهضب وهو الجبل المنبسط على وجه الأرض.

(٤) الرذاذ : المطر الضعيف ، والوابل : المطر الشديد ـ والهطل : تتابع المطر

(٥) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٧.

٤٢٢

بحرا معلّقا ثجّاجا مغطمطا (١) فحبسته في الهواء على صميم تيّار اليمّ الزّاخر في مستفحلات عظيم تيّار أمواجه على ضحضاح (٢) صفاء الماء فعزلج (٣) الموج فسبّح ما فيه لعظمتك فلا اله إلّا أنت (٤).

ثمّ انّ ما ذكره المجلسي رحمه‌الله في الوجه الأوّل يمكن أن يراد به أنّ هذا الماء النّازل بجوهره وصورته النوعيّة قد نزل من السّماء وإن لم يكن أوّلا على سبيل التقاطر بل الرشح والاجزاء المتصغّرة إلّا أنّها تجتمع وتتركّب منها القطرات إذا وصلت إلى السّحاب ، أو إذا حملها السّحاب ولو بعد انبثاثها في رطوبات العالم وتفرّقها في الأجزاء الهوائيّة الجوّية ، وأن يراد به أنّه قد يكون للشّيء الواحد أكوان مختلفة ونشاءات متعدّدة بعضها أعلى وأرفع عن بعض فمنشأ إنشاء السّحاب وتكوين الأمطار إنّما هو من عالم السّماء بأمر الله وحكمته بتسخير الملائكة العلويّة السّماويّة والسّفليّة الأرضيّة من المدبّرات والسّابقات والزّاجرات الّتي لا يعلم تفاصيلها (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

ثمّ انّه لا ينبغي الإصغاء إلى ما ربما يتوهّم من أنّ السّمك وان كانت صغارا إلّا أنّها أجسام ثقيلة فكيف تتصاعد مع الأبخرة وتداخل الماء المأخوذ من البحر ، إذ فيه بعد تسليم الأصول الظاهرة والطبائع المقرّرة بحكمته ومشيّته سبحانه أنه يمكن أن يكون ذلك بنوع من القسر وان لم يحط علومنا بوجوهه وأسبابه ومقتضياته على التفصيل.

__________________

(١) المغطمط : المضطرب.

(٢) الضحضاح : ما رق من الماء ، أو الكثير.

(٣) عزلج : التطم.

(٤) بحار الأنوار ج ٨٧ ص ٤٥.

٤٢٣

نعم صرّح غير واحد ممّن صنّف في غرائب البحر وسمعت ذلك ايضا ممّن ركبه أنّه شاهد غير مرّة أنّه قد يتصاعد من موضع من البحر أبخرة قويّة مجتمعة متراكمة متّصلة بحيث يحصل من مشاهدة اتّصال تصاعدها شبه العمود القائم على سطح الماء وقد يكون قطره نحو ميل متواصل إلى عمق الماء بحيث قد انفلق البحر بقوّة خروج الأجزاء البخاريّة المتكوّنة في عمقه بأسباب لا تحصى ، وذكروا أنّه ربما تقع فيها السّفن فتغرق ، ولذا توصل أرباب السّفن وجهابذة البحر في إزالتها عن طرق السّفن بحيل لا يقتضي المقام ايرادها ، وبالجملة يمكن أن يتعرض لذلك البخار شيء من السّمك الصّغار فترتفع معها بقوّتها الصّعوديّة الخارقة للماء حتّى إذا أزالت عنها الحركة العرضيّة والقسريّة سقطت ولعلّه هو المراد بقوله عليه‌السلام : إنّ الغيم حين أخذ من ماء البحر تداخله سمك صغار فتسقط منه فلا تغفل.

الجمع بين قول الطبيعيين والأخبار

ثمّ أنّه قد سئل الشّيخ الأحسائي رحمه‌الله عن التوفيق بين قول الطّبيعيين حسبما مرّ وبين ما ذكره الإمام عليه‌السلام في الخبر المتقدّم فأجاب بانّ البخار المتصاعد من البحار والأنهار والاراضي الرّطبة بحرارة أشعّة الشمس تتصاعد بجذب الأشعة متفرّقة فقبل أن تصل إلى الطبقة الزمهريريّة وهي البحر المكفوف بين السّماء والأرض وبحكمة الحكيم تتكوّن فيه حيتان صغار بمقتضى قابليّة الماء المجتمع بتقدير العزيز العليم والسّحاب يغترف الماء تارة من هذا البحر البخاري وتارة من البحر الأجاج الّذي على وجه الأرض المعلوم ، فالمطر الّذي من البحر المكفوف بين السّماء والأرض يكون ملقحا ينبت به النّبات والكماة والمعادن واللؤلؤ والصّدف

٤٢٤

وما أشبه ذلك والمطر الّذي من البحر المالح عقيم لا ينبت به شيء فالتوفيق بنحو ما سمعت هذه عبارته رحمه‌الله.

وقد ظهر منه وجه آخر في تنويع المطر الّا أنّ ما ذكره من تكوّن الحيتان الصّغار في كرة البخار لا يخلو من تأمّل ، وليس في الخبر دلالة عليه أصلا بل هو كالصّريح في خلافه فلاحظ ، وينبغي التأمل أيضا فيما ذكره من نسبة التلقيح إلى الأول والعقم إلى الثاني.

الثمرات من الماء

(فَأَخْرَجَ بِهِ) بالماء النازل بأمره التكويني وان كان ذلك شرعة له في تسبيحه وعبادته (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) استنتاج لما سخّر له القوى الفاعليّة العلويّة والمواد القابلة السّفليّة إتماما لنعمته ونشرا لآثار رحمته ، ولذا عطف الجملة بالفاء الدّالة على الترتيب الاتصالي مع ما فيها من الإشعار على أنّه ليس لترتب الآثار على ما جعلها أسبابا تامّة حالة منتظرة وخروج الثّمار وان كان بقدرته ومشيّته سبحانه إلّا أنّه تعالى جعل لكلّ شيء سببا أبى الله أن يجري الأمور إلّا بأسبابها والأسباب لا بدّ من اتّصالها بمسبّباتها فجعل فيما سخّره لمصالح عباده من السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وغيرها قوى فاعلة وقابلة يتولّد من اجتماعهما ونزول الماء الّذي هو كالنطفة للحيوان أو كالغذاء للبذور الملقاة في أرض القابليّة أنواع الثّمار في جميع الأقطار من النجوم والأشجار (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) ، ويفضّل بعضها على بعض في الاكل لاختلاف قابليّاتها واستعداداتها المجعولة ومقادير قواها والمشخّصات المنضمّة إليها بما أودع الله فيها من الطبائع والمنافع وغير ذلك من الودائع وان كان سبحانه قادرا على أن يوجد الأشياء كلّها بلا

٤٢٥

أسباب ومواد ولا سبق قابليّة واستعداد ، كما أفاض على الأصول الاوليّة من المجرّدات والماديات بابداعها وخلقها لا من شيء إذ كان الله ولم يكن معه شيء ، لكنّ الحكيم قد قضت حكمته بإبداع الأكوان وإنشاء الأعيان من الأشرف فالأشرف فأبدع أوّلا أنوارا قدسيّة وأرواحا مطهّرة إنسيّة تجلّى لها ربّها فأشرقت وطالعها فتلألأت وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله فخلق من اشراق أشعّة تلك الأنوار جميع الملائكة والروحانيّين والأنبياء والمرسلين والسّموات والأرضين وساير الخلق أجمعين وأخذ عليهم الميثاق ورتّبهم في مراتبهم من الخلاف والوفاق ، وأعطى كلّ شيء خلقه ، وساق إلى كلّ مخلوق رزقه ، وسخّرهم بما أعطاهم من القابليّات وأفاض عليهم بما منحهم من العطيّات ، وجعل فواعلها مختلفة في الحركات وقوابلها مختلفة في قبول أضواء النيّرات المعدّة لنشوء الكائنات فأدار البعض على البعض واستبحّ عنها المواليد في سلسلتي الطول والعرض.

أنظر الى العرش على مائه

سفينة تجري بأسمائه

واعجب له من مركب دائر

قد أودع الخلق بأحشائه

يسبح في لجّ بلا ساحل ،

في جندل الغيب وظلمائه

وموجه احوال عشّاقه

وريحه أنفاس أحبابه

ولو تراه بالورى سائرا

من ألف الخطّ إلى بائه

ويرجع العود على بدئه

ولا نهايات لإبدائه

يكوّر الصبح على ليله

وصبحه يغني بإمسائه

لا يدري أحد من أين إلى أين إلّا مدبّرها ومحصيها بعلمه وقدرته ، (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

٤٢٦

ردّ قول الأشاعرة

وأمّا ما ذكره بعض المفرّطين في جنب الله المحجوبين عن مشاهدة أنوار قدرته وحكمته من أنّه سبحانه أجرى عادته بإفاضة صور الثمرات وكيفيّاتها على المادّة الممتزجة من الماء والتّراب من غير أن يكون قد أودع في شيء من ذلك قوّة التأثير والتأثّر كما هو مذهب الاشاعرة القائلين بشنائع لم يلتزم بها أحد من الملاحدة فناش عن الضّلالة وفساد الطّريقة وانهماكهم في التّقصير والقصور ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

وقد ظهر ممّا مرّ أنّ «الباء» سببيّة وان كانت جعليّة «ومن» إمّا للتّبعيض أو للتّبيين ، وقد يعتضد الأوّل بقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (١) أي بعض كلّها وقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) (٢) لتبادر التبعيض من التنكير سيّما في جموع القلّة ، وبأنّ المنكّرين أعني ماء ورزقا يكنّفانها وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضيّة كانّه قيل : وأنزلنا من السّماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وبأنّ هذا هو المطابق لصحة المعنى في الواقع لأنّه لم ينزل من السّماء الماء كلّه ، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ، ولا جعل الرّزق كلّه في الثمرات.

وعندي في الكلّ نظر فالتّبيين أظهر بناء على كون التنوين في المكتنفين للتفخيم والتعظيم بل وكذا في الآية الثانية وهو أنسب بمقام الامتنان حيث جعل رزق الإنسان مصاصة لطائف الفلكيات والعنصريات ، وخلاصة نتائج الازدواجات ، فيكون كقولك : أنفقت من الدّراهم ألفا أي أنفقت ألفا هو الدّراهم ، وان احتمل التبعيض في المثال أيضا ، نعم قد يقال : إذا قلت أكلت من هذا الخبز كان للتّبعيض لا

__________________

(١) الأعراف : ٥٧.

(٢) فاطر : ٢٧.

٤٢٧

غير ، وإذا قلت أكلت من هذا الخبز الجيّد المطبوخ كان من بيانيّا والجيّد المطبوخ مفعولا.

ثمّ ان كانت (مِنَ) للبيان فالرزق بمعنى المرزوق على أنّه مفعول لأخرج ، و (لَكُمُ) في موضع الصّفة و (مِنَ الثَّمَراتِ) حال عنه مقدّم عليه ، ويحتمل بعيدا جدّا كون المفعول الضمير المجرور بالباء على أن تكون للتعدية لا السببيّة ، ومن الثمرات حالا عن الضمير ورزقا مفعولا لأجله ، لكنّه ضعيف لفظا ومعنى من وجوه لا تخفى ، وان كانت للتبعيض فرزقا منصوب على التعليل ، أي لان يرزقكم أو على المصدر بتقدير الفعل ، ويحتمل الحال بناء على كونه بمعنى المفعول ، وعلى كلّ حال فقوله (مِنَ الثَّمَراتِ) في موضع المفعول به ، اي بعض الثمرات وأمّا ما توهّمه الطيبي (١) والسيوطي من أنّه إذا قدرت من مفعولا كانت اسما ففساده واضح جدّا ، فانّ المراد كون الجار والمجرور في موضع المفعول بالواسطة.

الثمرة وإطلاقاتها

والثمرات جمع ثمرة بالتّاء ، قال الفيّومي (٢) : الثمر بفتحتين والثمرة مثله فالأوّل مذكر ويجمع على ثمار مثل جبل وجبال ، ثمّ يجمع الثمار على ثمر مثل كتاب وكتب ، ثمّ يجمع الثمر على أثمار مثل عنق وأعناق ، والثّاني مؤنث والجمع ثمرات ، مثل قصبة وقصبات ، والثمر هو الحمل الّذي تخرجه الشّجرة سواء أكل أم لا.

__________________

(١) الطيبي : الحسن بن محمد بن عبد الله المفسّر له شرح على كتاب «الكشاف» ، توفّي سنة (٧٤٣).

(٢) الفيّومي : ابو العباس احمد بن محمد بن أبي الحسن اللغوي المقرئ صاحب مصباح المنير توفي بعد سنة (٧٧٠) ه

٤٢٨

أقول : ويطلق على الشجرة وكلّ ما تنبته الأرض والذّهب والفضّة وأنواع المال والنسل والولد كما في «القاموس» وغيره ولعلّ الاولى الحمل على الجميع ولو بعموم المجاز أو غلبته فيما له نفع ، ومنه قولهم فيما لا نفع له : ليس له ثمر كما في «المصباح» وغيره وقضيّة اللّام الاستغراق وعلى هذا فيسقط السّؤال عن إيثار الثمرات على الثّمار مع كون الأولى للقلّة والأولى بالمقام الكثرة فإنّ المعرّف بلام الاستغراق يفيد العموم الجمعي ، مع أنّ كثيرا من علماء الأدب والمعتنين بحفظ لغات العرب قد أنكروا القاعدة على أنّ بين الفارقين في خصوص الجمع بالألف والتّاء اختلافات كثيرة والجمهور على الاشتراك وعلى الوجهين ورد في القرآن ففي آية الصّيام (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) (١) وفي غيرها (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (٢) مع أنّه قد يجاب أيضا بأنّ المراد بها جماعة الثمرة الّتي في قولك : فلان أدركت ثمرة بستانه تريد ثماره ، ويعضده قراءة محمد بن السّميفع من الثمرة على التوحيد ، وبأن الجموع تتعاود بعضها موقع بعض لالتقائهما في الجمعيّة كما وقعت القلّة موضع الكثرة في قوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) (٣) والكثرة موضع القلّة في قوله : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٤) ، وبأنّ المقصود التنبيه على قلّة ثمار الدّنيا اشعارا بتعظيم أمر الآخرة.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) متعلّق بقوله : (اعْبُدُوا) بان يكون نهيا متفرّعا على

__________________

(١) البقرة : ١٨٤.

(٢) البقرة : ٢٠٣.

(٣) الدخان : ٢٥.

(٤) البقرة : ٢٢٨.

٤٢٩

مضمون ذلك الأمر كانّه قيل إذا كنتم عبدا له واستحقّ ربّكم الّذي خلقكم وخلق أصولكم وأرزاقكم منكم العبادة وكنتم مأمورين بها فلا تشركوا أحدا في الطّاعة والعبادة كما أنّه ليس له شريك في الخلق والإفاضة فكونوا مخلصين في عبادته متوجّهين إليه في مقاصدكم غير مشركين به في شيء من مراتب التوحيد الأربعة : أعني توحيد الذّات والصفات والأفعال والعبادة ، وقيل هي نهي معطوف على الأمر ، وردّ بأنّ الأولى حينئذ العطف بالواو كقوله تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (١).

والتّحقيق انّ قضيّة العطف بالفاء هو التّرتب على السابق فيرجع هذا الوجه إلى الأوّل ، ومن هنا يظهر سقوط الإيراد وقد يجعل نفيا منصوبا بإضمار أن على جواب الأمر كما في زرني فأكرمك ، وردّ بأنّ الشرط في ذلك كون الأول سببا للثّاني والعبادة لا تكون سببا للتوحيد الّذي هو مبناها مع انّ الأوّل أقرب لفظا لعدم الإضمار ومعنى لأنّ التصريح بالنّهي أبلغ واردع مع وحدة المستفاد على الأحوال أو بقوله : (لَعَلَّكُمْ) فنصب الفعل نصب فاطلع في قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) (٢) ، وقوله : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (٣) ، أمّا على تشبيه «لعل» بليت ولو لكونهم في صورة المرجوّ منهم مع التنبيه على تقصيرهم ، والإشعار بأنّ المراد الراجح صار مستبعدا منهم كالمتمنّي فالمعنى خلقكم في صورة من يرجى منه الاتقاء أي الخوف من العقاب ليتسبب عن ذلك أن

__________________

(١) النساء : ٣٦.

(٢) غافر : ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) عبس : ٣ ـ ٤.

٤٣٠

لا تشركوا ، فلا يرد أنّ ذلك إنّما يجوز إذا كان في الترجّي شائبة من التمنّي أبعد المرجوّ من الوقوع مع أنّ لعلّ مستعارة للإرادة الّتي فيها ترجيح طرف الوجود ، وذلك لما سمعت ونظيره في اعتبار الصورة ورعاية التّنبيه قولك لمن همّك همّه : ليتك تحدّثني تتفرج عنّي بالنّصب فانّه ليس تمنيا حقيقة لكن أجري عليه حكمه ونبّه به على تقصيره في التّحديث ، وأمّا على اشتراك «لعلّ» مع أشياء السّتة في كونها غير مثبّتة حيث إنّ المطلوب بها غير موجود عند ذكرها ففيها حظر الوجود والعدم فأشبهت الشرط ولذا استحقّت الفاء ويحمل التقوى حينئذ على الاتقاء عن العذاب كيلا يأبى جعل عدم الأنداد نتيجة لها محصولة قبلها مع أنّه يمكن ارادة نفي الأنداد في الطاعة أو بقوله الّذي جعل باعتبار الابتداء بالموصولة واخبر عنه بالنّهي على تأويل مقول فيه لا تجعلوا ، وأدخلت الفاء على الجملة لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط كقولك الّذي ياتيني فله درهم ، ولعلّ الأولى على فرض تعلّقها بالموصول رفعه مدحا على أنّه خبر لمحذوف على ما مرّ ، فيكون نهيا مترتّبا على ما تضمّنته تلك الجملة والمعنى هو الّذي خلقكم وخلق أصولكم وأرزاقكم فلا تعبدوا غيره ولا تشركوا به شيئا.

في تفسير كلمة الأنداد

والندّ المثل والعدل قال حسّان (١) :

أتهجوه ولست له بندّ

فشرّكما لخيركما الفداء

__________________

(١) حسّان بن ثابت الشاعر المتوفى سنة (٥٤) عن مائة وعشرين سنة كأبيه وجدّه.

٤٣١

وقال جرير (١) :

أتيما تجعلون إليّ ندّا

وما تيم لذي حسب نديد

من ندّ يندّ ندّا وندودا وندادا بمعنى شرد ونفر ومنه التّناد بمعنى التفرّق والتخالف ، وناددته خالفته كأنّ كلّا من الندّين ينادّ الآخر أي يقابله ويخالفه ، ومن هنا يقال : إنّه بمعنى الضدّ أو أنّه لا يقال إلّا للمثل المخالف المعادي بل هو المراد بما في «المصباح» بعد تفسيره بالمثل ، ولا يكون الندّ إلّا الضدّ.

وعن الهمداني في «كتاب الألفاظ» الأنداد والأضداد والأكفاء والنظراء والأشباه والأقران والأمثال والأشكال نظائر.

والحقّ أنّها متقاربة تفترق إذا اجتمعت ، وتجتمع إذا افترقت وفي «مجمع البحرين» وغيره عن الرّاغب في الفرق بينها : أنّ الندّ يقال فيما يشارك في الجوهريّة فقط ، والشكل يقال فيما يشارك في القدر والمسافة ، والشبه يقال فيما يشارك في الكيفيّة فقط ، والمساوي فيما يشارك في الكميّة فقط ، والمثل عامّ في الألفاظ كلّها.

ثمّ انّه سبحانه وإن لم يكن له ضدّ ولا ندّ لصمدانيّته وفردانيّته ووحدته الحقّة المطلقة ، إلّا أنّ المشركين لمّا اتّخذوا من دونه آلهة سمّوها شركاء له أو شفعاء لهم ليقرّبوهم إليه زلفى ، وإن لم يعتقدوا مساواتها له في الذّات والصفات ، ولا مخالفتها له في الأفعال ، ولم يأمرهم الله سبحانه بعبادتها ولا التقرّب بها ، ولم يأتوا البيوت من أبوابها شابهت حالهم حال من جعلها شركاء له في الذّات والصّفات ووجوب الطّاعة والعبادة وصدور الأفعال والشؤون الالهيّة مع أنّها مخلوقة مربوبة فانية داثرة مفتقرة

__________________

(١) هو جرير بن عطيّة بن حذيفة اليربوعي الشاعر توفي سنة (١١٠) ه

٤٣٢

إليه سبحانه في وجودها وبقائها وسائر شؤونها وصفاتها.

بل في الآية وجوه من التشنيع والتهكّم عليهم حيث عبّر بالجعل الدّال على الاختلاق والافتراء كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١).

وآثر من بين أسمائه سبحانه الإسم المقدّم الجامع الدّال على الذّات المستجمع لجميع صفات الجلال والجمال الّتي من جملتها نفي الأضداد والأنداد لغاية الكمال وعبّر عمّا اختلفوه إفكا بصيغة الجمع الدّال على أنّ التّعدد دليل الحدوث والفناء بل عجز كلّ منها عن دفع غيره مع ضرورة الاختلاف والتفرق كما أشار إليه العبد الصّالح يوسف بن يعقوب على نبيّنا وآله وعليه‌السلام : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢) وقال موحّد الجاهلية زيد بن عمر بن نفيل (٣) :

أربّا واحدا أم ألف ربّ

أدين إذا تقسّمت الأمور

تركت اللّات والعزّى جميعا

كذلك يفعل الرّجل البصير

ففي قوله (أَنْداداً) استفظاع لشأنهم مرّة من جهة المادّة ، وأخرى من حيث إنّهم جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصحّ أن يكون له ندّ قط ، مع ما في إيثار الجمع من الإشارة أيضا إلى أنّ هؤلاء الشفعاء لو استحقّوا العبادة لاستحقتها غيرها ممّا لا تحصى لاشتراك الجميع في العجز ونفي الاستحقاق.

__________________

(١) الزخرف : ١٩.

(٢) يوسف : ٣٩.

(٣) زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى القرشي العدوي أحد الحكماء ونصير المرأة في الجاهلية مات قبل الهجرة سنة (١٧).

٤٣٣

وقرأ محمّد بن السّميفع (١) فلا تجعلوا لله ندّا.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حاليّة من ضمير لا تجعلوا ، وفائدتها زيادة التّوبيخ والتثريب على شركهم لا تقييد الحكم وقصره ، لوضوح أنّ العالم والجاهل المتمكّن من العلم سواء في التكليف واستحقاق العقاب بالمخالفة ، والمعنى أنّ حالكم وصفتكم أنّكم من أهل العلم والنّظر وإصابة الرّأي وصحّة المعرفة والتّمييز بين الصّحيح والفاسد ، والحقّ والباطل ، لا يكاد يشتبه عليكم شيء من خفيّات الأمور وغوامض الأحوال ، فكيف بهذا الأمر الواضح الجليّ الّذي هو التّوحيد وخلع الأنداد ، حيث إنّه قد ملأ الأنفس والآفاق من الآيات البيّنات والحجج الباهرات فلو تأمّلتم أدنى تأمّل لاضطرّت عقولكم إلى اثبات موجد للممكنات متفرّد بوجوب الذّات ، متعال عن مشابهة المخلوقات.

وعلى هذا فمفعول (تَعْلَمُونَ) متروك ، نزّل منزلة اللازم ، قصدا إلى اثبات حقيقة للفاعل في مقام المبالغة ، ويجوز أن يقدّر بناء على وجود القرائن المقالية أو الحاليّة ، والمعنى أنّكم تعلمون أنّ الأصنام الّتي تعبدونها من دون الله لم تنعم عليكم بهذه النّعم الجليلة الّتي عدّدناها ، ولا بشيء منها أو من أمثالها كقوله تعالى (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢) أو أنّ هذه النّعم كلّها من الله سبحانه وانّ تلك الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع كقوله (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (٣) ويؤيّده ما ذكره الإمام عليه‌السلام قال : (فَلا تَجْعَلُوا

__________________

(١) هو محمد بن عبد الرّحمن بن السميفع (بفتح السين) أبو عبد الله اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذّ فيه ، قرأ على طاوس بن كيسان اليماني المتوفى سنة (١٠٦) ـ له ترجمة في غاية النهاية ج ٢ ص ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) سورة الروم : ٤٠.

(٣) الشعراء : ٧٢ ـ ٧٣.

٤٣٤

لِلَّهِ أَنْداداً) ، وأشباها وأمثالا من الأصنام الّتي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدّر على شيء (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة الّتي أنعمها عليكم ربّكم (١).

أو أنكم تعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين ، وانّه لا ضدّ له ولا ندّ ، وان أصررتم على جحودكم وإنكاركم باللّسان كقوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢).

وقد ظهر ممّا مرّ انّه لا تنافي بين وصفهم بالعلم في هذه الآية وبالجهل في قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٣) لاختلاف المتعلّق فيهما.

وعن بعض المفسّرين أنّ الخطاب لأهل الكتاب كما قال الطبرسي في المجمع عن مجاهد وغيره ، والمراد أنّكم تعلمون ذلك على ما قرأتم في الكتاب كقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤) وهؤلاء وإن لم يتّخذوا أصناما آلهة من دون الله إلّا أنّهم لمّا اتبعوا أهوائهم في مشاقة الحقّ ومنادّة الرسول وكتمان ما أوتوا من العلم والمعرفة عوتبوا عتاب المشركين ، مع أنّهم منهم في الحقيقة لقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) وقوله «أبغض إله عبد على وجه الأرض الهوى» وأمّا إيمانهم بالله فلا ينفعهم شيئا إذ مع الغضّ عن قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (٥) و (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٦) وغيره من مقالاتهم الفاسدة ،

__________________

(١) تفسير الامام عليه‌السلام ص ١٤٣ وعنه البحار ج ٣ ص ٣٥ ح ١٠.

(٢) النمل : ١٤.

(٣) الزمر : ٦٤.

(٤) البقرة : ٤٢.

(٥) التوبة : ٣٠.

(٦) المائدة : ٧٣.

٤٣٥

لم يكن ذلك على وجهه ومن بابه الّذي هو تصديق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن هنا يظهر أنّ الآية ناعية على أهل السّنة أيضا حيث لم يكن إيمانهم على الوجه الّذي أمروا به من ولاية أولياء الأمر الّذين جعلهم الله أبوابه وحجّابه ، بل هم الأعراف الّذين لا يعرف الله تعالى إلّا بسبيل محبّتهم وولايتهم وطاعتهم كما في الأخبار الكثيرة المتواترة من الطّريقين ، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) في علي أمير المؤمنين ثمّ (لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) من ولايته وخلافته ووصايته (وَيُسَلِّمُوا) له الأمر (تَسْلِيماً) (١) (٢).

ولعل في الآية إشارة إلى ذلك ، فانّه سبحانه جعل أرض العبادات البدنيّة وظاهر الطّاعات القلبيّة والقالبيّة فراشا للمؤمنين يتقلبون فيها ويستقرّون في إقامة مراسم دينهم عليها ، وجعل سماء الإعتقادات الحقّة الأصوليّة من التوحيد والنّبوة وما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبّة مضروبة عليهم وهي قبّة الإسلام وفسطاط الإيمان وأنزل من سماء الايمان والتّصديق بالله ورسوله ماء الرّحمة الرّحيميّة ومعين الولاية العلويّة ، فانّ شيعتهم خلقوا من فاضل طينتهم وعجنوا بماء ولايتهم ، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) طريقة ولاية أمير المؤمنين وذرّيّته المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (٣) ، وهو ما أشرنا إليه من أنّه من آثار رحمة الله الرّحيميّة يحيي به أراضي النفوس ، فضلا عن شؤونها من الطّاعات والعبادات بعد موتها ، فأخرج به من ثمرات الطاعات والعبادات الصالحة المقبولة والعلوم والمعارف الحقيقية النّورانيّة رزقا لهم يعيشون بها في الدّنيا والآخرة.

__________________

(١) النساء : ٦٥.

(٢) مرآة العقول ج ٤ ص ٢٨٣ في شرح ح (٧) من الكافي ج ١ ص ٣٩١.

(٣) سورة الجنّ : ١٦.

٤٣٦

ولذا أمرهم بأن لا يجعلوا له أندادا في العبادة وفي الطاعة بموالاة الجبت والطاغوت وسائر الشياطين الغاصبين لحقوق محمّد وآله الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين.

ثمّ أنّه سبحانه جعل لنا أرض النفوس الإنسانية المتعلّقة بالأبدان العنصريّة فراشا نتقلّب فيها ونستقرّ عليها في هذا العالم ، وإلّا فلا هبوط لورقاء الروح وعنقاء الفؤاد في هذه النشأة الجسمانيّة لولا النفوس الإنسانيّة المتصرّفة في الأبدان العنصريّة ، وجعل سماء العقل الانساني والنّور الشعشعاني سمكا مرفوعا عليكم وأنزل من سماء العقل إلى أرض النفس ماء العلوم الحقيقيّة والمعارف الايمانيّة ، فأخرج به بواسطة استعمال العقل واستخدامه للقوى النّفسية من الشهويّة والغضبيّة وغيرها بعد تعليمها ما علّمه الله وتأديبه بآداب المطيعين وصيرورتها آمنة مطمئنة أو راضية مرضيّة من ثمرات العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والمحاسن الكاملة والأعمال الصّالحة المرضيّة على حدود التعبّد وشروط الانقياد رزقا لكم تعيشون به من حيث إنكم إنسان لا من حيث إنكم حيوان ، فتنخرطون بها في سلك المتّقين وأوليائه المقرّبين.

وتلك العلوم والمعارف هي المشار إليها بالحبّ والعنب وغيرهما في قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (١) ولذا فسّر الامام عليه‌السلام الطعام بالعلم (٢) ، وستسمع تمام الكلام في موضعه إنشاء الله ، وقد

__________________

(١) عبس : ٢٤ ـ ٣٢.

(٢) الاختصاص للمفيد ص ٤.

٤٣٧

فسرت الأرض في قوله : (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) (١) بنفوس العلماء (٢).

ولذا رتّب بعض المحقّقين الأرض على درجات ، ومراتب أعلاها النفوس الانسانية ، ثمّ أنّه سبحانه جعل لإيجادكم وإيجاد معايشكم ومصالحكم أرض الإمكان والقابليّة بإنشاء المشيّة الإمكانية ، وجعل سماء المشيّة التكوينيّة مبنيّة عليها مفاضة منه بنفسها لنفسها ، وأنزل منها إلى أرض الإمكان ماء الوجود العيني والتّعين الكوني فاخرج به من ثمرات عالم الإمكان أنواعا من الرّزق تستمدّ منها عقولكم وأفئدتكم وأرواحكم ونفوسكم ومثلكم وأبدانكم في كينوناتها وبقائها.

تفسير الآية (٢٣)

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا)

لما كان المقصود الأعظم من خلق بني آدم هو العبوديّة لخالق العالم كما أشير إليه فيما تقدّم ، وكانت العبادة متوقّفة على المعرفة ، بل هي ركنها الأقوى وغايتها القصوى ، وكانت المعرفة تدور على الأركان الثلاثة الّتي هي التّصديق بالتّوحيد وبنبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولاية أوصيائه الطّيبين صلّى الله عليهم أجمعين ، وقد قرّر الأوّل في الآيتين المتقدّمتين ، وبيّن الطّرق الموصلة إلى تحصيل العلم والتّصديق به عقّبه بذكر ما يدل على الثّاني وهو الإتيان بالمعجزة الباقية على مرّ الدّهور الدّال على الثالث أيضا من جهة ورود النّص قبله ، ودلالة الآيات الّتي تحدّى بها عليه أيضا.

__________________

(١) الرعد : ٤١.

(٢) الكافي ج ١ ص ٣٨ كتاب فضل العلم.

٤٣٨

ولذاورد عن الصادق عليه‌السلام على ما رواه في كتاب الكافي والفضائل قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية هكذا : وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا في عليّ (١) انتهى.

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام قال لمّا ضرب الله الأمثال للكافرين المجاهرين الدّافعين لنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والناصبين المنافقين لرسول الله الدّافعين ما قاله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في أخيه عليّ عليه‌السلام والدّافعين أن يكون ما قاله من الله تعالى وهي آيات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعجزاته مضافا إلى آياته الّتي بيّنها لعليّ عليه‌السلام بمكّة والمدينة ولم يزدادوا إلّا عتوّا وطغيانا قال الله تعالى لمردة أهل مكّة وعتاة أهل المدينة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) حتّى تجحدوا أن يكون محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي مع اظهاري عليه بمكّة الباهرات من الآيات كالغمامة الّتي كانت تظلّه بها في أسفاره ، والجمادات الّتي كانت تسلّم عليه من الجبال والصخور والأحجار ، وكدفاعه قاصديه بالقتل عنه وقتله إيّاهم ، وكالشجرتين المتباعدتين اللّتين تلاصقتا فقعد خلفهما لحاجة ثمّ تراجعتا إلى مكانهما كما كانتا ، وكدعائه الشّجرة فجاءته خاضعة ذليلة ، ثمّ أمره لها بالرّجوع فرجعت سامعة مطيعة ، فاتوا يا معشر قريش واليهود ، ويا معشر النواصب المنتحلين بالإسلام الّذين هم منه براء ويا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الألسن بسورة من مثله ، من مثل محمّد ، من مثل رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب ولم يدرس كتابا ولا اختلف إلى عالم ولا تعلّم من أحد ، وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره ، بقي كذلك أربعين سنة ، ثمّ أوتي جوامع العلم حتى علم علم الأوّلين والآخرين ، فإن كنتم في ريب من هذه الآيات فأتوا من

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٧٠ عن الكافي.

٤٣٩

مثل هذا الرّجل بمثل هذا الكلام ، ليبين أنّه كاذب كما تزعمون ، لأنّ كلّ ما كان من عند غيره سبحانه فسيوجد له نظير في ساير خلق الله ، وان كنتم معاشر قرّاء الكتب من اليهود والنصارى في شكّ ممّا جاءكم به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من شرايعه ومن نصبه أخاه سيّد الوصيّين وصيّا بعد أن أظهركم معجزاته الّتي منها أن كلّمته الذراع المسمومة ، وناطقه ذئب ، وحنّ إليه العود وهو على المنبر ، ودفع الله عنه السّم الّذي دسّته اليهوديّة في طعامهم ، وغلب عليهم البلاء وأهلكهم به ، وكثّر القليل من الطعام (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) يعني من مثل القرآن من التّوراة والإنجيل والزّبور وصحف ابراهيم والكتب المائة والأربعة (١) عشر فإنكم لا تجدون في سائر كتب الله سورة كسورة من هذا القرآن انتهى (٢) على ما يأتي.

وفيه دلالة على تعميم الخطاب بالنّسبة إلى الكفار والمشركين والمنافقين ، وإن كان بعضهم منكرين للنبوّة وآخرون للولاية بناء على أنّ انكار شيء ممّا تضمّنته الآيات ولو من الاحكام الفرعيّة فضلا عن الأصلية على وجه العناد والمشاقّة إنكار للآيات ولنبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل جحود للرّبوبيّة أيضا ، ولذا ترى الفقهاء يحكمون بارتداد كلّ من أنكر حكما معلوما من الدّين إذا عاد إلى انكار صاحب الدّين.

وفي الآية وجه آخر وهو مبنيّ على اعتبار قوله في الآية المتقدّمة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) على وجه التّقييد والمعنى انكم إن كنتم عالمين بربوبيّته سبحانه

__________________

(١) في البحار ج ١١ ص ٣٢ ج ٢٤ : المائة والأربعة عشر ولعله تصحيف لان الصدوق قدّس سره روى الحديث باسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه : انزل الله تعالى مائة كتاب وأربعة كتب.

(٢) بحار الأنوار ج ٩ ص ١٧٥ ـ ١٧٦ عن تفسير الإمام عليه‌السلام.

٤٤٠