تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

الحروف المقطّعة في القرآن

روى العيّاشي في تفسيره عن أبي لبيد المخزومي عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال : قال عليه‌السلام : «إنّ في حروف القرآن المقطّعة لعلما جمّا إنّ الله تعالى أنزل (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فقام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ظهر نوره ، وثبتت كلمته ، وولد يوم ولد وقد مضى من الألف السابع مائة سنة وثلاث سنين.

ثم قال عليه‌السلام : وتبيانه في كتاب الله تعالى في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار ، وليس في الحروف المقطّعة حرف ينقضي الا وقيام قائم من بني هاشم عند انقضائه.

ثم قال عليه‌السلام : الألف واحد ، واللام ثلاثون والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فذلك مائة وإحدى وستون. ثمّ كان بدو خروج الحسين عليه‌السلام (الم اللهُ) ، فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عند (المص) ، ويقوم قائمنا عند انقضائها ب (الر) فافهم ذلك وعه واكتمه (١).

أقول : لا يخفى أنّ الألوف الستّة الماضية ليست بالنسبة الى بدو خلق العالم ، ولا خلق الأفلاك والكواكب ولا حركتها لأنّها اكثر من ذلك بكثير ، بل من خلق أبينا آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام أو هبوطه ، أو إنزال الصحيفة والشريعة عليه ، وان كان الأوسط أوسط ، ويستفاد منه أنّ السنة الأولى من كلّ ألف سنة مبدأ تاريخ ، فلمّا كملت ستّة آلاف سنة وانقضت من الدورة السابعة مائة وثلاث سنين تولّد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) تفسير العياشي ج ٢ ص ح ٣ وعنه بحار الأنوار ج ٥٢ ص ١٠٦ ح ١٣.

٤١

والإمام عليه‌السلام بيّن بأنّه يمكن استنباط هذا التاريخ من جميع الحروف المبسوطة في فواتح السور بعد إسقاط الفواتح المكررة ، دون الحروف المكررة.

هكذا : ألف لام ميم ـ ألف لام ميم صاد ـ ألف لام را ـ ألف لام ميم را ـ كاف ها يا عين صاد ـ طا ها ـ ـ طا سين ميم ـ طا سين ـ يا سين ـ صاد ـ حا ميم ـ حا ميم عين سين قاف ـ قاف ـ نون ـ فجميع هذه الحروف المستنطقة مائة وثلاث.

قوله عليه‌السلام : «وليس من حروف مقطعة حرف ينقضي الا وقيام قائم من بنى هاشم عند انقضائه» المراد بالحرف نوعه الشامل لكل فاتحة من الفواتح وإن كانت مشتملة على حروف فابتداء دولة بني هاشم من عبد المطلب ، ومن ظهور دولة عبد المطلب الى دولة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحدى وسبعون سنة كما ذكره بعض (١) الأعلام في المقام ، وهو المشار اليه «ب (الم)» البقرة.

وأمّا (الم) آل عمران فإشارة الى خروج الحسين عليه‌السلام ، إذ من رواج دولة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى وقت خروجه عليه‌السلام أحد وسبعون سنة تقريبا ، فإنّ بعثته كانت قبل الهجرة نحوا من ثلاث عشرة سنة ، وكان شيوع أمره وظهوره بعد سنتين من البعثة. وكان خروج الحسين عليه‌السلام في أواخر سنة ستّين من الهجرة.

وأمّا (المص) فهو إشارة الى دولة بني العباس ، كما أشار اليه الصادق عليه‌السلام فيما رواه الصدوق في «معاني الأخبار» مسندا عن رحمة بن صدقة قال : أتى رجل من بني اميّة ، وكان زنديقا الى جعفر بن محمّد عليهما‌السلام فقال له : قول الله في كتابه : (المص)

__________________

(١) هو العلّامة المجلسي قدس‌سره في بحار الأنوار ج ٥٢ ص ١٠٧.

٤٢

أيّ شيء أراد بهذا ، وأيّ شيء فيه من الحلال والحرام ، وأيّ شيء في ذا ممّا ينتفع به الناس؟ قال فاغتاض لذلك جعفر بن محمّد عليهما‌السلام فقال : أمسك ويحك الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد ستّون ، كم معك؟ فقال الرّجل : أحد وثلاثون ومائة ، فقال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : إذا انقضت سنة إحدى وثلاثين ومائة انقضى ملك أصحابك.

قال : فنظرنا فلمّا انقضت إحدى وستّون ومائة يوم عاشوراء دخل المسوّدة (١) الكوفة وذهب ملكهم (٢).

أقول : ولعلّه مبنيّ على حساب المغاربة كما قيل (٣) ، فإنّ ترتيب أبجد عندهم : أبجد ـ هوز ـ حطي ـ كلمن ـ صعفض ـ قرست ـ ثخذ ـ ظعش ـ.

فالصاد المهملة عندهم ستّون ، وحينئذ يستقيم إذا بني على البعثة ، أو نزول الآية كما قيل (٤).

وأمّا لو بني على ما هو المعروف من ترتيب أبي جاد فلا يستقيم ، لأن عدد الحروف حينئذ أحد وستّون ومائة ، والموجود في اكثر نسخ الكتاب أحد وثلاثون ومائة ، مع أنّه لا يتمّ حينئذ على تاريخ الهجرة ، ولا على تاريخ عام الفيل ، ولا على مدّة ملكهم لكونه ألف شهر.

وأمّا في ذيل خبر أبي لبيد : «ويقوم قائمنا عند انقضائها «ب (الر) فقد تكلّم فيه

__________________

(١) المسوّده (بكسر الواو) : لابسوا السواد والمراد أصحاب الدعوة العباسيّة لأنهم يلبسون ثيابا سوداء.

(٢) رواه : البحار ج ١٩ ص ٩٢ ط الكمباني عن العياشي في تفسيره ج ٢ ص ١.

(٣) احتمله المجلسي في البحار ج ٥٣ ص ١٠٨ وج ١٩ ص ٩٢ ط الكمباني.

(٤) المصدر السابق.

٤٣

بعض (١) الأعلام ، وذكر احتمالات كثيرة في المقام مع انقضاء بعضها الى هذا العام ، وعدم ظهور الحجّة عليه الصلاة والسّلام لكن الأولى السكوت عمّا سكت الله تعالى وأوليائه عنه ، وترك الفحص عمّا حجّبنا عنه حملة العلم وخزّان الوحي ، كيلا يكذّبنا الصادق عليه‌السلام بقوله : كذب الوقّاتون.

فالأولى ترك البحث عنه وعمّا وجد بخطّ الامام أبي محمد العسكري عليهما‌السلام على ما رواه في البحار ، من كتاب «المحتضر» للحسن بن سليمان تلميذ الشهيد الثاني ، وفيه : «قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوّة والولاية». الى أن قال : وسيسفر ، وفي بعض النسخ : وسيفجّر لهم ، أي لشيعتهم ، ينابيع الحيوان بعد لظى النيران لتمام الروطه وطواسين من السنين (٢).

لأنّ العلم بمعرفته واستنباطه مختصّ بهم وبمن منحوه علمه من شعيتهم.

مضافا الى احتمال تطرق البداء فيما أريد به من الاحتمالات.

بل في كتاب الغيبة للشيخ النعماني في الصحيح عن ابي حمزة الثمالي قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ عليا عليه‌السلام كان يقول : الى السبعين بلاء ، وكان يقول : بعد البلاء رخاء ، وقد مضت السبعون ولم نر رخاء.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يا ثابت إنّ الله تعالى كان وقّت هذا الأمر في السبعين ، فلمّا قتل الحسين عليه‌السلام اشتدّ غضب الله تعالى على اهل الأرض فأخّره الى أربعين ومائة سنة فحدّثناكم فأذعتم الحديث ، وكشفتم قناع الستر فأخّره الله ولم يجعل له بعد ذلك وقتا عندنا ، و (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣)

__________________

(١) هو العلامة المجلسي قدّس سره في البحار ج ٥٢ ص ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٦ ص ٢٦٥.

(٣) الرعد : ٣٩.

٤٤

قال ابو حمزه : وقلت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال : قد كان ذاك (١).

ولكن نحن نردّ علم هذا الخبر أيضا إليهم عليهم‌السلام.

وبالجملة فلا يصلح التعويل على شيء من محتملات الخبرين رجما بالغيب من دون بيّنة واضحة على ذلك ، ولذا أبطل أمير المؤمنين عليه‌السلام مقالة اليهود في استنباطهم لمدّة الدّولة النبويّة الخاتميّة من هذه الحروف المقطّعة ، كما رواه الإمام عليه‌السلام في تفسيره.

ورواه الصدوق في «المعاني» ، قال عليه‌السلام : ثمّ اليهود يحرّفونه عن جهته ، ويتأولونه على غير وجهه ، ويتعاطون التوصّل الى علم ما قد طواه الله عنهم من حال أجل هذه الامّة وكم مدّة ملكهم فجاء الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم جماعة ، فولّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام لمخاطبتهم ، فقال قائلهم : إن كان ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقا فقد علّمناكم قدر ملك امّته ، هو احدى وسبعون سنة : الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون.

فقال علي عليه‌السلام : فما تصنعون بالمص وقد أنزلت عليه؟ قالوا : هذه إحدى وستّون ومائة سنة قال عليه‌السلام : فماذا تصنعون «ب (الر)؟ وقد أنزلت عليه ، فقالوا : هذه أكثر ، هذه مائتان واحدى وثلاثون سنة ، فقال عليّ عليه‌السلام : فما تصنعون «ب (المر)؟ قالوا : هذه مائتان وإحدى وسبعون سنة.

فقال عليّ عليه‌السلام : فواحدة من هذه له ، أو جميعها له؟

فاختلط كلامهم ، فبعضهم قال : له واحدة منها ، وبعضهم قال : بل يجمع له كلّها وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ، ثم يرجع الملك إلينا ، يعني الى اليهود.

فقال عليّ عليه‌السلام : أكتاب من كتب الله نطق بهذا ، أم آراؤكم دلّتكم عليه؟ فقال

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ١٠٥ ح ١١ عن كتاب الغيبة.

٤٥

بعضهم كتاب الله نطق به ، وقال آخرون منهم : بل آراؤنا دلّت عليه.

فقال عليه‌السلام فأتوا بالكتاب من عند الله ينطق بما تقولون ، فعجزوا عن إيراد ذلك ، وقال للآخرين : فدلّونا على صواب هذا الرأي ، فقالوا : صواب رأينا دليله أنّ هذا حساب الجمّل.

فقال عليه‌السلام : كيف دلّ على ما تقولون وليس في هذه الحروف ما اقترحتم بلا بيان (وفي نسخة : وليس في هذه الحروف دلالة على ما اقترحتموه) ، أرايتم إن قيل لكم : إنّ هذه الحروف ليست دالّة على هذه المدّة لملك امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنها دالّة على أنّ كلّ واحد منكم قد لعن بعدد هذا الحساب ، أو أنّ عند كلّ واحد منكم دينا مثل عدد هذا الحساب؟ قالوا : يا أبا الحسن ليس شيء مما ذكرته منصوصا عليه في (الم) ، و (المص) ، و (الر) و (المر).

فقال عليّ عليه‌السلام : ولا شيء مما ذكرتموه منصوص عليه في (الم) ، و (المص) ، و (الر) ، و (المر) ، فإن بطل قولنا لما قلتم بطل قولكم لما قلنا (١) ... الى آخر ما يأتي ان شاء الله من تتمة الخبر في تفسير قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٠ ص ١٦ ـ ١٧ عن معاني الاخبار ص ١٢ ـ ١٣.

٤٦

البحث الخامس

دلالة الحروف قبل التركيب

ربما يتوهّم أنّ الحروف المفردة قبل التركيب والترتيب ليس لها وضع ودلالة على معان أصلا ، وأنّ فائدتها منحصرة في تركيب الكلمات منها وطرو الوضع عليها.

وقد يؤيّد ذلك بما روي في «العيون» و «الاحتجاج» وغيرهما عن مولانا الرضا عليه‌السلام في خبر عمران الصابي.

قال الإمام عليه‌السلام : والإبداع سابق للحروف ، والحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون : وكيف لا تدلّ على غير أنفسها قال الرضا عليه‌السلام : لأنّ الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئا لغير معنى أبدا ، فإذا ألّف منها أحرفا أربعة أو خمسة أو ستة ، أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلّفها لغير معنى ، ولم يك إلّا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئا.

قال عمران : فكيف لنا بمعرفة ذلك؟ قال الرضا عليه‌السلام : أمّا المعرفة فوجه ذلك وبيانه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فردا فقلت : أب ت ث ج ح خ ... حتى تأتي على آخرها ، فلم تجد لها معنى غير أنفسها ، فإذا ألّفتها وجمعت منها أحرفا وجعلتها اسما وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية الى الموصوف بها ... الخبر (١).

نظرا الى أنّ الدلالة على أنفسها الثابتة قبل التركيب بالفحوى هي تعيين مسمّياتها من النقوش والألفاظ كما يستفاد ذلك من ملاحظة ذيل الخبر ، ولكنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٠ ص ٣١٤ ـ ٣١٥ ح ١ عن التوحيد والعيون

٤٧

الأظهر أنّه لا دلالة في الخبر على ذلك أصلا بل الظاهر منه أنّ سبيل الألفاظ الموضوعة لتلك الحروف أو الحروف أنفسها سبيل الأعلام الشخصيّة الّتي لا يستفاد منها عند إطلاقها غير أنفسها من دون أن نجعلها موضوعات لشيء من القضايا ، أو نحكم عليها بشيء من الأحكام كما إذا قلت : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فإنّ هذه الأسماء الشريفة عند إطلاقها ، وعدّها لا تدلّ على غير أنفسها وإن كانت معانيها من أعلى مراتب الوجود مشتملة على شئون لا تحصى ومناقب لا تستقصى.

هذا مضافا إلى الأخبار الكثيرة الدّالة على أنّها من الأسماء الإلهية والنعوت الربانيّة ، بل قد ورد الحثّ الأكيد الشديد على معرفة مسمّياتها ومعانيها.

ففي المعاني ، والخصال ، والأمالي ، والتوحيد بالإسناد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : سأل عثمان بن عفّان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال يا رسول الله ما تفسير أبجد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعلّموا تفسير أبجد فإنّ فيه الأعاجيب كلّها ويل لعالم جهل تفسيره ، فقيل : يا رسول الله ما تفسير أبجد؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا الألف فآلاء الله ، حرف من أسمائه ، وأمّا الباء فبهجة الله ، وأمّا الجيم فجنّة الله وجلال الله وجماله ، وأمّا الدال فدين الله.

وأمّا هوّز فالهاء الهاوية فويل لمن هوى في النار ، وأمّا الواو فويل لأهل النّار ، وأمّا الزاي فزاوية في النار نعوذ بالله ممّا في الزاوية يعني زوايا جهنّم.

وأمّا حطّي فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر وما نزل به جبرئيل مع الملائكة الى مطلع الفجر ، وأمّا الطاء ف (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) ، وهي شجرة غرسها الله عزوجل بيده ونفخ فيها من روحه ، وإنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنّة تنبت بالحلي والحلل والثمار متدلّية على أفواههم.

وأمّا الياء فيد الله فوق خلقه (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

٤٨

وأمّا كلمن فالكاف كلام الله (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) و (لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ، وأمّا اللام فإلمام أهل الجنّة بينهم في الزيارة والتحيّة والسّلام وتلاوم أهل النّار فيما بينهم ، وأمّا الميم فملك الله الّذي لا يزول ودوام الله الّذي لا يفنى ... وأمّا النون ف (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ، فالقلم قلم من نور وكتاب من نور (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ... (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) ... ، (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

وأمّا سعفص فالصاد صاع بصاع ، وفصّ بفصّ ، يعني الجزاء بالجزاء ، وكما تدين تدان ، إنّ الله لا يريد ظلما بالعباد.

وأمّا قرشت يعني قرشهم فحشرهم ونشرهم إلى يوم القيامة ف (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١).

وفيها وفي العيون عن مولانا الرضا عليه‌السلام قال : إنّ أوّل ما خلق الله عزوجل ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم ... إلى أن قال : ولقد حدّثني أبي ـ عن أبيه ـ عن جدّه ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين في (ا ب ت ث) قال : الألف آلاء الله ، والباء بهجة الله ، والتاء تمام الأمر بقائم آل محمّد ، والثاء ثواب المؤمنين على أعمالهم الصالحة ، (ج ح خ) فالجيم جمال الله وجلال الله ، والحاء حلم الله ، والخاء خمول ذكر أهل المعاصي عند الله عزوجل ، (د ذ) ، فالدال دين الله ، والذال من ذي الجلال ، (ر ، ز) ، فالراء من الرءوف الرّحيم ، والزاي زلازل القيامة ، (س ش) فالسين سناء الله والشين شاء الله ما شاء ، وأراد ما أراد ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، (ص ض) فالصاد من صادق الوعد في حمل الناس على الصراط ، وحبس الظالمين عند المرصاد ، والضاد ضلّ من خالف محمدا وآل محمّد ، (ط ظ) فالطاء طوبى المؤمنين (وَحُسْنُ مَآبٍ) ، والظاء ظنّ المؤمنين بالله خيرا ، وظنّ الكافرين به سوءا (ع غ) ، فالعين من

__________________

(١) الخصال ج ١ باب الستّة ح ٣٠

٤٩

العالم ، والغين من الغيّ ، (ف ق) فالفاء فوج من أفواج النار ، والقاف قرآن على الله جمعه وقرآنه (ك ل) فالكاف من الكافي ، واللام لعن (١) الكافرين في افتراءهم على الله الكذب (م ن) فالميم ملك الله يوم لا مالك غيره ويقول عزوجل : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ، ثم ينطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، فيقول جلّ جلاله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٢) والنون نوال الله للمؤمنين ، ونكاله بالكافرين (وه) فالواو ويل لمن عصى الله ، والهاء هان على الله من عصاه (لا ي) فلام ألف لا إله إلّا الله ، وهي كلمة الإخلاص ، ما من عبد قالها مخلصا إلّا وجبت له الجنّة ، والياء يد الله فوق خلقه باسطة بالرزق (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ثمّ قال عليه‌السلام إنّ الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب ، ثم قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٣) (٤).

وفي التوحيد والأمالي ، والمعاني بالإسناد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام قال : لمّا ولد عيسى بن مريم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام كان ابن يوم كأنه ابن شهرين ، فلمّا كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به الى الكتّاب وأقعدته بين يدي المؤدّب ، فقال له المؤدّب : قل بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فقال عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فقال له المؤدّب :

__________________

(١) في الأصل : لغو الكافرين

(٢) غافر : ١٧.

(٣) الإسراء : ٨٨.

(٤) بحار الأنوار ج ٣ كتاب العلم ص ٣١٥ ـ ٣١٩ ح ٣ عن المعاني والعيون ، والأمالي ، والتوحيد.

٥٠

قل : أبجد فرفع عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام رأسه ، فقال : هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدّرّة ليضربه ، فقال : يا مؤدّب لا تضربني إن كنت تدري ، وإلّا فاسئلني حتّى أفسّر ذلك ، فقال : فسّر لي ، فقال عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام : أمّا الألف فآلاء الله ، والباء بهجة الله ، والجيم جمال الله ، والدال دين الله ، (هوّز) : الهاء هي هول جهنّم ، والواو : ويل لأهل النار ، والزاي : زفير جهنّم ، (حطّي) : حطّت الخطايا عن المستغفرين ، (كلمن) كلام الله لا مبدّل لكلماته ، (سعفص) : صاع بصاع ، والجزاء بالجزاء ، (قرشت) : قرشهم (١) فحشرهم.

فقال المؤدّب : أيّتها المرأة خذي بيد ابنك فقد علم ، ولا حاجة له في المؤدّب (٢).

وفي التوحيد والمعاني ، عن الكاظم عليه‌السلام ، عن جدّه الحسين بن علي عليهما‌السلام ، قال : جاء يهوديّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال له : ما الفائدة في حروف الهجاء؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : أجبه ، وقال : اللهم وفّقه وسدّده فقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ما من حرف إلّا وهو من أسماء الله عزوجل ، ثم قال : أمّا الألف فالله الّذي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، وأمّا الباء فباق بعد فناء خلقه ، وأمّا التاء فالتوّاب يقبل التوبة من عباده ، وأمّا الثاء فالثابت الكائن ، (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ، وأمّا الجيم فجلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه ، وأمّا الحاء فحقّ حيّ حليم ، وأمّا الخاء فخبير بما يعمل العباد ، وأمّا الدال فديّان الدين ، وأما الذال ف (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، وأمّا الراء فرؤف بعباده ، وأمّا الزاي فزين المعبودين (وفي نسخة :

__________________

(١) قرشه يقرشه : قطّعه وجمعه من هاهنا وهاهنا وضمّ الى بعض.

(٢) بحار الأنوار ج ٢ كتاب العلم ص ٣١٦ ـ ٣١٧ ح ١ عن المعاني والأمالي والتوحيد.

٥١

فزين العابدين) وأمّا السين فالسميع البصير ، وأمّا الشين فالشاكر لعباده المؤمنين ، وأمّا الصاد فصادق في وعده ووعيده ، وأمّا الضاد فالضار النافع ، وأمّا الطاء فالطاهر المطهّر ، وأمّا الظاء فالظاهر المظهر لآياته ، وأمّا العين فعالم بعباده ، وأمّا الغين فغياث المستغيثين ، وأمّا الفاء ف (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) ، وأمّا القاف فقادر على جميع خلقه وأمّا الكاف فالكافي الّذي (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) و (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ، وأمّا اللام ف (لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) ، أمّا الميم فمالك الملك ، وأمّا النون ف (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من نور عرشه ، وأما الواو فواحد صمد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ، أمّا الهاء فهاد لخلقه ، أمّا اللام ألف فلا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأمّا الياء فيد الله باسطة على خلقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا هو القول الّذي رضي الله عزوجل لنفسه من جميع خلقه ، فأسلم اليهودي (١).

وروي عنهم عليهم‌السلام في أدعية التعقيب : «اللهمّ بألف الابتداء ، وبباء البهاء ، بتاء التأليف ، بثاء الثناء ، بجيم الجلال ، بحاء الحمد ، بخاء الخفاء ، بدال الدوام ، بذال الذكر ، براء الربوبيّة ، بزاي الزيادة ، بسين السّلامة ، بشين الشكر ، بصاد الصبر ، بضاد الضوء ، بطاء الطهر ، بظاء الظلام ، بعين العلم ، بغين الغفران ، بفاء الفردانيّة ، بقاف القدرة ، بكاف الكلمة التامّة ، بلام اللوح ، بميم الملك ، بنون النور ، بواو الوحدانيّة ، بهاء الهيبة ، بلام ألف لا إله إلّا أنت ، بياء يا ذا الجلال والإكرام والدعاء.

وهذه الأخبار يستفاد منها ومن غيرها ممّا ورد في تفسير البسملة وفواتح السور وغيرها أن كلّ حرف من الحروف اسم من أسماء الالهيّة المفتتحة بتلك الحروف ، ولذا وقع الإختلاف في التعبير من تلك الأسماء.

وبه قد يفسّر النفس في قوله : «لا تدلّ على غير نفسها» بناء على أنّها هي النفس الّتي من عرفها فقد عرف الله ، وهو الحقيقة المشار إليها في حديث كميل

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٣١٨ ح ٢ ، عن المعاني والأمالي والتوحيد.

٥٢

بكشف سبحات الجلال من غير إشارة ، وبمحو الموهوم وصحو المعلوم (١) ، وهو تجلّيه سبحانه بها لها.

بل قيل : إنّ المستفاد من تضاعيف أخبار الباب هو أنّ كلّ اسم وصفة إلهيّة ، وكلّ حادثة ربانيّة مبدوئة بهذه الأحرف ، أو مناسبة لها بأتمّ المناسبة فهي دالّة عليها واسم لها ، وإن كان من غير أسماء الله تعالى ، أو منها ومن غيرها كما ورد في تفسير (كهيعص) و (حم عسق) ، وغيرهما.

وقد أشرنا فيما أسلفنا ، في تفسير الفاتحة أنّ لكلّ اسم وجها وقلبا وربّما يعبّر بكلّ منهما ، فوجه الكلمة حرفها الأوّل ، وقلبها حرفها الأوسط ، والحروف الّتي هي وجوه الكلمات وقلوبها دلالات وإشارات الى الحقائق الكليّة ، والمعارف الإلهيّة ، ومصالح العباد ، وجزئيّات المبدء والمعاد ، يعرفها من يعرفها ، ويستنكرها من يجهلها ولذا قال مولانا الباقر عليه‌السلام في جواب أهل فلسطين حيث سأله وفدهم عن تفسير (الصَّمَدُ) فأجاب عليه‌السلام بتفسير حروفه الخمسة الّتي هي وجوه الكلمات إلى أن قال : لو وجدت لعلمي الّذي آتاني الله عزوجل حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان ، والدين والشرائع من الصمد ، وكيف لي بذلك ، ولم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه‌السلام حملة لعلمه حتّى كان يتنفّس الصعداء ويقول على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني (٢).

قال بعض المحققين : إنّ قوله هذا ليس خاصّا بالصمد ، بل كلّ كلمات الله عزوجل على هذا النحو ،

__________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٦٠٣ وفيه : قال المجلسي : هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة.

(٢) بحار الأنوار ج ٣ ص ٢٢٥ عن التوحيد.

٥٣

وكما أنّ للوليّ المطلق أن يستخرج من كلمة الصمد كلّما يحتاج إليه الخلق ، فكذلك سائر كلمات الله تعالى للولي المطلق أن يستخرج من كلّ كلمة منها كلّما يحتاج إليه الخلق ، نعم لاستنباطها طرق خاصّة مختصة بهم لا يشاركهم في علمها غيرهم ، ولذا قال سبحانه : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١).

البحث السادس

دلالة الحروف والألفاظ على مدلولاتها

هل هو بالوضع أو ذاتي

قد ظهر ممّا مرّ أنّ للحروف الّتي هي أسماء لمسميّاتها قبل التركيب دلالات على مداليل جزئيّة وكلّية ، نوعيّة أو جنسيّة ناشئة من وضع الواضع الّذي هو الله تعالى ، كما ذهب اليه جماعة من المحقّقين مستندا إلى ظاهر قوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) (٢) و (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) و (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٣).

سيّما مع ملاحظة ما ورد في تفسيرها من الأخبار حسبما تأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

أو البشر كما هو القول الآخر.

__________________

(١) سورة النساء : ٨٣.

(٢) سورة الروم : ٢٢.

(٣) البقرة : ٣١.

٥٤

أو من مناسبة ذاتيّة بين الألفاظ والمعاني ، كما من أهل التكسير ، وبعض الاصوليّين ، واختاره الشيخ الأحسائي والسيّد الرشتي فالدلالة عندهم طبيعيّة غير ناشئة من الوضع ، وستسمع إنشاء الله تعالى تفصيل ذلك الكلام في تفسير قوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (١).

فإذا صدر الكلام من الحكيم العالم بأوضاع الحروف البسيطة والمركّبة ودلالتها من حيث الإفراد والتركيب والترتيب وحقائقها وذاتياتها وعوارضها وغير ذلك مما يتبعها ، فلا ريب أنّ مقتضى الكمال الكلامي هو إرادة جميع تلك الوجوه ومراعاة ما يلحظ في الدّال واعتبار المداليل ، سيّما وأن يكون المتكلّم هو الله سبحانه المتعالي عن وصمة النقصان.

والمخاطب أوّل من قرع باب الوجود من سرادق الإمكان.

والكلام هو القرآن الّذي لكل شيء فيه تبيان.

والمعلّم هو (الرَّحْمنُ) الّذي (عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ).

والتعليم في سرادق القدس وحضرة الأنس ، فوق صاقورة (٢) الجنان ، فوق احساس الكروبيّين ، فوق غمائم النور ، وفوق تابوت الشهادة ، فوق عمود النار ، بلا زمان ولا مكان.

هذا مضافا الى ما مرّ من اشتمال القرآن على الظهور والبطون والوجوه الّتي لها الإحاطة التدوينيّة بجميع أحوال الأكوان والكينونات والحوادث والتشريعات ، ولذا كان للإمام عليه‌السلام أن يستنبط جميع ذلك من الحروف الخمسة في الصمد بل ومن

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) اشارة الى الحديث المروي عن الإمام العسكري عليه‌السلام رواه في البحار ج ٢٦ ص ٢٦٥ عن كتاب المحتضر.

٥٥

كل آية من آيات القرآن ، وكلّ كلمة من كلماته ، سيّما هذه الحروف المقطّعة الّتي افتتحت بها طائفة من السور.

تفسير الحروف المقطعة في القرآن

ففي معاني الأخبار عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : (الم) هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطّع في القرآن الّذي يؤلفه النبيّ أو الإمام فإذا دعا به أجيب (١).

وورد مثله في تفسير (حم عسق)

وفي «المجمع» وغيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لكلّ كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي» (٢)

وفي (كهيعص) : إنّه من أنباء الغيب.

وفي (عسق) : إنّه عدد سني القائم.

الى غير ذلك مما مرّ ، وممّا تأتي الإشارة إليه.

والحاصل أنّه لا علم لنا إلّا ما تعلّمناه من أنوار آثار ائمّتنا عليهم‌السلام الذين هم عيبة علم الله ، ومهابط وحيه ، وحملة كتابه.

__________________

(١) معاني الأخبار باب معنى الحروف المقطعة ص ٢٣.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢ ـ تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٣٧.

٥٦

الوجوه الستة المستفادة من الأحاديث

وقد استفيد ممّا وصل إلينا من أخبارهم في هذه الحروف وجوه نشير إلى جملة منها :

منها : أنّها ظروف الحقائق ومباني المعاني ، وهي مفاتيح الغيوب ، ورموز بين المحبّ والمحبوب وينفتح من كل حرف منها ألف باب ، وإن اختصّ بعلمه من خوطب به (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

وقد مرّ في ذلك مضافا الى ما في المقام خبر ما في ذوابة سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخبر أبي لبيد ، وغير ذلك ممّا مرّ.

بل في بعض حواشي الكشّاف مرويّا عن الإمام الناطق جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام أنّه قال : (الم) رمز وإشارة بينه تعالى وبين حبيبه عليه‌السلام أراد أن لا يطّلع عليه سواه أخرجه بحروف وبعّده عن درك الأخبار.

ومنها : أنّها من حروف اسم الله الأعظم الّذي يؤلّفه العالم من آل محمّد عليهم‌السلام فيستجاب له إذا دعى به.

ولذا ورد في الأدعية عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما روته العامّة والخاصّة : يا (كهيعص) ، يا (حم عسق).

وورد فيما يدعى عقيب السادسة من ركعات صلاة الليل : اللهمّ إني أسئلك يا قدوس يا قدوس يا قدّوس يا (كهيعص) ... الدعاء (١).

وفي مشارق الأمان : روى في معنى قوله تعالى : (الم) أنّها اسم الله الأعظم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٧ ص ٢٥١ ح ٥٩ عن مصباح المتهجد ص ١٠١.

٥٧

ظاهرا وباطنا (١).

إلى غير ذلك مما يدلّ على أنّها من الإسم الأعظم والحجر المكرّم.

بل عن ابن الجوزي من العامّة : أنّ عليّا رضي الله عنه وكرّم وجهه قال : إنّ هذه الحروف اسماء مقطّعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الّذي إذا دعي به أجاب.

ومنها : أنّ كلا منها إشارة إلى اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته المفتتحة بذلك الحروف ، أو مطلقا بناء على الاكتفاء ببعض الكلمة عن تمامها كما مرّت الإشارة إليه في الأخبار المتقدمة لتفسير حروف التهجي ، ويأتي في تفسير خصوص الفواتح ما يدلّ عليه.

وقد يجعل من ذلك أيضا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كفى بالسيف شا» أى شاهدا ، فحذف العين واللام ، وأبقى الفاء ، وقد مرّ في تفسير البسملة ما يؤيّد ذلك.

ولذا قيل : إنّ معنى قوله : (الم) أنا الله أعلم ، و (المر) : أنا الله أعلم وأرى ، و (المص) : أنا الله أعلم وأفصل.

وقد ورد في الخبر أنّ معنى (كهيعص) : أنا الكافي الهادي العليم الصادق.

وفي (الم) في آل عمران : أنا الله المجيد ، كما في المعاني عن الصادق عليه‌السلام.

وفي المجمع عن أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا الى علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام قال : سئل جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام عن قوله تعالى : (الم) فقال عليه‌السلام : في الألف ست صفات من صفات الله تعالى :

__________________

(١) في البحار ج ٩٣ ص ٢٢٤ عن مهج الدعوات عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اسم الله الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث : في البقرة ، وآل عمران ، وطه ، قال أبو أمامة راوي الحديث : في البقرة ، آية الكرسي وفي آل عمران : (الم ، اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، وفي طه : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).

٥٨

الابتداء فإن الله ابتدأ جميع الخلق ، والألف ابتداء الحروف.

والإستواء عادل غير جائر ، والألف مستو في ذاته.

والانفراد ، والله فرد ، والألف فرد.

واتصال الخلق بالله ، فالله لا يتّصل بالخلق ، وكلّهم محتاجون الى الله والله غنيّ عنهم ، فكذلك الألف لا يتّصل بالحروف والحروف متّصلة به.

وهو منقطع عن غيره ، والله تعالى باين بجميع صفاته عن خلقه.

ومعناه من الألفة : فكما أنّ الله تعالى سبب ألفة الخلق ، فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف وهو سبب ألفتها (١).

ولا يخفى أنّ قوله عليه‌السلام : «وهو منقطع عن غيره» لبيان عدم احتياج الألف إلى غيره.

وقوله عليه‌السلام : «والله سبحانه باين بجميع صفاته عن خلقه» تأكيد لعدم اتصاله بالخلق لكونه قد بعد عن المقام ، أو جملة استينافية لرفع توهم أنّ اتّصاف الألف بتلك الصفات لعلّه من جهة الاشتراك في المعنى والموافقة فيه ، فرفع بها ذلك التوهم ، وبيّن أنّه باعتبار الظليّة والمظهريّة لأنّه سبحانه لا يشركه شيء في شيء ولا يشبهه شيء.

ويحتمل أن يكون الانفصال وعدم الاحتياج عبارة عن وجه واحد وهو رابع الوجوه الستّة ، وقوله : «وهو منقطع» يعني الألف الى قوله : «من خلقه» هو الوجه الخامس ، لكن غيّر الأسلوب هنا حديث قدّم حكم الألف بخلاف المتقدّم ، ولا بأس.

ثم لا يخفي أيضا أنه عليه‌السلام ذكر خمسة أوجه فيها لمسمّى الألف وهو ما يعدّ

__________________

(١) نور الثقلين ج ١ ص ٣٠ ـ ٣١ ح ٩.

٥٩

من حروف التهجّي ، وذكر الوجه السادس لمعنى الاسم حيث قال : معناه من الألفة.

سبب ألفة الخلق فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف وهو سبب ألفتها (١).

وذكر بعض المحقّقين أنّ من مداليل كلّ حرف من الحروف جميع الأسماء المفتتحة بذلك من أسماء الله الحسنى ، ولعلّ في اختلاف الأخبار المفسّرة للحروف بالأسماء إشارة الى ذلك كما نبّهنا عليه ، وبنى عليه آخرون التوسّل بتلك الأسماء الّتي لها الإحاطة والتصرف في الكائنات لنيل المطالب ، واستجلاب المآرب ، بأن يؤخذ لكلّ حرف من حروف اسم الطالب أو المقصد اسما من الأسماء الحسنى ، أوّله ذلك الحرف فيذكرها بعدد أعدادها ، أو بعدد حروف هجائها.

أو بعدد حروف أعدادها ، أو غير ذلك من الوجوه المذكورة في موضعها.

ومنها : أنّ فيها تواريخ حوادث العالم ، أو خصوص ما يتعلّق بدولة بني هاشم المحقّين منهم ، والمبطلين ، وما يتعلّق بقيام القائم عجّل الله فوجه حسبما سمعت في خبر أبي لبيد ، ووجادة العسكري وتفسير (عسق) ، وغير ذلك.

ومنها : أنّ فيها إفحاما للمشركين المعاندين ، وإيقاظا لمن تحدّاهم به منهم ، وتنبيها لهم على أنّ المتلوّ عليهم كلام منظوم ممّا ينظمون منه كلامهم ويتحاورونها في خطبهم وأشعارهم ، فلو كان من عند غير الله تعالى لما عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، سيّما مع تظاهرهم ، وتوفّر دواعيهم وشدّة حرصهم على ذلك ، وهو صلوات الله عليه يتلو عليهم : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢).

وغير ذلك من الآيات المشتملة على التحدّي.

__________________

(١) نور الثقلين ج ١ ص ٣٠ ـ ٣١ ح ٩.

(٢) الإسراء : ٨٨.

٦٠