تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

أنّ البعوضة عليّ وأنّ ما فوقها وهو الذباب محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال الباقر عليه‌السلام سمع هؤلاء شيئا لم يضعوه على وجهه إنّما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قاعدا ذات يوم هو وعليّ عليه‌السلام إذ سمع قائلا يقول ما شاء الله وشاء محمّد وسمع آخر يقول ما شاء الله وشاء عليّ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تقرنوا محمّدا وعليّا بالله عزوجل ولكن قولوا ما شاء محمّد ما شاء الله ثمّ شاء عليّ على أنّ مشيّة الله هي القاهرة الّتي لا تساوى ولا تكافى ولا تدانى وما محمّد رسول الله في الله وفي قدرته إلا كذبابة تطير في هذه الممالك (١) الواسعة وعليّ في الله وفي قدرته إلّا كبعوضة في جملة هذه الممالك (٢) مع أنّ فضل الله على محمّد وعليّ هو الفضل الّذي لا يفيء به فضله على جميع خلقه من أوّل الدهر الى آخره هذا ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان فلا يدخل في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ) (٣) انتهى.

وفي تفسير القمي بالإسناد عن الصّادق عليه‌السلام إنّ هذا المثل ضربه الله تعالى لأمير المؤمنين عليه‌السلام وما فوقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال والدليل على ذلك قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الميثاق عليهم له (٤).

إلى آخر ما يأتي من كون الميثاق في حقّه وكون الوصل بصلته أقول والنّهي من الاقتران في خبر الإمام عليه‌السلام لما يوهمه من المقابلة والتغاير والاستقلال المستفاد من العطف ولذا أمرهم عليه‌السلام أن يقولوا ما شاء محمّد ما شاء الله أي المشيّة الالهيّة هي الّتي تعلّقت به مشيّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ قلبه وعاء لمشيته سبحانه ونبّه على ذلك

__________________

(١) في البرهان : المسالك.

(٢) في البرهان : المسالك.

(٣) تفسير البرهان ج ١ ص ٧١ ـ ٧٢ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٤) تفسير القمي ج ١ ص ٣٤ ـ ٣٥.

٥٤١

بالحمل الظاهر فيه وأمّا المنافاة بين الخبرين على فرض صحّتهما فلعلّ الأوّل باعتبار التّنزيل والاخر باعتبار التأويل.

وذكر شيخنا المجلسي طاب ثراه أنّه يحتمل أن يكون إشارة إلى ما مثل الله بهم لذاته تعالى من قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، وأمثاله لئلّا يتوهم متوهم أنّ لهم عليه‌السلام في جنب عظمته تعالى قدرا أولهم مشاركة له تعالى في كنه ذاته وصفاته ، أو الحلول أو الاتّحاد ، تعالى الله عن جميع ذلك ، فنبّه الله تعالى بذلك على أنّهم وإن كانوا أعظم المخلوقات وأشرفها فهم في جنب عظمته تعالى كالبعوضة وأشباهها ، والله تعالى يعلم حقايق كلامه وحججه عليه‌السلام ، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) (٢) ، لكنّه لم يرد بها التنزيل وضعت للدلالة على التفصيل لمجمل مذكور كقولك : أكرم العلماء أمّا الفقهاء فكذا ، وأمّا الحكماء فكذا ، وإن كان قد لا يذكر معه قسيمه اكتفاء بما يقوم مقامه واشعارا بزيادة الاهتمام بالتّنبيه على حكم ما سيق له الكلام كما في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (٣) حسبما تسمع ، أو لمتعدد في الذهن مع سبق ما يدلّ عليه في الجملة كما في المقام ، حيث استفيد من قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) تصنيف الناس إلى من يداخله شبهه أولا ، أو عدم سبقه في الذكر كقوله : أمّا بعد في صدور الكتب والرسائل وعلى التوكيد المستفاد من اختيار التفصيل بعد الإجمال المطوي أو المنوي ، ولذا قال سيبويه ، إنّ معنى أمّا زيد فذاهب : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي إنّه ذاهب لا محالة وانّه منه عزيمة وعلى الشرط المدلول عليه بلزوم الفاء بعدها كما في الآية وغيرها ولذا

__________________

(١) النور : ٣٥.

(٢) البقرة : ٢٦.

(٣) آل عمران : ٧.

٥٤٢

قيل : إنّ الأصل أمّا زيد فمنطلق إن أردت معرفة حال زيد فزيد منطلق ، فأقيم أمّا مقام الأداة وفعل الشرط بعد حذفهما ، وقضيّة دخول الفاء على الجملة الجزائية ، إلّا أنّهم قدموا جزءا ممّا في حيّز تعويضا عن المحذوف وفرارا من توهم معطوف بلا بالمعطوف عليه وتنبيها على أنّه النوع تفضيل جنسه لكنّهم وسعوا في المقتطع منها بالنّسبة إلى الموضوع كما في المقام أو غيره كما في غيره ، فالموصولة مبتدأ خبرها مدخول الفاء ، وكذا في الجملة التالية.

في تصديرها بالدّال على الأمور الثلاثة تكريم المؤمنين وتنويه لقدرهم وتحسين لصنعهم واعتداد بعلمهم سيّما مع الإسناد إلى الموصولة ، وتعريفهم بأحسن سماتهم ، واضافة العلم الحقيقي بثبوت ذلك إليهم وانّه مبتدأ من عند ربّهم الّذي يربيهم به على حسب ما يرى فيه صلاحهم كما هو المحقق عندهم ، بخلاف الجملة التالية فانّها ناعية على الكافرين لعنادهم وتكذيبهم للحقّ وإصرارهم على الباطل بما يستفاد من التّصدير والتكفير والعدول عن الرّب ، ورميهم بالكلمة الحمقاء ، والضّمير للضرب أو للمثل.

والحقّ هو الثّابت الّذي لا يسوغ إنكاره من حق الأمر يحق بالكسر إذا ثبت ووجب ، يقال أحققت الشيء أي أوجبته ، وتحقّق عندنا الخبر أي صحّ ، وحققت قوله وظنّه تحقيقا أي صدقت ، فيعم مصاديق الصدق وغيره ولذا يطلق في الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) عدل عن نفي العلم أو اثبات الجهل الّذي يقضي به المطابقة والمقابلة إلى حكاية القول المترتب عليه ليكون كالبرهان على ذلك لما فيه من الدلالة على كمال جهلهم وغوايتهم ونبوا أفهامهم عن إدراك الحق ووقر أسماعهم عن الإصغاء إليه ، وللتنبيه على شمول الكفر

٥٤٣

للناشي عن مجرد الجحود والعناد ، وإن اقترنه مطابقة الإعتقاد كما قال : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١) ، و (ما ذا) كلمتان ف «ما» استفهامية مرفوع المحل بالابتداء ، و «ذا» بمعنى الّذي وما بعده صلته ، وموضعه الرفع على أنّه خبر المبتدأ أو كلمة واحدة بمعنى أيّ شيء منصوب المحل بأنّه مفعول (أَرادَ) فهي في حكم ما وحده ، والصّواب في الجواب الرفع على الأوّل كما في قوله : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢) والنصب على الثاني كما في قوله : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) (٣) لمطابقة الجواب للسؤال فيهما ، وقد يحتمل عكس ذاك وان لم يكن الأصوب كما تقول في جواب من قال : ماذا رأيت : خيّر أي المرئي خير ، وفي جواب ماذا الّذي رأيت؟ : خيرا أي رأيت خيرا ، ولذا قرأ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٤) بالرفع والنصب على التقديرين و (مَثَلاً) منصوب على الحال كقوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) (٥) أو على التمييز كقولك لمن يطلب تجارة خاسرة : كيف تنتفع بها تجارة أو على القطع بتقدير أعني ونحوه ، والمراد بالاستفهام في المقام ليس على حقيقته ، بل إنّما قصدوا الاسترذال والاستحقار.

حقيقة الإرادة والكراهة

والارادة ضد الكراهة ، وهي فينا كيفيّة نفسانية تحدث عقيب تصوّر الشيء

__________________

(١) النحل : ١٤.

(٢) النحل : ٢٤.

(٣) النحل : ٣٠.

(٤) البقرة : ٢١٩.

(٥) الأعراف : ٧٣.

٥٤٤

الملائم يعبر عنه بنزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه سواء كان مع شوق حيواني كالشهوة والغضب أم لا ، ويطلق أيضا على القوة الّتي هي مبدأه.

وأمّا ارادته سبحانه فقد طال التشاجر بينهم في معناها ، فقيل : إنّها قديمة عين الذات ، وقيل : قائمة به ، وقيل : نفس العلم ، وقيل : إنّ له إرادتين ، قديمة هي عين ذاته ، وحادثة هي متجدّدة متكثرة واردة على ذاته ، وعلى الوجهين صفة زائدة على العلم ، أو متّحدة معها إلى غير ذلك من الأقوال السخيفة الناشئة عن اختلال التوحيد ، بل أنكرها بعضهم مطلقا كأوساخ الدهرية والطباعية وكبعض الحكماء القائلين بالاتّفاق.

وذكر العلامة الحلي رحمه‌الله في «أنوار الملكوت» أنّ ارادته سبحانه صفة حادثة موجودة بإيجاده لا في محلّ قال : وهو مذهب السيد المرتضى وأكثر أصحابنا.

أقول والّذي استقرّ عليه المذهب واستفاض به الخبر أن ارادته سبحانه حادثة بإحداثه ، وهي من صفات الفعل.

ففي «الكافي» و «التوحيد» عن صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق (١) فقال عليه‌السلام : الارادة من الخلق (٢) الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي (٣) ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّه ولا تفكر ،

__________________

(١) في نسخة : ومن المخلوق.

(٢) في البحار : من المخلوق.

(٣) روّى يروّي : نظر وفكر.

٥٤٥

ولا كيف لذلك كما لا كيف (١) له (٢).

وعن عاصم بن حميد عن الصادق عليه‌السلام قال قلت له : لم يزل الله مريدا؟ قال : إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه بل لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد (٣).

وفي التوحيد عن الرّضا عليه‌السلام قال المشيّة من صفات الأفعال فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد (٤).

وسأله بكير بن أعين علم الله ومشيّته هما مختلفان أم متفقان ، فقال : العلم ليس هو المشيّة ألا ترى أنك تقول : سأفعل كذا إن شاء الله ، ولا تقول سأفعل كذا إن علم الله ، فقولك إن شاء الله دليل على أنّه لم يشأ فإذا شاء كان الّذي شاء كما شاء ، وعلم الله سابق للمشية (٥).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدّالة على مغايرة إرادته لعلمه وساير صفاته الكمالية ونعوته الجمالية والجلالية.

وأمّا ما يظهر من بعض الأذكياء كالسّيد الداماد والصدر الأجل الشيرازي وغيرهما من الفضلاء من أنّ ارادته تعالى قديمة وأنّها كون ذاته بحيث تصدر عنه الأشياء وأنّها راجعة إلى علمه بالنّظام الأتم الأصلح التابع لعلمه بذاته فإرادته الأشياء علمه بها لا غير وانّ علمه بغيره التابع لعلمه بذاته سبب تام لوجود الأشياء في الخارج لأجل ذاته لأنّها من توابع ذاته لا لغرض زائد وجلب منفعة وطلب محمدة والتخلّص من مذمّة وغير ذلك من الغايات.

__________________

(١) في البحار : كما أنّه بلا كيف.

(٢) البحار ج ٤ ص ١٣٧ عن التوحيد والعيون.

(٣) البحار ج ٤ ص ١٤٤ ح ١٦ عن التوحيد.

(٤) البحار ج ٤ ص ١٤٥ ح ١٨.

(٥) بحار الأنوار ج ٤ ص ١٤٤ ح ١٥.

٥٤٦

ففيه أنّه ردّ لتلك النصوص وجرأة على أهل الخصوص الذين هم خزنة الوحي ومعادن العلم وهم أعلم الخلق بالله تعالى وصفاته الذّاتية والفعليّة وقد صرّحوا في أخبار لا يبعد تواترها على كون الإرادة من الصفات الفعلية ومغايرتها للعلم وللذات.

وأمّا ما ذكره الثاني تبعا للاوّل من أنّه لما كان فهم الجمهور لا يصل إلى الإرادة بالمعنى الرّاجع إلى علمه بذاته المقتضي لوجود الأشياء بنفسه بل إلى النحو الّذي في الحيوان وضدّه الكراهة فتكون حادثة عند حدوث المراد فلذا جعلها عليه‌السلام من صفات الأفعال ومن الصفات الاضافية المتجدّدة كخالقيته ورازقيته حذرا عن كونه تعالى محلّا للحوادث لو كان الارادة الحادثة من صفات الذات فهي كالعلم الحادث الّذي هو إضافة عالميّته تعالى بالحوادث الكونيّة وهي أخيرة مراتب علمه تعالى فلإرادته أيضا مراتب أخيرتها ما في الخبر وأولها نفس علمه بذاته.

ففيه أنّ سبيلها حينئذ سبيل العلم الّذي هو عين الذّات وأمّا الارادة فقد أطبقوا على حدوثها وأنّها من صفات الفعل وانّ الله تعالى خلق الخلق لا بارادة قديمة بل بارادة حادثة بنفسها ولذا قالوا خلق الله المشيّة بنفسها وخلق الأشياء بالمشيّة ، وكان فيه اشارة إلى الجواب عمّا استدلّوا به على قدمها من أنّها لو كانت حادثة لكانت محدثة بارادة غيرها وتلك الارادة إن كانت حادثة افتقرت إلى ارادة اخرى إلى أن يتسلسل والّا ثبت المطلوب فأجاب عليه‌السلام بأنّه سبحانه خلقها وأبدعها بنفسها لا بإرادة غيرها وأنشأ بها الأشياء كما تشاهد مثل ذلك في إرادة نفسك ونيّتك فإنك تنشأها بنفسها وتنشئ بها غيرها من الأفعال.

وأمّا ما يقال : من أنّ الإرادة صفة والصّفة لا تقوم بنفسها ولا بغير موصوفها فلو كانت حادثة لكان سبحانه محلّا للحوادث فتجب أن تكون قديمة.

٥٤٧

ففيه مع الغضّ عن النقض بالصّفات الفعليّة أنّه مبني على قياس إرادته بارادتنا في كونها من الكيفيّات النفسانية القائمة بنا وقد مرّ في الخبر أن الإرادة فينا هو الضّمير وفيه إحداثه لا غير (١).

وإرجاعها إلى العلم أو غيره تصرّف في معاني صفاته بما لم يرد الإذن به عنهم عليهم‌السلام بل في خبر احتجاج الرّضا عليه‌السلام (٢) على سليمان المروزي بطوله ما يدلّ على الإنكار الصّريح على كونها صفة قديمة ، وأنّها مغايرة للعلم والقدرة وانّها ليست مثلهما ولا مثل السمع والبصر في اتصاف الذات بها ، وانّها ليست نفس الأشياء كما توهّمه ضرار وأصحابه من أن كلّ ما خلق الله تعالى في سماء أو أرض أو برّ أو بحر او غير ذلك كلّها ارادة بل الارادة صفة محدثة وهي فعله سبحانه لا غير بل في الخبر إلزامات شنيعة وحجج قويّة أوردها عليه‌السلام على سليمان لم نذكره لطوله فارجع إليه إن شئت وهو مذكور في العيون والاحتجاج (٣) والبحار وغيرها

وفي آخر الخبر فلم يزل سليمان يردّد المسألة ينقطع فيها ويستأنف وينكر ما كان أقرّ به ويقرّ بما أنكر ، وينتقل من شيء إلى شيء والرضا عليه‌السلام ينقض عليه ذلك حتّى طال الكلام بينهما وظهر لكلّ أحد انقطاعه مرّات كثيرة فآل الأمر إلى أن قال سليمان إنّ الإرادة هي القدرة قال عليه‌السلام : وهو عزوجل يقدر على أن لا يريد أبدا ، لا بدّ من ذلك لأنّه قال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (٤) فلو كانت الإرادة هي القدرة لكان قد أراد أن يذهب به لقدرته فقطع سليمان.

__________________

(١) البحار ج ٤ ص ١٤٤.

(٢) التوحيد ص ٤٥٧ ـ ٤٧٠ عيون الاخبار ص ١٠٠ ـ ١٠٦ وعنهما البحار ج ١٠ ص ٣٢٩ ـ ٣٣٨ ح ٢.

(٣) الاحتجاج ص ٢١٨ ـ ٢٢٠.

(٤) الإسراء : ٨٦.

٥٤٨

ثمّ إنّ الأخبار المتقدمة قد اشتملت على الاستدلال بحدوث الإرادة وعدم قدمها مرّة بأنّها لو كانت قديمة لكان المراد معها ، ويلزم من ذلك قدم الأشياء كلها فتتعدد القدماء وهو هدم للتوحيد ، ولذا قال : من زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريدا شأنيّا فليس بموحّد وقال إنّ المريد لا يكون إلّا والمراد معه.

وتوهّم أنّه تعالى كان في الأزل مريدا للأشياء في أزمنة حدوثها فلا يلزم قدمها مدفوع بأنّ الزمان أيضا من جملة الحوادث فيلزم قدمه ، مع أنّ أزمنة حدوثها حادثة بإرادته فإمّا أن تكون تلك الارادة المتعلقة بإيجادها قديمة لزم قدمها أو حادثة فهو المطلوب ، وأخرى بأنّه يصحّ التعليق بمشيّة الله تعالى دون علمه فتقول : أفعل كذا ان شاء الله وأراد ، ولا تقول أن علم الله فاتّضح به المغايرة بينهما ، بل قد يلوح من كلامه عليه‌السلام وجه آخر وهو انّه تعالى يعلم كلّ شيء ولا يريد كلّ شيء إذ لا يريد كفرا وظلما ولا شيئا من القبائح (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (١) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢) ، فعلمه متعلّق بكلّ شيء (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، ولا كذلك إرادته ، فعلمه غير ارادته ، وعلمه عين ذاته تعالى ، فإرادته صفة زائدة على ذاته.

ومن الغريب بعد ذلك كله أن الملا صدرا قد شمّر عن ساق الجد للجواب عنهما وعن غيرهما ممّا يستدلّ به على حدوث الإرادة حتّى أنّه قد عقد لذلك فصلا في كتابه المسمّى بالمبدأ والمعاد فأجاب عن الأوّل بأنّه تعالى أراد بإرادته القديمة إيجاد نفس الوقت المعين بعد العدم لا أنّه أراد بإيجاده في وقت معيّن حتّى يلزم التسلسل ، وبالجملة أنّه تعالى أراد بالإرادة القديمة إيجاد كلّ العالم واجزائه

__________________

(١) غافر : ٣١.

(٢) البقرة : ١٨٥.

٥٤٩

وجزئيات اجزائه في أماكنها وأوقاتها المخصوصة وأراد إيجاد الأوقات بهويّاتها المخصوصة لا في أوقات اخرى وكذا أراد إيجاد الأماكن بهويّاتها المخصوصة لا في اماكن اخرى ، وذلك لأنّ تخصيص الحادث بوقت خاص يفتقر إلى ذلك الوقت ولا يفتقر ذلك الوقت في تخصيصه الى شيء آخر غير الارادة القديمة لأنّ التخصص الحدوثي فيه عين ذاته وهويّته والذّاتي للشيء غير معلّل بأمر ولا يفتقر إلى الجاعل له جعلا بسيطا وهكذا حكم الأمكنة في تخصصاتها المكانيّة ، وعن الثاني بأنّ فيضه تعالى يتعلّق بكلّ ما يعلمه خيرا في نظام الوجود فليس في العالم الامكاني شيء مناف لذاته ولا لعلمه الّذي هو عين ذاته ولا أمر غير مرضي به فذاته بذاته كما أنّه علم تامّ بكلّ خير موجود فهو أيضا إرادة ورضا لكلّ خير إلّا أن أصناف الخيرات متفاوتة وجميعها مرادة له تعالى مرضيّ بها له فضرب منها خيرات محضة لا يشوبها شرّيّة واقعيّة إلّا ما بحسب إمكاناتها الاعتباريّة المختفية تحت سطوع النّور الإلهي الوجوبي على تفاوت مراتبها في شدّة النوريّة الوجوديّة وضعفها ، وضرب منها خيرات يلزمها شرّية واقعية لكن الخير فيها غالب مستول والشرّ مغلوب مقهور ، وهذا القسم أيضا مراد لا محالة واجب الصدور عن الجواد المحض والمختار لكل ما هو خير لأنّ في تركه شرّا كثيرا ، والحكيم لا يترك الخير الكثير لأجل الشّر القليل ، وأمّا الشّر المحض والشّر المستولي والشّر المكافئ للخير فلا حصول لأحد من هذه الثلاثة في هذا العالم فلم يرد الله شيئا منها : ولم يأذن له في قول كن للدّخول في حرم الكون والوجود ، فالخيرات كلّها مرادة بالذّات ، والشرور القليلة اللازمة للخيرات الكثيرة أيضا إنّما يريدها لا بما هي شرور فالشّرور اللّطيفة النادرة داخلة في قضاء الله تعالى بالعرض وهي مرضي بها كذلك

٥٥٠

فقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (١) ، ولا يجري مجراه من الآيات معناها أنّ الكفر وغيره من القبائح غير مرضي بها له تعالى في أنفسها وبما هي شرور ، ولا تنافي في ذلك كونها مرضيّا بها بالتعبيّة والاستجرار ، أو نقول : من سبيل آخر : إنّ وزان الإرادة بالقياس إلى العلم وزان السمع والبصر بالقياس إليه ، وكوزان الكلام بالنسبة إلى القدرة فالعلم المتعلّق بالخيرات إرادة كما أنّ المتعلق منه بالمسموعات سمع ، وبالمبصرات بصر ، وكما أنّ القدرة المتعلّقة بالأصوات والحروف على وجه تكلّم ، وهذا لا ينافي كون الإرادة عين العالم فذاته تعالى علمه بكلّ شيء ممكن ، وارادة لكلّ خير ممكن كما انّه سمع لكلّ مسموع وبصر بالنسبة إلى كل مبصر.

أقول لا يخفى عليك ما فيه من الضعف والقصور أمّا أوّلا فلانّ إبداء هذه الوجوه السّخيفة في مقابلة النصوص المتقدّمة مجاهرة بالردّ على الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، بل كأنّه استخفاف وملعبة بشريعة سيّد المرسلين بعد ما نطق به الكتاب والسّنة من حدوث الإرادة ومغايرتها للذات وللصفات الذّاتيّة الّتي منها العلم ولذا قال في شرحه «للكافي» في ذيل خبر عاصم بن حميد هذا الحديث يدل بظاهره على أن أرادته تعالى حادثة كما رآه قوم الى أن قال : والتحقيق أنّ الإرادة تطلق بالاشتراك الصّناعي على معنيين :

أحدهما : ما يفهمه الجمهور وهو الّذي ضدّه الكراهة ولا يجوز على الله بل ارادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الخير ، وكراهته عدم صدور الفعل والقبيح عنه لعلمه بقبحه.

وثانيهما : كون ذاته بحيث تصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها

__________________

(١) الزمر : ٧.

٥٥١

التّابع لعلمه بذاته (١).

وفيه : أنّ اتصافه بالإرادة بالمعنى الاول قد سمعناه وفهمناه وقرّره لنا أئمّتنا الهداة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين وأمّا بالمعنى الثّاني الرّاجع إلى العلم الّذي هو عين ذاته فلم نجد في شيء من الكتاب والسنّة إطلاقه عليه ولا ارادته منها بل أنكروه على قائله اشدّ الإنكار وقابلوه بنفي التوحيد عنه ، فأين الاشتراك ، ومن الواضع ، ومتى كان هذا الوضع؟ وكيف لم يسوّغ معه الإطلاق؟ نعم هذا القول هو المعروف بين الفلاسفة الذين لم يعرفوا الله بتعريف ولاة أمره (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

وأمّا ثانيا فلانّ ما ذكره من أنّه تعالى أراد بإرادته القديمة آه.

فيه أنّ الارادة إذا كانت قديمة فكيف تتعلّق بإيجاد الشيء بعد العدم إلا على جهة الإخطار بالبال.

والعلم الرّاجع إليه ، وإلّا فالارادة بما هي إرادة لا يمكن تحققها إلّا والمراد معها ، نعم لو كان هناك عجز حاضر ولو لشرط فاقد لم تكن الإرادة حينئذ على حقيقتها ، وبالجملة علمه بالنظام الأصلح الّذي هو نفس الارادة القديمة عنده وعند الفلاسفة إن كان سببا تامّا لوجود العالم لزم قدمه وامتنع عدمه.

وتوهّم أنّه سبب لوجوده ووجود أجزائه وجزئيّات أجزائه في أماكنها وأوقاتها المخصوصة مدفوع بأنّه لم يكن في القدم تعيّن وتخصّص لشيء من الأزمنة والأمكنة والمفروض أنّ السبب التّام لم يزل متحققا بوجود الذّات لا على وجه الترتب كي يثبت به الحدوث الذّاتي بل على وجه العينيّة والاتحاد ، فيلزم منه القول بقدم العالم الّذي برىء منه المنتحلون من الأمم ، مع أنّه حينئذ يكون فاعليته

__________________

(١) شرح اصول الكافي ص ٢٧٨ ط طهران مكتبة المحمودي.

٥٥٢

بالعناية المفسّرة عندهم يكون فعله تابعا لعلمه بوجه الخير بذلك الفعل في نفس الأمر فيفعل عن ذلك العلم من غير قصد زائد عليه ، وحينئذ يلزمه القول بالعليّة والإيجاب ونفي الاختيار لأنّ الموجب هو الّذي لا يتخلّف عنه مفعوله ، فإذا كان العلم الّذي هو الذات هو العلة التّامة لا غيره لم يكن فاعلا بالاختيار بل بسببيّة الذات ، وان كان علمه بذلك سببا ناقصا لوجود العالم فالجزء المتمم له ان كان قديما عاد المحذور فيه أو حادثا وهو المطلوب ، والسؤال عن سبب تخصيص الحوادث بخصوص الأوقات منقطع على القول بكونه فاعلا مختارا لأنّه حينئذ (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) و (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) وانّما يفعل بإرادته الحادثة بعد العدم (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وأمّا ثالثا فلأنّ ما أجاب به عن الثّاني تقرير لما مهّدوه في موضع آخر من عدم دخول الشّر في القضاء الالهي وإنّ كلّ ما دخل في صقع الوجود فهو إمّا خير محض أو خير غالب مشوب بشرّ مغلوب وهذه المسألة إذا تأمّلها المتأمّل في كلامهم يجدها غريبة مبنيّة على القول بنفي الاختيار في حقّه وفي حقّ عباده ، بل كانّها مخالفة لما تقضي به الضرورة القطعيّة من شيوع الكفر والظلم والفساد بين أغلب العباد في أكثر البلاد حتّى سفكوا الدماء وقتلوا الأنبياء وغصبوا حقوق الأوصياء وقهروا الأولياء وسبوا النّساء واختفى الحقّ ببهجته واستدار رحى الباطل على قطبه إلى غير ذلك من الشّرور الغالبة في الأمور التّشريعيّة ، مضافا إلى ما وقع منها في التكوينيّات من نقصان الاستعدادات وبطلان القابليّات وطروّا الطّواري من الآلام والأسقام والأمراض والأعراض والفقر وسائر الشّدائد والمحن وقد قال الله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٢) وكأنّ المسألة كانت في الأصل مذكورة في

__________________

(١) يس : ٨٢.

(٢) الأنبياء : ٣٥.

٥٥٣

كلام القائلين بقدم العالم وفاعليّته بالإيجاب ، وثبوت الرّبط بين الحادث والقديم فتبعهم غيرهم على غرة وغفلة على أنّه قد يشمّ منها أيضا رائحة القول بالإجبار ونفي الاختيار ، فانّهم لو نسبوا أفعال العبيد إليهم لم يبق مجال لما يوجب الاعتذار ، هذا مضافا إلى أنّ هذا الجواب على فرض تسليمه لا يدفع السّؤال الوارد من حيث التفصيل بين الإرادة والمشيّة وبين العلم بجواز التعليق بالشرط في الأوّلين دون الثالث حسبما استدلّ به الامام عليه‌السلام.

وأمّا رابعا فلانّ ما ذكره في قوله : أو نقول من سبيل اخرى ضعيف جدّا لا يساعده شيء من العرف والشرع واللغة وكأنّه اصطلاح عنه خاص في الإطلاق هذا مضافا إلى ما فيه من إرجاع الكلام إلى القدرة والالتزام بكونه من الصّفات الذاتية ، وبكونه غير الخيرات المحضة مجرّدة عن إرادته سبحانه.

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) متّصل بسابقه المحكي عن الكفار واطلاق الضّلال والهداية إمّا على وجه التهكّم أو التعكيس أو مجرّد المقابلة على فرض الموافقة ، سيّما مع كون القائل من المنافقين الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر ، والجملة حال من الله فيكون قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) منقطعا عن سابقه ، او ابتداء كلام منه سبحانه فتكون جواب ماذا أي إضلال كثير وإهداء كثير ، على النّصب أو الرّفع ، والعدول من المصدر إلى الفعل لقصد الإشعار بالتّجدد والحدوث أو جار مجرى الاعتراض تفسيرا وبيانا للجملتين المصدّرتين «بأمّا» تنبيها على أنّ العلم بوجه المثل وكونه حقّا أو التّصديق به إجمالا هدى وبيان ، وانّ الجهل بوجه إيراده والتّعامي عن حسن وروده ضلال وفسوق ، وظاهر العلوي المروي عن تفسير النعماني على ما يأتي (١) وكذا ظاهر تفسير الامام عليه‌السلام بل صريحهما هو الأوّل

__________________

(١) عن البحار ج ٩٣ ص ١٣ ـ ١٥.

٥٥٤

قال عليه‌السلام : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الله وبولاية محمّد وعليّ وآلهما الطيّبين وسلّم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وللأئمّة عليه‌السلام أحكامهم وأخبارهم وأحوالهم ، ولم يقابلهم في أمورهم ولم يتعاط الدّخول في أسرارهم ، ولم يفش شيئا ممّا يقف عليه منها إلّا باذنهم (فَيَعْلَمُونَ) : يعلم هؤلاء المؤمنون الّذين هذه صفتهم (أَنَّهُ) أي المثل المضروب (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أراد به الحقّ وإبانته والكشف عنه وإيضاحه (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمّد بمعارضتهم في عليّ عليه‌السلام بكمّ وكيف وتركهم الانقياد له في سائر ما أمر به (فَيَقُولُونَ : ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي يقول الذين كفروا إنّ الله يضلّ بهذا المثل كثيرا ويهدي به كثيرا ، فلا معنى للمثل لأنّه وإن نفع به من يهديه فهو يضرّ به من يضلّه به ، فردّ الله تعالى عليهم قيلهم فقال (وَما يُضِلُّ بِهِ) يعني ما يضلّ الله بالمثل (إِلَّا الْفاسِقِينَ) الجانين على أنفسهم بترك تأمّله وبوصفه على خلاف ما أمر الله تعالى بوصفه (١) عليه.

وكثرة كلّ من الفريقين إمّا بالنظر إلى أنفسهم من دون إضافة إلى الآخر ، وإن كان المهتدون قليلين بالإضافة كما قال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (٢) و (قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٣).

وفي أخبار كثيرة ، أنّ المؤمن قليل (٤) وقال أمير المؤمنين : أيّها النّاس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله (٥) ، وإمّا بالاعتبارين فإنّ كثرة الظّالمين الفسّاق من حيث العدد كما قال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) (٦) ، وفي آيات

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٢) ص : ٢٤.

(٣) سبأ : ١٣.

(٤) راجع البحار ج ٦٧ ص ١٥٧.

(٥) نهج البلاغة : الخطبة (٢٠١).

(٦) المائدة : ٤٩.

٥٥٥

كثيرة : (أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) و (لا يَشْكُرُونَ) (٢) و (لا يَعْقِلُونَ) (٣) وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشّرف وقوّة العزيمة في الدّين وكثرة البركة كما قيل : قليل إذا عدوّا كثير إذا شدّوا ، وقيل أيضا : إنّ الكرام كثير في البلاد وإنّ قلّوا كما غيرهم قلّ وان كثروا.

وقرأ زيد بن عليّ عليه‌السلام يضلّ به كثيرا وما يضلّ بالبناء للمفعول في الفعلين والفاسقون بالرفع.

والفاسق هو الخارج عن بعض حدود الايمان أو جميعها ، ومنه قوله تعالى في حق إبليس : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٤) وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥) : وأصله الخروج عن القصد أو عن الطّاعة من قولهم : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ، والفويسقة الفارة لخروجها من جحرها أو لخبثها وأذاها حقّرها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمّاها بها وقال : إنّها توهي السّقاء وتضرم البيت على أهله وهي من الخمس الفواسق الّتي يقتلن في الحلّ والحرم (٦).

والفاسق وإن لم يسمع قطّ في كلام الجاهليّة ولا في شعرهم على ما شهد به ابن الاعرابي (٧) إلّا أنّه عربيّ على ما صرّح به هو وغيره قالوا وهذا عجيب ، وحيث قد سمعت فيما مرّ أنّ الايمان له حدود ودرجات ومراتب فبالخروج من كلّ منها

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧.

(٢) غافر : ٦١.

(٣) الحجرات : ٤.

(٤) الكهف : ٥٠.

(٥) التوبة : ٦٧.

(٦) حياة الحيوان للدميري ج ٢ ص ٣٧ ـ ٣٨.

(٧) ابن الاعرابي محمد بن زياد الكوفي اللغوي توفّي سنة (٣٣١).

الكنى والألقاب ج ١ ص ٢١٥.

٥٥٦

يحصل الفسق بلا فرق بين كونه من الأصول الاعتقادية أو النوع العمليّة بترك الطّاعة أو فعل المعصية كما يشهد بجميع ذلك الإطلاقات الواردة في الكتاب والسّنة إلّا أنّه قد غلب إطلاقه عند الفقهاء في مقابلة العدالة فيحصل بفعل شيء من الكبائر أو الإصرار على الصغائر ، وإن بقي معه اسم الايمان حسبما هو المقرّر عندنا خلافا للخوارج حيث قالوا إنّ أصحاب الكبائر من أهل القبلة كفّار مشركون ، وللمعتزلة القائلين بأنّهم في منزلة بين الإيمان والكفر لا يستحقون اسم الايمان ولا الكفر ، وبه سمّيت المعتزلة لاعتزالهم فئتي الضلالة عندهم أهل السّنة القائلين بايمانهم ، والخوارج القائلين بكفرهم ، أو سماهم به الحسن البصري (١) لمّا اعتزله واصل بن عطاء (٢) وكان من تلامذته واجتمع هو وأصحابه إلى اسطوانة من أسطوانات المسجد وشرع يقرّر للقول بالمنزلة بين المنزلتين وانّ صاحب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر بل بين المنزلتين فقال الحسن اعتزل عنّا واصل ، ولأنّ عمرو بن عبيد كان من أصحاب الحسن وتلاميذه ، فجمع الحسن بينه وبين واصل ليناظره في ذلك فلمّا ناظره وغلب عليه واصل قال له عمرو بن عبيد (٣) ما بين وبين الحق عداوة والقول قولك فليشهد عليّ من حضرني أنّي قد اعتزلت مذهب الحسن في هذا الباب قائل بقول واصل.

وكيفيّة مناظرتهما مذكورة في «الغرر والدرر» (٤) للسيّد المرتضى رضى الله عنه وللسيّد

__________________

(١) الحسن بن ابي الحسن البصري أبو سعيد توفي سنة (١١٠) ه ـ العبر ج ١ ص ١٣٦.

(٢) واصل بن عطاء المبلغ الأفوه ابو حذيفة المخزومي البصري توفي سنة (١٣١) ه وكان رأسا للمعتزلة.

سير أعلام النبلاء ج ٥ ص ٤٦٤.

(٣) عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي توفي سنة (١٤٣) ه أو قبلها.

التقريب ج ١ ص ٧٤٠.

(٤) الغرر والدرر المشهور بالأمالي ج ١ ص ١١٣ المجلس ١١.

٥٥٧

اعتراض عليه في حجّته فليراجع من أراد ، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك عند تفسير قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١).

معنى الإظلال المنسوب إلى الله سبحانه

ثمّ أنّ الإضلال المنسوب إليه سبحانه ليس بمعنى دعائه إلى ترك الدّين كما هو المضاف إلى الشيطان وفرعون والسامريّ وأئمّة الضلالة في قوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) (٢).

و (أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) (٣) و (أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٤) و (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) (٥).

وذلك لما قضت به ضرورة المذهب بل الدّين من أنّه تعالى لا يدعو النّاس من الهدى إلى الضلالة ومن العلم إلى الجهالة وانّه لا يجوز عليه الظلم والإيقاع في الفساد والإجبار على المعاصي وتشكيك الناس وصرفهم عن الحقّ الى الباطل ، ومن هنا يظهر فساد ما حملها عليه أهل الجبر من أنّه تعالى خلق فيهم الضّلال والكفر وصدّهم عن الايمان وحال بينهم وبينه ، بل ربما استدلّ بعضهم عليه بهذه الآية ونحوها ممّا هو كثير في القرآن نظرا إلى الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالا وإيجاد الضّلالة فيه ، وضعفه واضح بعد ما هو المقرّر في أصل المذهب او الدّين من عدله سبحانه ونفي القول بالجبر بقواطع العقل والنّقل ، وأمّا أمثال هذه

__________________

(١) البقرة : ٣.

(٢) يس : ٦٢.

(٣) طه : ٧٩.

(٤) طه : ٨٥.

(٥) الفرقان : ٢٩.

٥٥٨

الآيات فعلى فرض تشابهها يجب حملها على ما يساعد عليه الأصول المقرّرة فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه ، ولذا يجب الرجوع فيها إلى أهل البيت الذين هم حملة الوحي وخزنة تأويله وتنزيله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١).

مع أنّ لها وجوها أخر منطبقة على المذهب حسبما أشير إليها في الاخبار المأثورة منهم عليه‌السلام.

ففي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : الضّلال على وجوه فمنه ما هو محمود ، ومنه ما هو مذموم ، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم ، ومنه ضلال النّسيان فامّا الضلال المحمود فهو المنسوب إلى الله كقوله (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) (٢) وهو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم ، والمذموم هو قوله تعالى : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٣) (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٤) ومثل ذلك كثير.

وأمّا الضّلال المنسوب إلى الأصنام فقوله تعالى في قصّة ابراهيم : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) والأصنام لا يضللن أحدا على الحقيقة انّما ضلّ النّاس بها وكفروا حين عبدوها من دون الله عزوجل وأمّا الضلال الّذي هو النّسيان فهو قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) وقد ذكر الله تعالى الضّلال في مواضع من كتابه فمنه ما نسبه إلى نبيّه على

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) المدثر : ٣١.

(٣) طه : ٨٥.

(٤) طه : ٧٩.

٥٥٩

ظاهر اللّفظ كقوله سبحانه : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (١) معناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوّتك فهديناهم بك ، وأمّا الضلال المنسوب إلى الله تعالى الّذي هو ضد الهدى والهدى هو البيان وهو معنى قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) (٢) معناه أو لم أبيّن لهم مثل قوله سبحانه : (فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٣) أي بيّنا لهم وجه آخر وهو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (٤).

وأمّا معنى الهدى فقوله عزوجل : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٥) ومعنى الهادي المبيّن لما جاء به المنذر عند الله ، وقد احتجّ قوم من المنافقين على الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) وذلك أنّ الله تعالى لما أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٦) قال طائفة من المنافقين : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً)؟ فأجابهم الله تعالى بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ـ الى قوله ـ (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) : فهذا معنى الضّلال المنسوب إليه تعالى ، لأنّه أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به المنذر ، فخالفوه وصرفوا عنه ، بعد أن أقرّوا بفرض طاعته ، ولمّا بيّن لهم ما يأخذون وما يذرون ، فخالفوه ضلّوا ، هذا مع علمهم بما قاله النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قوله : لا تصلّوا عليّ صلاة مبتورة إذا صلّيتم عليّ بل صلوا على أهل بيتي ولا

__________________

(١) الضحى : ٧.

(٢) السجدة : ٢٦.

(٣) فصلت : ١٧.

(٤) التوبة : ١١٥.

(٥) الرعد : ٧.

(٦) الرعد : ٧.

٥٦٠