تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تفسير

سورة البقرة

وجه التسمية :

سمّيت بها لاشتمالها على قصّة ذبحها الّتي فيها الإشارة إلى ما هي الغاية القصوى والسعادة العظمى أعني تحصيل الحياة الطيّبة الأبديّة ، والسعادة الدائمة السرمديّة ، بذبح بقرة نفسه الحيوانيّة ، والقوى الشهوانيّة بأسياف الرياضة على الاستقامة الّتي هي الموت الأصغر والجهاد الأكبر إذا صلحت لذلك حيث (لا فارِضٌ) متهالك ، و (لا بِكْرٌ) غير متمالك ، بل (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) ـ على ما تسمع تمام القصّة هنالك.

وربما يستكره أن يقال : سورة البقرة ، بل قيل : ينبغي أن يقال :

السورة الّتي يذكر فيها البقرة.

ولعلّه لما يوهمه الإضافة ، أو للتأسي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : «السورة الّتي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن» (١).

__________________

(١) رواها شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي المتوفى (٥٠٩) ه ش في فردوس الأخبار ج

٥

وضعف الوجهين واضح ـ سيّما مع ورودها على وجه الإضافة في الأخبار المعتبرة هنا (١) وفي النحل ، والنمل ، وغيرها.

والتوصيف في النبوي تحقيق للتسمية ، كما أنّه لعلّه الوجه في العنوان الذي في تفسير الإمام بمثل النبوي ـ ولذا عبّر عنها فيما رواه من الخبر بطريق الإضافة.

نعم يستفاد منه اسم آخر للسورة وهو فسطاط القرآن نظرا إلى اشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه. والإرشاد الى كثير من مصالح العباد ممّا فيه نظام المعاش ونجاة المعاد ، بل تسمع في النبوي الآتي أنّها سنام القرآن ، وأنّها وآل عمران هما الزّهراوان ، واحدتها زهراء (بفتح الزاي) لنورهما وإشراقهما ، من الزهرة وهي البياض النيّر المشرق ، لا من الزّهراء للبقرة الوحشيّة ، وأنّها أوّل المثاني على ما مرّت (٢) الى غير ذلك من الألقاب الشريفة الّتي ربما أشير إليها في الأخبار.

فضل السورة

في «ثواب الأعمال» بالإسناد ، وفي «المجمع» مرسلا عن مولانا الصادق عليه‌السلام

__________________

٢ ص ٣٤٤ رقم ٣٥٥٩ قال : عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «السورة الّتي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلّموها فإنّ تعلّمها بركة. وتركها حسرة ، ولا يستطيعها البطلة».

ورواها أيضا السيوطي في الجامع الصغير رقم ٤٨٤١ وشرحها عبد الرءوف المناوي في فيض القدير ج ٤ ص ١٤٩.

(١) ستأتي الأخبار في فضلها إنشاء الله تعالى.

(٢) راجع ج ٣ ص ٣٠ من الصراط المستقيم ط قم مؤسّسة المعارف الإسلاميّة.

٦

قال : «من قرأ سورة البقرة وآل عمران جاءتا يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين ، أو مثل الغيّابتين» (١) يعني المظلّتين.

ومثله في تفسير الإمام عليه‌السلام ، وزاد بعد قوله : (أو غيابتان) : أو فرقان (٢) من طير صوّاف يحاجّان عن صاحبهما ويحاجّهما ربّ العزّة ، ويقولان : يا ربّ الأرباب إنّ عبدك هذا قرأنا ، وأظمأنا نهاره ، وأسهرنا ليله ، وأنصبنا بدنه ، فيقول الله عزوجل : يا أيّها القرآن فكيف كان تسليمه لما أمرته (خ ل) (لما أنزلته فيك) من تفضيل علي بن أبي طالب أخي محمد رسول الله؟ فيقولان : يا ربّ الأرباب وإله الآلهة والاه ، ووالى وليّه (أولياءه خ ل) وعادى أعدائه ، إذا قدر جهر ، وإذا عجز اتقى واستتر ، فيقول الله عزوجل : فقد عمل إذا بكما كما أمرته ، وعظّم من خطبكما ما أعظمته ، يا عليّ أما تسمع شهادة القرآن لوليّك هذا؟ فيقول عليّ : بلى يا ربّ ، فيقول الله تعالى : فاقترح له ما تريد ، فيقترح له ما يريد على أمانيّ هذا القاري من الأضعاف المضاعفات ما لا يعلمه إلّا الله عزوجل ، فيقول الله عزوجل : قد أعطيته ما اقترحت يا عليّ.

ثم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ والدي القارئ ليتوّجان بتاج الكرامة يضيء نوره من مسيرة عشرة آلاف سنة ، ويكسيان حلّة لا يقوّم لأقلّ سلك منها مائة ألف ضعف ما في الدنيا بما يشتمل عليه من خيراتها.

ثمّ يعطى هذا القاري الملك بيمينه في كتاب ، والخلد بشماله في كتاب.

يقرأ من كتابه بيمينه : قد جعلت من أفاضل ملوك الجنان ، ومن رفقاء محمّد سيّد الأنبياء ، وعليّ خير الأوصياء ، والأئمّة بعدهما سادة الأتقياء.

ويقرأ من كتابه بشماله : قد أمنت الزوال والانتقال عن هذه الملك ، وأعذت

__________________

(١) ثواب الأعمال ص ١٣٣ ـ مجمع البيان ج ١ ص ٣٢.

(٢) الفرقان (بكسر الفاء) : طائفتان ، قسمان من كل شيء.

٧

من الموت والأسقام وكفيت الأمراض والأعلال ، وجنّبت حسد الحاسدين وكيد الكائدين.

ثمّ يقال له : اقرأ وارق ومنزلك عند آخر آية تقرأها.

فإذا نظر والداه إلى حليتهما وتاجيهما قالا :

«ربّنا أنّى لنا هذا الشرف ولم تبلغه أعمالنا؟ فيقال لهما : أكرم الله عزوجل هذا لكما بتعليمكما ولدكما القرآن» (١).

وفي النبوي : «اقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان او غيّابتان (٢) ، أو كأنّهما فرقان من طير صوّاف يحاجّان عن صاحبهما (٣) ، أي قطعتان من طير باسطات أجنحتها.

وفي بعض نسخ الحديث : كأنّهما خرقان بالخاء المعجمة المفتوحة والراء المهملة من الخرق ، أو ما انخرق من الشيء وبان منه ، أو بكسر الخاء من الخرقة القطعة من الجراد.

وقيل : الصواب حزقان بالحاء المهملة والزاي من الحزقة وهي الجماعة من الناس والطير وغيرهما ، كذا في نهاية ابن الأثير.

وكأن الترديد بين الثلاثة وقع منه صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتبار المراتب ، ولذا قيل : إنّ الأوّل للقارئ ، والثاني للمداوم على القراءة ، والثالث لمن يقرئ مع ذلك ، بناء على أنّ الكلام على الترقّي ، إذ في الغيابة مزيد اختصاص لكونهما مظلّة الشخص نفسه ، والفرق من الطير فيها مع ذلك زيادة المحاجّة ، ويمكن الحمل على التنزل باعتبار

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ كتاب العدل والمعاد ص ٢٩٢ ح ٥ عن تفسير الإمام عليه‌السلام وج ٩٢ كتاب القرآن ص ٢٦٨ ج ١٦ عن تفسير الامام عليه‌السلام ٤ ص ٢٨.

(٢) الغيّابة : السحابة المفردة.

(٣) في سنن الدارمي ج ٢ ص ٤٥٠ : تعلّموا سورة البقرة وآل عمران فإنّهما الزهراوان.

٨

الشمول والإحاطة ، وضمير المحاجّة للسورتين.

وعن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدهما ، وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ، ولا يقربه الشيطان ولا ينسى القرآن (١).

وفي «المجمع» عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قرأها فصلوات الله عليه ورحمته ، وأعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته» (٢).

قال : وقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبيّ مر المسلمين أن يتعلّموا سورة البقرة ، فإنّ تعلّمها بركة ، وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ، قلت : يا رسول الله ما البطلة؟ قال : السحرة (٣).

ولعلّ المراد أنّهم لا يوفّقون لقراءتها.

وعن سهل بن سعد ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لكل شيء سناما ، وسنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيّام ، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال (٤).

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بعثا ، ثم أخذ تتبعهم يستقرأهم ، فجاء إنسان منهم ، فقال : ماذا معك من القرآن؟ حتّى على أحدثهم سنّا ، فقال له : ماذا معك من القرآن؟ قال : كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال : أخرجوا وهذا عليكم أمير.

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦٢١ ح ٥ وعنه البرهان ج ١ ص ٢٤٤ ح ١ وتفسير العياشي ج ١ ص ٢٥ ح ٣ ـ وثواب الأعمال ص ١٣٠ ح ١ وعنه بحار الأنوار ج ٩٢ ص ٢٦٥ ح ٩.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢.

(٤) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢ وعنه نور الثقلين ج ١ ص ٢٢ ح ٣.

٩

قالوا : يا رسول الله هو أحدثنا سنّا! قال : معه سورة البقرة (١).

وسئل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ سور القرآن أفضل؟

قال : البقرة ، قيل : أيّ آي البقرة أفضل؟ قال : آية الكرسي (٢).

وعن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعطيت السورة الّتي يذكر فيها البقرة من الذّكر الأوّل ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فواتح القرآن ، وخواتيم السّورة الّتي يذكر فيها البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصّل نافلة (٣).

واعلم أنه قد ورد في قصّة حنين : أنّه لمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هزيمة أصحابه عنه قال للعبّاس ، وكان رجلا جهوريّا صيّتا : ناد بالقوم ، وذكّرهم العهد ، فنادى العبّاس بأعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة ، ويا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرّون؟ أذكروا العهد الّذي عاهدتم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

قال شيخنا المجلسي رحمه‌الله : كأنّه وبّخهم بذلك لقوله تعالى فيها :

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ...) (٥). أو لاختتامها بقوله : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٦). أو لاشتمالها على آيات الجهاد ، كقوله : (اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (٧).

وقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٨) ـ أو لأن أكثر آيات النفاق ذمّ

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢ وعنه نور الثقلين ج ١ ص ٢٢ ح ٣

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢ وعنه نور الثقلين ج ١ ص ٢٢ ح ٣

(٣) مجمع البيان ج ٧ ص ١٨٣ وعنه نور الثقلين ج ٤ ص ١٠٧ ح ٤

(٤) بحار الأنوار ج ٢١ ص ١٥٦ ح ٦ عن الإرشاد ص ٧٢.

(٥) سورة البقرة : ٢٤٦.

(٦) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٧) سورة البقرة : ١٩٠.

(٨) سورة البقرة : ١٩٢.

١٠

المنافقين فيها ، أو لأنّها أوّل سورة ذكر فيها قصّة مخالفة بني إسرائيل موسى بعبادة العجل ، وترك دخول حطّة والجهاد مع العمالقة ، أو أراد جماعة حفظوا سورة البقرة ، تعريضا بأنّه لا يناسب حالهم تلك فعلهم ذلك.

أقول : ولعلّ الأولى من الجميع اشتمالها على قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١). ولذا ذكّرهم ببيعة الشجرة ، وهي بيعة الرضوان ، وأمرهم بعده بذكر العهد الّذي عاهدوا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا ما يحكى عن بعض العامّة حيث ورد في أخبارهم : هذا مقام الذي أنزل عليه سورة البقرة ، وقالوا : خصّها لأنّ معظم أحكام المناسك فيها سيّما ما يتعلّق بوقت الرمي (٢) ففيه ما لا يخفى.

نزول السورة

أمّا نزولها فهي على ما في «المجمع» كلّها مدنيّة إلّا آية واحدة منها وهي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) الآية (٣) فإنّها نزلت في حجّة الوداع بمنى.

لكن فيه عند التعرّض لتفسيرها : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا خرج إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ...) (٤) فسمّيت آية

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٨١.

(٣) سورة البقرة : ٢٨١.

(٤) سورة النساء : ١٢٨.

١١

الصيف ، ثمّ نزل عليه وهو واقف بعرفة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) الآية (١) فعاش بعدها أحد وثمانين يوما ، ثمّ نزلت عليه آيات الرّبا ، ثمّ نزلت بعدها : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ...) (٢) وهي آخر آية نزلت من السماء.

بل صرّح أيضا في كثير من الآيات بنزولها في غير المدينة ، كنزول قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ...) الآية (٣) حيث قالت كفّار قريش : يا محمّد صف لنا ربّك ، وانسب لنا ربك.

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ...) (٤) في صلح الحديبيّة.

وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ...) (٥) بين مكة والمدينة ، أو ليلة مبيت أمير المؤمنين عليه‌السلام على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غير ذلك ممّا تأتي الإشارة في مواضعها إنشاء الله تعالى.

واحتمال أن يكون المراد بكونها مدنيّة نزولها بعد الهجرة وإن نزلت في غيرها مدفوع بما في كلامه من استثناء آية واحدة نزلت في حجّة الوداع بمنى.

عدد الآيات

وأمّا عدد آيها ففي «المجمع» مائتان وستّ وثمانون آية في العدد الكوفي ، وهو العدد المروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وسبع في العدد البصري ، وخمس

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) البقرة : ٢٨١.

(٣) البقرة : ١٦٣.

(٤) البقرة : ١٨٩.

(٥) البقرة : ٢٠٦.

١٢

حجازي ، وأربع شامي ، خلافها إحدى عشر آية ، عدّ الكوفي (الم) آية ، وعدّ البصري (إِلَّا خائِفِينَ) (١) آية ، و (قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٢) بصريّ ، (عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣) شاميّ ، (مُصْلِحُونَ) (٤) غيرهم ، (يا أُولِي الْأَلْبابِ) (٥) عراقي ، والمدني الأخير (٦) ، (مِنْ خَلاقٍ) (٧) الثاني غير المدني الأخير ، (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) (٨) مكيّ والمدنيّ الأوّل ، (تَتَفَكَّرُونَ) (٩) كوفيّ وشامي والمدني الأخير ، (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (١٠) مكيّ بصري والمدني الأخير ، (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (١١) المدني الأول ، وروي عن أهل مكّة : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (١٢) (١٣).

أقول : وفيه أنّه مخالف من وجوه لما يظهر منه رحمه‌الله عند التعرّض لتفصيل الآيات ، حيث إنّ ظاهره كما يأتي أنّه لا خلاف في عدم كون (عَذابٌ

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٤.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٥.

(٣) سورة البقرة : ١٠.

(٤) سورة البقرة : ١١.

(٥) سورة البقرة : ١٧٩ ـ ١٩٧.

(٦) قال السيوطي في الإتقان ج ١ ص ٢٣٢ : اختلف في عدّ الآي أهل المدينة ومكّة ، والشام ، والبصرة والكوفة ، ولأهل المدينة عددان : عدد أوّل وهو عدد أبي جعفر يزيد بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وعدد آخر وهو عدد إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري.

(٧) سورة البقرة : ٢٠٠.

(٨) سورة البقرة : ٢١٥.

(٩) سورة البقرة : ٢١٩.

(١٠) البقرة : ٢٥٥.

(١١) البقرة : ٢٥٧.

(١٢) البقرة : ٢٨٢.

(١٣) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢.

١٣

أَلِيمٌ) (١) آية ، وكذا (يا أُولِي الْأَلْبابِ) (٢) ، وكذا (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) (٣) ، وكذا (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٤) ولا في كون (مُصْلِحُونَ) (٥) ، وكذا (مِنْ خَلاقٍ) (٦) الثاني ، وقال في قوله : (تَتَفَكَّرُونَ) (٧) إلى (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٨) : آيتان في الكوفي وآية واحدة فيما عداه ، عدّ الكوفي (تَتَفَكَّرُونَ) آية وتركها غيره (٩).

وفي قوله : (قَوْلاً مَعْرُوفاً) إلى (غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٠) : آية في الكوفي وآيتان في غيرهم يترك (قَوْلاً مَعْرُوفاً) الكوفي (١١).

وفي قوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (١٢) إلى (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) : آيتان بصريّ ، وآية واحدة عند غيرهم ، عدّ البصري (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) آية (١٣) وهذا كله مخالف لما صرّح به أوّلا.

هذا مضافا إلى أنّ المحصّل ممّا صرّح به أوّلا مخالف أيضا للأقوال الأربعة

__________________

(١) البقرة : ١٠.

(٢) البقرة : ١٧٩ ـ ١٩٧.

(٣) البقرة : ٢١٥.

(٤) البقرة : ٢٥٧.

(٥) البقرة : ١١.

(٦) البقرة : ٢٠٠.

(٧) البقرة : ٢١٩.

(٨) البقرة : ٢٢٠.

(٩) مجمع البيان ج ١ ص ٣١٤.

(١٠) البقرة : ٢٣٥.

(١١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٣٨.

(١٢) البقرة : ٢٥٥.

(١٣) مجمع البيان ج ١ ص ٣٦٠.

١٤

الّتي نبّه عليها في صدر كلامه كما لا يخفى.

وأما تحقيق الحقّ في أعدادها واختلافاتها فلا يحضرني شيء من الكتب المصنّفة في ذلك لأصحابنا وغيرهم ، والخطب سهل في مثله ، كسهولته في ضبط كلماتها وحروفها بعد اختلافهم في كيفيّة اعتبارهما حسب ما مرّت الإشارة إليه في الفاتحة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم) الكلام فيها وفي غيرها من فواتح السور القرآنيّة الّتي هي المفاتح للغيوب الإمكانيّة ، والحقائق العرفانيّة يستدعي رسم مباحث :

البحث الأول : العوالم الإلهية

اعلم أنّ لله تعالى في ملكه عوالم كلّية وجزئيّة ، ملكيّة وملكوتيّة ، غيبيّة وشهوديّة ، وهذه العوالم مترتّبة متناسبة متطابقة صعودا ونزولا ، وأمر الله المفعولي ينزل في هذه العوالم المتناسبة في السلسلة الطوليّة ، كما أشير إليه بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) (١) ، وإن كانت تلك الأوامر كالأوامر الجزئيّة المتنزلة فيها متناسبة أيضا في السلسلة العرضيّة.

عالم الحروف

ومن جملة تلك العوالم المتنزّلة الى الناسوت عالم الحروف ، فإنّها مع

__________________

(١) سورة السجدة : ٥.

١٥

انحصارها وتناهيها يشار بها إلى جميع المعارف والحقائق ، بل جميع الماهيّات والأكوان الكليّة والجزئيّة.

ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام : إنّ الكتاب الّذي أنزل على آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام أب ت ث ... إلخ.

بل الحروف الحقيقيّة هي الحقائق الكليّة المعبّرة عنها بالخزائن الغيبيّة المشار إليها بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١)

وهذه الخزائن الغيبيّة هي الأصول الكليّة الّتي أشار إليها مولانا الرضا عليه التحيّة والثناء في خبر عمران الصابي المرويّ في «العيون» و «الاحتجاج» بقوله : «واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد ، وأسماؤها ثلاثة ، وكان أول إبداعه وإرادته»

الحروف الّتي جعلها أصلا لكل شيء ، ودليلا على كلّ مدرك وفاصلا لكلّ مشكل ، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حقّ وباطل أو فعل أو مفعول ، أو معنى أو غير معنى ، وعليها اجتمعت الأمور كلّها» (٢).

وجملة الكلام أنّ للحروف باعتبار درجاتها وتنزّلاتها مراتب :

مراتب الحروف

أحدها : الحروف الأصليّة الأوّلية : وهي مراتب الفعل المعبّر عنها بالعلم

__________________

(١) سورة الحجر : ٢١.

(٢) عيون الأخبار ص ٨٧ ـ ١٠٠ ـ التوحيد ص ٤٢٨ ـ ٤٥٧ ـ الإحتجاج ص ٢٢٦ ـ ٢٣٣ وعنها بحار الأنوار ج ١٠ وهذه القطعة في ص ٣١٤.

١٦

والمشيّة والارادة ، والإبداع ، والقدر ، والقضاء ، والإمضاء ، والأجل ، والكتاب.

وهي الأمور الّتي لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بها ، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحد منها فقد كفر.

وتمام الكلام في حقائقها يأتي في محلّها ان شاء الله تعالى وهذه الحروف يتألّف منها الكلمات التامّات الربانية ، والحقائق القادسة النورانيّة ، تجلّى لها ربّها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت ، ألقى في هويّتها مثاله فأظهر منها أفعاله ، وبه سبحانه سمّي متكلّما ، وكلماته التامّات الّتي تكلّم بها سبحانه بمشيّته وإرادته وابداعه آل محمّد عليهم‌السلام.

كما في الخبر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله تبارك وتعالى تفرّد في وحدانيته ، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نورا ، ثمّ خلق من ذلك النور محمّدا وعليّا وعترته عليهم‌السلام ، ثم تكلّم بكلمة فصارت روحا وأسكنه في ذلك النور وأسكنه في أبداننا ، فنحن روح الله وكلمته وبنا احتجب عن خلقه ... الخبر (١).

وفي كثير من أخبارهم وقع التصريح بذلك كقولهم : «نحن الكلمات الّتي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى» (٢).

بل وفي الكتاب العزيز إشارات لذلك كقوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (٣).

وقوله تعالى :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٥ ص ١٠ عن كنز الفوائد.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ١٧٤ ح ١ وج ٥٠ ص ١٦٦ ح ٥١.

(٣) سورة لقمان : ٢٧.

١٧

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ...) (١).

وقوله تعالى :

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ...) (٢).

وقوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ...) (٣)

وقد عبّر الله تعالى عن المسيح على نبيّنا وآله وعليه‌السلام (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) (٤) وستسمع ان شاء الله كثيرا من أخبار الباب في طيّ تلك الآيات وغيرها.

الحروف الحقيقية المعنويّة

ثانيها : الحروف الحقيقية المعنويّة وهي الذّوات المتقرّرة المخلوقة في صقع الإمكان في عالم الأمر ، وتنقسم إلى جبروتيّة وملكوتيّة ، والكلام فيها هو الكلام في حقايق الأشياء.

وقد يعبّر بكلّ من الحروف عن شيء من مراتب الوجود من الدرّة الى الذرة كما تأتي الإشارة إليه بمشيّة الله سبحانه.

الحروف الشبحية الظلّية

ثالثها : الحروف الشبحية الظلّية الفكريّة المتنزّلة الى المعاني العقليّة ، أو الرقائق الروحيّة ، أو الصور الشخصيّة ، وهي صور انتزاعيّة شخصيّة قد تنزّلت من

__________________

(١) الكهف : ١٠٩.

(٢) سورة البقرة : ٣٧.

(٣) البقرة : ١٢٤.

(٤) آل عمران : ٤٥

١٨

الملكية على أحد الوجهين اللّذين مرّت إليهما الإشارة في المقدّمة الاولى في تعريف العلم (١).

الحروف المتنزّلة الفكرية

رابعها : الحروف المتنزّلة الفكرية الصورية ، وذلك أنّ المعاني إذا ارتسمت أو خطرت في الذهن فربّما يعبّر الفكر عنها بألفاظ نفسيّة تعبيرية يعبّر عنها بالكلام النفسي على ما مرّ في مسألة حدوث القرآن.

الحروف العدديّة

خامسها : الحروف العدديّة الّتي يراد بها قوى الحروف من الأعداد الّتي هي بمنزلة الأرواح.

وهي إمّا مواهب إلهيّة ذاتيّة غير متخلّفة ولذا استخرجوا منها الروحانيّات والملائكة العلويّات والخدّام السلفيّات ، وبنوا عليها أنواع التصرّفات والعمليّات.

وإمّا أمور جعليّة اصطلاحيّة موضوعة ، ولذا اختلفت باختلاف الاصطلاحات من الأمم في ترتيب الأبجد وغيرها من الدوائر ، وإن كان المستفاد من بعض الأخبار أنّ المعتبر المشتهر في زمن الأئمة عليهم‌السلام هو الترتيب الأبجدي المعروف من الألف الى الألف الّذي هو الغين.

ففي موثّق سماعة عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : رجل ضرب لغلام (٢) ضربة فقطع بعض لسانه ، فأفصح ببعض ، ولم يفصح ببعض ، فقال عليه‌السلام : يقرء المعجم فما

__________________

(١) الصراط المستقيم للمؤلّف ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٣٩ ط قم انصاريان.

(٢) في التهذيب ج ١٠ ص ٢٦٣ ح ١٠٤٣ : غلامه

١٩

أفصح به طرح من الدية ، وما لم يفصح الزم الدية ، قال : قلت : كيف هو؟ قال : على حساب الجمل ألف ديته واحد ، والباء ديتها اثنان ، والجيم ثلاثة ، والدال أربعة ، والهاء خمسة ، والواو ستة.

ثمّ ساق الكلام في تفصيل أعداد الحروف إلى قوله : والتاء أربعمائة وكل حرف يزيد بعد هذا فله مائة درهم.

وهذا الخبر وإن دلّ على صحّة الترتيب الأبجدي المشتهر إلّا أنّه مطعون بما ذكره الشيخ وغيره من أنّ تفصيل الدية على الحروف يجوز أن يكون من كلام بعض الرواة (١) ، حيث سمعوا أنّه قال : يفرّق الدية على حروف الجمّل ظنّوا أنّه على ما يتعارفه الحسّاب ولم يكن القصد ذلك ، بل القصد أنّها تقسم أجزاء متساوية (٢).

أقول : وعلى فرض كونه من كلام بعض الرّواة أيضا يدلّ على اشتهاره بينهم. لكنّ الظاهر من خبر أبي لبيد ابتناؤه على حساب المغاربة على ما يأتي.

الحروف اللفظية

سادسها : الحروف اللفظية الّتي هي كغيرها من الممكنات بلا فرق بين الماديّات والمجرّدات زوج تركيبي من مادّة وصورة ، ويعبّر عنها بالوجود والماهيّة.

فمادّتها هي الهواء المستنشق في الرّية وقصبتها الفائدة ترويح الروح ودفع فضلاتها وأبخرتها ، والصوت إنّما يكون بنفس الإنسان ، وأصله دويّ في أصل الرية وإنّما يصير صوتا عند طرف القصبة المسمّى برأس المزمار لتضايقه ثمّ اتّساعه عند

__________________

(١) مراده انّ قوله : ألف ديته واحد ... إلخ من كلام بعض الرواة.

(٢) الإستبصار ج ٤ ص ٢٩٣ ح ١١٠٨ وقال : لو كان الأمر على ما تضمّنته هذه الرواية لما استكملت الحروف كلّها الدية على الكمال لأنّ ذلك لا يبلغ الدية إن حسبناها على الدراهم وان حسبناها على الدنانير تضاعفت الدية ، وكل ذلك فاسد.

٢٠