فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

ورجّح هذا ابن جرير ، قال : لأن كفّ أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) وقيل : كفّ أيدي الناس عنكم ؛ يعني عيينة بن حصن الفزاري ، وعوف بن مالك النضري ، ومن كان معهما ، إذا جاءوا لينصروا أهل خيبر عند حصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) اللام يجوز أن تتعلّق بفعل محذوف يقدّر بعده ، أي : فعل ما فعل من التعجيل والكفّ لتكون آية ، أو على علة محذوفة تقديرها : وعد فعجل وكفّ لتنتفعوا بذلك ولتكون آية. وقيل : إن الواو مزيدة واللام لتعليل ما قبله ؛ أي : وكفّ لتكون ؛ والمعنى : ذلك الكفّ آية يعلم بها صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع ما يعدكم به (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : يزيدكم بتلك الآية هدى ، أو يثبتكم على الهداية إلى طريق الحقّ (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) معطوف على «هذه» ، أي : فعجّل لكم هذه المغانم ، ومغانم أخرى لم تقدروا عليها ، وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد كفارس والروم ونحوهما ، كذا قال الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وقال الضحاك وابن زيد وابن أبي إسحاق : هي خيبر وعدها الله نبيّه قبل أن يفتحها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة : فتح مكة. وقال عكرمة : حنين ، والأوّل أولى (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) صفة ثانية لأخرى. قال الفراء : أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها ، والمعنى : أنه أعدّها لهم وجعلها كالشيء الّذي قد أحيط به من جميع جوانبه ، فهو محصور لا يفوت منه شيء ، فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال فهي محبوسة لهم لا تفوتهم ، وقيل : معنى أحاط : علم أنها ستكون لهم (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لا يعجزه شيء ، ولا تختص قدرته ببعض المقدورات دون بعض (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) قال قتادة : يعني كفار قريش بالحديبية ، وقيل : أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر ، والأول أولى (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يواليهم على قتالكم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم عليكم (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي : طريقته وعادته التي قد مضت في الأمم من نصر أوليائه على أعدائه ، وانتصاب «سنّة» على المصدرية بفعل محذوف ، أي : بين الله سنة الله ، أو هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدّمة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي : لن تجد لها تغييرا ، بل هي مستمرّة ثابتة (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي : كفّ أيدي المشركين عن المسلمين وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاءوا يصدون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه عن البيت عام الحديبية ، وهي : المراد ببطن مكة. وقيل : إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة (١) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذهم المسلمون ثم تركوهم. وفي رواية اختلاف سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) لا يخفى عليه من ذلك شيء.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس في قوله : (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) يقول : فارس. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة ، أنهم الأكراد. وأخرج ابن مردويه عن

__________________

(١). «الغرّة» : الغفلة.

٦١

ابن عباس قال : فارس والروم. وأخرج الفريابي وابن مردويه عنه قال : هوازن وبني حنيفة. وأخرج الطبراني ـ قال السيوطي ـ بسند حسن عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإني لواضع القلم على أذني ، إذ أمر بالقتال إذ جاء أعمى فقال : كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية. قال هذا في الجهاد ، وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال : «بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيها الناس البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فسرنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قول الله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس : هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ها هنا ، فقال رسول الله : لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطواف». وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» عن نافع قال : بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها ، فأمر بها. فقطعت. وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ، قيل : على أي شيء كنتم تبايعونه يومئذ؟ قال : على الموت. وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال : بايعناه على ألّا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة». وأخرج مسلم من حديثه مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) قال : إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني الفتح. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) يعني أهل مكة أن يستحلوا حرم الله ، ويستحلّ بكم وأنتم حرم (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) قال : سنة من بعدكم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عنه أيضا في قوله : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) قال : هي خيبر. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية ، هبط على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبال التنعيم يريدون غرّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم ، فنزلت هذه الآية : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ). وفي صحيح مسلم وغيره : أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية. وأخرج أحمد والنسائي ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، في سبب نزول الآية : «إن ثلاثين شابا من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح ، فثاروا في وجوههم ، فدعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ الله بأسماعهم ـ ولفظ الحاكم : بأبصارهم ـ فقام إليهم المسلمون فأخذوهم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل جئتم في عهد أحد ، أو هل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا : لا ، فخلّى سبيلهم ، فنزلت هذه الآية».

٦٢

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

قوله : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني كفار مكة ، ومعنى صدّهم عن المسجد الحرام : أنهم منعوهم أن يطوفوا به ويحلّوا عن عمرتهم (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) قرأ الجمهور بنصب «الهدي» عطفا على الضمير المنصوب في «صدّوكم» ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجرّ عطفا على «المسجد» ، ولا بدّ من تقدير مضاف ، أي : عن نحر الهدي. وقرئ بالرفع على تقدير : وصد الهدي ، وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدي وسكون الدال ، وروي عن أبي عمرو وعاصم بكسر الدال وتشديد الياء. وانتصاب معكوفا على الحال من الهدى ، أي : محبوسا. قال الجوهري : عكفه ، أي : حبسه ووقفه ، ومنه : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) ومنه الاعتكاف في المسجد ، وهو الاحتباس. وقال أبو عمرو بن العلاء : معكوفا : مجموعا ، وقوله : (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي : عن أن يبلغ محله ، أو هو مفعول لأجله ، والمعنى : صدّوا الهدي كراهة أن يبلغ محله ، أو هو بدل من الهدي بدل اشتمال ، ومحلّه : منحره ، وهو حيث يحلّ نحره من الحرم ، وكان الهدي سبعين بدنة ، ورخّص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الّذي وصلوا إليه وهو الحديبية محلا للنحر. وللعلماء في هذا كلام معروف في كتب الفروع. (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة ، ومعنى : «لم تعلموهم» لم تعرفوهم ، وقيل : لم تعلموا أنهم مؤمنون (أَنْ تَطَؤُهُمْ) يجوز أن يكون بدلا من رجال ونساء ، ولكنه غلب الذكور ، وأن يكون بدلا من مفعول «تعلموهم» ، والمعنى أن تطئوهم بالقتل والإيقاع بهم ، يقال : وطئت القوم ، أي : أوقعت بهم ، وذلك أنهم لو كسبوا مكة وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار ، وعند ذلك لا يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفّارة وتلحقهم سبّة ، وهو معنى قوله : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ) أي : من جهتهم (مَعَرَّةٌ) أي : مشقة ؛ بما يلزمهم في قتلهم من كفّارة وعيب ، وأصل المعرّة : العيب ، مأخوذة من العرّ ؛

٦٣

وهو الجرب ، وذلك أن المشركين سيقولون : إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم. قال الزجاج : لو لا أن تقتلوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات فتصيبكم منهم معرّة ، أي : إثم ، وكذا قال الجوهري ، وبه قال ابن زيد. وقال الكلبي ومقاتل وغير هما : المعرّة : كفارة قتل الخطأ ، كما في قوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (١) وقال ابن إسحاق : المعرّة : غرم الدية. وقال قطرب : المعرّة : الشدّة ، وقيل : الغمّ ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلّق بأن تطئوهم ، أي : غير عالمين ، وجواب لو لا محذوف ، والتقدير : لأذن الله لكم أو لما كفّ أيديكم عنهم ، واللام في (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) متعلّقة بما يدلّ عليه الجواب المقدّر ، أي : ولكن لم يأذن لكم ، أو كفّ أيديكم ليدخل الله في رحمته بذلك من يشاء من عباده وهم المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا في مكة ، فيتمّم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ويفكّ أسرهم ، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب. وقيل : اللام متعلّقة بمحذوف غير ما ذكر ، وتقديره : لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته ، والأوّل أولى. وقيل : إن «من يشاء» عباده ممّن رغب في الإسلام من المشركين (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) التزيل : التميّز ، أي : لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم لعذبنا الذين كفروا ، وقيل : التزيل : التفرق ، أي : لو تفرّق هؤلاء من هؤلاء ، وقيل : لو زال المؤمنون من بين أظهرهم ، والمعاني متقاربة ، والعذاب الأليم هو القتل والأسر والقهر ، والظرف في قوله : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منصوب بفعل مقدّر ، أي : اذكر وقت جعل الذين كفروا (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) وقيل : متعلّق بعذبنا ، والحمية : الأنفة ، يقال : فلان ذو حمية ، أي : ذو أنفة وغضب ، أي : جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم ، والجعل بمعنى الإلقاء ، وحمية الجاهلية بدل من الحمية. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : قال أهل مكة : قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا ، فتتحدّث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفنا ، واللات والعزّى لا يدخلونها علينا. فهذه الحمية هي حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم. وقال الزهري : حميتهم : أنفتهم من الإقرار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة. قرأ الجمهور : (لَوْ تَزَيَّلُوا) وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وابن عون لو تزايلوا والتزايل : التباين. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : أنزل الطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين ؛ حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحميّة ، وقيل : ثبّتهم على الرضى والتسليم (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي «لا إله إلا الله» كذا قال الجمهور ، وزاد بعضهم «محمد رسول الله» صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزاد بعضهم «وحده لا شريك له». وقال الزهري هي : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وذلك أن الكفار لم يقرّوا بها ، وامتنعوا من كتابتها في كتاب الصلح الّذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير ، فخصّ الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها ، والأوّل أولى ؛ لأن كلمة التوحيد هي التي يتّقى بها الشرك بالله ، وقيل : كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد والثبات عليه (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي : وكان المؤمنون أحقّ بهذه الكلمة من الكفار والمستأهلين لها دونهم ؛ لأن الله سبحانه أهّلهم لدينه وصحبة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) قال الواحدي : قال

__________________

(١). النساء : ٩٢.

٦٤

المفسرون : إن الله سبحانه أرى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصّروا ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك ، فلما رجعوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون : والله ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل الله هذه الآية ، وقيل : إن الرؤيا كانت بالحديبية. وقوله : بالحقّ صفة لمصدر محذوف ، أي : صدقا متلبسا بالحقّ ، وجواب القسم المحذوف المدلول عليه باللام الموطئة هو قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) أي : في العام القابل ، وقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يجب أن يقولوه كما في قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) قال ثعلب : إن الله استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. وقيل : كان الله سبحانه علم أنه يموت بعض هؤلاء الذين كانوا معه في الحديبية ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى ، قاله الحسن ابن الفضل. وقيل : معنى إن شاء الله : كما شاء الله. وقال أبو عبيدة : «أن» بمعنى إذ ، يعني إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك ، وانتصاب (آمِنِينَ) على الحال من فاعل لتدخلنّ ، وكذا (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) أي : آمنين من العدوّ ، ومحلّقا بعضكم ومقصّرا بعضكم ، والحلق والتقصير خاصّ بالرجال ، والحلق أفضل من التقصير كما يدلّ على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمحلقين في المرّة الأولى والثانية ، والقائل يقول له : وللمقصرين؟ فقال في الثالثة : وللمقصرين ، وقوله : (لا تَخافُونَ) في محل نصب على الحال أو مستأنف ، وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله : (آمِنِينَ). (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أي : ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح ؛ لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرّر على المستضعفين من المؤمنين ، وهو معطوف على «صدق» ، أي : صدق رسوله الرؤيا ، فعلم ما لم تعلموا به (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي : فجعل من دون دخولكم مكة ، كما أرى رسوله ، فتحا قريبا. قال أكثر المفسرين : هو صلح الحديبية. وقال ابن زيد والضحاك : فتح خيبر. وقال الزهري : لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية ، ولقد دخل في تلك السنتين في الإسلام مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك بل أكثر ، فإن المسلمين كانوا في سنة ست ، وهي سنة الحديبية ألفا وأربعمائة ، وكانوا في سنة ثمان عشرة آلاف. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي : إرسالا متلبسا بالهدى (وَدِينِ الْحَقِ) وهو الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي : يعليه على كلّ الأديان كما يفيده تأكيد الجنس ، وقيل : ليظهر رسوله ، والأوّل أولى. وقد كان ذلك بحمد الله ، فإن دين الإسلام قد ظهر على جميع الأديان وانقهر له كلّ أهل الملل (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) الباء زائدة كما تقدّم في غير موضع ، أي : كفى الله شهيدا على هذا الإظهار الّذي وعد المسلمين به وعلى صحة نبوّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) محمد مبتدأ ، ورسول الله خبره ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، و (رَسُولُ اللهِ) بدل منه ، وقيل : محمد مبتدأ ورسول الله نعت له. (وَالَّذِينَ مَعَهُ) معطوف على المبتدأ وما بعده الخبر ، والأوّل أولى ، والجملة مبينة لما هو من جملة المشهود به (وَالَّذِينَ مَعَهُ) قيل : هم أصحاب الحديبية ، والأولى

__________________

(١). الكهف : ٢٣ و ٢٤.

٦٥

الحمل على العموم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أي : غلاظ عليهم كما يغلظ الأسد على فريسته ، وهو جمع شديد (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي : متوادّون متعاطفون ، وهو جمع رحيم ، والمعنى : أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدّة والصلابة ، ولمن وافقه الرحمة والرأفة. قرأ الجمهور برفع (أَشِدَّاءُ) و (رُحَماءُ) على أنه خبر للموصول ، أو خبر لمحمد وما عطف عليه كما تقدم. وقرأ الحسن بنصبهما على الحال أو المدح ، ويكون الخبر على هذه القراءة (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي : تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين ، وعلى قراءة الجمهور هو خبر آخر أو استئناف ، أعني قوله «تراهم». (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي : يطلبون ثواب الله لهم ورضاه عنهم ، وهذه الجملة خبر ثالث على قراءة الجمهور ، أو في محل نصب على الحال من ضمير «تراهم» ، وهكذا (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) السيما : العلامة ، وفيها لغتان المدّ والقصر ، أي : تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة وكثرة التعبّد بالليل والنهار. وقال الضحّاك : إذا سهر الرجل أصبح مصفرا ، فجعل هذا هو السيما. وقال الزهري : مواضع السجود أشدّ وجوههم بياضا يوم القيامة. وقال مجاهد : هو الخشوع والتواضع ، وبالأوّل : أعني كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود ، قال سعيد بن جبير ومالك. وقال ابن جرير : هو الوقار. وقال الحسن : إذا رأيتهم مرضى وما هم بمرضى ، وقيل : هو البهاء في الوجه وظهور الأنوار عليه ، وبه قال سفيان الثوري. والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من هذه الصفات الجليلة ، وهو مبتدأ وخبره قوله : (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي : وصفهم الّذي وصفوا به في التوراة ووصفهم الّذي وصفوا به (فِي الْإِنْجِيلِ) وتكرير ذكر المثل لزيادة تقريره وللتنبيه على غرابته وأنه جار مجرى الأمثال في الغرابة (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) إلخ كلام مستأنف ، أي : هم كزرع إلخ ، وقيل : هو تفسير لذلك على أنه إشارة مبهمة لم يرد به ما تقدّم من الأوصاف ، وقيل : هو خبر ، لقوله : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي : ومثلهم في الإنجيل كزرع ، قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، يعني كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على الإنجيل ، وإن شئت قلت : ذلك مثلهم في التوراة ، ثم تبتدئ : ومثلهم في الإنجيل كزرع ، قرأ الجمهور (شَطْأَهُ) بسكون الطاء ، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتحها ، وقرأ أنس ونصر بن عاصم ويحيى بن وثّاب «شطأه» كعصاه. وقرأه الجحدري وابن أبي إسحاق شطه بغير همزة ، وكلها لغات. قال الأخفش والكسائي : شطأه : أي طرفه. قال الفراء : أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الزجاج : (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي : نباته. وقال قطرب : الشطء : شوك السّنبل. وروي عن الفراء أيضا أنه قال : هو السنبل. وقال الجوهري : شطء الزرع والنبات : [فراخه] (١) ، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. (فَآزَرَهُ) أي : قواه وأعانه وشدّه ، وقيل : المعنى : إن الشطء قوّى الزرع ، وقيل : إن الزرع قوّى الشطء ، ومما يدلّ على أن الشطء خروج النبات قول الشاعر :

أخرج الشّطء على وجه الثّرى

ومن الأشجار أفنان الثّمر

__________________

(١). من تفسير القرطبي (١٦ / ٢٩٤)

٦٦

قرأ الجمهور (فَآزَرَهُ) بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس بالقصر ، وعلى قراءة الجمهور قول امرئ القيس :

بمحنية (١) قد آزر الضّال (٢) نبتها

مجرّ جيوش غانمين وخيّب

قال الفراء : آزرت فلانا آزره أزرا ؛ إذا قوّيته (فَاسْتَغْلَظَ) أي : صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان دقيقا (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي : فاستقام على أعواده ، والسّوق : جمع ساق. وقرأ قنبل : سؤقه بالهمزة الساكنة (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي : يعجب هذا الزرع زارعه ؛ لقوته وحسن منظره ، وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم يكونون في الابتداء قليلا ، ثم يزدادون ويكثرون ويقوون كالزرع ، فإنه يكون في الابتداء ضعيفا ، ثم يقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه. قال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنجيل أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ثم ذكر سبحانه علّة تكثيره لأصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقويته لهم ، فقال : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي : كثّرهم وقوّاهم ليكونوا غيظا للكافرين ، واللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعل ذلك ليغيظ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي : وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغفر ذنوبهم ، ويجزل أجرهم بإدخالهم الجنة ؛ التي هي أكبر نعمة وأعظم منّة.

وقد أخرج أحمد ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة ، فلما صدّت عن البيت حنّت كما تحنّ إلى أولادها. وأخرج الحسن بن سفيان وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن قانع والباوردي والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند جيد ، عن أبي جميعة جنيد بن سبع قال : «قابلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوّل النهار كافرا ، وقابلت معه آخر النهار مسلما ، وفينا نزلت (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتان» وفي رواية عند ابن أبي حاتم : «كنّا ثلاثة رجال وتسع نسوة». وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) قال : حين ردّوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بقتلكم إياهم (لَوْ تَزَيَّلُوا) يقول : لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذّبهم الله عذابا أليما بقتلكم إياهم. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن سهل بن حنيف أنه قال : يوم صفّين : [أيها الناس] (٣) اتهموا أنفسكم ، فلقد رأيتنا يوم الحديبية ، يعني الصلح الّذي كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى. قال : ففيم نعطي الدنيّة في ديننا ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال : «يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله

__________________

(١). «المحنية» : معاطف الأودية.

(٢). «الضال» : شجرة السدر.

(٣). من صحيح مسلم (١٧٨٥)

٦٧

أبدا». فرجع متغيّظا ، فلم يصبر حتى جاء أبو بكر فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى. قال : ففيم نعطي الدنيّة في ديننا؟ قال : يا بن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا ، فنزلت سورة الفتح ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمر فأقرأه إياها ، قال : يا رسول الله أفتح هو؟ قال : «نعم». وأخرج الترمذي ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن جرير ، والدار قطني في الأفراد ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : «لا إله إلا الله» وفي إسناده الحسن بن قزعة ، قال الترمذي بعد إخراجه : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وكذا قال أبو زرعة. وأخرج ابن مردويه عن سلمة ابن الأكوع مرفوعا مثله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن عليّ بن أبي طالب مثله في قوله. وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم من قول عمر بن الخطاب نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، والدار قطني في الأفراد ، عن المسور بن مخرمة ومروان نحوه. وروي عن جماعة من التابعين نحو ذلك. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) قال : هو دخول محمد البيت والمؤمنين محلّقين ومقصّرين ، وقد ورد في الدعاء للمحلّقين والمقصّرين في الصحيحين وغير هما أحاديث منها ما قدّمنا الإشارة إليه ، وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيهما من حديث أبي هريرة أيضا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) قال : أما إنه ليس الّذي يرونه ، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه. وأخرج محمد بن نصر في كتاب «الصلاة» وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في الآية قال : هو السمت الحسن. وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير ، وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند حسن ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال : «النور يوم القيامة». وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن نصر عن ابن عباس في الآية قال : بياض يغشى وجوههم يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) : يعني نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله السماوات والأرض. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قال : نباته : فروخه.

* * *

٦٨

سورة الحجرات

هي ثماني عشرة آية وهي مدنية ، قال القرطبي : بالإجماع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بالمدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قرأ الجمهور (تُقَدِّمُوا) بضم المثناة الفوقية وتشديد الدال مكسورة. وفيه وجهان : أحدهما : أنه متعدّ وحذف مفعوله لقصد التعميم ، أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل ، كقولهم : هو يعطي ويمنع. والثاني : أنه لازم نحو وجه توجه ، ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك ويعقوب «تقدّموا» بفتح التاء والقاف والدال. قال الواحدي : قدم ها هنا بمعنى تقدّم ، وهو لازم ، قال أبو عبيدة : العرب تقول : لا تقدّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب ، أي : لا تعجل بالأمر دونه والنهي ؛ لأن المعنى : لا تقدّموا قبل أمر هما ونهيهما ، وبين يدي الإمام عبارة عن الإمام لا ما بين يدي الإنسان ، ومعنى الآية : لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ولا تعجلوا به. وقيل : المراد معنى بين يدي فلان : بحضرته ؛ لأن ما يحضره الإنسان فهو بين يديه (وَاتَّقُوا اللهَ) في كلّ أموركم ، ويدخل تحتها الترك للتقدّم بين يدي الله ورسوله دخولا أوّليا. ثم علّل ما أمر به من التقوى بقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لكلّ مسموع (عَلِيمٌ) بكل معلوم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت ، لأن ذلك يدلّ على قلة الاحتشام وترك الاحترام ؛ لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ومزيد اللغط. والأوّل أولى. والمعنى : لا ترفعوا

٦٩

أصواتكم إلى حدّ يكون فوق ما يبلغه صوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال المفسرون : المراد من الآية تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي : لا تجهروا بالقول إذا كلّمتموه ، كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضا. قال الزجاج : أمرهم الله بتبجيل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار ، وقيل : المراد بقوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) لا تقولوا : يا محمد ، ويا أحمد ، ولكن يا نبيّ الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له ، والكاف في محل نصب على أنها مصدر محذوف ، أي : جهرا مثل جهر بعضكم لبعض ، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف فإن ذلك كفر ، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره. والحاصل : أن النهي هنا وقع عن أمور : الأوّل : عن التقدّم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام. والثاني : عن رفع الصوت البالغ إلى حدّ يكون فوق صوته ، سواء كان في خطابه أو في خطاب غيره. والثالث : ترك الجفاء في مخاطبته ولزوم الأدب في مجاورته ؛ لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزيّة توجب احترامه وتوقيره. ثم علّل سبحانه ما ذكره بقوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) قال الزجّاج : «أن تحبط أعمالكم» التقدير لأن تحبط أعمالكم ، أي : فتحبط ، فاللام المقدرة لام الصيرورة كذا قال ، وهذه العلّة يصحّ أن تكون للنهي ، أي : نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط ، أو كراهة أن تحبط ، أو علّة للمنهي ، أي : لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدّي إلى الحبوط ، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأوّل ، وجملة : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) في محل نصب على الحال ، وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم. قال الزجاج : وليس المراد وأنتم لا تشعرون يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ثم رغّب سبحانه في امتثال ما أمر به ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أصل الغض النقص من كل شيء ، ومنه نقص الصوت (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) قال الفراء : أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبيثة. وبه قال مقاتل ومجاهد وقتادة. وقال الأخفش : اختصّها للتقوى ، وقيل : طهّرها من كلّ قبيح ، وقيل : وسّعها وسرّحها ، من منحت الأديم ؛ إذا أوسعته. وقال أبو عمرو : كلّ شيء جهدته فقد محنته ، واللام في «للتقوى» متعلّقة بمحذوف ، أي : صالحة للتقوى ، كقولك : أنت صالح لكذا ، أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب ، كقولك : جئتك لأداء الواجب ، أي : ليكون مجيئي سببا لأداء الواجب (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : أولئك لهم ، فهو خبر آخر لاسم الإشارة ، ويجوز أن يكون مستأنفا لبيان ما أعدّ الله لهم في الآخرة (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) هم جفاة بني تميم كما سيأتي بيانه ، ووراء الحجرات. خارجها وخلفها ، والحجرات : جمع حجرة ، كالغرفات جمع غرفة ، والظّلمات : جمع ظلمة ، وقيل : الحجرات جمع حجر ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع. والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها ، وهي فعلة بمعنى مفعولة. قرأ الجمهور : الحجرات بضم الجيم. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة

٧٠

بفتحها تخفيفا ، وقرأ ابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغات ، و (مِنْ) في (مِنْ وَراءِ) لابتداء الغاية ، ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لغلبة الجهل عليهم وكثرة الجفاء في طباعهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي : لو انتظروا خروجك ، ولم يعجلوا بالمناداة ، لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم ، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقّه من التعظيم والتبجيل. وقيل : إنهم جاءوا شفعاء في أسارى ، فأعتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصفهم وفادى نصفهم ، ولو صبروا لأعتق الجميع ، ذكر معناه مقاتل. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة والرحمة ، بليغهما ، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) قرأ الجمهور : (فَتَبَيَّنُوا) من التبيّن ، وقرأ حمزة والكسائي : «فتثبتوا» من التثبت ، والمراد من التبين التعرّف والتفحّص ، ومن التثبت : الأناة وعدم العجلة ، والتبصّر في الأمر الواقع ، والخبر الوارد حتى يتّضح ويظهر. قال المفسرون : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقوله (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) مفعول له ، أي : كراهة أن تصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ؛ لأن الخطأ ممّن لم يتبين الأمر ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة ، لأنه لم يصدر عن علم ، والمعنى : متلبسين بجهالة بحالهم (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) بهم من إصابتهم بالخطإ (نادِمِينَ) على ذلك مغتمين له مهتمين به. ثم وعظهم الله سبحانه فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فلا تقولوا قولا باطلا ولا تتسرّعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبيّن ، و «أن» وما في حيزها سادة مسدّ مفعولي «اعلموا» ، وجملة (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) في محل نصب على الحال من ضمير فيكم أو مستأنفة ، والمعنى : لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة ، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب لوقعتم في العنت ؛ وهو التعب ، والجهد ، والإثم ، والهلاك ، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي : جعله أحبّ الأشياء إليكم ، أو محبوبا لديكم ، فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة ، وترك التسرع في الأخبار ، وعدم التثبت فيها ، قيل : والمراد بهؤلاء من عدا الأوّلين لبيان براءتهم عن أوصاف الأوّلين ، والظاهر : أنه تذكير للكلّ بما يقتضيه الإيمان وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : حسّنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في الأقوال والأفعال (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي : جعل كل ما هو من جنس الفسوق ومن جنس العصيان مكروها عندكم. وأصل الفسق الخروج على الطاعة ، والعصيان جنس ما يعصى الله به ، وقيل : أراد بذلك الكذب خاصة ، والأول أولى (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي : الموصوفون بما ذكرهم الراشدون. والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلّب ، من الرّشادة : وهي الصخرة (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أي : لأجل فضله وإنعامه ، والمعنى : أنه حبّب إليكم ما حبّب ، وكرّه لأجل فضله وإنعامه ، أو جعلكم راشدين لأجل ذلك ، وقيل : النصب بتقدير فعل : أي تبتغون فضلا ونعمة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بكل معلوم (حَكِيمٌ) في كل ما يقضي به بين عباده ويقدّره لهم.

٧١

وقد أخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن الزبير قال : «قدم ركب من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) حتى انقضت الآية». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وأخرج عن عائشة في الآية قالت : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وأخرج البخاري في تاريخه عنها قالت : كان أناس يتقدّمون بين يدي رمضان بصيام ؛ يعني يوما أو يومين ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ). وأخرج الطبراني وابن مردويه عنها أيضا : أن ناسا كانوا يتقدّمون الشهر فيصومون قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وأخرج البزار وابن عدي والحاكم وابن مردويه عن أبي بكر الصديق قال : أنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) قلت : يا رسول الله : والله لا أكلّمك إلا كأخي السّرار ، وفي إسناده حصين بن عمر ، وهو ضعيف ، ولكنه يؤيده ما أخرجه عبد بن حميد ، والحاكم وصحّحه ، من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) قال أبو بكر : والّذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أنس قال : «لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إلى قوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت ، فقال : أنا الّذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في بيته حزينا ، ففقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا : فقدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما لك؟ قال : أنا الّذي أرفع صوتي فوق صوت النبيّ وأجهر له بالقول ، حبط عملي ، أنا من أهل النار ، فأتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه بذلك ، فقال : «لا ، بل هو من أهل الجنة». فلما كان يوم اليمامة قتل. وفي الباب أحاديث بمعناه.

أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) الآية : قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) : «منهم ثابت بن قيس بن شماس». وأخرج أحمد وابن جرير وأبو القاسم البغوي والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند صحيح ، من طريق أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن الأقرع بن حابس : «أنه أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد اخرج إلينا ، فلم يجبه ، فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين ، فقال : ذاك الله ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) قال ابن منيع : لا أعلم روى الأقرع مسندا غير هذا. وأخرج الترمذي وحسّنه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) قال : جاء رجل فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمّي شين ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاك الله». وأخرج ابن راهويه ومسدد وأبو يعلى وابن

٧٢

جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بإسناد حسن ، عن زيد بن أرقم قال : اجتمع ناس من العرب فقالوا : انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكا نعش بجناحه ، فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بما قالوا ، فجاؤوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه : يا محمد! فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأذني وجعل يقول : «لقد صدّق الله قولك يا زيد ، لقد صدق الله قولك يا زيد». وفي الباب أحاديث.

وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مندة وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند جيد ـ عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزّكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إليّ يا رسول الله رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة ، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الّذي أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت ، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخط من الله ورسوله ، فدعا سروات (١) قومه فقال لهم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه ، فانطلقوا فنأتي رسول الله. وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوليد ابن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق (٢) فرجع ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البعث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقلّ البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث؟ فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك. قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والّذي بعث محمدا بالحقّ ما رأيته ولا أتاني ، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟» قال : لا والّذي بعثك بالحقّ ما رأيته ولا رآني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خشيت أن تكون سخطة من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) إلى قوله : (حَكِيمٌ) قال ابن كثير : هذا من أحسن ما روي في سبب نزول الآية. وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية ، وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ

__________________

(١). «سروات» : أي زعماء.

(٢). أي خاف.

٧٣

يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قرأ الجمهور : (اقْتَتَلُوا) باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) (١) والضمير في قوله : (بَيْنَهُما) عائد إلى الطائفتين باعتبار اللفظ. وقرأ ابن أبي عبلة : «اقتتلتا» اعتبارا بلفظ طائفتان ، وقرأ زيد بن عليّ وعبيد بن عمير : «اقتتلا» وتذكير الفعل في هذه القراءة باعتبار الفريقين أو الرهطين. والبغي : التعدّي بغير حق والامتناع من الصلح الموافق للصواب ، والفيء : الرجوع. والمعنى : أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله ، فإن حصل بعد ذلك التعدّي من إحدى الطائفتين على الأخرى ، ولم تقبل الصلح ، ولا دخلت فيه ، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه ، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه ، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ، ويتحرّوا الصواب المطابق لحكم الله ، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم ، وتؤدّي ما يجب عليها للأخرى. ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : واعدلوا إن الله يحب العادلين ، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء. قال الحسن وقتادة والسدّي : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضى بما فيه لهما وعليهما (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) وطلبت ما ليس لها ، ولم ترجع إلى الصلح (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) حتى ترجع إلى طاعة الله والصلح الّذي أمر الله به ، وجملة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإصلاح ، والمعنى : أنهم راجعون إلى أصل واحد وهو الإيمان. قال الزجّاج : الدّين يجمعهم ، فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم ، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب ؛ لأنّهم لآدم وحواء (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) يعني كل مسلمين تخاصما وتقاتلا ، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريق الأولى. قرأ الجمهور : (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) على التثنية ، وقرأ زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود والحسن وحماد بن سلمة وابن سيرين «إخوانكم» بالجمع ، وروي عن أبي عمرو ونصر بن عاصم وأبي العالية والجحدري ويعقوب أنهم قرءوا : «بين إخوتكم» بالفوقية على الجمع أيضا. قال أبو عليّ الفارسي في توجيه قراءة الجمهور : أراد بالأخوين الطائفتين ؛ لأن لفظ التثنية قد يرد ويراد به الكثرة. وقال أبو عبيدة : أي : أصلحوا بين كلّ أخوين (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل أموركم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

__________________

(١). الحج : ١٩.

٧٤

بسبب التقوى ، والترجي باعتبار المخاطبين ، أي : راجين أن ترحموا ، وفي هذه الآية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرّر بغيها على الإمام ، أو على أحد من المسلمين ، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز مستدلّا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قتال المسلم كفر» فإن المراد بهذا الحديث وما ورد في معناه قتال المسلم الّذي لم يبغ. قال ابن جرير : لو كان الواجب في كلّ اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حقّ ، ولا أبطل باطل ولوجد أهل النفاق والفجور سببا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ، وسبي نسائهم ، وسفك دمائهم بأن يتحزّبوا عليهم ، ولكفّ المسلمين أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا على أيدي سفهائكم». قال ابن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، وعمدة في حرب المتأوّلين ، وعليها عوّل الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملّة ، وإياها عنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «تقتل عمارا الفئة الباغية» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن الخوارج : «يخرجون على حين فرقة من الناس ، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ». (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) السخرية : الاستهزاء. وحكى أبو زيد : سخرت به وضحكت به وهزأت به. وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزئت منه وهزئت به ، كل ذلك يقال : والاسم السخرية والسّخرى ، وقرئ بهما في : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (١) ، ومعنى الآية : النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض ، وعلّل هذا النهي بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي : أن يكون المسخور بهم عند الله خيرا من الساخرين بهم ، ولما كان لفظ قوم مختصّا بالرجال ، لأنهم القوّم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) أي : ولا يسخر نساء من نساء (عَسى أَنْ يَكُنَ) المسخور بهن (خَيْراً مِنْهُنَ) يعني خيرا من الساخرات منهنّ ، وقيل : أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهنّ أكثر (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) اللمز : العيب ، وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) (٢) قال ابن جرير : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، ومعنى : (لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) لا يلمز بعضكم بعضا ، كما في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣) وقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) (٤) قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) التنابز : التفاعل من النّبز بالتسكين وهو المصدر ، والنّبز بالتحريك اللقب ، والجمع أنباز ، والألقاب جمع لقب ، وهو اسم غير الّذي سمّي به الإنسان ، والمراد هنا لقب السوء ، والتنابز بالألقاب بأن يلقب بعضهم بعضا. قال الواحدي : قال المفسرون : هو أن يقول لأخيه المسلم : يا فاسق ، يا منافق. أو يقول لمن أسلم : يا يهودي ، يا نصراني ، قال عطاء : هو كلّ شيء أخرجت به أخاك من الإسلام ، كقولك يا كلب ، يا حمار ، يا خنزير. قال الحسن ومجاهد : كان الرجل يعيّر بكفره ، فيقال له : يا يهودي يا نصراني ، فنزلت ، وبه قال قتادة وأبو العالية وعكرمة (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي : بئس الاسم الّذي

__________________

(١). الزخرف : ٣٢.

(٢). التوبة : ٥٨.

(٣). النساء : ٢٩.

(٤). النور : ٦١.

٧٥

يذكر بالفسق بعد دخولهم في الإيمان ، والاسم هنا بمعنى الذكر. قال ابن زيد : أي بئس أن يسمّى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته. وقيل : أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ فهو فاسق. قال القرطبي : إنه يستثنى من هذا من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ، ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه ، فجوّزته الأئمة واتفق على قوله أهل اللغة اه. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عمّا نهى الله عنه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لارتكابهم ما نهى الله عنه وامتناعهم من التوبة ، فظلموا من لقبوه ، وظلمهم أنفسهم بما لزمها من الإثم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) الظن هنا : هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتّهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك ، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظنّ يظنه حتى يعلم وجهه ؛ لأنّ من الظنّ ما يجب اتباعه ، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظنّ ، كالقياس ، وخبر الواحد ، ودلالة العموم ، ولكن هذا الظنّ الّذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به ؛ فارتفع عن الشكّ والتهمة. قال الزجاج : هو أن يظنّ بأهل الخير سوءا ، فأما أهل السوء والفسوق قلنا أن نظن بهم مثل الّذي ظهر منهم. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : هو أن يظنّ بأخيه المسلم سوءا ، ولا بأس به ما لم يتكلّم به ، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم. وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : أن الظنّ القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح ، وجملة (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظن ، وهذا البعض هو ظنّ السوء بأهل الخير ، والإثم : هو ما يستحقه الظانّ من العقوبة. وممّا يدلّ على تقييد هذا الظنّ المأمور باجتنابه بظنّ السوء قوله تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١) فلا يدخل في الظنّ المأمور باجتنابه شيء من الظنّ المأمور باتباعه في مسائل الدين ، فإن الله قد تعبّد عباده باتّباعه ، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم ، ولم ينكر ذلك إلّا بعض طوائف المبتدعة كيادا للدين ، وشذوذا عن جمهور المسلمين ، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها. ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظنّ نهاهم عن التجسّس فقال : (وَلا تَجَسَّسُوا) التجسس : البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم ، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم. قرأ الجمهور (تَجَسَّسُوا) بالجيم ، ومعناه ما ذكرنا. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء. قال الأخفش : ليس يبعد أحد هما من الآخر ؛ لأن التجسس بالجيم : البحث عما يكتم عنك ، والتحسس بالحاء : طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل : إن التجسس بالجيم هو البحث ، ومنه قيل رجل جاسوس ؛ إذا كان يبحث عن الأمور ، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقيل : إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره ، قاله ثعلب. (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي : لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه ، والغيبة : أن تذكر الرجل بما يكرهه ، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك

__________________

(١). الفتح : ١٢.

٧٦

أخاك بما يكره ، فقيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته» (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) مثّل سبحانه الغيبة بأكل الميتة ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه ، كما أن الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه. ذكر معناه الزجاج. وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه (١) ، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لها والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفى ، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية ، وتستكرهه الجبلّة البشرية ، فضلا عن كونه محرّما شرعا (فَكَرِهْتُمُوهُ) قال الفراء : تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا ، والمعنى : فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا. قال الرازي : الفاء في تقدير جواب كلام ، كأنه قال : لا يحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذا. وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : عرض عليكم ذلك فكرهتموه (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك ما أمركم باجتنابه (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لمن اتقاه وتاب عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أنس قال : قيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أتيت عبد الله بن أبيّ ، فانطلق إليه وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة (٢) ، فلما انطلق إليه قال : إليك عني ، فو الله لقد آذاني ريح حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكلّ منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد (٣) والأيدي والنّعال ، فنزلت فيهم : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآية». وقد روي نحو هذا من وجوه أخر. وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي عن ابن عمر قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية ، إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إن الله أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض ، فإذا أجابوا حكم فيهم بحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ ، وحقّ على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ، ويقرّوا بحكم الله. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآية. قال : كان قتال بالنعال والعصيّ ، فأمرهم أن يصلحوا بينهما. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت : ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) قال : نزلت في قوم من بني تميم استهزءوا من بلال وسلمان وعمّار وخبّاب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة. وأخرج عبد

__________________

(١). «الاستطالة في العرض» : أي استحقاره والترفع عليه والوقيعة فيه.

(٢). «أرض سبخة» : أي لا تنبت.

(٣). «الجريد» : سعف النخل ، أي أغصانه.

٧٧

ابن حميد ، والبخاري في الأدب ، وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) قال : لا يطعن بعضكم على بعض.

وأخرج أحمد وعبد بن حميد ، والبخاري في الأدب ، وأهل السنن الأربع وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن حبان ، والشيرازي في الألقاب ، والطبراني ، وابن السنّي في عمل يوم وليلة ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي في الشعب ، عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا واحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يكرهه ، فنزلت : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب : أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحقّ ، فنهى الله أن يعيّر بما سلف من عمله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في الآية قال : إذا كان الرجل يهوديا فأسلم فيقول : يا يهودي ، يا نصراني ، يا مجوسي ، ويقول للرجل المسلم : يا فاسق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) قال : نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن سوءا. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والظنّ فإن الظنّ أكذب الحديث ، ولا تجسّسوا ، ولا تحسّسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَجَسَّسُوا) قال : نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن زيد بن وهب قال : أتى ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمرا ، فقال ابن مسعود : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه. وقد وردت أحاديث في النهي عن تتبع عورات المسلمين والتجسس على عيوبهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآية قال : حرّم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرّم الميتة. والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جدا ، معروفة في كتب الحديث.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ

٧٨

أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) هما آدم وحوّاء ، والمقصود أنهم متساوون لاتصالهم بنسب واحد ، وكونه يجمعهم أب واحد وأمّ واحدة ، وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب ، وقيل : المعنى : أن كل واحد منكم من أب وأمّ ، فالكل سواء (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشعوب جمع شعب بفتح الشين ، وهو الحيّ العظيم ، مثل مضر وربيعة ، والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة ، وبني تميم من مضر. قال الواحدي : هذا قول جماعة من المفسرين ، سمّوا شعبا لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة ، والشعب من أسماء الأضداد. يقال شعبته : إذا جمعته ، وشعبته إذا فرّقته ، ومنه سمّيت المنية شعوبا لأنها مفرّقة ، فأما الشّعب بالكسر فهو الطريق في الجبل. قال الجوهري : الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم ، والجمع الشعوب. وقال مجاهد : الشعوب : البعيد من النسب ، والقبائل دون ذلك. وقال قتادة : الشعوب : النسب الأقرب. وقيل : إن الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل : الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب. وحكى أبو عبيدة أن الشعب أكثر من القبيلة ، ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة. ومما يؤيد ما قاله الجمهور من أن الشعب أكثر من القبيلة قول الشاعر :

قبائل من شعوب ليس فيهم

كريم قد يعدّ ولا نجيب

قرأ الجمهور : (لِتَعارَفُوا) بتخفيف التاء ، وأصله لتتعارفوا فحذفت إحدى التاءين. وقرأ البزّي بتشديدها على الإدغام. وقرأ الأعمش بتاءين ، واللام متعلقة بخلقناكم ، أي : خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا. وقرأ ابن عباس : «لتعرفوا» مضارع عرف. والفائدة في التعارف أن ينتسب كلّ واحد منهم إلى نسبه ولا يعتري إلى غيره. والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم ، ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب ، وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة ، وهذا البطن أشرف من هذا البطن. ثم علّل سبحانه ما يدلّ عليه الكلام من النهي عن التفاخر فقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي : إن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى ، فمن تلبّس بها فهو المستحق لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها وأشرف وأفضل ، فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب ، فإن ذلك لا يوجب كرما ولا يثبت شرفا ولا يقتضي فضلا. قرأ الجمهور : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) بكسر إن. وقرأ ابن عباس بفتحها ، أي : لأن أكرمكم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بكل معلوم ومن ذلك أعمالكم (خَبِيرٌ) بما تسرّون وما تعلنون لا تخفى عليه من ذلك خافية. ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له ، وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان ليثبت لهم الشرف والفضل ، فقال : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) وهم بنو أسد أظهروا الإسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة ، فأمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يردّ عليهم فقال : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي : لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي : استسلمنا خوف

٧٩

القتل والسبي أو للطمع في الصدقة ، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ولم تؤمن قلوبهم ، ولهذا قال سبحانه : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم ، بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة ، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها ، أو في محل نصب على الحال ، وفي (لَمَّا) معنى التوقع. قال الزجاج : الإسلام : إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبيّ ، وبذلك يحقن الدم ، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن. وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : لم تصدّقوا وإنما أسلمتم تعوّذا من القتل (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة ، وقلوب مصدّقة غير منافقة (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) يقال : لات يلت : إذا نقص ، ولاته يليته ويلوته ؛ إذا نقصه ، والمعنى : لا ينقصكم من أعمالكم شيئا. قرأ الجمهور (يَلِتْكُمْ) من لاته يليته ، كباع يبيعه. وقرأ أبو عمرو لا يألتكم بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي والكسر في المضارع ، واختار قراءة أبي عمرو أبو حاتم لقوله : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) وعليها قول الشاعر :

أبلغ بني أسد (٢) عنّي مغلغلة

جهر الرّسالة لا ألتا ولا كذبا

واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور ، وعليها قول رؤبة بن العجّاج :

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت

وهما لغتان فصيحتان (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي : بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب (رَحِيمٌ) بليغ الرحمة لهم. ثم لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لم يؤمنوا ولا دخل الإيمان في قلوبهم بيّن المؤمنين المستحقّين لإطلاق اسم الإيمان عليهم ، فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) يعني إيمانا صحيحا خالصا عن مواطأة القلب واللسان (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي : لم يدخل قلوبهم شيء من الريب ، ولا خالطهم شكّ من الشكوك (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : في طاعته وابتغاء مرضاته ، ويدخل في الجهاد الأعمال الصالحة التي أمر الله بها ، فإنها من جملة ما يجاهد المرء به نفسه حتى يقوم به ويؤدّيه كما أمر الله سبحانه ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الجامعين بين الأمور المذكورة وهو مبتدأ ، وخبره قوله : (هُمُ الصَّادِقُونَ) أي : الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان والدخول في عداد أهله ، لا من عداهم ممّن أظهر الإسلام بلسانه ، وادّعى أنه مؤمن ، ولم يطمئن بالإيمان قلبه ، ولا وصل إليه معناه ، ولا عمل بأعمال أهله ، وهم الأعراب الذين تقدّم ذكرهم وسائر أهل النفاق. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولا آخر لما ادّعوا أنهم مؤمنون ، فقال : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) التعليم ها هنا بمعنى الإعلام ، ولهذا دخلت الباء في دينكم ، أي : أتخبرونه بذلك حيث قلتم آمنّا (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

__________________

(١). الطور : ٢١.

(٢). في تفسير القرطبي (١٦ / ٣٤٩) : ثعل.

٨٠