فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

يقبل تلك الواهبة لنفسها ، فكيف يصحّ أن يقال إنه نزل في شأنها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) فإن من ردّ ما وهب له لم يصح أن يقال إنه حرمه على نفسه ، وأيضا لا ينطبق على هذا السبب قوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) إلى آخر ما حكاه الله. وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره أنهما عائشة وحفصة ، ثم ذكر قصة الإيلاء كما في الحديث الطويل ، فليس في هذا نفي لكون السبب هو ما قدمنا من قصة العسل وقصة السرية ، لأنه إنما أخبره بالمتظاهرتين ، وذكر فيه أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، وأن ذلك سبب الاعتزال لا سبب نزول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). ويؤيد هذا ما قدّمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ فأخبره بأنهما حفصة وعائشة ، وبيّن له أن السبب قصة مارية. هذا ما تيسّر من تلخيص سبب نزول الآية ، ودفع الاختلاف في شأنه ، فاشدد عليه يديك لتنجو به من الخبط والخلط الّذي وقع للمفسرين. وأخرج عبد الرزاق والبخاري وابن مردويه عن ابن عباس قال : في الحرام يكفر ، وقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (١). وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وابن مردويه عنه أنه جاءه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حراما ، فقال : كذبت ليست عليك بحرام ، ثم تلا : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) قال : عليك أغلظ الكفّارات عتق رقبة. وأخرج الحارث ابن أبي أسامة عن عائشة قالت : «لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح ، فأنزل الله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فأحلّ يمينه وأنفق عليه». وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن عائشة في قوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قالت : أسرّ إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي. وأخرج ابن عدي ، وأبو نعيم في الصحابة ، والعشاري في فضائل الصديق ، وابن مردويه وابن عساكر من طرق عن عليّ وابن عباس قال : والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال لحفصة : «أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي ، فإياك أن تخبري أحدا بهذا». قلت : وهذا ليس فيه أنه سبب نزول قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) بل فيه أن الحديث الّذي أسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو هذا ، فعلى فرض أن له إسنادا يصلح للاعتبار هو معارض بما سبق من تلك الروايات الصحيحة ، وهي مقدّمة عليه ومرجّحة بالنسبة إليه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) قال : زاغت وأثمت. وأخرج ابن المنذر عنه قال : مالك. وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال : أبو بكر وعمر. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود مثله.

وأخرج الطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في فضائل الصحابة ، من وجه آخر عنه مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس مثله. وأخرج الحاكم عن أبي أمامة مرفوعا مثله. وأخرج ابن أبي حاتم ، قال السيوطي : بسند ضعيف ، عن عليّ مرفوعا قال : «هو عليّ بن أبي طالب». وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «(وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) عليّ بن أبي طالب». وأخرج ابن مردويه وابن

__________________

(١). الأحزاب : ٢١.

٣٠١

عساكر عن ابن عباس في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال : هو عليّ بن أبي طالب. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بريدة في قوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) قال : وعد الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه أن يزوّجه بالثيب آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مريم بنت عمران.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ) بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه (وَأَهْلِيكُمْ) بأمرهم بطاعة الله ، ونهيهم عن معاصيه (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي : نارا عظيمة تتوقد بالناس وبالحجارة كما يتوقد غيرها بالحطب ، وقد تقدم بيان هذا في سورة البقرة. قال مقاتل بن سليمان : المعنى : قوا أنفسكم وأهليكم ، بالأدب الصالح ، النار في الآخرة. وقال قتادة ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم. قال ابن جرير : فعلينا أن نعلّم أولادنا الدّين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب ، ومن هذا قوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (١) وقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢). (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) أي : على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها ، غلاظ على أهل النار ، شداد عليهم ، لا يرحمونهم إذا استرحموهم ؛ لأن الله سبحانه خلقهم من غضبه ، وحبّب إليهم تعذيب خلقه ، وقيل : المراد غلاظ القلوب شداد الأبدان ، وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال ، وقيل : الغلاظ ضخام الأجسام ، والشداد : الأقوياء (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) أي : لا يخالفونه في أمره ، و «ما» في (ما أَمَرَهُمْ) يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف ، أي : لا يعصون الله الّذي أمرهم به ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : لا يعصون الله أمره ، على أن يكون ما أمرهم بدل اشتمال من الاسم الشريف ، أو على تقدير نزع الخافض ، أي : لا يعصون الله في أمره (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي : يؤدّونه في وقته من غير تراخ ، لا يؤخّرونه عنه ولا يقدّمونه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) أي : يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الأعمال في الدنيا ، ومثل هذا قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أي : تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب عنه ، وصفت بذلك على الإسناد المجازي ، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب وترك المعاودة له.

__________________

(١). طه : ١٣٢.

(٢). الشعراء : ٢١٤.

(٣). الروم : ٥٧.

٣٠٢

والتوبة فرض على الأعيان. قال قتادة : التوبة النصوح : الصادقة ، وقيل : الخالصة. وقال الحسن : التوبة النصوح : أن يبغض الذنب الّذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقال الكلبي : التوبة النصوح الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع بالبدن ، والاطمئنان على أن لا يعود. وقال سعيد بن جبير : هي التوبة المقبولة. قرأ الجمهور : «نصوحا» بفتح النون على الوصف للتوبة ، أي : توبة بالغة في النصح ، وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بضمها ، أي : توبة نصح لأنفسكم ، ويجوز أن يكون جمع ناصح ، وأن يكون مصدرا ، يقال : نصح نصاحة ونصوحا. قال المبرّد : أراد توبة ذات نصح. (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بسبب تلك التوبة ، وعسى وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ويدخلكم معطوف على يكفر منصوب بناصبه وبالنصب قرأ الجمهور ، وقرئ بالجزم عطفا على محل عيسى ، كأنه قال : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) الظرف متعلق بيدخلكم ، أي : يدخلكم يوم لا يخزي الله النبي (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) والموصول معطوف على النبي ، وقيل : الموصول مبتدأ ، وخبره : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) والأول أولى ، وتكون جملة (نُورُهُمْ يَسْعى) في محل نصب على الحال أو مستأنفة لبيان حالهم ، وقد تقدّم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصّراط ، وجملة (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) في محل نصب على الحال أيضا ، وعلى الوجه الآخر تكون خبرا آخر ، وهذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين ، كما تقدّم بيانه وتفصيله.

وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) قال : علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ، وأمروا أهلكم بالذكر ينجكم الله من النار. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : أدّبوا أهليكم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ، ليس في قلوبهم رحمة ، إنّما خلقوا للعذاب ، يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وابن منيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح ، فقال : أن يتوب الرجل من العمل السّيّئ ثم لا يعود إليه أبدا. وأخرج أحمد وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التوبة من الذنب أن يتوب منه ، ثم لا يعود إليه أبدا» وفي إسناده إبراهيم ابن مسلم الهجري ، وهو ضعيف ، والصحيح الموقوف. كما أخرجه موقوفا عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي. وأخرج الحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود قال : التوبة النصوح تكفر كلّ سيئة ، وهو في القرآن ، ثم قرأ هذه الآية. وأخرج الحاكم ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس في قوله : (يَوْمَ

٣٠٣

لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى) الآية قال : ليس أحد من الموحّدين إلا يعطى نورا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق ، فهو يقول : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) أي : بالسيف والحجة ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة براءة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي : شدّد عليهم في الدعوة ، واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع. قال الحسن : أي : جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي : مصيرهم إليها ، يعني الكفّار والمنافقين (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : المرجع الّذي يرجعون إليه (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قد تقدّم غير مرّة أن المثل قد يراد به إيراد حالة غريبة يعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة ، أي : جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفرة ، وأنه لا يغني أحد عن أحد (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) هذا هو المفعول الأوّل ، و «مثلا» المفعول الثاني حسبما قدّمنا تحقيقه ، وإنما أخّر ليتصل به ما هو تفسير له وإيضاح لمعناه (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) وهما نوح ولوط ، أي : كانتا في عصمة نكاحهما (فَخانَتاهُما) أي : فوقعت منهما الخيانة لهما. قال عكرمة والضحاك : بالكفر ، وقيل : كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ، وقد وقع الإجماع على أنه ما زنت امرأة نبيّ قطّ. وقيل : كانت خيانتهما النفاق ، وقيل : خانتاهما بالنميمة (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع ، ولا دفعا عنهما من عذاب الله مع كرامتهما على الله شيئا من الدفع (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي : وقيل لهما في الآخرة ، أو عند موتهما ادخلا النار مع الداخلين لها من أهل الكفر والمعاصي. وقال يحيى بن سلام : ضرب الله مثلا للذين كفروا يحذّر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تظاهرتا عليه. وما أحسن ما قال ؛ فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرشد أتمّ إرشاد ، ويلوّح أبلغ تلويح ، إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين ، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله ، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا ، وقد عصمهما الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة

٣٠٤

الخالصة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) الكلام في هذا كالكلام في المثل الّذي قبله ، أي : جعل الله حال امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعة ، والتمسّك بالدين ، والصبر في الشدّة ، وأن صولة الكفر لا تضرّهم ، كما لم تضر امرأة فرعون ، وقد كانت تحت أكفر الكافرين ، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم (إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) الظرف متعلق بضرب أو بمثلا ، أي : ابن لي بيتا قريبا من رحمتك ، أو في أعلى درجات المقربين منك ، أو في مكان لا يتصرّف فيه إلا بإذنك وهو الجنة (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي : من ذاته ، وما يصدر عنه من أعمال الشرّ (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال الكلبي : هم أهل مصر. وقال مقاتل : هم القبط. قال الحسن وابن كيسان : نجّاها الله أكرم نجاة ، ورفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) معطوف على امرأة فرعون ، أي : وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران ، أي : حالها وصفتها ، وقيل : إن الناصب لمريم فعل مقدّر ، أي : واذكر مريم ، والمقصود من ذكرها أن الله سبحانه جمع لها بين كرامة الدنيا والآخرة ، واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : عن الفواحش ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النساء. قال المفسرون : المراد بالفرج هنا الجيب ؛ لقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (١) وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها فحبلت بعيسى (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) يعني شرائعه التي شرعها لعباده ، وقيل : المراد بالكلمات هنا هو قول جبريل لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) (٢) الآية. وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى. قرأ الجمهور : «وصدقت» بالتشديد ، وقرأ حميد والأموي ويعقوب وقتادة وأبو مجلز وعاصم في رواية عنه بالتخفيف. وقرأ الجمهور : «بكلمات» بالجمع ، وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري «بكلمة» بالإفراد. وقرأ الجمهور : «وكتابه» بالإفراد ، وقرأ أهل البصرة وحفص «كتبه» بالجمع ، والمراد على قراءة الجمهور الجنس فيكون في معنى الجمع ، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) قال قتادة : من القوم المطيعين لربهم. وقال عطاء : من المصلّين ، كانت تصلي بين المغرب والعشاء ، ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم ، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة ، وقال : من القانتين ، ولم يقل من القانتات ؛ لتغليب الذكور على الإناث. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، من طرق عن ابن عباس في قوله : (فَخانَتاهُما) قال : ما زنتا ، أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس : إنه مجنون ؛ وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدلّ على الضيف ، فتلك خيانتهما. وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما بغت امرأة نبيّ قط ، وقد رواه ابن عساكر مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة.

__________________

(١). الأنبياء : ٩١.

(٢). مريم : ١٩.

٣٠٥

وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة : إنّ فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد ، وأضجعها على صدرها (١) ، وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس ، فرفعت رأسها إلى السماء ، ف (قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) إلى قوله : (مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته. وأخرج أحمد والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قصّ الله علينا من خبرها في القرآن قالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً)» الآية. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وأخرج وكيع في «الغرر» ، عن ابن عباس في قوله : (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) قال : من جماعته.

* * *

__________________

(١). لعلّه : على ظهرها ؛ بدليل قوله بعد : وجعل على صدرها.

٣٠٦

سورة الملك

وهي مكية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت بمكة سورة تبارك الملك. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الضريس ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)» قال الترمذي : هذا حديث حسن. وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)». وأخرج الترمذي ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه وابن نصر ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : «ضرب بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر». قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تبارك هي المانعة من عذاب القبر» ، وأخرجه أيضا النسائي وصحّحه ، والحاكم. وأخرج ابن مردويه عن رافع بن خديج وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنزلت عليّ سورة تبارك ، وهي ثلاثون آية جملة واحدة ، وهي المانعة في القبور». وأخرج عبد بن حميد في مسنده ، والطبراني ، والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال بلى : قال : اقرأ : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وعلّمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك ، فإنها المنجية ، والمجادلة تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها ، وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار ، وينجو بها صاحبها من عذاب القبر. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ

٣٠٧

فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

قوله : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تبارك : تفاعل من البركة ، والبركة : النماء والزيادة ، وقيل : تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين ، وقيل : دام فهو الدائم الّذي لا أوّل لوجوده ولا آخر لدوامه. وقال الحسن : تبارك : تقدّس ، وصيغة التفاعل للمبالغة ، واليد مجاز عن القدرة والاستيلاء ، والملك : هو ملك السّماوات والأرض في الدنيا والآخرة ، فهو يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء ، وقيل : المراد بالملك ملك النبوّة ، والأوّل أولى ؛ لأنّ الحمل على العموم أكثر مدحا وأبلغ ثناء ، ولا وجه للتخصيص (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : بليغ القدرة ، لا يعجزه شيء من الأشياء ، يتصرّف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام ، ورفع ووضع ، وإعطاء ومنع (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) الموت : انقطاع تعلّق الروح بالبدن ومفارقته له ، والحياة : تعلّق الروح بالبدن واتصاله به ، وقيل : هي ما يصحّ بوجوده الإحساس ، وقيل : ما يوجب كون الشيء حيا ، وقيل : المراد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة. وقدّم الموت على الحياة ؛ لأن أصل الأشياء عدم الحياة ، والحياة عارضة لها ، وقيل : لأن الموت أقرب إلى القهر. وقال مقاتل : (خَلَقَ الْمَوْتَ) يعني النطفة والمضغة والعلقة ، (وَالْحَياةَ) يعني خلقه إنسانا وخلق الروح فيه ، وقيل : خلق الموت على صورة كبش لا يمرّ على شيء إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس لا تمر بشيء إلا حيي ، قاله مقاتل والكلبي. وقد ورد في التنزيل : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (١) وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) (٢) وقوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٣) وقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٤) وغير ذلك من الآيات. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) اللام متعلقة بخلق ، أي : خلق الموت والحياة ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملا ، فيجازيكم على ذلك ، وقيل : المعنى : ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا وأشدّ منه خوفا ، وقيل : أيكم أسرع إلى طاعة الله ، وأورع عن محارم الله. وقال الزجاج : اللام متعلق بخلق الحياة ، لا بخلق الموت ، وقال الزجاج أيضا والفراء : أن قوله : «ليبلوكم» لم يقع على أيّ ؛ لأن فيما بين البلوى وأيّ إضمار فعل ، كما تقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع ، ومثله قوله : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) (٥) أي : سلهم ثم انظر أيهم ، فأيكم في الآية مبتدأ وخبره أحسن ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي : الغالب الّذي لا يغالب (الْغَفُورُ) لمن تاب وأناب (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الموصول يجوز أن يكون تابعا للعزيز الغفور نعتا أو بيانا أو بدلا ، وأن يكون منقطعا عنه على أنه خبر مبتدأ

__________________

(١). السجدة : ١١.

(٢). الأنفال : ٥٠.

(٣). الأنعام : ٦١.

(٤). الزمر : ٤٢.

(٥). القلم : ٤٠.

٣٠٨

محذوف ، أو منصوب على المدح ، وطباقا صفة لسبع سماوات ، أي : بعضها فوق بعض ، وهو جمع طبق ، نحو جبل وجبال ، أو جمع طبقة ، نحو رحبة ورحاب ، أو مصدر طابق ، يقال : طابق مطابقة وطباقا ، ويكون على هذا الوجه الوصف بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، ويجوز أن يكون منتصبا على المصدرية بفعل محذوف ، أي : طوبقت طباقا (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) هذه الجملة صفة ثانية لسبع سماوات ، أو مستأنفة لتقرير ما قبلها ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يصلح له ، ومن مزيدة لتأكيد النفي. قرأ الجمهور : «من تفاوت» ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي «تفوّت» مشدّدا بدون ألف ، وهما لغتان ، كالتعاهد والتعهّد ، والتحامل والتحمّل ؛ والمعنى على القراءتين : ما ترى في خلق الرّحمن من تناقض ولا تباين ولا اعوجاج ولا تخالف ، بل هي مستوية مستقيمة دالّة على خالقها ، وإن اختلفت صورها وصفاتها فقد اتفقت من هذه الحيثية (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الفطور : الشقوق والصدوع والخروق ، أي : اردد طرفك حتى يتّضح لك ذلك بالمعاينة. أخبر أوّلا بأنه لا تفاوت في خلقه ، ثم أمر ثانيا بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد وحصول الطمأنينة. قال مجاهد والضحاك : الفطور والشقوق جمع فطر ، وهو الشق. وقال قتادة : هل ترى من خلل. وقال السدي : هل ترى من خروق ، وأصله من التفطر والانفطار ، وهو التشقق والانشقاق ، ومنه قول الشاعر :

بنى لكم بلا عمد سماء

وزيّنها فما فيها فطور

وقول الآخر

شققت القلب ثم ذررت فيه

هواك فليم فالتأم الفطور

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي : رجعتين مرّة بعد مرّة ، وانتصابه على المصدر ، والمراد بالتثنية التكثير ، كما في لبيك وسعديك ، أي : رجعة بعد رجعة وإن كثرت. ووجه الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى ولا في الثانية. ولهذا قال أوّلا : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ثم قال ثانيا : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ثم قال ثالثا : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة وأقطع للمعذرة (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) أي : يرجع إليك البصر ذليلا صاغرا عن أن يرى شيئا من ذلك ، وقيل : معنى خاسئا : مبعدا مطرودا عن أن يبصر ما التمسه من العيب ، يقال : خسأت الكلب ، أي : أبعدته وطردته. قرأ الجمهور : «ينقلب» بالجزم جوابا للأمر. وقرأ الكسائي في رواية بالرفع على الاستئناف (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي : كليل منقطع. قال الزجاج : أي : وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا ، وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور ، وهو الإعياء ، يقال : حسر بصره يحسر حسورا ، أي : كلّ وانقطع ، ومنه قول الشاعر :

نظرت إليها بالمحصّب من منى

فعاد إليّ الطّرف وهو حسير

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) بيّن سبحانه بعد خلق السماوات ، وخلوّها من العيب والخلل ؛

٣٠٩

أنه زيّنها بهذه الزينة ، فصارت في أحسن خلق ، وأكمل صورة ، وأبهج شكل ، والمجيء بالقسم لإبراز كمال العناية ، والمصابيح : جمع مصباح ، وهو السراج ، وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج وبعض الكواكب وإن كان في غير سماء الدنيا من السماوات التي فوقها ، فهي تتراءى كأنها كلها في سماء الدنيا ؛ لأن أجرام السماوات لا تمنع من رؤية ما فوقها مما له إضاءة ؛ لكونها أجراما صقيلة شفافة (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي : وجعلنا المصابيح رجوما يرجم بها الشياطين ، وهذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى وهي كونها زينة للسماء الدنيا ؛ والمعنى أنها يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع ، والرّجوم : جمع رجم بالفتح ، وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به ، كما في قولهم : الدرهم ضرب الأمير ، أي : مضروبه ، ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته ، ويقدر مضاف محذوف ، أي : ذات رجم ، وجمع المصدر باعتبار أنواعه. وقيل : إن الضمير في قوله : (وَجَعَلْناها) راجع إلى المصابيح على حذف مضاف ، أي : شهبها ، وهي نارها المقتبسة منها ، لا هي أنفسها ؛ لقوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١) ووجه هذا أن المصابيح التي زيّن الله بها السماء الدنيا لا تزول ولا يرجم بها ، كذا قال أبو عليّ الفارسي جوابا لمن سأله : كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم؟ قال القشيري : وأمثل من قوله هذا أن نقول : هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين. قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر ، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم وتعدّى وظلم ؛ وقيل : معنى الآية : وجعلناها ظنونا لشياطين الإنس ، وهم المنجمون. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي : وأعتدنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب السعير ، أي : عذاب النار ، والسعير : أشدّ الحريق ، يقال : سعرت النار فهي مسعورة. (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من كفار بني آدم ، أو من كفار الفريقين (عَذابُ جَهَنَّمَ) قرأ الجمهور برفع «عذاب» على أنه مبتدأ وخبره «للذين كفروا». وقرأ الحسن والضحاك والأعرج بنصبه عطفا على «عذاب السعير» (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ما يصيرون إليه ، وهو جهنم (إِذا أُلْقُوا فِيها) أي : طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي : صوتا كصوت الحمير عند أوّل نهيقها ، وهو أقبح الأصوات ، وقوله : (لَها) في محل نصب على الحال ، أي : كائنا لها ؛ لأنه في الأصل صفة ، فلما قدّمت صارت حالا. وقال عطاء : الشهيق هو من الكفار عند إلقائهم في النار ، وجملة (وَهِيَ تَفُورُ) في محل نصب على الحال : أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل ، ومنه قول حسان :

تركتم قدركم لا شيء فيها

وقدر الغير (٢) حامية تفور

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي : تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من تغيّظها عليهم. قال ابن قتيبة : تكاد تنشقّ غيظا على الكفّار. قرأ الجمهور : «تميز» بتاء واحدة مخفّفة ، والأصل تتميز بتاءين. وقرأ طلحة بتاءين على الأصل. وقرأ البزي عن ابن كثير بتشديدها بإدغام إحدى التاءين في الأخرى. وقرأ الضحاك :

__________________

(١). الصافات : ١٠.

(٢). في تفسير القرطبي : القوم.

٣١٠

«تمايز» بالألف وتاء واحدة ، والأصل تتمايز ، وقرأ زيد بن عليّ «تميز» من ماز يميز ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها خبر آخر لمبتدأ ، وجملة (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) مستأنفة لبيان حال أهلها ، أو في محل نصب على الحال من فاعل تميز ، والفوج : الجماعة من الناس ، أي : كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألهم خزنتها من الملائكة سؤال توبيخ وتقريع (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) في الدنيا (نَذِيرٌ) ينذركم هذا اليوم ويحذركم منه؟ وجملة (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قالوا بعد هذا السؤال؟ فقال : (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) فأنذرنا وخوّفنا وأخبرنا بهذا اليوم (فَكَذَّبْنا) ذلك النذير (وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) من الأشياء على ألسنتكم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي : في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب ، والمعنى أنه : قال كلّ فوج من تلك الأفواج حاكيا لخزنة جهنم ما قاله لمن أرسل إليه : ما أنتم أيها الرسل فيم تدّعون أن الله نزل عليكم آيات تنذرونا بها إلا في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب كبير لا يقادر قدره. ثم حكى عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة فقال : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي : لو كنا نسمع ما خاطبنا به الرسل ، أو نعقل شيئا من ذلك ما كنّا في عداد أهل النار ، ومن جملة من يعذّب بالسعير ، وهم الشياطين كما سلف. قال الزجاج : لو كنا نسمع سمع من يعي ، أو نعقل عقل من يميز ، وينظر ، ما كنّا من أهل النار ، فلما اعترفوا هذا الاعتراف قال الله سبحانه : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) الّذي استحقوا به عذاب النار ، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي : فبعدا لهم من الله ومن رحمته. وقال سعيد بن جبير وأبو صالح : هو واد في جهنم يقال له السّحق. قرأ الجمهور : «فسحقا» بإسكان الحاء. وقرأ الكسائي وأبو جعفر بضمها ، وهما لغتان ، مثل السّحت والرّعب. قال الزجاج وأبو عليّ الفارسي : فسحقا منصوب على المصدر ، أي : أسحقهم الله سحقا. قال أبو عليّ الفارسي : وكان القياس إسحاقا فجاء المصدر على الحذف ، واللام في (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) للبيان كما في : (هَيْتَ لَكَ) (١).

وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) قال : بعضها فوق بعض. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) قال : ما تفوت بعضه بعضا تفاوتا مفرقا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله : (مِنْ تَفاوُتٍ) قال : من تشقق ، وفي قوله : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) قال : شقوق ، وفي قوله : (خاسِئاً) قال : ذليلا (وَهُوَ حَسِيرٌ) كليل. وأخرج ابن جرير عنه أيضا. قال : الفطور : الوهي. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا : (مِنْ فُطُورٍ) قال : من تشقّق أو خلل ، وفي قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ) قال : يرجع إليك (خاسِئاً) صاغرا (وَهُوَ حَسِيرٌ) قال : يعيى ولا يرى شيئا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (خاسِئاً) قال : ذليلا (وَهُوَ حَسِيرٌ) قال : عييّ مرتجع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس

__________________

(١). يوسف : ٢٣.

٣١١

(تَكادُ تَمَيَّزُ) قال : تتفرّق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (تَكادُ تَمَيَّزُ) قال : يفارق بعضها بعضا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (فَسُحْقاً) قال : بعدا.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١))

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنة ، و «بالغيب» حال من الفاعل أو المفعول ، أي : غائبين عنه ، أو غائبا عنهم ، والمعنى : أنهم يخشون عذابه ولم يروه فيؤمنون به خوفا من عذابه ، ويجوز أن يكون المعنى : يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس وذلك في خلواتهم ، أو المراد بالغيب كون العذاب غائبا عنهم لأنهم في الدنيا ، وهو إنما يكون يوم القيامة فتكون الباء على هذا سببية (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنة ، ومثل هذه الآية قوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (١). ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه ، والمعنى : إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلّ ذلك يعلمه الله ، لا تخفى عليه منه خافية ، وجملة : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل للاستواء المذكور ، وذات الصدور هي مضمرات القلوب ، والاستفهام في قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) للإنكار ، والمعنى : ألا يعلم السرّ ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده ، فالموصول عبارة عن الخالق ، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق ، وفي «يعلم» ضمير يعود إلى الله ، أي : ألا يعلم الله المخلوق الّذي هو من جملة خلقه ، فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه ، وجملة (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) في محل نصب على الحال من فاعل يعلم ، أي : الّذي لطف علمه بما في القلوب ، الخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور ، لا تخفى عليه من ذلك خافية. ثم امتنّ سبحانه على عباده فقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) أي : سهلة لينة تستقرّون عليها ، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها ، والذلول في الأصل : هو المنقاد الّذي يذلّ لك ولا يستصعب عليك ، والمصدر الذّل ، والفاء في قوله : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور ، والأمر للإباحة. قال مجاهد والكلبي ومقاتل : مناكبها : طرقها وأطرافها وجوانبها. وقال قتادة وشهر بن

__________________

(١). ق : ٣٣.

٣١٢

حوشب : مناكبها : جبالها ، وأصل المنكب الجانب ، ومنه منكب الرجل ، ومنه الريح النّكباء ، لأنها تأتي من جانب دون جانب (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي : ممّا رزقكم وخلقه لكم في الأرض (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي : وإليه البعث من قبوركم ، لا إلى غيره ، وفي هذا وعيد شديد. ثم خوّف سبحانه الكفار. فقال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) قال الواحدي : قال المفسرون : يعني عقوبة من في السماء ، وقيل «من في السماء» : قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته ، وقيل : من في السماء من الملائكة ، وقيل : المراد جبريل ، ومعنى (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) يقلعها ملتبسة بكم كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها ، وقوله : (أَنْ يَخْسِفَ) بدل اشتمال من الموصول ، أي : أأمنتم خسفه ، أو على حذف من ، أي : من أن يخسف (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي : تضطرب وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون. قرأ الجمهور : «ء أمنتم» بهمزتين ، وقرأ البصريون والكوفيون بالتخفيف ، وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واوا. ثم كرّر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر فقال : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، وقيل : سحاب فيه حجارة ، وقيل : ريح فيها حجارة (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي : إنذاري إذا عاينتم العذاب ولا ينفعكم هذا العلم ، وقيل : النذير هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عطاء والضحاك. والمعنى : ستعلمون رسولي وصدقه ، والأوّل أولى. والكلام في (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) كالكلام في (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فهو إما بدل اشتمال ، أو بتقدير من. (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية ؛ كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس وقوم فرعون (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : فكيف كان إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدّر ، أي : أغفلوا ولم ينظروا ، ومعنى (صافَّاتٍ) أنها صافة لأجنحتها في الهواء وتبسيطها عند طيرانها (وَيَقْبِضْنَ) أي : يضممن أجنحتهنّ. قال النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صافّ ، وإذا ضمّهما : قابض ؛ لأنه يقبضهما ، وهذا معنى الطيران ، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ، ومنه قول أبي خراش :

يبادر جنح اللّيل فهو موائل (١)

يحث الجناح بالتّبسّط والقبض

وإنما قال : (وَيَقْبِضْنَ) ولم يقل قابضات كما قال صافات ، لأن القبض يتجدد تارة فتارة ، وأما البسط فهو الأصل ، كذا قيل. وقيل : إن معنى (وَيَقْبِضْنَ) قبضهنّ لأجنحتهنّ عند الوقوف من الطيران ، لا قبضها في حال الطيران ، وجملة (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن ، أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه ، والمعنى : أنه ما يمسكهنّ في الهواء عند الطيران إلا الرّحمن القادر على كلّ شيء (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيء كائنا ما كان (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ

__________________

(١). «واءل الطير» : لجأ. وفي اللسان : مهابذ ، والمهابذة : الإسراع.

٣١٣

الرَّحْمنِ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والمعنى أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله ، والجند : الحزب والمنعة. قرأ الجمهور : «أمّن» هذا بتشديد الميم على إدغام ميم أم في ميم من ، وأم بمعنى بل ، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة ، لأن بعدها هنا من الاستفهامية فأغنت عن ذلك التقدير ، ومن الاستفهامية مبتدأ ، واسم الإشارة خبره ، والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة ، وينصركم صفة لجند ، ومن دون الرّحمن في محل نصب على الحال من فاعل ينصركم ، والمعنى : بل من هذا الحقير الّذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزا نصر الرّحمن. وقرأ طلحة بن مصرّف بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية ، وجملة (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) معترضة مقرّرة لما قبلها ، ناعية عليهم ما هم فيه من الضلال ، والمعنى : ما الكافرون إلا في غرور عظيم من جهة الشيطان يغرّهم به (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) الكلام في هذا كالكلام في الّذي قبله قراءة وإعرابا ، أي : من الّذي يدرّ عليكم الأرزاق من المطر وغيره إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي : لم يتأثروا لذلك ، بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحقّ ونفور عنه ، ولم يعتبروا ، ولا تفكروا ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره ، والعتوّ : العناد والطغيان ، والنفور : الشرود.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) قال : أبو بكر وعمر وعليّ وأبو عبيدة بن الجراح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : (فِي مَناكِبِها) قال : جبالها. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : أطرافها. وأخرج الطبراني وابن عدي ، والبيهقي في الشعب ، والحكيم الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يحبّ العبد المؤمن المحترف». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) قال : في ضلال.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

ضرب سبحانه مثلا للمشرك والموحّد لإيضاح حالهما وبيان مآلهما ، فقال : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) والمكبّ والمنكبّ : الساقط على وجهه ، يقال : كببته فأكبّ وانكبّ ، وقيل : هو الّذي يكب رأسه فلا ينظر يمينا ولا شمالا ولا أماما ، فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه. وقيل : أراد به الأعمى الّذي لا يهتدي إلى الطريق فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه. قال قتادة : هو الكافر يكبّ على معاصي

٣١٤

الله في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على وجهه. والهمزة للاستفهام الإنكاري ، أي : هل هذا الّذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الّذي يريده (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) معتدلا ناظرا إلى ما بين يديه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : على طريق مستو لا اعوجاج به ولا انحراف فيه ، وخبر «من» محذوف لدلالة خبر «من» الأولى وهو «أهدى» عليه ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك ، لأن «من» الثانية معطوفة على «من» الأولى عطف المفرد ، كقولك : أزيد قائم أم عمرو؟ وقيل : أراد بمن يمشي مكبّا على وجهه من يحشر على وجهه إلى النار ، ومن يمشي سويا من يحشر على قدميه إلى الجنة ، وهو كقول قتادة الّذي ذكرناه ، ومثله قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (١). (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أمر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبرهم بأن الله هو الّذي أنشأهم النشأة الأولى (وَجَعَلَ) لهم (السَّمْعَ) ليسمعوا به (وَالْأَبْصارَ) ليبصروا بها ، ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على القليل والكثير ، وقد قدّمنا بيان هذا في مواضع مع زيادة في البيان (وَالْأَفْئِدَةَ) القلوب التي يتفكرون بها في مخلوقات الله ، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحا للحجّة ، وقطعا للمعذرة ، وذمّا لهم على عدم شكر نعم الله ، ولهذا قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) وانتصاب قليلا على أنه نعت مصدر محذوف ، و «ما» مزيدة للتأكيد ، أي : شكرا قليلا أو زمانا قليلا ، وقيل : أراد بقلّة الشكر عدم وجوده منهم. قال مقاتل : يعني أنكم لا تشكرون ربّ هذه النعم فتوحّدونه (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخبرهم أن الله هو الّذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها ، وفرقهم على ظهرها ، وأن حشرهم للجزاء إليه لا إلى غيره. ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون العذاب فقال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : متى هذا الوعد الّذي تذكرونه لنا من الحشر والقيامة والنار والعذاب إن كنتم صادقين في ذلك ، والخطاب منهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن معه من المؤمنين ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبيّنوه لنا ، وهذا منهم استهزاء وسخرية. ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب عليهم ، فقال : (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي : إن وقت قيام الساعة علمه عند الله لا يعلمه غيره ، ومثله قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب ، فقال : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم ، وأبيّن لكم ما أمرني الله ببيانه. ثم ذكر الله سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) يعني رأوا العذاب قريبا ، وزلفة مصدر بمعنى الفاعل ، أي : مزدلفا ، أو حال من مفعول رأوا بتقدير مضاف ، أي : ذا زلفة وقرب ، أو ظرف ، أي : رأوه في مكان ذي زلفة. قال مجاهد : أي قريبا. وقال الحسن : عيانا. قال أكثر المفسرين : المراد عذاب يوم القيامة ، وقال مجاهد : المراد عذاب بدر ، وقيل : رأوا ما وعدوا به من الحشر قريبا منهم ، كما يدلّ عليه قوله : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وقيل : لما رأوا عملهم السيّئ قريبا (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : اسودّت ، وعلتها

__________________

(١). الإسراء : ٩٧.

٣١٥

الكآبة ، وغشيتها الذّلّة ، يقال : ساء الشيء يسوء فهم سيّئ ؛ إذا قبح. قال الزجاج : المعنى تبيّن فيها السوء ، أي : ساءهم ذلك العذاب فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدلّ على كفرهم كقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١). قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وابن محيصن بالإشمام (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي : قيل لهم توبيخا وتقريعا هذا المشاهد الحاضر من العذاب هو العذاب الّذي كنتم به تدّعون في الدنيا : أي تطلبونه وتستعجلون به استهزاء ، على أن معنى تدّعون الدعاء. قال الفراء : تفتعلون من الدعاء ، أي : تتمنون وتسألون ، وبهذا قال الأكثر من المفسرين. وقال الزجاج : هذا الّذي كنتم به تدّعون الأباطيل والأحاديث. وقيل : معنى تدّعون : تكذبون ، وهذا على قراءة الجمهور : «تدّعون» بالتشديد ، فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر ، أو من الدعوى كما قال الزجاج ومن وافقه ، والمعنى : أنهم كانوا يدّعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق ويعقوب والضحاك : تدعون مخففا ، ومعناها ظاهر. وقال قتادة : هو قولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) (٢) وقال الضحاك : هو قولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (٣) الآية. قال النحاس : تدّعون تدعون بمعنى واحد ، كما تقول : قدر واقتدر ، وعدى واعتدى ، إلا أنّ افتعل معناه مضى شيئا بعد شيء ، وفعل يقع على القليل والكثير (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) أي : أخبروني إن أهلكني الله بموت أو قتل ، ومن معي من المؤمنين (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير ذلك إلى أجل ، وقيل المعنى : إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب ، أو رحمنا ، فلم يعذبنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي : فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب. والمعنى : أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله الرسول والمؤمنين معه كما كان الكفار يتمنونه ، أو أمهلهم. وقيل : المعنى ؛ إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء ، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر ، وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ) وحده ، لا نشرك به شيئا (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) لا على غيره ، والتوكّل : تفويض الأمور إليه عزوجل (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) منا ومنكم ، وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف. قرأ الجمهور : «ستعلمون» بالفوقية على الخطاب. وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر ، ثم احتجّ سبحانه عليهم ببعض نعمه ، وخوّفهم بسلب تلك النعمة عنهم فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي : أخبروني إن صار ماؤكم غائرا في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلا ، أو صار ذاهبا في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدّلاء. يقال : غار الماء غورا ، أي : نضب ، والغور : الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة ، كما يقال رجل عدل ، وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي : ظاهر تراه العيون ، وتناله الدّلاء ، وقيل : هو من معن الماء ، أي : كثر. وقال قتادة والضحاك : أي جار ، وقد تقدم معنى المعين في سورة المؤمن. وقرأ ابن عباس : «فمن يأتيكم بماء عذب».

__________________

(١). آل عمران : ١٠٦.

(٢). ص : ١٦.

(٣). الأنفال : ٣٢.

٣١٦

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) قال : في الضلالة (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) قال : مهتديا. وأخرج الخطيب في تاريخه ، وابن النجار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اشتكى ضرسه فليضع إصبعه عليه ، وليقرأ هذه الآية (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)». وأخرج الدار قطني في الأفراد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اشتكى ضرسه فليضع إصبعه عليه ، وليقرأ هاتين الآيتين سبع مرات (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) إلى (يَفْقَهُونَ) (١) و (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) فإنه يبرأ بإذن الله». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) قال : داخلا في الأرض (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) قال : الجاري. وأخرج ابن المنذر عنه (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) قال : يرجع في الأرض. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (بِماءٍ مَعِينٍ) قال : ظاهر. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا (بِماءٍ مَعِينٍ) قال : عذب.

* * *

__________________

(١). الأنعام : ٩٨.

٣١٧

سورة القلم

وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروي عن ابن عباس وقتادة أن من أوّلها إلى قوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) مكيّ ، ومن بعد ذلك إلى قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) مدنيّ ، وباقيها مكي ، كذا قال الماوردي ، وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال : كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء ، وكان أوّل ما نزل من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثم نون ، ثم المزمل ، ثم المدثر. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عنه قال : نزلت سورة ن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

قوله : (ن) قرأ أبو بكر وورش وابن عامر والكسائي وابن محيصن وهبيرة بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو ، وقرأ الباقون بالإظهار. وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعل. وقرأ ابن عامر (١) ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار القسم ، أو لأجل التقاء الساكنين ، وقرأ محمد بن السّميقع وهارون بضمها على البناء. قال مجاهد ومقاتل والسدّي : هو الحوت الّذي يحمل الأرض ، وبه قال مرّة الهمداني وعطاء الخراساني والكلبي. وقيل : إن نون آخر حرف من حروف الرّحمن. وقال ابن زيد : هو قسم أقسم الله به. وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة. وقال عطاء وأبو العالية : هي النون من نصير وناصر. قال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين ، وقيل : هو حرف من حروف الهجاء ، كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك ، وقد عرّفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أوّل سورة البقرة ، والواو في قوله : (وَالْقَلَمِ) واو القسم ، أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان وهو واقع على كل قلم يكتب به ، وقال جماعة من المفسرين : المراد به القلم الّذي كتب به اللوح المحفوظ ، أقسم الله به تعظيما له.

__________________

(١). في تفسير القرطبي : ابن عباس.

٣١٨

قال قتادة : القلم من نعمة الله على عباده (وَما يَسْطُرُونَ) «ما» موصولة ، أي : والّذي يسطرون ، والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره ؛ لأن ذكر آلة الكتابة تدلّ على الكاتب. والمعنى : والّذي يسطرون ، أي : يكتبون كل ما يكتب ، أو الحفظة على ما تقدّم. ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : وسطرهم ، وقيل : الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء ، وجواب القسم قوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ما نافية ، وأنت اسمها ، وبمجنون خبرها. قال الزجاج : أنت هو اسم ما ، وبمجنون خبرها ، وقوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل ، قيل : الباء متعلقة بمضمر هو حال ، كأنه قيل : أنت بريء من الجنون متلبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة. وقيل : الباء للقسم ، أي : وما أنت ونعمة ربك بمجنون. وقيل : النعمة هنا الرحمة ، والآية ردّ على الكفار حيث قالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (١) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) أي : ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوّة ، وقاسيت من أنواع الشدائد (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ، يقال : مننت الحبل إذا قطعته. وقال مجاهد : (غَيْرَ مَمْنُونٍ) : غير محسوب ، وقال الحسن : (غَيْرَ مَمْنُونٍ) : غير مكدّر بالمنّ. وقال الضحاك : أجرا بغير عمل. وقيل : غير مقدّر ، وقيل : غير ممنون به عليك من جهة الناس (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قيل : هو الإسلام والدين ، حكى هذا الواحدي عن الأكثرين. وقيل : هو القرآن ، روي هذا عن الحسن والعوفي. وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله. قال الزجاج : المعنى إنك على الخلق الّذي أمرك الله به في القرآن ، وقيل : هو رفقه بأمته وإكرامه إيّاهم ، وقيل : المعنى : إنك على طبع كريم. قال الماوردي : وهذا هو الظاهر ، وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها سئلت عن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن. وهذه الجملة والتي قبلها معطوفتان على جملة جواب القسم. (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أي : ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحق وانكشف الغطاء ، وذلك يوم القيامة (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) الباء زائدة للتأكيد ، أي : أيكم المفتون بالجنون ، كذا قال الأخفش وأبو عبيدة وغيرهما ، ومثله قول الشاعر :

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج

نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج

وقيل : ليست الباء زائدة ، والمفتون مصدر جاء على مفعول ، كالمعقول والميسور ، والتقدير : بأيكم الفتون أو الفتنة ، ومنه قول الشاعر الراعي :

حتّى إذا لم يتركوا لعظامه

لحما ولا لفؤاده معقولا

أي : عقلا. وقال الفراء : إن الباء بمعنى في ، أي : في الفريق الآخر. ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة «في أيكم المفتون» وقيل : الكلام على حذف مضاف ، أي : بأيكم فتن المفتون ، فحذف المضاف وأقيم المضاف

__________________

(١). الحجر : ٦.

٣١٩

إليه مقامه ، روي هذا عن الأخفش أيضا. وقيل : المفتون : المعذّب ، من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ، ومنه قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١) وقيل : المفتون هو الشيطان ؛ لأنه مفتون في دينه ، والمعنى : بأيكم الشيطان. وقال قتادة : هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر ، والمعنى : سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون ، وجملة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) تعليل للجملة التي قبلها ، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل ، واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما ، والمعنى : هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إلى سبيله الموصل إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة ، فهو مجاز كلّ عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) نهاه سبحانه عن ممايلة (٢) المشركين ، وهم رؤساء كفار مكة ، لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه ، فنهاه عن طاعتهم ؛ أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفار ، أو المراد بالطاعة مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير ، فنهاه الله عن ذلك ، كما يدل عليه قوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) فإن الادّهان : هو الملاينة والمسامحة والمداراة. قال الفرّاء : المعنى لو تلين فيلينوا لك ، وكذا قال الكلبي. وقال الضحاك والسدّي : ودّوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر. وقال الربيع بن أنس : ودّوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة : ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. وقال الحسن : ودّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك. وقال مجاهد : ودّوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيما يلونك. قال ابن قتيبة : كانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدّة ، ويعبدوا الله مدّة. وقوله : (فَيُدْهِنُونَ) عطف على تدهن ، داخل في حيز «لو» ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم يدهنون. قال سيبويه : وزعم قالون أنها في بعض المصاحف «ودّوا لو تدهن فيدهنوا» بدون نون ، والنصب على جواب التمني المفهوم من ودّوا ، والظاهر من اللغة في معنى الادهان هو ما ذكرناه أوّلا (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي : كثير الحلف بالباطل (مَهِينٍ) فعيل من المهانة ، وهي القلة في الرأي والتمييز. وقال مجاهد : هو الكذاب. وقال قتادة : المكثار في الشرّ ، وكذا قال الحسن. وقيل : هو الفاجر العاجز ، وقيل : هو الحقير عند الله ، وقيل : هو الذليل ، وقيل : هو الوضيع (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) الهماز المغتاب للناس. قال ابن زيد : هو الّذي يهمز بأخيه ، وقيل : الهمّاز : الّذي يذكر الناس في وجوههم ، واللمّاز : الّذي يذكرهم في مغيبهم ، كذا قال أبو العالية والحسن وعطاء ابن أبي رباح ، وقال مقاتل عكس هذا. والمشاء بنميم : الّذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، يقال : نمّ ينمّ ؛ إذا سعى بالفساد بين الناس ، ومنه قول الشاعر :

ومولى كبيت النّمل لا خير عنده

لمولاه إلّا سعيه بنميم

وقيل : النميم : جمع نميمة (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي : بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه ، وقيل : هو الّذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام. قال الحسن : يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا (مُعْتَدٍ

__________________

(١). الذاريات : ١٣.

(٢). «مايله» : مالأه.

٣٢٠