فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

كَالْفَخَّارِ) لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير ، وهو السماء والأرض وما فيهما ، ذكر خلق العالم الصغير ، والمراد بالإنسان هنا آدم. قال القرطبي : باتفاق من أهل التأويل ، ولا يبعد أن يراد الجنس لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم ، والصّلصال : الطين اليابس الّذي يسمع له صلصلة ، وقيل : هو طين خلط برمل ، وقيل : هو الطين المنتن ، يقال : صلّ اللحم وأصلّ إذا أنتن ، وقد تقدّم بيانه في سورة الحجر ، والفخار : الخزف الّذي طبخ بالنار ، والمعنى : أنه خلق الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف. (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) يعني خلق أبا الجنّ أو جنس الجن من مارج من نار ، والمارج : اللهب الصافي من النار ، وقيل : الخالص منها ، وقيل : لسانها الّذي يكون في طرفها إذا التهبت ، وقال الليث : المارج : الشّعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وقال المبرد : المارج : النار المرسلة التي لا تمنع ، وقال أبو عبيدة : المارج : خلط النار ، من مرج إذا اختلط واضطرب. قال الجوهري : (مارِجٍ مِنْ نارٍ) : نار لا دخان لها ، خلق منها الجان. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قرأ الجمهور : «ربّ» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ربّ المشرقين والمغربين ، وقيل : مبتدأ وخبره (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) وما بينهما اعتراض ، والأوّل أولى ، والمراد بالمشرقين مشرقا الشتاء والصيف ، وبالمغربين مغرباهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن في ذلك من النعم ما لا يحصى ولا يتيسر لمن أنصف من نفسه تكذيب فرد من أفراده (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) المرج : التخلية والإرسال ، يقال : مرجت الدابة ؛ إذا أرسلتها ، وأصله الإهمال كما تمرج الدّابة في المرعى ، والمعنى : أنه أرسل كل واحد منهما ، يلتقيان : أي يتجاوران لا فصل بينهما في مرأى العين ، ومع ذلك فلم يختلطا ، ولهذا قال : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي : حاجز يحجز بينهما (لا يَبْغِيانِ) أي : لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يدخل فيه ويختلط به. قال الحسن وقتادة : هما بحر فارس والروم. وقال ابن جريج : هما البحر المالح والأنهار العذبة ، وقيل : بحر المشرق والمغرب ، وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان ، وقيل : بحر السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام ، وقيل : يلتقي طرفاهما. وقوله : (يَلْتَقِيانِ) في محلّ نصب على الحال من البحرين ، وجملة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن هذه الآية وأمثالها لا يتيسّر تكذيبها بحال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ). قرأ الجمهور : (يَخْرُجُ) بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل ، وقرأ نافع وأبو عمرو بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول ، واللؤلؤ : الدرّ ، والمرجان : الخرز الأحمر المعروف. وقال الفراء : اللؤلؤ : العظام ، والمرجان ما صغر. قال الواحدي : وهو قول جميع أهل اللغة. وقال مقاتل والسدي ومجاهد : اللؤلؤ صغاره ، والمرجان كباره ، وقال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وإنما يخرج ذلك من المالح لا من العذب ، لأنه إذا خرج من أحد هما فقد خرج منهما ، كذا قال الزجاج وغيره. وقال أبو على الفارسي : هو من باب حذف المضاف ، أي : من أحدهما ، كقوله : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١). وقال الأخفش : زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب ، وقيل : هما بحران يخرج من

__________________

(١). الزخرف : ٣١.

١٦١

أحدهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المرجان ، وقيل : هما بحر السماء وبحر الأرض ، فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه ولا يقدر على إنكاره (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) المراد بالجوار : السفن الجارية في البحر ، والمنشآت : المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بضع وركب ، حتى ارتفعت وطالت ، حتى صارت في البحر كالأعلام ، وهي الجبال ، والعلم : الجبل الطويل. وقال قتادة : المنشآت : المخلوقات للجري. وقال الأخفش : المنشآت : المجريات. وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة الشورى. قرأ الجمهور : (الْجَوارِ) بكسر الراء وحذف الياء لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن مسعود والحسن وأبو عمرو في رواية عنه رفع الراء تناسبا للحذف ، وقرأ يعقوب : بإثبات الياء ، وقرأ الجمهور : (الْمُنْشَآتُ) بفتح الشين ، وقرأ حمزة وأبو بكر في رواية عنه : بكسر الشين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن ذلك من الوضوح والظهور بحيث لا يمكن تكذيبه ولا إنكاره.

وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) قال : بحساب ومنازل يرسلان. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) قال : للناس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : للخلق. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : كل شيء فيه روح. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) قال : أوعية الطلع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) قال : التبن (وَالرَّيْحانُ) قال : خضرة الزرع. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : (الْعَصْفِ) ورق الزرع إذا يبس (وَالرَّيْحانُ) ما أنبتت الأرض من الريحان الّذي يشمّ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : (الْعَصْفِ) الزرع أوّل ما يخرج بقلا (وَالرَّيْحانُ) حتى يستوي على سوقه ولم يسنبل. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : كلّ ريحان في القرآن فهو رزق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال : يعني بأيّ نعمة الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : يعني الجنّ والإنس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) قال : من لهب النار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : خالص النار. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قال : للشمس مطلع في الشتاء ، ومغرب في الشتاء ، ومطلع في الصيف ، ومغرب في الصيف ، غير مطلعها في الشتاء وغير مغربها في الشتاء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : مشرق الفجر ومشرق الشفق. ومغرب الشمس ومغرب الشفق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) قال : أرسل البحرين (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) قال : حاجز (لا يَبْغِيانِ) لا يختلطان. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : بحر السماء وبحر الأرض ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) قال : بينهما من البعد ما لا يبغي

١٦٢

كل واحد منهما على صاحبه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) قال : إذا مطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها ، فما وقع فيها من قطر السماء فهو اللؤلؤ. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال : المرجان : عظام اللؤلؤ. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : اللؤلؤ : ما عظم منه ، والمرجان : اللؤلؤ الصغار. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود قال : المرجان : الخرز الأحمر.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) أي : كلّ من على الأرض من الحيوانات هالك ، وغلّب العقلاء على غيرهم ، فعبّر عن الجميع بلفظ من ، وقيل : أراد من عليها من الجنّ والإنس (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده ، وقد تقدّم في سورة البقرة بيان معنى هذا ، وقيل : معنى (يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) تبقي حجّته التي يتقرّب بها إليه ، والجلال : العظمة والكبرياء ، واستحقاق صفات المدح ، يقال : جلّ الشيء ، أي : عظم ، وأجللته ، أي : أعظمته ، وهو اسم من جلّ. ومعنى ذو الإكرام : إنه يكرم عن كل شيء لا يليق به ، وقيل : إنه ذو الإكرام لأوليائه ، والخطاب في قوله : ربك ، للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يصلح له. قرأ الجمهور : (ذُو الْجَلالِ) على أنه صفة لوجه ، وقرأ أبيّ وابن مسعود : «ذي الجلال» على أنه صفة لربّ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وجه النعمة في فناء الخلق أن الموت سبب النقلة إلى دار الجزاء والثواب. وقال مقاتل : وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يسألونه جميعا لأنهم محتاجون إليه لا يستغني عنه أحد منهم. قال أبو صالح : يسأله أهل السّماوات المغفرة ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا. وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة ، وتسأل لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة ، وكذا قال ابن جريج. وقيل : يسألونه الرحمة. قال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض. والحاصل أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال أو لسان الحال ، من خيري الدارين أو من خيري إحداهما (كُلَّ يَوْمٍ

١٦٣

هُوَ فِي شَأْنٍ) انتصاب «كلّ» بالاستقرار الّذي تضمنه الخبر ، والتقدير : استقرّ سبحانه في شأنه كل وقت من الأوقات ، واليوم عبارة عن الوقت ، والشأن هو الأمر ، ومن جملة شؤونه سبحانه إعطاء أهل السماوات والأرض ما يطلبونه منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم. قال المفسرون : من شأنه أنه يحيي ويميت ، ويرزق ويفقر ، ويعزّ ويذلّ ، ويمرض ويشفي ، ويعطي ويمنع ، ويغفر ويعاقب ، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وقيل : المراد باليوم المذكور هو يوم الدنيا ويوم الآخرة. قال ابن بحر : الدّهر كله يومان : أحدهما مدّة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة. وقيل : المراد كل يوم من أيام الدنيا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن اختلاف شؤونه سبحانه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها ، ولا يتيسر لمكذّب تكذيبها (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) هذا وعيد شديد من الله سبحانه للجنّ والإنس. قال الزجاج والكسائي وابن الأعرابي وأبو علي الفارسي : إن الفراغ هاهنا ليس هو الفراغ من شغل ، ولكن تأويله القصد ، أي : سنقصد لحسابكم. قال الواحدي حاكيا عن المفسرين : إن هذا تهديد منه سبحانه لعباده ، ومن هذا قول القائل لمن يريد تهديده : إذن أتفرغ لك ، أي : أقصد قصدك ، وفرغ يجيء بمعنى قصد ، وأنشد ابن الأنباري قول الشاعر (١) :

ألان وقد فرغت إلى نمير

فهذا حين كنت لها عذابا

يريد : وقد قصدت ، وأنشد النحاس قول الشاعر (٢) :

فرغت إلى القين المقيّد في الحجل (٣)

أي : قصدت. وقيل : إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على المعصية ، ثم قال : سنفرغ لكم مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه ، وبه قال الحسن ومقاتل وابن زيد ، ويكون الكلام على طريق التمثيل. قرأ الجمهور : (سَنَفْرُغُ) بالنون وضمّ الراء ، وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية مفتوحة مع ضم الرّاء ، أي : سيفرغ الله ، وقرأ الأعرج بالنون مع فتح الراء. قال الكسائي : هي لغة تميم ، وقرأ عيسى الثقفي بكسر النون وفتح الراء ، وقرأ الأعمش وإبراهيم بضمّ الياء وفتح الراء على البناء للمفعول. وسمّى الجنّ والإنس ثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غير هما من حيوانات الأرض ، وقيل : سمّوا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا ، كما في قوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٤) وقال جعفر الصادق : سيما ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب ، وجمع في قوله : (لَكُمْ) ثم قال : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لأنهما فريقان ، وكل فريق جمع. قرأ الجمهور : بفتح الهاء ، وقرأ أهل الشام بضمها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها ما في هذا التهديد من النعم ، فمن ذلك أنه ينزجر به المسيء عن إساءته ، ويزداد به المحسن إحسانا فيكون ذلك سببا للفوز بنعيم الدار الآخرة الّذي

__________________

(١). هو جرير.

(٢). هو جرير أيضا.

(٣). وصدره : ولمّا اتّقى القين العراقي باسته.

(٤). الزلزلة : ٢.

١٦٤

هو النعيم في الحقيقة (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قدّم الجنّ هنا لكون خلق أبيهم متقدّما على خلق آدم ، ولوجود جنسهم قبل جنس الإنس (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره (فَانْفُذُوا) منها وخلصوا أنفسكم ، يقال : نفذ الشيء من الشيء ؛ إذا خلص منه كما يخلص السهم (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي : لا تقدرون على النفوذ إلا بقوّة وقهر ، ولا قوّة لكم على ذلك ولا قدرة ، والسلطان : القوّة التي يتسلّط بها صاحبها على الأمر ، والأمر بالنفوذ أمر تعجيز. قال الضحاك : بينما الناس في أسواقهم إذ انفتحت السماء ونزلت الملائكة فهرب الجنّ والإنس فتحدق بهم الملائكة ، فذلك قوله : (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ). قال ابن المبارك : إن ذلك يكون في الآخرة. وقال الضحاك أيضا : معنى الآية : إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقيل : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان ، أي : ببينة من الله. وقال قتادة : معناها لا تنفذوا إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل الباء بمعنى إلى ، أي : لا تنفذون إلا إلى سلطان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ومن جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد ، فإنها تزيد المحسن إحسانا ، وتكفّ المسيء عن إساءته ، مع أن من حذّركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) قرأ الجمهور : (يُرْسَلُ) بالتحتية مبنيا للمفعول ، وقرأ زيد بن عليّ بالنون ونصب (شُواظٌ). والشواظ : اللهب الّذي لا دخان معه. وقال مجاهد : الشواظ اللهب الأخضر المتقطع من النار. وقال الضحاك : هو الدخان الّذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب. وقال الأخفش وأبو عمرو : هو النار والدخان جميعا. قرأ الجمهور : (شُواظٌ) بضم الشين ، وقرأ ابن كثير بكسرها وهما لغتان ، وقرأ الجمهور (وَنُحاسٌ) بالرفع عطفا على شواظ ، وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو بخفضه عطفا على نار ، وقرأ الجمهور : (نُحاسٌ) بضمّ النون ، وقرأ مجاهد وعكرمة وحميد وأبو العالية بكسرها. وقرأ مسلم بن جندب والحسن «ونحس». والنحاس : الصّفر المذاب يصبّ على رؤوسهم ، قاله مجاهد وقتادة وغير هما. وقال سعيد بن جبير : هو الدخان الّذي لا لهب له ، وبه قال الخليل. وقال الضحاك : هو درديّ الزيت المغلي. وقال الكسائي : هو النار التي لها ريح شديدة ، وقيل : هو المهل (فَلا تَنْتَصِرانِ) أي : لا تقدران على الامتناع من عذاب الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها هذا الوعيد الّذي يكون به الانزجار عن الشرّ والرغوب في الخير (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي : انصدعت بنزول الملائكة يوم القيامة (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي : كوردة حمراء. قال سعيد بن جبير وقتادة : المعنى : فكانت حمراء ، وقيل : فكانت كلون الفرس الورد ، وهو الأبيض الّذي يضرب إلى الحمرة أو الصّفرة. قال الفراء وأبو عبيدة : تصير السماء كالأديم لشدّة حرّ النار. وقال الفراء أيضا : شبّه تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل ، وشبّه الورد في ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه. والدهان : جمع دهن ، وقيل : المعنى تصير السماء في حمرة الورد ، وجريان الدهن ، أي : تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لذوبانها ، وقيل : الدهان : الجلد الأحمر. وقال الحسن : (كَالدِّهانِ) أي : كصبيب

١٦٥

الدهن ، فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا. وقال زيد بن أسلم : إنها تصير كعكر الزيت. قال الزجاج : إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر. قال الماوردي : وزعم (١) المتقدّمون أن أصل لون السماء الحمرة ، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها ما في هذا التهديد والتخويف من حسن العاقبة بالإقبال على الخير والإعراض عن الشرّ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي : يوم تنشق السماء لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه ، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم ، والجمع بين هذه الآية وبين مثل قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) أن ما هنا يكون في موقف والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة. وقيل : إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم ، لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال وحفظها على العباد ، ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع ، ومثل هذه الآية قوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٣) قال أبو العالية : المعنى لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم. وقيل : إن عدم السؤال هو عند البعث ، والسؤال هو في موقف الحساب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد لكثرة ما يترتّب عليه من الفوائد (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال. السيما : العلامة. قال الحسن : سيماهم : سواد الوجوه وزرقة الأعين ، كما في قوله : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (٤) وقال : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (٥) وقيل : سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) والجار والمجرور في محل رفع على أنه النائب ، والنواصي : شعور مقدم الرؤوس ، والمعنى : أنها تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي ، وتلقيهم الملائكة في النار. قال الضّحّاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره. وقيل : تسحبهم الملائكة إلى النار ، تارة تأخذ بنواصيهم وتجرّهم على وجوههم ، وتارة تأخذ بأقدامهم وتجرّهم على رؤوسهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد والوعيد البالغ الّذي ترجف له القلوب وتضطرب لهوله الأحشاء (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) أي : يقال لهم عند ذلك هذه جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها ، مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام؟ فقيل : يقال لهم : هذه جهنم ، تقريعا لهم وتوبيخا (يَطُوفُونَ بَيْنَها) أي : بين جهنم فتحرقهم (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) فتصبّ على وجوههم ، والحميم : الماء الحارّ ، والآن : الّذي قد انتهى حرّه وبلغ غايته. كذا قال الفراء. قال الزجاج : أنى يأني أنّى فهو آن : إذا انتهى في النضج والحرارة ، ومنه قول النابغة الذّبياني :

وتخضب لحية غدرت وخانت

بأحمر من نجيع الجوف آن

وقيل : هو واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار ، فيغمسون فيه. قال قتادة : يطوفون مرّة بين

__________________

(١). الزّعم : القول يشكّ فيه.

(٢). الحجر : ٩٢.

(٣). القصص : ٧٨.

(٤). طه : ١٠٢.

(٥). آل عمران : ١٠٦.

١٦٦

الحميم ومرّة بين الجحيم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف وما يحصل به من الترغيب في الخير والترهيب عن الشرّ.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) قال : ذو الكبرياء والعظمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) قال : مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك. وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده والبزار وابن جرير والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مندة وابن مردويه وأبو نعيم وابن عساكر عن عبد الله بن منيب قال : «تلا علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا : يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال : أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين». وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن ماجة وابن أبي عاصم والبزار وابن جرير وابن المنده وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه وابن عساكر ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قال : «من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين». زاد البزار «ويجيب داعيا» ، وقد رواه البخاري تعليقا ، وجعله من كلام أبي الدرداء. وأخرج البزار عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قال : «يغفر ذنبا ويفرج كربا». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) قال : هذا وعيد من الله لعباده ، وليس بالله شغل ، وفي قوله : (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) يقول : لا تخرجون من سلطاني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) قال : لهب النار (وَنُحاسٌ) قال : دخان النار. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (وَنُحاسٌ) : قال : الصفر يعذبون به. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (فَكانَتْ وَرْدَةً) يقول : حمراء (كَالدِّهانِ) قال : هو الأديم الأحمر. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) قال : مثل لون الفرس الورد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ، لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول لهم : لم عملتم كذا وكذا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عنه أيضا في قوله : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) قال : تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه ويجمع فيكسر كما يكسر الحطب في التنور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال : هو الّذي انتهى حرّه.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ

١٦٧

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

لما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم ، فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) مقامه سبحانه : هو الموقف الّذي يقف فيه العباد للحساب ، كما في قوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١) فالمقام مصدر بمعنى القيام ، وقيل : المعنى : خاف قيام ربه عليه ، وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على أفعاله وأقواله ، كما في قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٢) قال مجاهد والنّخعي : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه.

واختلف في الجنتين ، فقال مقاتل : يعني جنة عدن وجنة النعيم ، وقيل : إحداهما التي خلقت له والأخرى ورثها. وقيل : إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه. وقيل : إحداهما أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقيل : جنة للخائف الإنسي ، وجنة للخائف الجنّي. وقيل : جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية ، وقيل : جنة للعقيدة التي يعتقدها ، وأخرى للعمل الّذي يعمله ، وقيل : جنة بالعمل وجنة بالتفضّل ، وقيل : جنة روحانية وجنة جسمانية ، وقيل : جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته ، وقال الفرّاء : إنما هي جنة واحدة ، والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي. قال النحاس : وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله ، فإن الله يقول : «جنتان» ويصفهما بقوله فيهما إلخ. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها هذه النعمة العظيمة ، وهي إعطاء الخائف من مقام ربّه جنتين متصفتين بالصفات الجليلة العظيمة (ذَواتا أَفْنانٍ) هذه صفة للجنتين ، وما بينهما اعتراض ، والأفنان : الأغصان ، واحدها فنن ، وهو الغصن المستقيم طولا ، وبهذا قال مجاهد وعكرمة وعطية وغيرهم. وقال الزجاج : الأفنان : الألوان ، واحدها فنّ ، وهو الضرب من كل شيء ، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير ، وجمع عطاء بين القولين ، فقال : في كلّ غصن فنون من الفاكهة ، ومن إطلاق الفنن على الغصن قول النابغة :

دعاء حمامة تدعو هديلا

مفجّعة على فنن تغنّي

وقول الآخر :

__________________

(١). المطففين : ٦.

(٢). الرعد : ٣٣.

١٦٨

ما هاج شوقك من هديل حمامة

تدعو على فنن الغصون حماما

وقيل : معنى (ذَواتا أَفْنانٍ) ذواتا فضل وسعة على ما سواهما ، قاله قتادة ، وقيل : الأفنان : ظلّ الأغصان على الحيطان ، روي هذا عن مجاهد وعكرمة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ولا بموضع للإنكار (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) هذا أيضا صفة أخرى ل «جنتان» ، أي : في كل واحدة منهما عين جارية. قال الحسن : إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم. وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين ، قيل : كلّ واحدة منهما مثل الدنيا أضعافا مضاعفة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) هذا صفة ثالثة لجنتان ، والزوجان : الصنفان والنوعان ، والمعنى : أن في الجنتين من كلّ نوع يتفكّه به ضربين يستلذ بكلّ نوع من أنواعه ، قيل : أحد الصنفين رطب والآخر يابس ، لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن في مجرّد تعداد هذه النعم ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير والترهيب عن فعل الشرّ ما لا يخفى على من يفهم ، وذلك نعمة عظمى ومنّة كبرى ، فكيف بالتنعّم به عند الوصول إليه (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) انتصاب متكئين على الحال من فاعل قوله : (وَلِمَنْ خافَ) ، وإنما جمع حملا على معنى من ، وقيل : عاملها محذوف ، والتقدير : يتنعمون متكئين. وقيل : منصوب على المدح ، والفرش : جمع فراش ، والبطائن : هي التي تحت الظهائر ، وهي جمع بطانة. قال الزجاج : هي ما يلي الأرض ، والإستبرق : ما غلظ من الديباج ، وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر؟ قيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال : هذا مما قال الله فيه : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) قيل : إنما اقتصر على ذكر البطائن ؛ لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر. وقال الحسن : بطائنها من إستبرق من نور جامد. وقال الحسن : البطائن هي الظهائر ، وبه قال الفراء : وقال : قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة ؛ لأن كلّ واحد منهما يكون وجها ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء لظاهرها الّذي نراه ، وأنكر ابن قتيبة هذا ، وقال : لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) مبتدأ وخبر ، والجنى : ما يجتنى من الثمار ، قيل : إن الشجرة تدنو حتى يجنيها من يريد جناها. ومنه قول الشاعر (٢) :

هذا جناي وخياره فيه

إذ كلّ جان يده إلى فيه

قرأ الجمهور : (فُرُشٍ) بضمتين ، وقرأ أبو حيوة بضمة وسكون ، وقرأ الجمهور : (جَنَى) بفتح الجيم ، وقرأ عيسى بن عمر بكسرها ، وقرأ عيسى أيضا بكسر النون على الإمالة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنها كلها بموضع لا يتيسّر لمكذّب أن يكذب بشيء منها ؛ لما تشتمل عليه من الفوائد العاجلة

__________________

(١). السجدة : ١٧.

(٢). هو عمرو بن عدي اللخمي.

١٦٩

والآجلة (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي : في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج : وإنما قال فيهنّ ؛ لأنه عنى الجنتين وما أعدّ لصاحبهما فيهما من النعيم ، وقيل فيهنّ : أي في الفرش التي بطائنها من إستبرق. ومعنى (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أنهنّ يقصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الصافات (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) قال الفراء : الطمث : الافتضاض ، وهو النكاح بالتّدمية ، يقال : طمث الجارية : إذا افترعها. قال الواحدي : قال المفسرون : لم يطأهن ولم يغشهنّ ولم يجامعهنّ قبلهم أحد. قال مقاتل : لأنّهن خلقن في الجنة ، والضمير في «قبلهم» يعود إلى الأزواج المدلول عليه بقاصرات الطرف ، وقيل : يعود إلى متكئين ، والجملة في محل رفع صفة لقاصرات ؛ لأن إضافتها لفظية ، وقيل : الطمث : المسّ ، أي : لم يمسسهنّ ، قاله أبو عمرو. وقال المبرد : أي : لم يذللهنّ ، والطمث : التذليل ، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق :

وقعن إليّ لم يطمثن قبلي

وهنّ أصحّ من بيض النّعام

قرأ الجمهور : (يَطْمِثْهُنَ) بكسر الميم ، وقرأ الكسائي بضمها ، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرّف بفتحها ، وفي هذه الآية بل في كثير من آيات هذه السورة دليل أن الجنّ يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه وانتهوا عن مناهيه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن في مجرّد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة ومنّة عظيمة ، لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة والفرار من الأعمال الطالحة ، فكيف بالوصول إلى هذه النعم والتنعم بها في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) هذا صفة لقاصرات ، أو حال منهنّ ، شبههنّ سبحانه في صفاء اللون مع حمرته بالياقوت والمرجان ، والياقوت : هو الحجر المعروف ، والمرجان قد قدّمنا الكلام فيه في هذه السورة على الخلاف في كونه صغار الدرّ ، أو الأحمر المعروف. قال الحسن : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان ، وإنما خصّ المرجان على القول بأنه صغار الدرّ ؛ لأن صفاءها أشدّ من صفاء كبار الدرّ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شيء منها كائنة ما كانت ، فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن الجزيلة؟ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، والمعنى ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة ، كذا قال ابن زيد وغيره. قال عكرمة : هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة ، وقال الصادق : هل جزاء من أحسنت عليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الرازي : في هذه الآية وجوه كثيرة ، حتى قيل : إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول ، إحداها قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (١) وثانيها (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) (٢) وثالثها (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). قال محمد بن الحنفية : هي للبرّ والفاجر ، البرّ في الآخرة ، والفاجر في الدنيا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة بالخلق والرزق ، والإرشاد إلى العمل الصالح ، والزّجر عن العمل الّذي لا يرضاه

__________________

(١). البقرة : ١٥٢.

(٢). الإسراء : ٨.

١٧٠

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي : ومن دون تينك الجنتين الموصوفتين بالصفات المتقدّمة جنتان أخريان لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة ، ومعنى «من دونهما» أي : من أمامهما ومن قبلهما ، أي : هما أقرب منهما وأدنى إلى العرش ، وقيل : الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم ، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قال ابن جريج : هي أربع جنات : جنتان منهما للسابقين المقرّبين (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) و «عينان تجريان» ، وجنتان لأصحاب اليمين (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) و (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) قال ابن زيد : إن الأوليين من ذهب للمقرّبين ، والأخريين من ورق (١) لأصحاب اليمين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنها كلها حقّ ونعم لا يمكن جحدها. ثم وصف سبحانه هاتين الجنتين الأخريين فقال : (مُدْهامَّتانِ) وما بينهما اعتراض. قال أبو عبيدة والزجاج : من خضرتهما قد اسودّتا من الرّيّ ، وكل ما علاه السواد ريا فهو مدهم. قال مجاهد : مسودتان ، والدّهمة في اللغة : السواد ، يقال فرس أدهم وبعير أدهم ؛ إذا اشتدّت زرقته حتى ذهب البياض الّذي فيه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن جميعها نعم ظاهرة واضحة لا تجحد ولا تنكر (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) النضخ : فوران الماء من العين ، والمعنى : أن في الجنتين المذكورتين عينين فوّارتين. قال أهل اللغة : والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة. قال الحسن ومجاهد : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر. وقال سعيد بن جبير : إنها تنضخ بأنواع الفواكه والماء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنها ليست بموضع للتكذيب ولا بمكان للجحد (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) هذا من صفات الجنتين المذكورتين قريبا ، والنخل والرمان وإن كانا من الفاكهة لكنهما خصّصا بالذكر لمزيد حسنهما وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه ؛ كما حكاه الزجاج والأزهري وغير هما. وقيل : إنّما خصّهما لكثرتهما في أرض العرب ، وقيل : خصّهما لأن النخل فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء. وقد ذهب إلى أنهما من جملة الفاكهة جمهور أهل العلم ، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة ، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها هذه النعم التي في جنات النعيم ، ومجرّد الحكاية لها أثر في نفوس السامعين وتجذبهم إلى طاعة ربّ العالمين (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) قرأ الجمهور : (خَيْراتٌ) بالتخفيف ، وقرأ قتادة وابن السّميقع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي وابن مقسم والنهدي بالتشديد ، فعلى القراءة الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين ، يقال : امرأة خيرة وأخرى شرّة ، أو جمع خيرة مخفّف خيّرة ، وعلى القراءة الثانية جمع خيّرة بالتشديد. قال الواحدي : قال المفسرون : الخيرات : النساء خيرات الأخلاق وحسان الوجوه. قيل : وهذه الصفة عائدة إلى الجنان الأربع ، ولا وجه لهذا ، فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهنّ قاصرات الطرف (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) وبين الصفتين بون بعيد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن شيئا منها كائنا ما كان لا يقبل التكذيب (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي : محبوسات ، ومنه القصر ، لأنه يحبس من فيه ، والحور جمع حوراء ، وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها ، وقد تقدّم بيان معنى الحوراء

__________________

(١). «ورق» : فضة.

١٧١

والخلاف فيه. وقيل معنى (مَقْصُوراتٌ) : أنهنّ قصرن على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم ، وحكاه الواحدي عن المفسرين. والأوّل أولى ، وبه قال أبو عبيدة ومقاتل وغير هما. قال في الصّحاح : قصرت الشيء أقصره قصرا : حبسته ، والمعنى : أنهنّ خدّرن في الخيام. والخيام جمع خيمة ، وقيل : جمع خيم ، والخيم : جمع خيمة ، وهي أعواد تنصب وتظلّل بالثياب ، فتكون أبرد من الأخبية. قيل : الخيمة من خيام الجنة درّة مجوّفة فرسخ في فرسخ. وارتفاع «حور» على البدلية من خيرات (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) قد تقدّم تفسيره في صفة الجنتين الأوليين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنها كلها نعم لا تكفر ومنن لا تجحد (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) انتصاب (مُتَّكِئِينَ) على الحال أو المدح كما سبق ، قال أبو عبيدة : الرفارف : البسط ، وبه قال الحسن ومقاتل والضحاك وغيرهم. وقال ابن عيينة : هي الزرابي. وقال ابن كيسان : هي المرافق. وروي عن أبي عبيدة أنه قال : هي حاشية الثوب. وقال الليث : ضرب من الثياب الخضر. وقيل : الفرش المرتفعة ، وقيل : كل ثوب عريض. قال في الصحاح : والرّفرف : ثياب خضر تتّخذ منها المحابس ، الواحدة رفرفة. وقال الزجاج : قالوا الرّفرف هنا رياض الجنة ، وقالوا : الرّفرف : الوسائد ، وقالوا : الرّفرف : المحابس ا ه. ومن القائلين بأنها رياض الجنة سعيد بن جبير ، واشتقاق الرّفرف من رفّ يرفّ ؛ إذا ارتفع ، ومنه رفرفة الطائر ، وهي تحريك جناحيه في الهواء. قرأ الجمهور : (رَفْرَفٍ) على الإفراد. وقرأ عثمان بن عفان والحسن والجحدري رفارف على الجمع (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقري : الزرابي والطنافس الموشية. قال أبو عبيدة : كلّ وشي من البسط عبقريّ ، وهو منسوب إلى أرض يعمل فيه الوشي. قال الفرّاء : العبقريّ : الطنافس الثخان. وقيل : الزرابي ، وقيل : البسط ، وقيل : الديباج. قال ابن الأنباري : الأصل فيه أن عبقر قرية تسكنها الجنّ ينسب إليها كل فائق ، قال الخليل : العبقريّ عند العرب كل جليل فاضل فاخر من الرجال والنساء ، ومنه قول زهير :

بخيل عليها جنّة عبقريّة

جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا

قال الجوهريّ : العبقريّ موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد :

كهول وشبّان كجنّة عبقر (١)

ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوّته فقالوا : عبقري ، وهو واحد وجمع. قرأ الجمهور : (عَبْقَرِيٍ) وقرأ عثمان بن عفان والحسن والجحدري «عباقريّ» وقرئ «عباقر» وهما نسبة إلى عباقر اسم بلد. وقال قطرب : ليس بمنسوب ، وهو مثل كرسيّ وبختيّ وبخاتي. قرأ الجمهور (خُضْرٍ) بضم الخاء وسكون الضاد ، وقرئ بضمهما وهي لغة قليلة. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن كل واحد منها أجلّ من أن يتطرق إليه التكذيب ، وأعظم من أن يجحده جاحد أو ينكره منكر ، وقد

__________________

(١). وصدره : ومن فاد من إخوانهم وبنيهم.

١٧٢

قدّمنا في أوّل هذه السورة وجه تكرير هذه الآية فلا نعيده (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) تبارك : تفاعل ، من البركة ، قال الرّازي : وأصل التبارك من التبرّك ، وهو الدوام والثبات ، ومنه برك البعير وبركة الماء فإن الماء يكون دائما ، والمعنى : دام اسمه وثبت أو دام الخير عنده ، لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير ، أو يكون معناه علا وارتفع شأنه. وقيل معناه : تنزيه الله سبحانه وتقديسه ، وإذا كان هذا التبارك منسوبا إلى اسمه عزوجل ، فما ظنك بذاته سبحانه ، وقيل : الاسم بمعنى الصفة ، وقيل : هو مقحم كما في قول الشاعر :

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

وقد تقدّم تفسير ذي الجلال والإكرام في هذه السورة. قرأ الجمهور : (ذِي الْجَلالِ) على أنه صفة للربّ سبحانه. وقرأ ابن عامر ذو الجلال على أنه صفة لاسم.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) قال : وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدّوا فرائضه الجنة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية يقول : خاف ثم اتقى ، والخائف : من ركب طاعة الله وترك معصيته. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن عطاء : أنها نزلت في أبي بكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب مثله. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في الآية قال : لمن خافه في الدنيا. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن منيع والحاكم والترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدّرداء : «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثانية : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثانية : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق ، فقال الثالثة : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق ، قال نعم : وإن رغم أنف أبي الدّرداء». وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقال أبو الدرداء : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال : وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي الدّرداء». وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبيّ الدّرداء في قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) قال : قيل لأبي الدّرداء : وإن زنى وإن سرق؟ قال : من خاف مقام ربه ولم يزن ولم يسرق. وأخرج ابن مردويه عن ابن شهاب قال : كنت عند هشام بن عبد الملك ، فقال قال أبو هريرة : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) قال أبو هريرة : وإن زنى وإن سرق؟ فقلت : إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فلما نزلت الفرائض ذهب هذا». وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنان الفردوس أربع جنات : جنتان من ذهب حليتهما وأبنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة حليتهما وأبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) وفي قوله :

١٧٣

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) قال : «جنتان من ذهب للمقرّبين ، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي موسى في قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) قال : جنتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من فضة للتابعين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ذَواتا أَفْنانٍ) قال : ذواتا ألوان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ذَواتا أَفْنانٍ) قال : ذواتا ألوان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : فنّ غصونهما يمسّ بعضها بعضا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا قال : الفنّ : الغصن. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن ابن مسعود في قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) قال : أخبرتم بالبطائن ، فكيف الظهائر؟ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه قيل له : بطائنها من إستبرق ، فما الظواهر؟ قال : ذلك مما قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عنه في قوله : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) قال : جناها : ثمرها ، والداني : القريب منك يناله القائم والقاعد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عنه أيضا في قوله : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) يقول : عن غير أزواجهنّ (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) يقول : لم يدن منهنّ أو لم يدمهنّ. وأخرج أحمد وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) قال : تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة ، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب ، وإنه يكون عليها سبعون ثوبا ، وينفذها بصره حتى يرى مخّ ساقها من وراء ذلك». وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السريّ والترمذيّ ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة ، حتى يرى مخّها ، وذلك أن الله يقول : كأنهنّ الياقوت والمرجان ، فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه» وقد رواه الترمذي موقوفا ، وقال : هو أصحّ. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، وضعّفه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) قال : ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة». وأخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الأصول ، والبغويّ في تفسيره ، والديلمي في مسند الفردوس ، وابن النجار في تاريخه ، عن أنس مرفوعا مثله ، وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا في الآية قال : «هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلا أن أدخله الجنة». وأخرج ابن النجار في تاريخه ، عن عليّ بن أبي طالب مرفوعا مثل حديث ابن عمر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) قال : هل جزاء من قال لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة. وأخرج ابن عديّ وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي ، والبيهقيّ في الشعب ، وضعّفه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل الله عليّ هذه الآية في

١٧٤

سورة الرّحمن للكافر والمسلم : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان». وأخرجه ابن مردويه مرفوعا على ابن عباس. وأخرج هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (مُدْهامَّتانِ) قال : هما خضراوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : قد اسودّتا من الخضرة من الريّ من الماء. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (مُدْهامَّتانِ) قال : خضراوان. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (نَضَّاخَتانِ) قال : فائضتان. وأخرج عبد بن حميد عنه قال : ينضخان بالماء. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : (خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : لكل مسلم خيرة ، ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها من الله كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك ، لا مراحات ، ولا طمّاحات ، ولا بخرات (١) ، ولا دفرات (٢) ، حور عين كأنهن بيض مكنون. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا. وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (حُورٌ) قال : بيض (مَقْصُوراتٌ) قال : محبوسات (فِي الْخِيامِ) قال : في بيوت اللؤلؤ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال : الحور : سود الحدق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيام درّ مجوّف». وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الخيمة درّة مجوّفة طولها في السماء ستون ميلا ، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن». وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) قال : فضول المحابس والفرش والبسط. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب قال : هي فضول المحابس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر ، والبيهقي في البعث ، من طرق عن ابن عباس (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال : المحابس (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) قال : الزرابي. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : الرّفرف : الرّياض ، والعبقريّ : الزرابي.

* * *

__________________

(١). بخر الفم : أنتنت رائحته.

(٢). دفر الشيء : خبثت رائحته. والأدفر : من فاح ريح صنانه. والدّفار : المنتنة.

١٧٥

سورة الواقعة

هي سبع وتسعون ، أو ست وتسعون آية وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١) وقال الكلبي : إنها مكية إلا أربع آيات منها ، وهي (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ـ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٢) وقوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ـ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٣). وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : نزلت سورة الواقعة بمكة. وأخرج عن ابن الزبير مثله. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا». وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة الواقعة سورة الغنى ، فاقرؤوها ، وعلّموها أولادكم». وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى» وقد تقدّم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شيّبتني هود والواقعة» ا ه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الواقعة : اسم للقيامة كالآزفة وغيرها ، وسمّيت واقعة لأنها كائنة لا محالة ، أو لقرب وقوعها ، أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد ، وانتصاب «إذا» بمضمر ، أي : اذكر وقت وقوع الواقعة ، أو بالنفي المفهوم من قوله : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي : لا يكون عند وقوعها تكذيب ، والكاذبة مصدر كالعاقبة ، أي : ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلا ، وقيل : «إذا» شرطية وجوابها مقدّر ،

__________________

(١). الواقعة : ٨٢.

(٢). الواقعة : ٨١ ـ ٨٢.

(٣). الواقعة : ١٣ ـ ١٤.

١٧٦

أي : إذا وقعت كان كيت وكيت ، والجواب هذا هو العامل فيها ، وقيل : إنها شرطية ، والعامل فيها الفعل الّذي بعدها ، واختار هذا أبو حيان ، وقد سبقه إلى هذا مكيّ فقال : والعامل وقعت. قال المفسرون : والواقعة هنا هي النفخة الآخرة ، ومعنى الآية : أنها إذا وقعت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلا ، أو لا يكون هناك نفس تكذيب على الله وتكذيب بما أخبر عنه من أمور الآخرة. قال الزجاج : «ليس لوقعتها كاذبة» أي : لا يردّها شيء ، وبه قال الحسن وقتادة. وقال الثوري : ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي : ليس لها تكذيب ، أي : لا ينبغي أن يكذب بها أحد (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قرأ الجمهور برفعهما على إضمار مبتدأ ، أي : هي خافضة رافعة. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بنصبهما على الحال. قال عكرمة والسدّي ومقاتل : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى ، أي : أسمعت القريب والبعيد. وقال قتادة : خفضت أقواما في عذاب الله ، ورفعت أقواما إلى طاعة الله. وقال محمد بن كعب : خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين ، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين. والعرب تستعمل الخفض والرفع في المكان والمكانة والعزّ والإهانة ، ونسبة الخفض والرفع إليها على طريق المجاز ، والخافض والرّافع في الحقيقة هو الله سبحانه. (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي : إذا حرّكت حركة شديدة ، يقال : رجّه يرجّه رجّا إذا حرّكه ، والرّجة : الاضطراب ، وارتجّ البحر : اضطرب. قال المفسرون : ترتجّ كما يرتجّ الصبيّ في المهد حتى ينهدم كل ما عليها ، وينكسر كل شيء من الجبال وغيرها. قال قتادة ومقاتل ومجاهد : معنى رجّت : زلزلت ، والظرف متعلق بقوله : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي : تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبس الجبال ؛ لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض وينخفض ما هو مرتفع. وقيل : إنه بدل من الظرف الأوّل ذكره الزجاج ، فيكون معنى وقوع الواقعة هو رجّ الأرض ، وبس الجبال. (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) البس : الفتّ ، يقال : بسّ الشيء إذا فتّه حتى يصير فتاتا ، ويقال : بسّ السويق : إذابته بالسمن أو بالزيت. قال مجاهد ومقاتل : المعنى أن الجبال فتت فتا. وقال السدّي : كسرت كسرا. وقال الحسن : قلعت من أصلها. وقال مجاهد أيضا. بست كما يبس الدقيق بالسمن أو بالزيت ، والمعنى : أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت. وقال أبو زيد : البسّ السوق ، والمعنى على هذا : سيقت الجبال سوقا. قال أبو عبيد : بسّ الإبل وأبسّها لغتان ؛ إذا زجرها. وقال عكرمة : المعنى هدّت هدّا (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي : غبارا متفرّقا منتشرا. قال مجاهد : الهباء الشعاع الّذي يكون في الكوّة كهيئة الغبار ، وقيل : هو الرّهج الّذي يسطع من حوافر الدّواب ثم يذهب ، وقيل : ما تطاير من النار إذا اضطرمت على سورة الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا ، وقد تقدم بيانه في الفرقان عند تفسير قوله : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (١) قرأ الجمهور (مُنْبَثًّا) بالمثلثة. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة بالتاء المثناة من فوق. أي : منقطعا ، من قولهم : بتّه الله ، أي : قطعه. ثم ذكر سبحانه أحوال الناس واختلافهم فقال : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) والخطاب لجميع الناس أو للأمة الحاضرة ، والأزواج : الأصناف ، والمعنى : وكنتم في ذلك اليوم أصنافا ثلاثة. ثم فسّر سبحانه هذه الأصناف فقال : (فَأَصْحابُ

__________________

(١). الفرقان : ٢٣.

١٧٧

الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي : أصحاب اليمين ، وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، أو الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، وأصحاب الميمنة مبتدأ ، وخبره : ما أصحاب الميمنة ، أي : أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم ، والاستفهام للتعظيم والتفخيم ، وتكرير المبتدأ هنا بلفظه مغن عن الضمير الرّابط ، كما في قوله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (١) و (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) (٢) ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التفخيم والتعظيم ، والكلام في (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) كالكلام في أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، والمراد الّذي يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، أو يأخذون صحائف أعمالهم بشمالهم ، والمراد تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة ، كأنه قيل : فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة وحسن الحال ، وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وسوء الحال. وقال السدّي : أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه ، وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا عن شماله. وقال زيد بن أسلم : أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ، وأصحاب المشأمة هم الذين أخذوا من شقه الأيسر. وقال ابن جريج : أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات ، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع : أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة. وقال المبرد : أصحاب الميمنة أصحاب التقدّم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر ، والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك ، أي : اجعلني من المتقدّمين ولا تجعلني من المتأخرين ، ومنه قول ابن الدّمينة :

أبنيّتي أفي يمنى يديك جعلتني

فأفرح أم صيّرتني في شمالك

ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث فقال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم كما مرّ في القسمين الأوّلين ، كما تقول أنت أنت وزيد زيد ، والسابقون مبتدأ ، وخبره السابقون. وفيه تأويلان : أحد هما أنه بمعنى السابقون هم الذين اشتهرت حالهم بذلك. والثاني : أن متعلق السابقين مختلف ، والتقدير : والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة. والأوّل أولى لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم. قال الحسن وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة. وقال محمد بن كعب : إنهم الأنبياء. وقال ابن سيرين : هم الذين صلّوا إلى القبلتين. وقال مجاهد : هم الذين سبقوا إلى الجهاد ، وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير : هم السابقون إلى التوبة وأعمال البرّ. وقال الزجاج : المعنى والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله. وقيل : ووجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأوّلين هو أن يقترن به ما بعده ، وهو قوله : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فالإشارة هي إليهم ، أي : المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته ، أو الذين قربت درجاتهم وأعليت مراتبهم عند الله. وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلق بالمقربون ، أي مقرّبون عند الله في جنات النعيم. ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لأولئك ، وأن يكون حالا من

__________________

(١). الحاقة : ١ ـ ٢.

(٢). القارعة : ١ ـ ٢.

١٧٨

الضمير في المقرّبون ، أي : كائنين فيها. قرأ الجمهور : (فِي جَنَّاتِ) بالجمع ، وقرأ طلحة بن مصرّف «في جنة» بالإفراد ، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال : دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل ، وارتفاع (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم ثلة ، والثلة الجماعة التي لا يحصر عددها. قال الزجاج : معنى ثلة معنى فرقة ، من ثللت الشيء ؛ إذا قطعته ، والمراد بالأوّلين هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي : من هذه الأمّة ، وسمّوا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم ، وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم وكثرة من أجابهم. قال الحسن : سابقوا من مضى أكثر من سابقينا. قال الزجاج : الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدّقوا بهم أكثر ممّن عاين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. ثم قال : ثلث أهل الجنة ، ثم قال : نصف أهل الجنة» لأن قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) إنما هو تفصيل للسابقين فقط كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم ، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة ، والمقابلة بين الثلثين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال : هذه الثلة أكثر من هذه الثلة ، كما يقال : هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة ، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة. وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور. ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين فقال : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قرأ الجمهور (سُرُرٍ) بضم السين والراء الأولى ، وقرأ أبو السّمّال وزيد بن عليّ بفتح الراء ، وهي لغة كما تقدّم ، والموضونة : المنسوجة : والوضن : النسج المضاعف. قال الواحدي : قال المفسرون : منسوجة بقضبان الذهب ، وقيل : مشبكة بالدرّ والياقوت والزبرجد ، وقيل : إنّ الموضونة : المصفوفة. وقال مجاهد : الموضونة : المرمولة (١) بالذهب ، وانتصاب (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) على الحال ، وكذا انتصاب (مُتَقابِلِينَ) والمعنى : مستقرّين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم قفا بعض (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الجملة في محل نصب على الحال من المقرّبين ، أو مستأنفة لبيان بعض ما أعدّ الله لهم من النعيم ، والمعنى يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيّرون ، بل شكلهم شكل الولدان دائما. قال مجاهد : المعنى لا يموتون. وقال الحسن والكلبي : لا يهرمون ولا يتغيّرون. قال الفراء : والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد. وقال سعيد بن جبير : مخلدون مقرّطون. قال الفراء : ويقال مخلدون : مقرّطون ، يقال : خلد جاريته ؛ إذا حلاها بالخلدة ، وهي القرط. وقال عكرمة : مخلدون : منعّمون ، ومنه قول امرئ القيس :

وهل ينعمن إلا سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وقيل : مستورون بالحلية ، وروي نحوه عن الفراء ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١). «مرمولة» : منسوجة.

١٧٩

ومخلّدات باللّجين كأنّما

أعجازهنّ أقاوز (١) الكثبان

وقيل : مخلدون : منطقون ، قيل : وهم ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة ، وقيل : هم أطفال المشركين ، ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة ، والأكواب : هي الأقداح المستديرة الأفواه التي لا آذان لها ولا عرى ، وقد مضى بيان معناها في سورة الزخرف ، والأباريق : هي ذات العرا والخراطيم ، واحدها إبريق ، وهو الّذي يبرق لونه من صفائه (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي : من خمر جارية أو من ماء جار ، والمراد به هاهنا الخمر الجارية من العيون ، وقد تقدّم بيان معنى الكأس في سورة الصافات (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي : لا تتصدّع رؤوسهم من شربها كما تتصدّع من شرب خمر الدنيا. والصداع : هو الداء المعروف الّذي يلحق الإنسان في رأسه ، وقيل : لا يصدعون لا يتفرقون كما يتفرق الشّراب ، ويقوّي هذا المعنى قراءة مجاهد يصدعون بفتح الياء وتشديد الصاد ، والأصل يتصدعون ، أي : يتفرقون ، والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم ، أو في محل نصب على الحال ، وجملة (وَلا يُنْزِفُونَ) معطوفة على الجملة التي قبلها ، وقد تقدم اختلاف القراء في هذا الحرف في سورة الصافات ، وكذلك تقدّم تفسيره ، أي : لا يسكرون فتذهب عقولهم ، من أنزف الشارب ؛ إذا نفذ عقله أو شرابه ، ومنه قول الشاعر (٢) :

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي : يختارونه ، يقال : تخيرت الشيء : إذا أخذت خيره. قرأ الجمهور (وَفاكِهَةٍ) بالجر (وَ) كذا (لَحْمِ) عطفا على أكواب ، أي : يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكّه به. وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرّحمن برفعهما على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي : ولهم فاكهة ولحم ، ومعنى (مِمَّا يَشْتَهُونَ) ممّا يتمنّونه وتشتهيه أنفسهم (وَحُورٌ عِينٌ ـ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) قرأ الجمهور : (وَحُورٌ عِينٌ) برفعهما عطفا على ولدان ، أو على تقدير مبتدأ ، أي : نساؤهم حور عين ، أو على تقدير خبر ، أي : ولهم حور عين ، وقرأ حمزة والكسائي بجرهما عطفا على أكواب. قال الزجاج : وجائز أن يكون معطوفا على جنات ، أي : هم في جنات وفي حور على تقدير مضاف محذوف ، أي : وفي معاشرة حور. قال الفراء : في توجيه العطف على أكواب إنه يجوز الجرّ على الاتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى ؛ لأن الحور لا يطاف بهنّ ، كما في قول الشاعر :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

والعين لا تزجج وإنما تكحل. ومن هذا قول الشاعر :

علفتها تبنا وماء باردا

__________________

(١). «الأقاوز» : جمع قوز : وهو كثيب من الرمل صغير ؛ شبه به أرداف النساء.

(٢). هو الحطيئة.

١٨٠