فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

أيضا قال : الأمشاج : الّذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار ، ومنه يكون الولد (١). وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) قال : فاشيا.

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه أيضا في قوله : (وَأَسِيراً) قال : هو المشرك. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (مِسْكِيناً) قال : فقيرا (وَيَتِيماً) قال : لا أب له (وَأَسِيراً) قال : المملوك والمسجون. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) الآية قال : نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (يَوْماً عَبُوساً) قال : ضيقا (قَمْطَرِيراً) قال : طويلا. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) قال : يقبض ما بين الأبصار. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس قال : القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه. وأخرج ابن المنذر عنه (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) قال : نضرة في وجوههم وسرورا في صدورهم.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

قوله : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) منصوب على الحال من مفعول جزاهم ، والعامل فيها جزى ، ولا يعمل فيها صبروا ؛ لأنّ الصبر إنما كان في الدنيا ، وجوّز أبو البقاء أن يكون صفة لجنة. قال الفرّاء : وإن شئت جعلت متكئين تابعا ، كأنه قال : جزاهم جنة متكئين فيها. وقال الأخفش : يجوز أن يكون منصوبا على المدح ، والضمير من (فِيها) يعود إلى الجنة ، والأرائك : السرر في الحجال ، وقد تقدّم تفسيرها في سورة الكهف (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) الجملة في محل نصب على الحال من مفعول «جزاهم» ، فتكون من الحال المترادفة ، أو من الضمير في متكئين ، فتكون من الحال المتداخلة ، أو صفة أخرى للجنة ، والزمهرير : أشدّ البرد ، والمعنى : أنهم لا يرون في الجنة حرّ الشمس ولا برد الزمهرير ، ومنه قول الأعشى :

منعّمة طفلة كالمها

ة لم تر شمسا ولا زمهريرا

وقال ثعلب : الزّمهرير : القمر ؛ بلغة طيّئ ، وأنشد لشاعرهم :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزّمهرير ما زهر

__________________

(١). هذان الأثران لا يستندان إلى دليل شرعي فلا يعتد بهما.

٤٢١

ويروى : ما ظهر ، أي : لم يطلع القمر. وقد تقدّم تفسير هذا في سورة مريم. (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) قرأ الجمهور «دانية» بالنصب عطفا على محل «لا يرون» ، أو على «متكئين» ، أو صفة لمحذوف ، أي : وجنة دانية ، كأنه قال : وجزاهم جنة دانية. وقال الزجاج : هو صفة لجنة المتقدّم ذكرها. وقال الفرّاء : هو منصوب على المدح. وقرأ أبو حيوة «ودانية» بالرفع على أنه خبر مقدّم ، وظلالها مبتدأ مؤخر ، والجملة في موضع النصب على الحال. والمعنى : أن ظلال الأشجار قريبة منهم ، مظلة عليهم ، زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس هنالك. قال مقاتل : يعني شجرها قريب منهم. وقرأ ابن مسعود : «ودانيا عليهم». (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) معطوف على دانية ، كأنه قال : ومذللة. ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، والقطوف : الثمار ، والمعنى : أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيرا كثيرا ، بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. قال النحاس : المذلّل : القريب المتناول ، ومنه قولهم : حائط ذليل ، أي : قصير. قال ابن قتيبة : (ذُلِّلَتْ) : أدنيت ، من قولهم حائط ذليل ، أي : كان قصير السّمك. وقيل : (ذُلِّلَتْ) أي : جعلت منقادة ، لا تمتنع على قطّافها كيف شاؤوا (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) أي : يدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة ، والأكواب : جمع كوب ، وهو الكوز العظيم الّذي لا أذن له ولا عروة ، ومنه قول عديّ :

متّكئا تقرع أبوابه

يسعى عليه العبد بالكوب

وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف (كانَتْ قَوارِيرَا ـ قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي : في صفاء القوارير وفي بياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج ولونها لون الفضة. قرأ نافع والكسائي وأبو بكر (قَوارِيرَا ـ قَوارِيرَا) بالتنوين فيهما مع الوصل ، وبالوقف عليهما بالألف ، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله : سلاسلا من هذه السورة ، وبينا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه. وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما وعدم الوقف بالألف ، ووجه هذه القراءة ظاهر ؛ لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع. وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف ، وقرأ ابن كثير بتنوين الأوّل دون الثاني والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني. وقرأ أبو عمرو وحفص وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما ، والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني ، والجملة في محل جرّ صفة لأكواب. قال أبو البقاء : وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها. قال الواحدي : قال المفسرون : جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة ، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير. قال الزجاج : القوارير التي في الدنيا من الرمل ، فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها ، وجملة (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) صفة لقوارير. قرأ الجمهور : «قدّروها» بفتح القاف على البناء للفاعل ، أي : قدّرها السّقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان. قال مجاهد وغيره : أتوا بها على قدر ريّهم بغير زيادة ولا نقصان. قال الكلبي : وذلك ألذّ وأشهى ، وقيل : قدّرها الملائكة ، وقيل : قدّرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم

٤٢٢

وحاجتهم ؛ فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص. وقرأ عليّ وابن عباس والسّلمي والشّعبي وزيد ابن عليّ وعبيد بن عمير وأبو عمرو ، وفي رواية عنه «قدّروها» بضم القاف وكسر الدال مبنيا للمفعول ، أي : جعلت لهم على قدر إرادتهم. قال أبو علي الفارسي : هو من باب القلب ، قال : لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدّرت عليهم لا قدّروها ، لأنه في معنى قدروا عليها. وقال أبو حاتم : التقدير : قدّرت الأواني على قدر ريّهم ، فمفعول ما لم يسمّ فاعله محذوف. قال أبو حيان : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يقال : قدّر ريهم منها تقديرا ، فحذف المضاف فصار : قدّروها. وقال المهدوي : إن القراءة الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى ، وكأن الأصل قدّروا عليها فحذف حرف الجرّ ، كما أنشد سيبويه :

آليت حبّ العراق الدّهر آكله

والحبّ يأكله في القرية السّوس

أي : آليت على حبّ العراق (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) قد تقدّم أن الكأس هو الإناء فيه الخمر ، وإذا كان خاليا عن الخمر فلا يقال له كأس ، والمعنى : أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأسا من الخمر ، ممزوجة بالزنجبيل. وقد كانت العرب تستلذ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته. وقال مجاهد وقتادة : الزنجبيل : اسم للعين التي يشرب بها المقرّبون. وقال مقاتل : هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) انتصاب عينا على أنها بدل من كأسا. ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدّر ، أي : يسقون عينا ، ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض ، أي : من عين ، والسلسبيل : الشراب اللذيذ ، مأخوذ من السلاسة ، تقول العرب : هذا شراب سلس ، وسلسال ، وسلسبيل ، أي : طيب لذيذ. قال الزجاج : السلسبيل في اللغة : اسم لماء في غاية السلاسة حديد الجرية يسوغ في حلوقهم ، ومنه قول حسان بن ثابت :

يسقون من ورد البريص عليهم

كأسا (١) يصفّق بالرّحيق السّلسل (٢)

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ، ووصف آنيتهم ، ووصف السّقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب. ومعنى : (مُخَلَّدُونَ) باقون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، وقيل : معنى (مُخَلَّدُونَ) لا يموتون ، وقيل : التخليد : التحلية ، أي محلّون (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم وصفاء ألوانهم ونضارة وجوههم لؤلؤا مفرّقا. قال عطاء : يريد في بياض اللون وحسنه ، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما. قال أهل المعاني : إنما شبّهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة ، ولو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم ، وقيل : إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة ؛ بخلاف الحور العين فإنه شبههنّ باللؤلؤ المكنون لأنهنّ لا يمتهنّ بالخدمة.

__________________

(١). في تفسير القرطبي : بردى. وهو نهر بدمشق.

(٢). «البريص» : نهر بدمشق. «يصفق» : يمزج. «الرحيق» : الخمر البيضاء.

٤٢٣

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي : وإذا رميت ببصرك هناك ، يعني في الجنة رأيت نعيما لا يوصف ، وملكا كبيرا لا يقادر قدره ، و «ثم» ظرف مكان ، والعامل فيها «رأيت». قال الفرّاء : في الكلام «ما» مضمرة ، أي : وإذا رأيت ما ثم ، كقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (١) أي : ما بينكم. قال الزجاج معترضا على الفراء : إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصّلة ، ولكن «رأيت» يتعدّى في المعنى إلى «ثم». والمعنى : إذا رأيت ببصرك ثم ، ويعني بثمّ الجنة ، قال السدّي : النعيم : ما يتنعم به ، والملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم ، وكذا قال مقاتل والكلبي. وقيل : إن «رأيت» ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدّر ولا منويّ ، بل معناه : أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيما وملكا كبيرا (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) قرأ نافع وحمزة وابن محيصن «عاليهم» بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدّم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، أو على أن عاليهم مبتدأ ، وثياب مرتفع بالفاعلية ؛ وإن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش. وقال الفراء : هو مرفوع بالابتداء ، وخبره : ثياب سندس ، واسم الفاعل مراد به الجمع. وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محلّ رفع على أنه خبر مقدّم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل : فوقهم ثياب. قال الفرّاء : إن عاليهم بمعنى فوقهم ، وكذا قال ابن عطية. قال أبو حيان : عال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب ، وقد تقدّمه إلى هذا الزجاج وقال : هذا مما لا نعرفه في الظروف ، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء ، ولكنه نصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي : على الأبرار (وِلْدانٌ) ، عاليا الأبرار (ثِيابُ سُندُسٍ) ، أي : يطوف عليهم في هذه الحال. والثاني أن يكون حالا من الولدان ، أي : إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علوّ الثياب أبدانهم. وقال أبو عليّ الفارسيّ : العامل في الحال إما «لقّاهم نضرة وسرورا» ، وإما «جزاهم بما صبروا». قال : ويجوز أن يكون ظرفا. وقرأ ابن سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة : «عليهم» ، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة. واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود : «عاليتهم». وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين ثياب وقطعها عن الإضافة ورفع سندس ، و (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) على أن السندس نعت للثياب ؛ لأن السندس نوع من الثياب ، وعلى أن خضر نعت لسندس ؛ لأنه يكون أخضر وغير أخضر ، وعلى أن إستبرق معطوف على سندس ، أي : وثياب إستبرق ، والجمهور من القرّاء اختلفوا في خضر وإستبرق مع اتفاقهم على جرّ سندس بإضافة ثياب إليه ؛ فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجرّ خضر نعتا لسندس ، ورفع إستبرق عطفا على ثياب ، أي : عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر نعتا لثياب ، وجرّ إستبرق نعت لسندس. واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة ، والإستبرق من جنس السندس. وقرأ نافع وحفص برفع : «خضر وإستبرق» لأن خضر نعت للثياب ، وإستبرق عطف على

__________________

(١). الأنعام : ٩٤.

٤٢٤

الثياب. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجرّ : «خضر وإستبرق» على أن خضر نعت للسندس ، وإستبرق معطوف على سندس. وقرءوا كلهم بصرف إستبرق إلا ابن محيصن فإنه لم يصرفه ، قال : لأنه أعجمي ، ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلا أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب. والسندس : ما رقّ من الديباج. والإستبرق : ما غلظ منه ، وقد تقدّم تفسيرهما في سورة الكهف (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) عطف على (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ). ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة وفي سورة فاطر (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (١) وفي سورة الحج (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) (٢) ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة ، وسوارات الفضة تارة ، وسوارات اللؤلؤ تارة ، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من ضمير عاليهم بتقدير قد (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) هذا نوع آخر من الشراب الّذي يمنّ الله عليهم به. قال الفرّاء : يقول : هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفا بالنجاسة. والمعنى : أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا. قال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش وغلّ وحسد. قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي : يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي : يقال لهم : إن هذا الّذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم ، أي : ثوابا لها (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي : كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضيا مقبولا ، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : الزمهرير هو البرد الشديد. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشتكت النار إلى ربها فقالت : ربّ أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين : نفسا في الصيف ، ونفسا في الشتاء ، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدّة ما تجدون في الصيف من الحرّ من سمومها». وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد ابن السريّ وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن البراء بن عازب في قوله : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) قال : قريبة (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) قال : إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أيّ حال شاؤوا. وفي لفظ قال : ذللت فيتناولون منها كيف شاؤوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس قال : (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) وصفاؤها كصفاء القوارير (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قال : قدّرت للكف. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عنه قال : لو أخذت فضة من فضة

__________________

(١). فاطر : ٣٣.

(٢). الحج : ٢٣.

٤٢٥

الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ، ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة في صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. وأخرج الفريابي عنه أيضا في قوله : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قال : أتوا بها على قدر الفم لا يفضّلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قال : قدّرتها السقاة. وأخرج ابن المبارك وهناد وعبد بن حميد ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عمرو قال : إن أدنى أهل الجنة منزلا من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه ، وتلا هذه الآية : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً).

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) أي : فرّقناه في الإنزال ولم ننزله جملة واحدة. وقيل : المعنى : نزلناه عليك ولم تأت به من عندك كما يدّعيه المشركون (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لقضائه ، ومن حكمه وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته. قيل : وهذا منسوخ بآية السيف (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي : لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر ، فنهاه الله سبحانه عن ذلك. قال الزجاج : إن الألف هنا آكد من الواو وحدها لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا ، فأطاع أحدهما كان غير عاص ؛ لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين ، فإذا قال : لا تطع منهم آثما أو كفورا دلّ ذلك على أن كلّ واحد منهما أهل أن يعصى ، كما أنك إذا قلت : لا تخالف الحسن أو ابن سيرين ، فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا ، وكل واحد منهما أهل أن يتبع. وقال الفراء : «أو» هنا بمنزلة لا ، كأنه قال : ولا كفورا. وقيل : المراد بقوله : (آثِماً) عتبة بن ربيعة ، وبقوله : (أَوْ كَفُوراً) الوليد بن المغيرة ؛ لأنهما قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي : دم على ذكره في جميع الأوقات. وقيل : المعنى : صلّ لربك أوّل النهار وآخره ، فأوّل النهار صلاة الصبح ، وآخره صلاة العصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي : صلّ المغرب والعشاء. وقيل : المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين ، ومن : للتبعيض على كل تقدير (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أي : نزّهه عما لا يليق به ، فيكون المراد الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة أو في غيرها. وقيل : المراد التطوّع في الليل. قال ابن زيد وغيره : إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس. وقيل : الأمر للندب. وقيل : هو مخصوص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ)

٤٢٦

يعني كفار مكة ومن هو موافق لهم. والمعنى : أنهم يحبون الدار العاجلة ، وهي دار الدنيا (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) أي : يتركون ويدعون وراءهم ، أي : خلفهم أو بين أيديهم وأمامهم يوما شديدا عسيرا ، وهو يوم القيامة ، وسمّي ثقيلا لما فيه من الشدائد والأهوال. ومعنى كونه يذرونه وراءهم : أنهم لا يستعدّون له ولا يعبئون به ، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاونا به واستخفافا بشأنه ، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) أي : ابتدأنا خلقهم من تراب ، ثم من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم ، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكا ولا استقلالا (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) الأسر : شدّة الخلق ، يقال : شدّ الله أسر فلان : أي قوّى خلقه. قال مجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم : شددنا خلقهم. قال الحسن : شددنا أوصالهم بعضا إلى بعض بالعروق والعصب. قال أبو عبيد : يقال فرس شديد الأسر ، أي : الخلق. قال لبيد :

ساهم الوجه شديد أسره

مشرف الحارك محبوك الكتد

وقال الأخطل :

من كلّ مجتنب شديد أسره

سلس القياد تخاله مختالا

وقال ابن زيد : الأسر القوّة ، واشتقاقه من الإسار ، وهو القدّ الّذي تشدّ به الأقتاب. ومنه قول ابن أحمر يصف فرسا :

يمشي بأوظفة شداد أسرها

صمّ السّنابك لا تقي بالجدجد (١)

(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي : لو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وقيل : المعنى : مسخناهم إلى أسمج صورة وأقبح خلقة (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) يعني إن هذه السورة تذكير وموعظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي : طريقا يتوصّل به إليه ، وذلك بالإيمان والطاعة ، والمراد : إلى ثوابه أو إلى جنّته (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : وما تشاؤون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلا أن يشاء الله ، فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم ، والخير والشرّ بيده ، لا مانع لما أعطي ، ولا معطي لما منع ، فمشيئة العبد مجرّدة لا تأتي بخير ولا تدفع شرّا ، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة ، ويؤجر على قصد الخير كما في حديث : «إنّما الأعمال بالنّيّات ، وإنما لكل امرئ ما نوى». قال الزجاج : أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) في أمره ونهيه ، أي : بليغ العلم والحكمة (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي : يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ، أو يدخل في جنته من يشاء من عباده. قال عطاء : من صدقت نيته أدخله جنته (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) انتصاب الظالمين بفعل مقدّر يدل عليه ما قبله ، أي : يعذب الظالمين ، نصب الظالمين لأن ما قبله منصوب ، أي : يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ، أي : المشركين ،

__________________

(١). «الجدجد» : الأرض الصلبة.

٤٢٧

ويكون «أعدّ لهم» تفسيرا لهذا المضمر ، والاختيار النصب وإن جاز الرفع ، وبالنصب قرأ الجمهور. وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء ، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قال : خلقهم. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قال : هي المفاصل.

* * *

٤٢٨

سورة المرسلات

وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. قال قتادة : إلا آية منها وهي قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (١) فإنها مدنية ، وروي هذا عن ابن عباس. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة المرسلات بمكة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : «بينما نحن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار بمنى إذا نزلت سورة : المرسلات عرفا ، فإنه ليتلوها وإني لأتلقّاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ، إذ وثبت علينا حية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقتلوها ، فابتدرناها فذهبت ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقيت شرّكم كما وقيتم شرّها». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن أمّ الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت : يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها آخر ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في المغرب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))

قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال جمهور المفسرين : هي الرياح ، وقيل : هي الملائكة ، وبه قال مقاتل وأبو صالح والكلبي ، وقيل : هم الأنبياء ، فعلى الأوّل أقسم سبحانه بالرياح المرسلة لما يأمرها به كما في قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٢) وقوله : (يُرْسِلُ الرِّياحَ) (٣) وغير ذلك. وعلى الثاني أقسم سبحانه بالملائكة المرسلة بوحيه وأمره ونهيه. وعلى الثالث أقسم سبحانه برسله المرسلة إلى عباده لتبليغ شرائعه ، وانتصاب (عُرْفاً) إما على أنه مفعول لأجله ، أي : المرسلات ؛ لأجل العرف وهو ضدّ النكر ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١). المرسلات : ٤٨.

(٢). الحجر : ٢٢.

(٣). النمل : ٦٣.

٤٢٩

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والنّاس

أو على أنه حال بمعنى متابعة ؛ ويتبع بعضها بعضا كعرف الفرس ، تقول العرب : سار الناس إلى فلان عرفا واحدا ؛ إذا توجهوا إليه ، وهم على فلان كعرف الضبع ؛ إذا تألبوا عليه ، أو على أنه مصدر كأنه قال : والمرسلات إرسالا ، أي : متتابعة ، أو على أنه منصوب بنزع الخافض ، أي : والمرسلات بالعرف. قرأ الجمهور : «عرفا» بسكون الراء ، وقرأ عيسى بن عمر بضمها ، وقيل : المراد بالمرسلات السحاب لما فيها من نعمة ونقمة (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) وهي الرياح الشديدة الهبوب. قال القرطبي : بغير اختلاف ، يقال : عصف بالشيء ؛ إذا أباده وأهلكه ، وناقة عصوف ، أي : تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة ، ويقال : عصفت الحرب بالقوم ؛ إذا ذهبت بهم ، وقيل : هي الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها ، وقيل : يعصفون بروح الكافر ، وقيل : هي الآيات المهلكة كالزلازل ونحوها (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) يعني الرياح تأتي بالمطر وهي تنشر السحاب نشرا ، أو الملائكة الموكلون بالسحاب ينشرونها ، أو ينشرون أجنحتهم في الجوّ عند النزول بالوحي ، أو هي الأمطار لأنها تنشر النبات. وقال الضحاك : يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. وقال الربيع : إنه البعث للقيامة بنشر الأرواح ، وجاء بالواو هنا لأنه استئناف قسم آخر (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) يعني الملائكة تأتي بما يفرّق بين الحق والباطل والحلال والحرام. وقال مجاهد : هي الريح تفرق بين السحاب فتبدّده. وروي عنه أنها آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل ، وقيل : هي الرسل فرقوا ما بين ما أمر الله به ونهى عنه ، وبه قال الحسن ، (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) هي الملائكة. قال القرطبي : بإجماع ، أي : تلقي الوحي إلى الأنبياء ، وقيل : هو جبريل ، وسمّي باسم الجمع تعظيما له ، وقيل : هي الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم ، قاله قطرب. قرأ الجمهور : «فالملقيات» بسكون اللام وتخفيف القاف اسم فاعل ، وقرأ ابن عباس بفتح اللام وتشديد القاف من التلقية وهي إيصال الكلام إلى المخاطب ، والراجح أن الثلاثة الأول للرياح ، والرابع والخامس للملائكة ، وهو الّذي اختاره الزجاج والقاضي وغيرهما (عُذْراً أَوْ نُذْراً) انتصابهما على البدل من ذكرا ، أو على المفعولية ، والعامل فيهما المصدر المنوّن ، كما في قوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ـ يَتِيماً) (١) أو على المفعول لأجله : أي للإعذار والإنذار ، أو على الحال بالتأويل المعروف ، أي : معذرين أو منذرين. قرأ الجمهور بإسكان الذال فيهما. وقرأ زيد بن ثابت وابنه خارجة ابن زيد وطلحة بضمهما. وقرأ الحرميان وابن عامر وأبو بكر بسكونها في (عُذْراً) وضمها في (نُذْراً). وقرأ الجمهور : «عذرا أو نذرا» على العطف بأو. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة على العطف بالواو بدون ألف ، والمعنى : أن الملائكة تلقي الوحي عذرا إلى خلقه وإنذارا من عذابه ، كذا قال الفراء : وقيل : عذرا للمحقّين ونذرا للمبطلين. قال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل جمع عاذر وناذر كقوله : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٢) فيكون نصبا على الحال من الإلقاء ، أي : يلقون الذكر في حال العذر والإنذار ،

__________________

(١). البلد : ١٤ ـ ١٥.

(٢). النجم : ٥٦.

٤٣٠

أو مفعولا لذكرا ، أي : تذكر عذرا أو نذرا. قال المبرد : هما بالتثقيل جمع ، والواحد عذير ونذير. ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) أي : إن الّذي توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة ، ثم بيّن سبحانه متى يقع ذلك فقال : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي محي نورها وذهب ضوءها ، يقال : طمس الشيء ؛ إذا درس وذهب أثره (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي : فتحت وشقت ، ومثله قوله : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (١) (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي قلعت من مكانها بسرعة ، يقال نسفت الشيء وأنسفته ؛ إذا أخذته بسرعة. وقال الكلبي : سوّيت بالأرض ، والعرب تقول : نسفت الناقة الكلأ ؛ إذا رعته ، وقيل : جعلت كالحبّ الّذي ينسف بالمنسف ، ومنه قوله : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٢) والأوّل أولى. قال المبرد : نسفت : قلعت من مواضعها (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) الهمزة في أقتت بدل من الواو المضمومة ، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة يجوز إبدالها بالهمزة ، وقد قرأ بالواو أبو عمرو وشيبة والأعرج وقرأ الباقون بالهمزة ، والوقت : الأجل الّذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه ، والمعنى : جعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كما في قوله سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) (٣) وقيل : هذا في الدنيا ، أي : جمعت الرسل لميقاتها الّذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبها ، والأوّل أولى. قال أبو عليّ الفارسي : أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا ، وقيل : أقتت : أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) هذا الاستفهام للتعظيم والتعجيب ، أي : لأي يوم عظيم يعجب العباد منه لشدّته ومزيد أهواله ضرب لهم الأجل لجمعهم ، والجملة مقول قول مقدر هو جواب لإذا ، أو في محل نصب على الحال من الضمير في «أقتت». قال الزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الّذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، ثم بين هذا اليوم فقال : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) قال قتادة : يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار ، ثم عظم ذلك اليوم فقال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : وما أعلمك بيوم الفصل يعني أنه أمر بديع هائل لا يقادر قدره ، و «ما» مبتدأ و «أدراك» خبره ، أو العكس كما اختاره سيبويه. ثم ذكر حال الذين كذّبوا بذلك اليوم فقال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : ويل لهم في ذلك اليوم الهائل ، وويل : أصل مصدر سادّ مسدّ فعله ، وعدل به إلى الرفع للدلالة على الثبات ، والويل : الهلاك ؛ أو هو : اسم واد في جهنم ، وكرّر هذه الآية في هذه السورة لأنه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم ، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر ، وربّ شيء كذب به هو أعظم جرما من التكذيب بغيره ، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب. ثم ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) أخبر سبحانه بإهلاك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال مقاتل : يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) يعني كفار مكة ، ومن وافقهم حين كذبوا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قرأ الجمهور : «نتبعهم» بالرفع على الاستئناف ، أي : ثم نحن نتبعهم. قال أبو البقاء ليس بمعطوف ؛ لأن العطف

__________________

(١). النبأ : ١٩.

(٢). الواقعة : ٥.

(٣). المائدة : ٩.

٤٣١

يوجب أن يكون المعنى : أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الإهلاك. وليس كذلك ؛ لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد. ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود «ثم سنتبعهم الآخرين». وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو و «نتبعهم» بالجزم عطفا على «نهلك». قال شهاب الدين : على جعل الفعل معطوفا على مجموع الجملة من قوله : «ألم نهلك». (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي : مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم ، يريد من يهلكه فيما بعد ، والكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف ، أي : مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله ، قيل : الويل الأوّل لعذاب الآخرة ، وهذا لعذاب الدنيا (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي : ضعيف حقير ، وهو النطفة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي : مكان حريز ، وهو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي : إلى مقدار معلوم ، وهو مدّة الحمل ، وقيل : إلى أن يصوّر (فَقَدَرْنا) قرأ الجمهور : «فقدرنا» بالتخفيف. وقرأ نافع والكسائي بالتشديد من التقدير. قال الكسائي والفراء : وهما لغتان بمعنى ، تقول : قدّرت كذا ، وقدرته (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) أي : نعم المقدّرون نحن ، قيل : المعنى : قدّرناه قصيرا أو طويلا ، وقيل : معنى قدّرنا ملكنا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بقدرتنا على ذلك. ثم بيّن لهم بديع صنعه وعظيم قدرته ليعتبروا ، فقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) معنى الكفت في اللغة : الضم والجمع ، يقال : كفت الشيء ؛ إذا ضمّه وجمعه ، ومن هذا يقال للجراب والقدر : كفت ، والمعنى : ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها والأموات في باطنها تضمهم وتجمعهم. قال الفرّاء : يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم ، وتكفتهم أمواتا في بطنها ، أي : تحوزهم ، وهو معنى قوله : (أَحْياءً وَأَمْواتاً) وأنشد سيبويه :

كرام حين تنكفت الأفاعي

إلى أجحارهنّ من الصّقيع

قال أبو عبيدة : (كِفاتاً) أوعية ، ومنه قول الشاعر :

فأنت اليوم فوق الأرض حيّا

وأنت غدا تضمّك في كفات

أي : في قبر ، وقيل : معنى جعلها كفاتا ؛ أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات. قال الأخفش وأبو عبيدة : الأحياء والأموات وصفان للأرض ، أي : الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الّذي ينبت ، وإلى ميت وهو الّذي لا ينبت. قال الفراء : انتصاب أحياء وأمواتا بوقوع الكفات عليه ، أي : ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات ، فإذا نوّن نصب ما بعده ، وقيل : نصبا على الحال من الأرض ، أي : ومنها كذا ، وقيل : هو مصدر نعت به للمبالغة. وقال الأخفش : كفاتا جمع كافتة ، والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل : التكفيت : تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر ، ويقال : انكفت القوم إلى منازلهم ، أي : ذهبوا (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي : جبالا طوالا ، والرواسي : الثوابت ، والشامخات : الطوال ، وكل عال فهو شامخ (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي : عذبا ، والفرات : الماء العذب يشرب منه ويسقى به. قال مقاتل : وهذا كله أعجب من البعث (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هذه من جملتها.

٤٣٢

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن أبي هريرة (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال : هي الملائكة أرسلت بالعرف. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال : الريح (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) قال : الريح (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) قال : الريح. وأخرج ابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، أنه جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب ، فقال : ما العاصفات عصفا؟ قال : الرياح. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال : الريح (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) قال : الريح (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) قال : الملائكة (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) قال : الملائكة. وأخرج ابن المنذر عنه (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال : الملائكة (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) قال : الملائكة ، فرقت بين الحق والباطل (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) بالتنزيل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود قال : ويل : واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار ، فجعل للمكذبين. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) قال : ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (كِفاتاً) قال : كنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (رَواسِيَ شامِخاتٍ) قال : جبالا مشرفات ، وفي قوله : (فُراتاً) قال : عذبا.

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ) هو بتقدير القول ، أي : يقال لهم توبيخا وتقريعا (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) في الدنيا ، تقول لهم ذلك خزنة جهنم ، أي : سيروا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب ، وهو عذاب النار (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي : إلى ظل من دخان جهنم قد سطع ، ثم افترق ثلاث فرق تكونون فيه حتى يفرغ الحساب ، وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعّب شعبا. قرأ الجمهور : «انطلقوا» في الموضعين على صيغة الأمر على التأكيد. وقرأ رويس عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني : أي لما أمروا بالانطلاق امتثلوا ذلك فانطلقوا. وقيل : المراد بالظل هنا هو السرادق ، وهو لسان من النار يحيط بهم. ثم يتشعب ثلاث شعب فيظلّهم حتى يفرغ من حسابهم ، ثم يصيرون إلى النار. وقيل : هو الظلّ من يحموم كما في قوله : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ـ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (١) على ما تقدّم. ثمّ وصف سبحانه هذا الظلّ

__________________

(١). الواقعة : ٤٢ ـ ٤٣.

٤٣٣

تهكما بهم فقال : (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أي : لا يظل من الحرّ ولا يغني من اللهب. قال الكلبي : لا يردّ حرّ جهنم عنكم. ثم وصف سبحانه النار فقال : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أي : كل شررة من شررها التي ترمي بها كالقصر من القصور في عظمها ، والشرر : ما تطاير من النار متفرّقا ، والقصر : البناء العظيم. وقيل : القصر جمع قصرة ساكنة الصاد ، مثل جمر وجمرة ، وتمر وتمرة ، وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ. قال سعيد بن جبير والضحاك : وهي أصول الشجر العظام ، وقيل : أعناقه. قرأ الجمهور : (كَالْقَصْرِ) بإسكان الصاد ، وهو واحد القصور كما تقدم. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسّلمي بفتح الصاد ، أي : أعناق النخل ، والقصرة : العنق ، جمعه قصر وقصرات. وقال قتادة : أعناق الإبل. وقرأ سعيد ابن جبير بكسر القاف وفتح الصاد ، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدر وبدرة ، وقصع وقصعة. وقرأ الجمهور : (بِشَرَرٍ) بفتح الشين. وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرها مع ألف بين الراءين. وقرأ عيسى كذلك إلا أنه يفتح الشين ، وهي لغات ، ثم شبّه الشرر باعتبار لونه فقال : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) وهي جمع جمال ، وهي الإبل ، أو جمع جمالة. قرأ الجمهور : «جمالات» بكسر الجيم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص «جمالة» جمع جمل. وقرأ ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وأبو رجاء «جمالات» بضم الجيم ، وهي حبال السفن. قال الواحدي : والصفر معناها السود في قول المفسرين. قال الفرّاء : الصفر : سواد الإبل ، لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة ، لذلك سمّت العرب سود الإبل صفرا. قيل : والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه بالإبل السود. ومنه قول الشاعر :

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب

أي : هنّ سود ، قيل : وهذا القول محال في اللغة أن يكون شيء يشوبه شيء قليل ، فينسب كله إلى ذلك الشائب ، فالعجب لمن قال بهذا ، وقد قال تعالى : (جِمالَتٌ صُفْرٌ). وأجيب بأن وجهه : أن النار خلقت من النور فهي مضيئة ، فلما خلق الله جهنم ، وهي موضع النار حشى ذلك الموضع بتلك النار ، وبعث إليها سلطانه وغضبه فاسودّت من سلطانه وازدادت سوادا ، وصارت أشدّ سوادا من كل شيء ، فيكون شررها أسود لأنه من نار سوداء.

قلت : وهذا الجواب لا يدفع ما قاله القائل ؛ لأنّ كلامه باعتبار ما وقع في الكتاب العزيز هنا من وصفها بكونها صفراء ، فلو كان الأمر كما ذكره المجيب من اسوداد النار ، واسوداد شررها ، لقال الله : كأنها جمالات سود ، ولكن إذا كانت العرب تسمي الأسود أصفر لم يبق إشكال ، لأن القرآن نزل بلغتهم ، وقد نقل الثقات عنهم ذلك ، فكان ما في القرآن هنا واردا على هذا الاستعمال العربي (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لرسل الله وآياته (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أي : لا يتكلمون ، قال الواحدي : قال المفسرون : في يوم القيامة مواقف ، ففي بعضها يتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون ، وقد قدّمنا الجمع بهذا في غير موضع. وقيل : إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون ؛ لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت. وقال الحسن : لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. قرأ الجمهور برفع «يوم» على أنه خبر لاسم

٤٣٤

الإشارة. وقرأ زيد بن عليّ والأعرج والأعمش وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل ، ومحله الرفع على الخبرية ، وقيل : هو منصوب على الظرفية ، والإشارة بهذا إلى ما تقدّم من الوعيد كأنه قيل : هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) قرأ الجمهور : «يؤذن» على البناء للمفعول ، وقرأ زيد بن عليّ : «ولا يأذن» على البناء للفاعل ، أي : لا يأذن الله لهم ، أي : لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الاعتذار مسببا عن الإذن كما لو نصب. قال الفرّاء : الفاء في فيعتذرون نسق على يؤذن وأجيز ذلك لأن أواخر الكلام بالنون ، ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات ، وقد قال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) (١) بالنصب ، والكل صواب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما دعتهم إليه الرسل وأنذرتهم عاقبته (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) أي : ويقال لهم : هذا يوم الفصل الّذي يفصل فيه بين الخلائق ويتميز فيه الحق من الباطل ، والخطاب في جمعناكم للكفار في زمن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالأوّلين كفار الأمم الماضية (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) أي : إن قدرتم على كيد الآن (فَكِيدُونِ) وهذا تقريع وتوبيخ لهم. قال مقاتل : يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم ، وقيل المعنى : فإن قدرتم على حرب فحاربون ، وقيل : إن هذا من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون كقول هود : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) (٢). (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا. ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) أي : في ظلال الأشجار وظلال القصور ، لا كالظلّ الّذي للكفار من الدخان ، أو من النار كما تقدّم. قال مقاتل والكلبي : المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله ؛ لأن السورة من أوّلها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم. قال الرازي : فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها وإنما يتمّ النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم ، فأما جعله سببا للطاعة فلا يليق بالنظم كذا قال. والمراد بالعيون الأنهار ، وبالفواكه ما يتفكه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : يقال لهم ذلك ، فالجملة مقدّرة بالقول ، وهي في محل نصب على الحال من ضمير المتقين ، والباء للسببية : أي بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين في أعمالهم ، قرأ الجمهور : «في ظلال». وقرأ الأعمش والزهري وطلحة والأعرج «في ظلل» جمع ظلّة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) حيث صاروا في شقاء عظيم ، وصار المؤمنون في نعيم مقيم (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) الجملة بتقدير القول في محل نصب على الحال من المكذبين : أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا ، أو يقال لهم هذا في الدنيا ، والمجرمون : المشركون بالله ، وهذا وإن كان في اللفظ أمرا فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) كرّره لزيادة التوبيخ والتقريع (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي : وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون.

__________________

(١). فاطر : ٣٦.

(٢). هود : ٥٥.

٤٣٥

قال مقاتل : نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها فقالوا : لا ننحني فإنها مسبة علينا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود». وقيل : إنما يقال لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. وقيل : المعنى بالركوع : الطاعة والخشوع (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأوامر الله سبحانه ونواهيه (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي : فبأيّ حديث بعد القرآن يصدقون إذا لم يؤمنوا به. قرأ الجمهور : «يؤمنون» بالتحتية على الغيبة. وقرأ ابن عامر في رواية عنه ، ويعقوب : بالفوقية على الخطاب.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال : كالقصر العظيم ، وقوله : (جِمالَتٌ صُفْرٌ) قال : قطع النحاس. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه من طريق عبد الرّحمن بن عباس قال : سمعت ابن عباس يسأل عن قوله : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال : كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقلّ ، فنرفعه للشتاء فنسميه القصر. قال : وسمعته يسأل عن قوله : (جِمالَتٌ صُفْرٌ) قال : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون كأوساط الرجال. ولفظ البخاري : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ : «كالقصر» بفتح القاف والصاد. وقال : قصر النخل : يعني الأعناق. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : كانت العرب في الجاهلية تقول : أقصروا لنا الحطب ، فيقطع على قدر الذراع والذراعين. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، عن ابن مسعود في قوله : (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال : إنها ليست كالشجر والجبال ، ولكنها مثل المدائن والحصون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (كَالْقَصْرِ) قال : هو القصر ، وفي قوله : (جِمالَتٌ صُفْرٌ) قال : الإبل. وأخرج الحاكم وصححه من طريق عكرمة قال : سأل نافع ابن الأزرق ابن عباس عن قوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ)(فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (١) (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢) و (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٣) فقال له : ويحك هل سألت عن هذا أحد قبلي؟ قال لا ، قال : أما إنك لو كنت سألت هلكت ، أليس قال الله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤) قال : بلى ، قال : فإن لكل مقدار يوم من هذه الأيام لونا من الألوان. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) يقول : يدعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا.

* * *

__________________

(١). طه : ١٠٨.

(٢). الصافات : ٢٧.

(٣). الحاقة : ١٩.

(٤). الحج : ٤٧.

٤٣٦

سورة النّبأ

وهي مكية عند الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أصله عن ما ؛ فأدغمت النون في الميم ؛ لأن الميم تشاركها في الغنة ، كذا قال الزجاج ، وحذفت الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام ، وكذلك فيم وممّ ونحو ذلك ، والمعنى : عن أيّ شيء يسأل بعضهم بعضا. قرأ الجمهور : «عمّ» بحذف الألف لما ذكرنا ، وقرأ أبيّ وابن مسعود وعكرمة وعيسى بإثباتها ، ومنه قول الشاعر :

علام قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في دمان؟!

ولكنه قليل لا يجوز إلا للضرورة ، وقرأ البزي بهاء السكت عوضا عن الألف ، وروي ذلك عن ابن كثير. قال الزجاج : اللفظ لفظ استفهام ، والمعنى تفخيم القصة ، كما تقول : أيّ شيء تريد ؛ إذا عظمت شأنه. قال الواحدي : قال المفسرون : لما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبرهم بتوحيد الله والبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن ، جعلوا يتساءلون بينهم يقولون : ماذا جاء به محمد وما الّذي أتى به؟ فأنزل الله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) قال الفراء : التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضا كالتقابل ، وقد يستعمل أيضا في أن يتحدّثوا به وإن لم يكن

٤٣٧

بينهم سؤال. قال الله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ـ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) (١) الآية ، وهذا يدل على أنه التحدّث ، ولفظ «ما» موضوع لطلب حقائق الأشياء ، وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولا ، فجعل الشيء العظيم الّذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول ، ولهذا جاء سبحانه بلفظ ما. ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا وبيّنه فقال : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) فأورده سبحانه أوّلا على طريقة الاستفهام ، مبهما لتتوجه إليه أذهانهم ، وتلتفت إليه أفهامهم ، ثم بينه بما يفيد تعظيمه وتفخيمه كأنه قيل : عن أيّ شيء يتساءلون هل أخبركم به؟ ثم قيل : بطريق الجواب : «عن النبأ العظيم» على منهاج قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) فالجارّ والمجرور متعلق بالفعل الّذي قبله ، أو بما يدلّ عليه. قال ابن عطية : قال أكثر النحاة : عن النبأ العظيم متعلق بيتساءلون الظاهر ، كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ العظيم ، وقيل : ليس بمتعلق بالفعل المذكور ؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون التقدير : أعن النبأ العظيم؟ فلزم أن يتعلق بيتساءلون آخر مقدّر ، وإنما كان ذلك النبأ ، أي : القرآن ، عظيما ؛ لأنه ينبئ عن التوحيد وتصديق الرسول ووقوع البعث والنشور. قال الضحاك : يعني نبأ يوم القيامة ، وكذا قال قتادة ، وقد استدلّ على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فإنهم اختلفوا في القرآن ، فجعله بعضهم سحرا ، وبعضهم شعرا ، وبعضهم كهانة ، وبعضهم قال : هو أساطير الأوّلين. وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره. ويمكن أن يقال : إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة ، فصدّق به المؤمنون وكذب به الكافرون ، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية ، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل ، ومما يدلّ على أنه القرآن قوله سبحانه : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ـ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٣) ومما يدلّ على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخفية. وأيضا فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث ؛ فأثبت النصارى المعاد الروحاني ، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني ، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ «جنعيذا» بجيم مفتوحة ثم نون ساكنة ثم عين مكسورة مهملة ثم تحتية ساكنة ثم ذال معجمة بعدها ألف. وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد ، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين والعذاب للعاصين ، وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٤) وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه ، بل شاكّة فيه ، كما حكى الله عنهم بقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٥) وما حكاه عنهم بقوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (٦) فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة. وقد قيل : إن الضمير في قوله : يتساءلون يرجع إلى المؤمنين والكفار لأنهم جميعا كانوا يتساءلون عنه ، فأما المسلم فيزداد يقينا واستعدادا وبصيرة في دينه ، وأما

__________________

(١). الصافات : ٥٠ ـ ٥١.

(٢). غافر : ١٦.

(٣). ص : ٦٧ ـ ٦٨.

(٤). الجاثية : ٢٤.

(٥). الجاثية : ٣٢.

(٦). فصلت : ٥٠.

٤٣٨

الكافر فاستهزاء وسخرية. قال الرازي : ويحتمل أنهم يسألون الرسول ويقولون : ما هذا الّذي يعدنا به من أمر الآخرة ، والموصول في محل جرّ صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيما ، فهو متّصف بوقوع الاختلاف فيه (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع لهم وزجر ، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم الكفار ، وبه يندفع ما قيل إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين ، فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط ، وقيل : «كلا» بمعنى حقا ، ثم كرّر الردع والزجر فقال : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد. قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة. وقرأ الحسن وأبو العالية وابن دينار وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب. وقرأ الضحاك الأوّل بالفوقية والثاني بالتحتية. قال الضحاك : أيضا (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هو وعيد بعده وعيد ، وقيل : المعنى (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) عند النزع ، (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) عند البعث. ثم ذكر سبحانه بديع صنعه وعظيم قدرته ليعرفوا توحيده ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ـ وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي : قدرتنا على هذا الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث. والمهاد : الوطاء والفراش كما في قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (١) قرأ الجمهور : «مهادا» وقرأ مجاهد وعيسى وبعض الكوفيين «مهدا» والمعنى : أنها كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوّم عليه. والأوتاد جمع وتد ، أي : جعلنا الجبال أوتادا للأرض لتسكن ولا تتحرك كما ترسى الخيام بالأوتاد ، وفي هذا دليل على أن التساؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث ، لا عن القرآن ، ولا عن نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قيل ؛ لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه ، فهو في قوّة : أما خلقناكم ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف ، أي : الذكور والإناث ، وقيل : المراد بالأزواج الألوان ، وقيل : يدخل في هذا كلّ زوج من المخلوقات من قبيح وحسن وطويل وقصير (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي : راحة لأبدانكم. قال الزجّاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه ، أي : جعلنا نومكم راحة لكم. قال ابن الأنباري : جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم ؛ لأن أصل السبت القطع ، وقيل : أصله التمدّد ، يقال : سبتت المرأة شعرها ؛ إذا حلّته وأرسلته ، ورجل مسبوت الخلق : أي ممدودة ، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدّد ، فسمّي النوم سباتا ، وقيل : المعنى : وجعلنا نومكم موتا ، والنوم أحد الموتتين ، فالمسبوت يشبه الميت ولكنه لم تفارقه الروح ، ومنه قول الشاعر (٢) :

ومطويّة الأقراب أمّا نهارها

فسبت وأمّا ليلها فذميل (٣)

__________________

(١). البقرة : ٢٢.

(٢). هو حميد بن ثور.

(٣). «السبت» : السير السريع. «الذميل» : السير اللين. استشهد القرطبي بهذا البيت بعد أن قال : سير سبت : أي سهل لين.

٤٣٩

ومن هذا قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (١) الآية ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٢) (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي : نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس. وقال سعيد بن جبير والسدّي : أي سكنا لكم ، وقيل : المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه ، وهو بعيد ؛ لأن الجعل وقع على الليل ، لا على ما يستتر به النائم عند نومه (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي : وقت معاش ، والمعاش : العيش ، وكلّ شيء يعاش به فهو معاش ، والمعنى : أن الله جعل لهم النهار مضيئا ليسعوا فيما يقوم به معاشهم وما قسمه الله لهم من الرزق (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) يريد سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء ، ولهذا وصفها بالشدّة وغلظ كلّ واحدة منها مسيرة خمسمائة عام ، كما ورد ذلك (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) المراد به الشمس ، وجعل هنا بمعنى خلق ، وهكذا قوله : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) وما بعده ؛ لأن هذه الأفعال قد تعدّت إلى مفعولين فلا بدّ من تضمينها معنى فعل يتعدّى إليهما كالخلق والتصيير ونحو ذلك. وقيل : إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع ، والمراد به الإنشاء التكويني الّذي بمعنى التقدير والتسوية. قال الزجّاج : الوهاج : الوقاد ، وهو الّذي وهج ، يقال : وهجت النار تهج وهجا ووهجانا. قال مقاتل : جعل فيه نورا وحرّا ، والوهج يجمع النور والحرارة (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) المعصرات : هي السحاب التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد ، كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها ، كذا قال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك. وقال مجاهد ومقاتل وقتادة والكلبي : هي الرياح ، والرياح تسمى معصرات ، يقال : أعصرت الريح تعصر إعصارا ؛ إذا أثارت العجاج. قال الأزهري : هي الرياح ذوات الأعاصير وذلك أن الرياح تستدرّ المطر. وقال الفرّاء : المعصرات : السحائب التي يتحلّب منها المطر. قال النحاس : وهذه الأقوال صحاح ، يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر. ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولا واحدا ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجّاجا. قال في الصحاح : والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر وعصر القوم أي مطروا. قال المبرد : يقال سحاب معصر ، أي : ممسك للماء يعتصر منه شيء بعد شيء. وقال أبيّ بن كعب والحسن وابن جبير وزيد ابن أسلم ومقاتل بن حيان : المعصرات : السماوات ، والثجاج : المنصبّ بكثرة على جهة التتابع ، يقال : ثجّ الماء ، أي : سال بكثرة ، وثجّه ، أي : أساله. قال الزجاج : الثجاج : الصّبّاب. قال ابن زيد : ثجاجا : كثيرا (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) أي : لنخرج بذلك الماء حبا يقتات ، كالحنطة والشعير ونحوهما ، والنبات : ما تأكله الدواب من الحشيش وسائر النبات (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي : بساتين ملتفّ بعضها ببعض لتشعّب أغصانها ، ولا واحد للألفاف ، كالأوزاع والأخياف ، وقيل : واحدها لف بكسر اللام وضمها ، ذكره الكسائي. وقال أبو عبيدة : واحدها لفيف ؛ كشريف وأشراف ، وروي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء ونبت لف ، والجمع لفّ بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف ، وقيل : هو جمع

__________________

(١). الزمر : ٤٢.

(٢). الأنعام : ٦٠.

٤٤٠