فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

وقول الآخر :

يا جعفر يا جعفر يا جعفر

إن أك دحداحا فأنت أقصر

وقول الآخر :

أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس (١)

وقد ثبت عن الصادق المصدوق ، وهو أفصح من نطق بلغة العرب ، أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات ، وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم ، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة لأنه يجوز ذلك ، كما في قولهم : سبحان ما سخر كنّ لنا ، ونحوه ، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ولا يختلف. وقيل : إنه أراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق. وقيل : إن «ما» في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة ، أي : لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي ... إلخ ، وجملة (لَكُمْ دِينُكُمْ) مستأنفة لتقرير قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) كما أن قوله : (وَلِيَ دِينِ) تقرير لقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في الموضعين ، أي : إن رضيتم بدينكم فقد رضيت بديني ، كما في قوله : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) (٢) والمعنى : أن دينكم الّذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون ، وديني الّذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم. وقيل المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي ؛ لأن الدين الجزاء. قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف ، وقيل : ليست بمنسوخة ؛ لأنها أخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ. قرأ الجمهور بإسكان الياء من قوله : «ولي» قرأ نافع وهشام وحفص والبزي بفتحها. وقرأ الجمهور أيضا بحذف الياء من ديني وقفا ووصلا ، وأثبتها نصر بن عاصم وسلام ويعقوب وصلا ووقفا. قالوا لأنها اسم فلا تحذف.

ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ وإن كانت اسما.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس : «أن قريشا دعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوّجوه ما أراد من النساء ، فقالوا : هذا لك يا محمد وكفّ عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل فإنّا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح ، قال : ما هي؟ قالوا : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فجاء الوحي من عند الله (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ـ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) إلى آخر السورة ، وأنزل الله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) إلى قوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٣). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ،

__________________

(١). وصدره : فأين إلى أين النّجاة ببغلتي.

(٢). البقرة : ١٣٩.

(٣). الزمر : ٦٤ ـ ٦٦.

٦٢١

وابن الأنباري في المصاحف ، عن سعيد بن مينا مولى البختري قال : «لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا محمد هلمّ فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الّذي نحن عليه أصحّ من الّذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا ، وإن كان الّذي أنت عليه أصحّ من الّذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا ، فأنزل الله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة». وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشا قالت : لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك ، فأنزل الله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) السورة كلها.

* * *

٦٢٢

سورة النّصر

وتسمّى سورة التوديع ، هي ثلاث آيات وهي مدنية بلا خلاف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزل بالمدينة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عمر قال : هذه السورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوسط أيام التشريق بمنى ، وهو في حجّة الوداع (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) حتى ختمها فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها الوداع. وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : «لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعيت إليّ نفسي». وأخرج ابن مردويه عنه قال : «لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعيت إليّ نفسي ، وقرب إليّ أجلي». وأخرج النسائي ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه أيضا قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) نعيت لرسول الله نفسه حين أنزلت ، فأخذ في أشدّ ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أمّ حبيبة قالت : «لما أنزل (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لم يبعث نبيا إلا عمر في أمته شطر ما عمر النبيّ الماضي قبله ، فإن عيسى ابن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل ، وهذه لي عشرون سنة ، وأنا ميت في هذه السنة ، فبكت فاطمة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت أوّل أهلي بي لحوقا ، فتبسمت». وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال «لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة وقال : إنه قد نعيت إليّ نفسي ، فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت؟ فقال : اصبري فإنك أوّل أهلي لحاقا بي فضحكت» وقد تقدّم في تفسير سورة الزلزلة أن هذه السورة تعدل ربع القرآن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

النصر : العون : مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض : إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها ، ومنه قول الشاعر (١) :

إذا انصرف الشّهر الحرام فودّعي

بلاد تميم وانصري أرض عامر

__________________

(١). هو الراعي.

٦٢٣

يقال : نصره على عدوّه ينصره نصرا ؛ إذا أعانه ، والاسم : النصرة ، واستنصره على عدوّه ؛ إذا سأله أن ينصره عليه ، قال الواحدي : قال المفسرون : (إِذا جاءَ) ك يا محمد (نَصْرُ اللهِ) على من عاداك ، وهم قريش (وَالْفَتْحُ) فتح مكة ، وقيل : المراد نصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش من غير تعيين ، وقيل : نصره على من قاتله من الكفار ، وقيل : هو فتح سائر البلاد ، وقيل : هو ما فتحه الله عليه من العلوم ، وعبّر عن حصول النصر والفتح بالمجيء للإيذان بأنهما متوجّهان إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : إذا : بمعنى : قد ، وقيل : بمعنى إذ. قال الرازي : الفرق بين النصر والفتح ؛ أن الفتح هو تحصيل المطلوب الّذي كان منغلقا ؛ كالسبب للفتح ، فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف عليه الفتح ؛ أو يقال النصر كمال الدين ، والفتح : إقبال الدنيا الّذي هو تمام النعمة ؛ أو يقال : النصر : الظفر ، والفتح : الجنة ، هذا معنى كلامه. ويقال : الأمر أوضح من هذا وأظهر ؛ فإن النصر : هو التأييد الّذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم والاستعلاء عليهم ، والفتح : هو فتح مساكن الأعداء ودخول منازلهم (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي : أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الّذي بعثك به جماعات فوجا بعد فوج. قال الحسن : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قال العرب : أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم ، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا ، أي : جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا ، واثنين اثنين ، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. قال عكرمة ومقاتل : أراد بالناس : أهل اليمن ، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين. وانتصاب أفواجا على الحال من فاعل يدخلون ، ومحل قوله «يدخلون في دين الله» النصب على الحال إن كانت الرؤية بصرية ، وإن كانت بمعنى العلم فهو في محل نصب على أنه المفعول الثاني. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) هذا جواب الشرط ، وهو العامل فيه ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله. وقال مكي : العامل في إذا هو جاء ، ورجّحه أبو حيان وضعف الأوّل بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها ، وقوله : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) في محل نصب على الحال ، أي : فقل سبحان الله متلبسا بحمده ، أو حامدا له. وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس ، وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر والفتح لأمّ القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة ، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم : هو مجنون ، هو ساحر ، هو شاعر ، هو كاهن ، ونحو ذلك. ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار : أي اطلب منه المغفرة لذنبك هضما لنفسك واستقصارا لعملك ، واستدراكا لما فرط منك من ترك ما هو الأولى ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ويكثر من الاستغفار والتضرّع وإن كان قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. وقيل : إن الاستغفار منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به ، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم. وقيل : إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيها لأمته وتعريضا بهم ، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار. وقيل : إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه. وقيل : المراد بالتسبيح هنا : الصلاة. والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سرورا بالنعمة ،

٦٢٤

وفرحا بما هيأه الله من نصر الدين ، وكبت أعدائه ونزول الذلة بهم وحصول القهر لهم. قال الحسن : أعلم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد اقترب أجله ؛ فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح ، فكان يكثر أن يقول : «سبحانك اللهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التواب». قال قتادة ومقاتل : وعاش صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين ، وجملة (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) تعليل لأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار ، أي : من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم ، وتوّاب من صيغ المبالغة ، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين. وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلّت على نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فقالوا : فتح المدائن والقصور ، قال : فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال : قلت مثل ضرب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعيت له نفسه. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه من قد علمتم ، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلّا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عزوجل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه الله له ، قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) فقال عمر : لا أعلم منها إلّا ما تقول. وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) حين أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نفسه نعيت إليه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، وأستغفره وأتوب إليه ، فقلت : يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقال : خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي ، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فتح مكة (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ـ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)».

وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهمّ وبحمدك اللهمّ اغفر لي ، يتأوّل القرآن» يعني إذا جاء نصر الله والفتح ، وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : «لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاء أهل اليمن هم أرقّ قلوبا ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية». وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة إذ قال : الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن ، قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طاعتهم ، الإيمان يمان ، والفقه

٦٢٥

يمان ، والحكمة يمانية». وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا». وأخرج الحاكم وصحّحه ، عن أبي هريرة قال : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) قال : ليخرجنّ منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا».

* * *

٦٢٦

سورة المسد

وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة قالوا : نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

معنى (تَبَّتْ) : هلكت. وقال مقاتل : خسرت ، وقيل : خابت. وقال عطاء : ضلّت. وقيل : صفرت من كل خير ، وخصّ اليدين بالتباب ؛ لأن أكثر العمل يكون بهما. وقيل : المراد باليدين نفسه ، وقد يعبّر باليد عن النفس ، كما في قوله : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (١) أي : نفسك ، والعرب تعبّر كثيرا ببعض الشيء عن كله ، كقولهم : أصابته يد الدهر ، وأصابته يد المنايا ، كما في قول الشاعر :

لمّا أكبّت يد الرّزايا

عليه نادى ألا مجير

وأبو لهب اسمه : عبد العزّى بن عبد المطلب بن هاشم ، وقوله : (وَتَبَ) أي : هلك. قال الفراء : الأوّل دعاء عليه ، والثاني خبر ، كما تقول : أهلكه الله ، وقد هلك. والمعنى : أنه قد وقع ما دعا به عليه. ويؤيده قراءة ابن مسعود : «وقد تبّ». وقيل : كلاهما إخبار ، أراد بالأوّل هلاك عمله ، وبالثاني هلاك نفسه. وقيل : كلاهما دعاء عليه ، ويكون في هذا شبه من مجيء العامّ بعد الخاص ، وإن كان حقيقة اليدين غير مرادة ، وذكره سبحانه بكنيته لاشتهاره بها ، ولكون اسمه كما تقدّم عبد العزى ، والعزى : اسم صنم ، ولكون في هذه الكنية ما يدلّ على أنه ملابس للنار ؛ لأن اللهب هو لهب النار ، وإن كان إطلاق ذلك عليه في الأصل لكونه كان جميلا ، وأن وجهه يتلهب لمزيد حسنه كما تتلهب النار. قرأ الجمهور : «لهب» بفتح اللام والهاء. وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن محيصن بإسكان الهاء ، واتفقوا على فتح الهاء في قوله : (ذاتَ لَهَبٍ) وروى صاحب الكشاف أنه قرئ «تبت يدا أبو لهب» ، وذكر وجه ذلك (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي : ما دفع عنه ما حلّ به من التباب وما نزل به من عذاب الله ما جمع من المال ولا ما كسب من الأرباح والجاه ؛ أو المراد بقوله : ماله : ما ورثه من أبيه ، وبقوله : (وَما كَسَبَ) الّذي كسبه بنفسه. قال مجاهد :

__________________

(١). الحج : ١٠.

٦٢٧

وما كسب من ولد ، وولد الرجل من كسبه ، ويجوز أن تكون «ما» في قوله : (ما أَغْنى) استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنه؟ وكذا يجوز في قوله : (وَما كَسَبَ) أن تكون استفهامية ، أي : وأيّ شيء كسب؟ ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : وكسبه. والظاهر أن ما الأولى نافية ، والثانية موصولة. ثم أوعده سبحانه بالنار فقال : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) قرأ الجمهور : «سيصلى» بفتح الياء وإسكان الصاد وتخفيف اللام ، أي : سيصلى هو بنفسه ، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة وابن مقسم والأشهب العقيلي وأبو السّمّال والأعمش ومحمد بن السّميقع بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير ، والمعنى سيصليه الله ، ومعنى (ذاتَ لَهَبٍ) ذات اشتعال وتوقد ، وهي نار جهنم (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) معطوف على الضمير في يصلى ، وجاز ذلك للفصل ، أي : وتصلى امرأته نارا ذات لهب ، وهي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت تحمل الغضى والشوك ، فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كذا قال ابن زيد والضحاك والربيع بن أنس ومرّة الهمداني. وقال مجاهد وقتادة والسدي : إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس. والعرب تقول : فلان يحطب على فلان ؛ إذا نمّ به ، ومنه قول الشاعر :

إنّ بني الأدرم حمّالو الحطب

هم الوشاة في الرّضا وفي الغضب

عليهم اللّعنة تترى والحرب

وقال آخر :

من البيض لم تصطد على ظهر لأمة

ولم تمش بين النّاس بالحطب الرّطب

وجعل الحطب في هذا البيت رطبا ؛ لما فيه من التدخين الّذي هو زيادة في الشر ، ومن الموافقة للمشي بالنميمة ، وقال سعيد بن جبير : معنى حمالة الحطب أنها حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : فلان يحتطب على ظهره ، كما في قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) (١) وقيل : المعنى : حمالة الحطب في النار. قرأ الجمهور : «حمالة» بالرفع على الخبرية على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب ، وأما على ما قدّمنا من عطف وامرأته على الضمير في تصلى ، فيكون رفع حمالة على النعت لامرأته ، والإضافة حقيقية لأنها بمعنى المضيّ ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هي حمالة. وقرأ عاصم بنصب «حمالة» على الذمّ ، أو على أنه حال من امرأته. وقرأ أبو قلابة : «حاملة الحطب» (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) الجملة في محل نصب على الحال من امرأته ، والجيد : العنق ، والمسد : الليف الّذي تفتل منه الحبال ، ومنه قول النابغة :

مقذوفة بدخيس النّحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد (٢)

__________________

(١). الأنعام : ٣١.

(٢). «مقذوفة» : مرمية باللحم. «الدخيس» : الّذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته. «النحض» : اللحم. «البازل» : الكبير. «الصريف» : الصيح. «القعو» : ما يضم البكرة إذا كان خشبا.

٦٢٨

وقول الآخر :

يا مسد الخوص تعوّذ منّي

إن كنت لدنا ليّنا فإنّي

وقال أبو عبيدة : المسد : هو الحبل يكون من صوف. وقال الحسن : هي حبال تكون من شجر ينبت باليمن تسمى بالمسد. وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها. قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ، كانت تعير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها ، فخنقها الله به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار. وقال مجاهد وعروة بن الزبير : هو سلسلة من نار تدخل في فيها وتخرج من أسفلها. وقال قتادة : هو قلادة من ودع كانت لها. قال الحسن : إنما كان خرزا في عنقها. وقال سعيد بن المسيب : كان لها قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزّى لأنفقنها في عداوة محمد ، فيكون ذلك عذابا في جسدها يوم القيامة. والمسد : الفتل ، يقال : مسد حبله يمسده مسدا ؛ أجاد فتله.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : «لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه ، فاجتمعوا إليه ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقي؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ؛ فقال أبو لهب : تبا لك إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ)». قال : خسرت. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ابنه من كسبه ، ثم قرأت : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) قالت : وما كسب ولده. وأخرج عبد الرزاق والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَما كَسَبَ) قال : كسبه ولده. وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال : كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعقره وأصحابه ، وقال : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) نقالة الحديث (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال : هي حبال تكون بمكة. ويقال : المسد : العصا التي تكون في البكرة. ويقال المسد : قلادة من ودع. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر قالت «لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة ، وفي يدها فهر (٢) ، وهي تقول :

مذمّما أبينا

ودينه قلينا

وأمره عصينا

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلما رآه أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت ، وأنا أخاف أن تراك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنها لن تراني وقرأ قرآنا ، اعتصم به ، كما قال تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (٣) فأقبلت حتى وقفت على أبي

__________________

(١). الشعراء : ٢١٤.

(٢). «الفهر» : الحجر.

(٣). الإسراء : ٤٥.

٦٢٩

بكر ولم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، قال : لا وربّ البيت ما هجاك ، فولّت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها» وأخرجه البزار بمعناه ، وقال : لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد.

* * *

٦٣٠

سورة الإخلاص

وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضّحّاك والسدي. وأخرج أحمد ، والبخاري في تاريخه ، والترمذي وابن جرير وابن خزيمة ، وابن أبي عاصم في السنة ، والبغوي في معجمه ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن أبيّ بن كعب : أن المشركين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد انسب لنا ربك ، فأنزل الله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ـ اللهُ الصَّمَدُ ـ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ). ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله لا يموت ولا يورث (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) قال : لم يكن له شبيه ولا عدل ، وليس كمثله شيء» ورواه الترمذي من طريق أخرى عن أبي العالية مرسلا ولم يذكر أبيّا ، ثم قال : وهذا أصحّ. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي عن جابر قال : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : انسب لنا ربك ، فأنزل الله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إلى آخر السورة» وحسّن السيوطي إسناده. وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن مسعود قال : قالت قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انسب لنا ربك. فنزلت هذه السورة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)». وأخرج ابن أبي حاتم وابن عديّ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس : أن اليهود جاءت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ، فقالوا : يا محمد صف لنا ربك الّذي بعثك ، فأنزل الله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ـ اللهُ الصَّمَدُ ـ لَمْ يَلِدْ) فيخرج منه الولد (وَلَمْ يُولَدْ) فيخرج من شيء». وأخرج أبو عبيدة في فضائله ، وأحمد ، والنسائي في اليوم والليلة ، وابن منيع ومحمد بن نصر وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ قل هو الله أحد فكأنّما قرأ ثلث القرآن». وأخرج ابن الضريس والبزار ، والبيهقي في الشعب ، عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ قل هو الله أحد مائتي مرة غفر له ذنب مائتي سنة». قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا الحسن بن أبي جعفر والأغلب بن تميم ، وهما يتقاربان في سوء الحفظ. وأخرج أحمد والترمذي وابن الضريس ، والبيهقي في سننه ، عن أنس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني أحبّ هذه السورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبّك إيّاها أدخلك الجنة». وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثلاث مرّات في ليلة؟ فإنها تعدل ثلث القرآن» وإسناده ضعيف. وأخرج محمد بن نصر وأبو يعلى عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) خمسين مرّة غفر له ذنوب خمسين سنة» وإسناده ضعيف. وأخرج الترمذي وابن عديّ ، والبيهقي في الشعب ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) مائتي مرة ، كتب الله له ألفا وخمسمائة حسنة ، ومحا عنه ذنوب خمسين سنة ، إلا أن يكون عليه دين» وفي إسناده حاتم بن ميمون ضعّفه البخاري

٦٣١

وغيره ، ولفظ الترمذي : «من قرأ في يوم مائتي مرة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، محي عنه ذنوب خمسين سنة ، إلا أن يكون عليه دين» ، وفي إسناده حاتم بن ميمون المذكور. وأخرج الترمذي ومحمد بن نصر وأبو يعلى وابن عدي والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن ينام على فراشه من الليل فنام على يمينه ، ثم قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) مائة مرة ، فإذا كان يوم القيامة يقول له الربّ : يا عبدي ادخل على يمينك الجنة» وفي إسناده أيضا حاتم بن ميمون المذكور. قال الترمذي بعد إخراجه : غريب من حديث ثابت. وقد روي من غير هذا الوجه عنه. وأخرج ابن سعد وابن الضريس وأبو يعلى ، والبيهقي في الدلائل ، عن أنس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشام ، ـ وفي لفظ : بتبوك ـ فهبط جبريل فقال : «يا محمد إن معاوية ابن معاوية المزني هلك ، أفتحبّ أن تصلّي عليه؟ قال : نعم ، فضرب بجناحه الأرض فتضعضع له كل شيء ولزق بالأرض ورفع سريره فصلّى عليه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أيّ شيء أوتي معاوية هذا الفضل ، صلى عليه صفان من الملائكة في كل صف ستة آلاف ملك؟ قال : بقراءة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) كان يقرؤها قائما وقاعدا وجائيا وذاهبا ونائما» ، وفي إسناده العلاء بن محمد الثقفي ، وهو متهم بالوضع. وروي عنه من وجه آخر بأطول من هذا ، وفي إسناده هذا المتهم. وفي الباب أحاديث في هذا المعنى وغيره.

وقد روي من غير هذا الوجه أنها تعدل ثلث القرآن ، وفيها ما هو صحيح وفيها ما هو حسن ؛ فمن ذلك ما أخرجه مسلم ، والترمذي وصححه ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، فحشد من حشد ، ثم خرج نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثم دخل ، فقال بعضنا لبعض : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن». وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والّذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» يعني (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشقّ ذلك عليهم وقالوا : أينا يطيق ذلك؟ فقال : الله الواحد الصمد ثلث القرآن». وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي الدرداء نحوه. وقد روي نحو هذا بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود ، وحديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وروي نحو هذا عن غير هؤلاء بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف ، ولو لم يرد في فضل هذه السورة إلا حديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا في سرية ، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك»؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرّحمن وأنا أحبّ أن أقرأ بها ، فقال : «أخبروه أن الله تعالى يحبه» هذا لفظ البخاري في كتاب التوحيد. وأخرج البخاري أيضا في كتاب الصلاة من حديث أنس قال : «كان رجل من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباء ، فكان كلما افتتح سورة فقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها ، ثم يقرأ سورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فكلمه أصحابه فقالوا : إنك تفتتح

٦٣٢

بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى ، فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى ، قال : ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمّكم بذلك فعلت ، وإن كرهتم تركتكم ، وكانوا يرون أنه من أفضلهم فكرهوا أن يؤمّهم غيره ، فلما أتاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبروه الخبر ، فقال : «يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة»؟ فقال : إني أحبّها ، قال : «حبك إياها أدخلك الجنة» وقد روي بهذا اللفظ من غير وجه عند غير البخاري.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول ، وأن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك ، فيكون مبتدأ ، والله مبتدأ ثان ، وأحد خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل ، ويجوز أن يكون الله بدلا من هو ، والخبر أحد. ويجوز أن يكون الله خبرا أوّل ، وأحد خبرا ثانيا ، ويجوز أن يكون أحد خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : هو أحد. ويجوز أن يكون هو ضمير شأن لأنه موضع تعظيم ، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه ، والأوّل أولى. قال الزجاج : هو كناية عن ذكر الله ، والمعنى : إن سألتم تبيين نسبته هو الله أحد ، قيل : وهمزة أحد بدل من الواو وأصله واحد. وقال أبو البقاء : همزة أحد أصل بنفسها غير مقلوبة ، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد ، وممّا يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري : أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى ، لا يقال : رجل أحد ، ولا درهم أحد ؛ كما يقال : رجل واحد ودرهم واحد ، قيل : والواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه ، فإذا قلت : لا يقاومه واحد ؛ جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد. وفرّق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد ، وأحد لا يدخل فيه. وردّ عليه أبو حيان بأنه يقال : أحد وعشرون ونحوه فقد دخله العدد ، وهذا كما ترى. ومن جملة القائلين بالقلب الخليل. قرأ الجمهور : «قل هو الله أحد» بإثبات قل. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ : «الله أحد» بدون قل. وقرأ الأعمش «قل هو الله الواحد» ، وقرأ الجمهور بتنوين أحد ، وهو الأصل. وقرأ زيد بن عليّ وأبان بن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السّمّال وأبو عمرو في رواية عنه بحذف التنوين للخفة ؛ كما في قول الشاعر :

عمرو الّذي هشم الثّريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف

وقيل : إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريف ، فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين. ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأوّل منهما بالكسر (اللهُ الصَّمَدُ) الاسم الشريف مبتدأ ، والصمد خبره ، والصمد : هو الّذي يصمد إليه في الحاجات ، أي : يقصد ؛ لكونه قادرا على قضائها ، فهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض ؛ لأنه مصمود إليه ، أي : مقصود إليه ، قال

٦٣٣

الزجاج : الصّمد : السّند الّذي انتهى إليه السؤدد ، فلا سيد فوقه. قال الشاعر :

ألا بكّر النّاعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد

وقيل : معنى الصمد : الدائم الباقي الّذي لم يزل ولا يزول. وقيل : معنى الصمد ما ذكره بعده من أنه الّذي لم يلد ولم يولد. وقيل : هو المستغني عن كل أحد ، والمحتاج إليه كل أحد. وقيل : هو المقصود في الرغائب ، والمستعان به في المصائب ، وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأوّل. وقيل : هو الّذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقيل : هو الكامل الّذي لا عيب فيه. وقال الحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله بن بريدة وعطاء وعطية العوفي والسدي : الصمد : هو المصمت الّذي لا جوف له ، ومنه قول الشاعر :

شهاب حروب لا تزال جياده

عوابس يعلكن الشّكيم المصمّدا (١)

وهذا لا ينافي القول الأوّل لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد ، ثم استعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج ، ولهذا أطبق على القول الأوّل أهل اللغة وجمهور أهل التفسير ، ومنه قول الشاعر :

علوته بحسام ثمّ قلت له

خذها حذيف فأنت السّيّد الصّمد

وقال الزبرقان بن بدر :

سيروا جميعا بنصف اللّيل واعتمدوا

ولا رهينة إلا سيّد صمد

وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية ، وحذف العاطف من هذه الجملة لأنها كالنتيجة للجملة الأولى ، وقيل : إن الصمد صفة للاسم الشريف والخبر هو ما بعده ، والأوّل أولى ؛ لأن السياق يقتضي استقلال كل جملة (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أي : لم يصدر عنه ولد ، ولم يصدر هو عن شيء ؛ لأنه لا يجانسه شيء ، ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقا ولا حقا. قال قتادة : إن مشركي العرب قالوا : الملائكة بنات الله. وقالت اليهود : عزير ابن الله. وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، فأكذبهم الله فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) قال الرازي : قدّم ذكر نفي الولد ، مع أن الولد مقدّم للاهتمام ، لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين : إن الملائكة بنات الله ، واليهود : عزير ابن الله ، والنصارى : المسيح ابن الله ، ولم يدّع أحد أن له والدا ، فلهذا السبب بدأ بالأهمّ فقال : (لَمْ يَلِدْ) ثم أشار إلى الحجّة فقال : (وَلَمْ يُولَدْ) كأنه قيل : الدليل على امتناع الولد اتفاقنا على أنه ما كان ولدا لغيره ، وإنما عبّر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في المستقبل لأنه ورد جوابا عن قولهم : ولد الله كما حكى الله عنهم بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ـ وَلَدَ اللهُ) (٢) فلما كان المقصود من

__________________

(١). «علكت الدابة اللجام» : لاكته وحرّكته. «الشكيم» : الحديد المعترضة في فم الدابة.

(٢). الصافات : ١٥١ ـ ١٥٢.

٦٣٤

هذه الآية تكذيب قولهم ، وهم إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد النفي فيما مضى ، وردت الآية لدفع قولهم هذا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ؛ لأنه سبحانه إذا كان متّصفا بالصفات المتقدمة كان متّصفا بكونه لم يكافئه أحد ، ولا يماثله ، ولا يشاركه في شيء ، وأخّر اسم كان لرعاية الفواصل ، وقوله : «له» متعلق بقوله : «كفوا» قدم عليه لرعاية الاهتمام ؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته. وقيل : إنه في محل نصب على الحال ، والأوّل أولى. وقد ردّ المبرد على سيبويه بهذه الآية لأن سيبويه قال : إنه إذا تقدّم الظرف كان هو الخبر ، وهاهنا لم يجعل خبرا مع تقدّمه ، وقد ردّ على المبرد بوجهين : أحدهما : أن سيبويه لم يجعل ذلك حتما بل جوّزه. والثاني : أنا لا نسلم كون الظرف هنا ليس بخبر ، بل يجوز أن يكون خبرا ويكون كفوا منتصبا على الحال. وحكي في الكشاف عن سيبويه على أن الكلام العربيّ الفصيح أن يؤخر الظرف الّذي هو لغو غير مستقرّ ، واقتصر في هذه الحكاية على نقل أوّل كلام سيبويه ولم ينظر إلى آخره ، فإنه قال في آخر كلامه : والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربيّ جيد كثير ، انتهى. قرأ الجمهور : «كفوا» بضم الكاف والفاء وتسهيل الهمزة ، وقرأ الأعرج وسيبويه ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء ، وروي ذلك عن حمزة مع إبداله الهمزة واوا وصلا ووقفا ، وقرأ نافع في رواية عنه «كفأ» بكسر الكاف وفتح الفاء من غير مدّ ، وقرأ سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس كذلك مع المدّ ، وأنشد قول النابغة :

لا تقذفنّي بركن لا كفاء له

والكفء في لغة العرب النظير ، يقول : هذا كفؤك ، أي : نظيرك ، والاسم الكفاءة بالفتح.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والمحاملي في أماليه ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن بريدة ، لا أعلمه إلا رفعه. قال : (الصَّمَدُ) : الّذي لا جوف له ، ولا يصحّ رفع هذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : (الصَّمَدُ) : الّذي لا جوف له ، وفي لفظ : ليس له أحشاء. وأخرج ابن أبي عاصم وابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن المنذر عنه قال : (الصَّمَدُ) : الّذي لا يطعم ، وهو المصمت. وقال : أو ما سمعت النائحة وهي تقول :

لقد بكّر النّاعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد

وكان لا يطعم عند القتال ، وقد روي عنه أن الّذي يصمد إليه في الحوائج ، وأنه أنشد البيت ، واستدلّ به على هذا المعنى ، وهو أظهر في المدح وأدخل في الشرف ، وليس لوصفه بأنه لا يطعم عند القتال كثير معنى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : (الصَّمَدُ) : السيد الّذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الّذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الّذي قد كمل في عظمته ، والحليم الّذي قد كمل في حلمه ، والغنيّ الّذي قد كمل في غناه ، والجبار الّذي قد كمل في جبروته ، والعالم الّذي قد كمل في علمه ، والحكيم الّذي قد كمل في حكمته ، وهو الّذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه هذه صفة لا تنبغي إلا

٦٣٥

له ليس له كفو وليس كمثله شيء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال : (الصَّمَدُ) : هو السيد الّذي قد انتهى سؤدده فلا شيء أسود منه. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس قال : (الصَّمَدُ) : الّذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء. وأخرج ابن جرير من طرق عنه في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) قال : ليس له كفو ولا مثل.

* * *

٦٣٦

سورة الفلق

وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة ، وأخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق ـ قال السيوطي : صحيح ـ عن ابن مسعود أنه كان يحكّ المعوّذتين في المصحف يقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه ، إنهما ليستا من كتاب الله ، إنما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتعوّذ بهما ، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما. قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة. وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف. وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن زرّ بن حبيش قال : «أتيت المدينة فلقيت أبيّ بن كعب ، فقلت له : أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوّذتين في مصحفه ، فقال : أما والّذي بعث محمدا بالحقّ لقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك ، قال : «قيل لي : قل ، فقلت : فقولوا» فنحن نقول كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وأخرج الطبراني عن ابن مسعود «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هاتين السورتين ، فقال : «قيل لي ، فقلت فقولوا كما قلت». وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهنّ قطّ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)». وأخرج ابن الضريس وابن الأنباري ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله : أقرئني سورة يوسف وسورة هود ، قال : «يا عقبة اقرأ بقل أعوذ برب الفلق ، فإنك لن تقرأ سورة أحبّ إلى الله وأبلغ منها ، فإذا استطعت أن لا تفوتك فافعل». وأخرج ابن سعد والنسائي والبغوي والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أبا حابس أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوّذون؟ قال بلى يا رسول الله ، قال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) هما المعوّذتان». وأخرج الترمذي وحسّنه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوّذ من عين الجانّ ومن عين الإنس ، فلما نزلت سورة المعوّذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك». وأخرج أبو داود والنسائي ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود : «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكره عشر خصال ، ومنها أنه كان يكره الرقي إلا بالمعوّذتين». وأخرج ابن مردويه عن أمّ سلمة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب السور إلى الله (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)». وأخرج النسائي وابن الضريس ، وابن حبان في صحيحه ، وابن الأنباري وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : «أخذ بمنكبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : اقرأ ، قلت : ما أقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال : قل أعوذ بربّ الفلق ، ثم قال اقرأ ، قلت : بأبي أنت وأمي ما أقرأ؟ قال : قل أعوذ بربّ الناس ، ولم تقرأ بمثلهما». وأخرج مالك في الموطأ ، عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده عليه رجاء بركتهما». وأخرجه البخاري ومسلم في

٦٣٧

صحيحيهما ، من طريق مالك بالإسناد المذكور. وأخرج عبد بن حميد في مسنده ، عن زيد بن أرقم قال : «سحر النبيّ رجل من اليهود ، فاشتكى ، فأتاه جبريل ، فنزل عليه بالمعوّذتين ، وقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان ، فأرسل عليا ، فجاء به ، فأمره أن يحلّ العقد ، ويقرأ آية ويحلّ ، حتى قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنما نشط من عقال». وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث عائشة مطوّلا ، وكذلك أخرجه من حديث ابن عباس.

وقد ورد في فضل المعوّذتين ، وفي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما في الصلاة وغيرهما أحاديث ، وفيما ذكرناه كفاية. وأخرج الطبراني في الصغير ، عن عليّ بن أبي طالب قال : «لدغت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقرب وهو يصلي ، فلما فرغ قال : لعن الله العقرب لا تدع مصلّيا ولا غيره ، ثم دعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ : قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ بربّ الفلق ، وقل أعوذ برب الناس».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

(الْفَلَقِ) الصبح ، يقال : هو أبين من فلق الصبح ، وسمّي فلقا لأنه يفلق عنه الليل ، وهو فعل بمعنى مفعول ، قال الزجاج : لأن الليل ينفلق عنه الصبح ، ويكون بمعنى مفعول ، يقال : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح ، وهذا قول جمهور المفسرين ، ومنه قول ذي الرّمة :

حتّى إذا ما انجلى عن وجهه فلق

هاديه (١) في أخريات اللّيل منتصب

وقول الآخر :

يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا (٢)

أرعى النّجوم إلى أن نوّر الفلق

وقيل : هو سجن في جهنم ، وقيل : هو اسم من أسماء جهنم ، وقيل : شجرة في النار ، وقيل : هو الجبال والصخور ، لأنها تفلق بالمياه ، أي : تشقق ، وقيل : هو التفليق بين الجبال ؛ لأنها تنشقّ من خوف الله. قال النحاس : يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق ، ومنه قول زهير :

ما زلت أرمقهم حتّى إذا هبطت

أيدي الرّكاب بهم من راكس فلقا

والركس : بطن الوادي ، ومثله قول النابغة :

__________________

(١). «هاديه» : أي أوله.

(٢). «مرتفقا» : أي متكئا على مرفق يده.

٦٣٨

أتاني ودوني راكس فالضّواجع (١)

وقيل : هو الرحم تنفلق بالحيوان ، وقيل : هو كلّ ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى ، وكلّ شيء من نبات وغيره ، قاله الحسن والضحاك. قال القرطبي : هذا القول يشهد له الانشقاق ، فإن الفلق : الشقّ ، فلقت الشيء فلقا : شققته ، والتفليق مثله ، يقال : فلقته فانفلق وتفلق ، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحبّ ونوى وماء فهو فلق. قال الله سبحانه : (فالِقُ الْإِصْباحِ) (٢) وقال : (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) (٣) انتهى. والقول الأوّل أولى لأن المعنى وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمّنه لكنه المتبادر عند الإطلاق. وقد قيل في وجه تخصيص الفلق : الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه ، وقيل : طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح ؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح ، كذلك الخائف يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح ، وقيل : غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) متعلق بأعوذ ، أي : من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته فيعمّ جميع الشرور ، وقيل : هو إبليس وذريّته ، وقيل : جهنم ، ولا وجه لهذا التخصيص ، كما أنه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنية. وقد حرّف بعض المتعصّبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه وتقويما لباطله ، فقرؤوا بتنوين شرّ على أن «ما» نافية ، والمعنى : من شرّ لم يخلقه ، ومنهم عمرو بن عبيد وعمرو بن عائذ (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) الغاسق : الليل ، والغسق : الظلمة ، يقال : غسق الليل يغسق ؛ إذا أظلم. قال الفراء : يقال : غسق الليل وأغسق ؛ إذا أظلم ، ومنه قول قيس بن الرقيات :

إنّ هذا اللّيل قد غسقا

واشتكيت الهمّ والأرقا

وقال الزجاج : قيل لليل : غاسق ؛ لأنه أبرد من النهار ، والغاسق ، البارد ، والغسق : البرد ، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوامّ من أماكنها ، وينبعث أهل الشرّ على العيث والفساد ، كذا قال ، وهو قول بارد ، فإن أهل اللغة على خلافه ، وكذا جمهور المفسرين. ووقبه : دخول ظلامه ، ومنه قول الشاعر :

وقب العذاب عليهم فكأنّهم

لحقتهم نار السّموم فأحصدوا

أي : دخل العذاب عليهم ، ويقال : وقبت الشمس ؛ إذا غابت ، وقيل : الغاسق : الثريا ، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك ، وبه قال ابن زيد. وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق. وقال الزهري : هو الشمس إذا غربت ، وكأنه لاحظ معنى الوقوب ولم يلاحظ معنى الغسوق ، وقيل : هو القمر إذا خسف ، وقيل : إذا غاب. وبهذا قال قتادة وغيره ، واستدلوا بحديث أخرجه أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه ، وابن

__________________

(١). وصدر البيت : وعيد أبي قابوس في غير كنهه.

(٢). الأنعام : ٩٦.

(٣). الأنعام : ٩٥.

٦٣٩

مردويه عن عائشة قالت : «نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال : يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب». قال الترمذي : بعد إخراجه حسن صحيح ، وهذا لا ينافي قول الجمهور ، لأن القمر آية الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه ، وهكذا يقال في جواب من قال : إنه الثريا. قال ابن الأعرابي : في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وقيل : الغاسق : الحية إذا لدغت. وقيل الغاسق : كلّ هاجم يضرّ كائنا من كان ، من قولهم غسقت القرحة ؛ إذا جرى صديدها. وقيل : الغاسق : هو السائل ، وقد عرّفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأوّل ، ووجه تخصيصه أن الشرّ فيه أكثر ، والتحرز من الشرور فيه أصعب ، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) النفاثات : هنّ السواحر ، أي : ومن شر النفوس النفاثات ، أو النساء النفاثات ، والنفث : النفخ كما يفعل ذلك من يرقى ويسحر ، قيل : مع ريق ، وقيل : بدون ريق ، والعقد : جمع عقدة ، وذلك أنهنّ كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها ، ومنه قول عنترة :

فإن يبرأ فلم أنفث عليه

وإن يفقد فحقّ له الفقود

وقول متمّم بن نويرة :

نفثت في الخيط شبيه الرّقى

من خشية الجنّة والحاسد

قال أبو عبيدة : النفاثات هنّ بنات لبيد الأعصم اليهودي ، سحرن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قرأ الجمهور : (النَّفَّاثاتِ) جمع : نفاثة ؛ على المبالغة. وقرأ يعقوب وعبد الرّحمن بن سابط وعيسى بن عمر (النَّفَّاثاتِ) جمع : نافثة. وقرأ الحسن (النَّفَّاثاتِ) بضم النون. وقرأ أبو الربيع النفثات بدون ألف. (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) الحسد : تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على إيقاع الشرّ بالمحسود. قال عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد. وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال :

قل للحسود إذا تنفّس طعنة

يا ظالما وكأنّه مظلوم

ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الاستعاذة من شرّ كل مخلوقاته على العموم ، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شرّه ومزيد ضرّه ، وهو الغاسق والنفاثات والحاسد ، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشرّ حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر.

وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال : «صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) فقال : يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : بئر في جهنم». وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع. وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتح سعرت جهنم». وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله

٦٤٠