فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

وانتصاب (حُنَفاءَ) على الحال من ضمير مخلصين ، فتكون من باب التداخل ، ويجوز أن تكون من فاعل يعبدوا ، والمعنى : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. قال أهل اللغة : أصله أن يحنف إلى دين الإسلام ، أي : يميل إليه (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي : يفعلوا الصلوات في أوقاتها ، ويعطوا الزكاة عند محلّها ، وخصّ الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين. قيل : إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر ، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا ، وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي : وذلك المذكور من عبادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة والزكاة (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الملة المستقيمة. قال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة ، فالقيمة صفة لموصوف محذوف. قال الخليل : القيمة جمع القيم ، والقيم : القائم. قال الفراء : أضاف الدّين إلى القيمة ، وهو نعته لاختلاف اللفظين. وقال أيضا : هو من إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة.

ثم بيّن سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ) الموصول اسم إنّ ، والمشركين معطوف عليه ، وخبرها : في نار جهنم ، و (خالِدِينَ فِيها) حال من المستكنّ في الخبر ، ويجوز أن يكون قوله والمشركين مجرورا عطفا على أهل الكتاب ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى من تقدّم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتّصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي : الخليقة ، يقال برأ ، أي : خلق ، والبارئ : الخالق ، والبرية : الخليقة. قرأ الجمهور : «البرية» بغير همز في الموضعين وقرأ نافع وابن ذكوان فيهما بالهمز. قال الفراء : إن أخذت البرية من البراء وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ ، وإن أخذتها من بريت القلم ، أي : قدّرته دخلت. وقيل : إن الهمز هو الأصل ؛ لأنه يقال : برأ الله الخلق بالهمز ، أي : ابتدعه واخترعه ، ومنه قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) (١) ولكنها خففت الهمزة ، والتزم تخفيفها عند عامة العرب. ثم بيّن حال الفريق الآخر فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (أُولئِكَ) المنعوتون بهذا (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال : والمراد أن أولئك شرّ البرية في عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شرّ منهم ، وهؤلاء خير البرية في عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السابقة من هو خير منهم (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان والعمل الصالح (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) والمراد بجنات عدن هي أوسط الجنات وأفضلها ، يقال : عدن بالمكان يعدن عدنا ، أي : أقام ، ومعدن الشيء : مركزه ومستقرّه ، ومنه قول الأعشى :

وإن يستضافوا إلى حكمه

يضافوا إلى راجح قد عدن

__________________

(١). الحديد : ٢٢.

٥٨١

وقد قدّمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد مجموع قرار الأرض والشجر ، فجرى الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر ، وهو الشجر (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها ، بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) الجملة مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجرّد الجزاء ، وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره وقبلوا شرائعه ، ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا ، وأن تكون في محل نصب على الحال بإضمار قد (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي : ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له لا مجرّد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه فإنها ليست بخشية على الحقيقة.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (مُنْفَكِّينَ) قال : برحين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : أتعجبون من منزلة الملائكة من الله ، والّذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك ، واقرءوا إن شئتم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : «قلت : يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال : يا عائشة أما تقرئين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)». وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : «كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل عليّ ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والّذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) فكان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقبل قالوا : قد جاء خير البرية». وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا : «عليّ خير البرية». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «لما نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ : «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين». وأخرج ابن مردويه عن عليّ مرفوعا نحوه. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة (١) استوى عليه ، ألا أخبركم بشرّ البرية؟ قالوا : بلى : قال : الّذي يسأل بالله ولا يعطي به». قال أحمد : حدّثنا إسحاق بن عيسى ، حدّثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره.

* * *

__________________

(١). الهيعة : الصوت الّذي تفزع منه وتخافه من عدو.

٥٨٢

سورة الزّلزلة

وهي مدنية في قول ابن عباس وقتادة ، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت (إِذا زُلْزِلَتِ) بالمدينة. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر ، والحاكم وصححه ، والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن عبد الله بن عمرو قال : «أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقرئني يا رسول الله ، قال : اقرأ ثلاثا من ذوات الرّاء ، فقال الرجل : كبر سني ، واشتدّ قلبي ، وغلظ لساني ، قال : اقرأ ثلاثا من ذوات حم ، فقال مثل مقالته الأولى ، فقال : اقرأ ثلاثا من المسبحات ، فقال مثل مقالته الأولى ، وقال : ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة ، فأقرأه : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) حتى فرغ منها ، قال الرجل : والّذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلح الرويجل ، أفلح الرويجل». وأخرج الترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ إذا زلزلت الأرض عدلت له بنصف القرآن ، ومن قرأ : قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن ، ومن قرأ : قل يا أيها الكافرون عدلت له بربع القرآن». وأخرج الترمذي وابن الضريس ومحمد بن نصر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن». قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلّا من حديث يمان بن المغيرة. وأخرج الترمذي عن أنس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل من أصحابه : هل تزوّجت يا فلان؟ قال : لا والله يا رسول الله ، ولا عندي ما أتزوّج به ، قال : أليس معك قل هو الله أحد؟ قال : بلى ، قال : ثلث القرآن ، قال : أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟ قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، قال : أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، قال : أليس معك إذا زلزلت الأرض؟ قال : بلى ، قال : ربع القرآن ، تزوّج». قال الترمذي : هذا حديث حسن. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ في ليلة إذا زلزلت كان له عدل نصف القرآن».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

قوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي : إذا حركت حركة شديدة ، وجواب الشرط : تحدث ،

٥٨٣

والمراد تحركها عند قيام الساعة فإنها تضطرب حتى يتكسر كلّ شيء عليها. قال مجاهد : وهي النفخة الأولى لقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ـ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (١) وذكر المصدر للتأكيد ثم أضافه إلى الأرض فهو مصدر مضاف إلى فاعله ، والمعنى : زلزالها المخصوص الّذي يستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها. قرأ الجمهور : «زلزالها» بكسر الزاي ، وقرأ الجحدري وعيسى بفتحها ، وهما مصدران بمعنى ، وقيل : المكسور مصدر والمفتوح اسم. قال القرطبي : والزلزال بالفتح مصدر كالوسواس والقلقال (٢) (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي : ما في جوفها من الأموات والدفائن ، والأثقال : جمع ثقل ، قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها ، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. قال مجاهد : أثقالها موتاها تخرجهم في النفخة الثانية ، وقد قيل للإنس والجنّ الثقلان ، وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) أي : قال كل فرد من أفراد الإنسان ما لها زلزلت؟ لما يدهمه من أمرها ويبهره من خطبها ، وقيل : المراد بالإنسان الكافر ، وقوله : مالها مبتدأ وخبر ، وفيه معنى التعجيب ، أي : أيّ شيء لها ، أو لأيّ شيء زلزلت وأخرجت أثقالها؟ وقوله : (يَوْمَئِذٍ) بدل من إذا ، والعامل فيهما قوله : (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) ويجوز أن يكون العامل في إذا محذوفا والعامل في يومئذ تحدّث ، والمعنى : يوم إذا زلزلت وأخرجت تخبر بأخبارها وتحدّثهم بما عمل عليها من خير وشرّ ، وذلك إما بلسان الحال حيث يدلّ على ذلك دلالة ظاهرة ، أو بلسان المقال ، بأن ينطقها الله سبحانه. وقيل : هذا متصل بقوله : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) أي : قال مالها (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) متعجّبا من ذلك ، وقال يحيى بن سلام : تحدّث أخبارها بما أخرجت من أثقالها ، وقيل : تحدث بقيام الساعة ، وأنها قد أتت وأن الدنيا قد انقضت. قال ابن جرير : تبين أخبارها بالرجفة والزلزلة وإخراج الموتى ، ومفعول تحدّث الأوّل محذوف والثاني هو أخبارها ، أي : تحدّث الخلق أخبارها (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) متعلّق بتحدّث ، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها ، وقيل : الباء زائدة ، وأنّ وما في حيزها بدل من أخبارها ، وقيل : الباء سببية ، أي : بسبب إيحاء الله إليها. قال الفراء : تحدّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها ، واللام في أوحى لها بمعنى إلى وإنما أثرت على إلى لموافقة الفواصل ، والعرب تضع لام الصفة موضع إلى ، كذا قال أبو عبيدة. وقيل : إن أوحى يتعدّى باللام تارة ، وبإلى أخرى ، وقيل : إن اللام على بابها من كونها للعلة ، والموحى إليه محذوف ، وهو الملائكة ، والتقدير : أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض : أي لأجل ما يفعلون فيها ، والأوّل أولى (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) الظرف إما بدل من يومئذ الّذي قبله ، وإما منصوب بمقدّر هو اذكر ، وإما منصوب بما بعده ، والمعنى : يوم إذ يقع ما ذكر يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب أشتاتا ، أي : متفرّقين ، والمصدر : الرجوع وهو ضدّ الورود ، وقيل : يصدرون من موضع الحساب إلى الجنة أو النار ، وانتصاب أشتاتا على الحال ، والمعنى : أن بعضهم آمن وبعضهم خائف ، وبعضهم بلون أهل الجنة وهو البياض ، وبعضهم بلون أهل النار وهو السواد ، وبعضهم ينصرف إلى جهة

__________________

(١). النازعات : ٦ ـ ٧.

(٢). «القلقال» : من قلقل الشيء إذا حرّكه.

٥٨٤

اليمين وبعضهم إلى جهة الشمال ، مع تفرّقهم في الأديان واختلافهم في الأعمال (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) متعلّق بيصدر ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : تحدّث أخبارها بأن ربك أوحى لها ليروا أعمالهم (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً). قرأ الجمهور : «ليروا» مبنيا للمفعول ، وهو من رؤية البصر ، أي : ليريهم الله أعمالهم. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة ونصر بن عاصم وطلحة بن مصرّف على البناء للفاعل ، ورويت هذه القراءة عن نافع ، والمعنى : ليروا جزاء أعمالهم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) أي : وزن نملة ، وهي أصغر ما يكون من النمل. قال مقاتل : فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرّة خيرا يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به ، (وَ) كذلك (مَنْ يَعْمَلْ) في الدنيا (مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يوم القيامة فيسوؤه ، ومثل هذه الآية قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (١). وقال بعض أهل اللغة : إن الذرّة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق من التراب فهو الذرّة ، وقيل : الذرّ ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ، والأوّل أولى ، ومنه قول امرئ القيس :

من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذرّ فوق الأتب منها لأثّرا

و «من» الأولى عبارة عن السعداء ، و «من» الثانية عبارة عن الأشقياء. وقال محمد بن كعب : فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا وفي نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عند الله خير ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عند الله شرّ ، والأوّل أولى. قال مقاتل : نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول : إنما أوعد الله النار على الكافرين. قرأ الجمهور «يره» في الموضعين بضم الهاء وصلا وسكونها وقفا ، وقرأ هشام بسكونها وصلا ووقفا ، ونقل أبو حيان عن هشام وأبي بكر سكونها ، وعن أبي عمرو ضمها مشبعة ، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية ، وفي هذا النقل نظر ، والصواب ما ذكرنا. وقرأ الجمهور : «يره» مبنيا للفاعل في الموضعين. وقرأ ابن عباس وابن عمر والحسن والحسين ابنا عليّ وزيد بن عليّ وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية عنهما والجحدري والسلمي وعيسى على البناء للمفعول فيهما ، أي : يريه الله إياه. وقرأ عكرمة «يراه» على توهم أن من موصولة ، أو على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدّرة في الفعل.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) قال : تحركت من أسفلها (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) قال : الموتى (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) قال : الكافر يقول : ما لها (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال : قال لها ربك قولي فقالت. (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) قال : أوحى إليها (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) قال : من كل من هاهنا وهاهنا. وأخرج ابن المنذر عنه (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) قال : الكنوز والموتى. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال :

__________________

(١). النساء : ٤٠.

٥٨٥

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا». وأخرج أحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فقال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل كذا وكذا ، فهذا أخبارها». وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الأرض لتجيء يوم القيامة بكل عمل على ظهرها ، وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) حتى بلغ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها)». وأخرج الطبراني عن ربيعة الحرشي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تحفظوا من الأرض فإنها أمّكم ، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرّا إلا وهي مخبرة». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في تاريخه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أنس قال : «بينما أبو بكر الصديق يأكل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نزلت عليه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ـ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرّة من شرّ ، فقال : يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ ويدخر لك مثاقيل ذرّ الخير حتى توفاه يوم القيامة». وأخرج إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد والحاكم وابن مردويه عن أبي أسماء قال : «بينما أبو بكر يتغدّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نزلت هذه الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ـ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فأمسك أبو بكر وقال : يا رسول الله ما عملنا من شرّ رأيناه ، فقال : ما ترون مما تكرهون فذاك مما تجزون ويؤخر الخير لأهله في الآخرة». وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر بن العاص قال : «أنزلت إذا زلزلت الأرض زلزالها وأبو بكر الصديق قاعد فبكى ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال : يبكيني هذه السورة ، فقال : لو لا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر لكم خلق الله قوما يخطئون ويذنبون فيغفر لهم». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر» الحديث. وقال : «وسئل عن الحمر فقال : ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ـ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)».

* * *

٥٨٦

سورة العاديات

وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ، ومدنية في قول ابن عباس وأنس بن مالك وقتادة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة (وَالْعادِياتِ) بمكة. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، والعاديات تعدل نصف القرآن» ، وهو مرسل. وأخرج محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا مثله ، وزاد : «وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(الْعادِياتِ) جمع عادية ، وهي الجارية بسرعة ، من العدو : وهو المشي بسرعة ، فأبدلت الواو ياء لكسر ما قبلها كالغازيات من الغزو ، والمراد بها الخيل العادية في الغزو نحو العدوّ ، وقوله : (ضَبْحاً) مصدر مؤكد لاسم الفاعل ، فإن الضبح نوع من السير ونوع من العدو ، يقال : ضبح الفرس ؛ إذا عدا بشدّة ، مأخوذ من الضبح ، وهو الدفع ، وكأن الحاء بدل من العين. قال أبو عبيدة والمبرّد : الضبح من أضباعها في السير ، ومنه قول عنترة :

والخيل تعلم حين تض

بح في حياض الموت ضبحا

ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، أي : ضابحات ، أو ذوات ضبح ، ويجوز أن يكون مصدرا لفعل محذوف ، أي : تضبح ضبحا ، وقيل : الضبح : صوت حوافرها إذا عدت ، وقال الفراء : الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت. قيل : كانت تكعم (١) لئلا تصهل فيعلم العدوّ بهم ، فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوّة ، وقيل : الضبح : صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ليس بصهيل. وقد ذهب الجمهور إلى ما ذكرنا من أن «العاديات ضبحا» هي الخيل. وقال عبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدّي : هي الإبل ، ومنه قول صفية بنت عبد المطلب :

__________________

(١). «تكعم» : الكعام : شيء يجعل على فم البعير.

٥٨٧

فلا والعاديات غداة جمع

بأيديها إذا سطع الغبار

ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح للثعلب فاستعير للخيل ، ومنه قول الشاعر :

تضبح في الكفّ ضباح الثّعلب

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) هي الخيل حين توري النار بسنابكها ، والإيراء : إخراج النار ، والقدح : الصك ، فجعل ضرب الخيل بحوافرها كالقدح بالزناد. قال الزجاج : إذا عدت الخيل بالليل وأصاب حوافرها الحجارة انقدح منها النيران ، والكلام في انتصاب قدحا كالكلام في انتصاب ضبحا ، والخلاف في كونها الخيل أو الإبل كالخلاف الّذي تقدّم في العاديات ، والراجح أنها الخيل كما ذهب إليه الجمهور ، وكما هو الظاهر في هذه الأوصاف المذكورة في هذه السورة ما تقدّم منها وما سيأتي ، فإنها في الخيل أوضح منها في الإبل ، وسيأتي ما في ذلك من الخلاف بين الصحابة (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي : التي تغير على العدوّ وقت الصباح ، يقال : أغار يغير إغارة : إذا باغت عدوّه بقتل أو أسر أو نهب وأسند الإغارة إليها وهي لأهلها للإشعار بأنها عمدتهم في إغارتهم ، وانتصاب صبحا على الظرفية (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) معطوف على الفعل الّذي دلّ عليه اسم الفاعل ، إذ المعنى : واللاتي عدون فأثرن ، أو على اسم الفاعل نفسه لكونه في تأويل الفعل لوقوعه صلة للموصول ، فإن الألف واللام في الصفات أسماء موصولة ، فالكلام في قوّة : واللاتي عدون فأغرن فأثرن ، والنقع : الغبار الّذي أثرنه في وجه العدو عند الغزو ، وتخصيص إثارته بالصبح لأنه وقت الإغارة ، ولكونه لا يظهر أثر النقع في الليل الذي اتصل به الصبح. وقيل : المعنى : فأثرن بمكان عدوهنّ نقعا ، يقال ثار النقع وأثرته : أي هاج أو هيجته. قرأ الجمهور : (فَأَثَرْنَ) بتخفيف المثلثة. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتشديد ، أي : فأظهرن به غبارا. وقال أبو عبيدة : النقع : رفع الصوت ، وأنشد قول لبيد :

فمتى ينقع صراخ صادق

يحلبوها ذات جرس وزجل

يقول حين سمعوا صراخا : أحلبوا الحرب ، أي : جمعوا لها. قال أبو عبيدة : وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم انتهى ، والمعروف عند جمهور أهل اللغة والمفسرين أن النقع الغبار ، ومنه قول الشاعر :

يخرجن من مستطار النّقع دامية

كأنّ أذنابها أطراف أقلام

وقول عبد الله بن رواحة :

عدمنا خيلنا إن لم تروها

تثير النّقع من كنفي كداء

وقول الآخر :

كأنّ مثار النّقّع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وهذا هو المناسب لمعنى الآية ، وليس لتفسير النقع بالصوت فيها كثير معنى ، فإن قولك أغارت الخيل على بني فلان صبحا فأثرن به صوتا ، قليل الجدوى مغسول المعنى بعيد من بلاغة القرآن المعجزة. وقيل :

٥٨٨

النقع : شقّ الجيوب ، وقال محمد بن كعب : النقع ما بين مزدلفة إلى منى ، وقيل : إنه طريق الوادي. قال في الصّحاح : النقع : الغبار ، والجمع : أنقاع ، والنقع : محبس الماء ، وكذلك ما اجتمع في البئر منه ، والنقع : الأرض الحرّة الطين يستنقع فيها الماء (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي : توسطن بذلك الوقت ، أو توسطن متلبسات بالنقع جمعا من جموع الأعداء ، أو صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء ، والباء إما للتعدية ، أو للحالية ، أو زائدة ؛ يقال : وسطت المكان ، أي : صرت في وسطه ، وانتصاب «جمعا» على أنه مفعول له ، والفاءات في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل واحد منها على ما قبلها. قرأ الجمهور : (فَوَسَطْنَ) بتخفيف السين ، وقرئ بالتشديد (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم ، والمراد بالإنسان بعض أفراده ، وهو الكافر ، والكنود : الكفور للنعمة ، وقوله : (لِرَبِّهِ) متعلّق بكنود ، قدّم لرعاية الفواصل ، ومنه قول الشاعر :

كنود لنعماء الرّجال ومن يكن

كنودا لنعماء الرّجال يبعّد

أي : كفور لنعماء الرجال ، وقيل : هو الجاحد للحقّ ، قيل : إنها إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها. وقيل : الكنود مأخوذ من الكند ، وهو القطع ، كأنه قطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. يقال كند الحبل : إذا قطعه ، ومنه قول الأعشى :

وصول حبال وكنّادها (١)

وقيل : الكنود : البخيل ، وأنشد أبو زيد :

إنّ نفسي لم تطب منك نفسا

غير أنّي أمسي بدين كنود

وقيل : الكنود : الحسود ، وقيل : الجهول لقدره ، وتفسير الكنود بالكفور للنعمة أولى بالمقام ، والجاحد للنعمة كافر لها ، ولا يناسب المقام سائر ما قيل ، (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي : وإن الإنسان على كنوده لشهيد يشهد على نفسه به لظهور أثره عليه ؛ وقيل المعنى : وإن الله جلّ ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد ، وبه قال الجمهور. وقال بالأوّل الحسن وقتادة ومحمد بن كعب ، وهو أرجح من قول الجمهور لقوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) فإن الضمير راجع إلى الإنسان ، والمعنى : إنه لحبّ المال قويّ مجدّ في طلبه وتحصيله متهالك عليه ، يقال : هو شديد لهذا الأمر وقويّ له ؛ إذا كان مطيقا له ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (٢) ومنه قول عديّ بن حاتم :

ماذا ترجّي النفوس من طلب ال

خير وحبّ الحياة كاربها (٣)

__________________

(١). وصدر البيت : أميطي تميطي بصلب الفؤاد.

(٢). البقرة : ١٨٠.

(٣). أي غامّها ، من كربه الأمر : أي اشتدّ عليه.

٥٨٩

وقيل : المعنى : وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل ، والأوّل أولى. واللام في (لِحُبِ) متعلقة بشديد. قال ابن زيد : سمّى الله المال خيرا ، وعسى أن يكون شرّا ، ولكن الناس يجدونه خيرا ، فسمّاه خيرا. قال الفراء : أصل نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحبّ للخير ، فلما قدّم الحبّ قال : لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحبّ ، لأنه قد جرى ذكره ، ولرؤوس الآي كقوله : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (١) والعصوف للريح لا لليوم ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) الاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، أي : يفعل ما يفعل من القبائح فلا يعلم ، وبعثر معناه : نثر وبحث ، أي : نثر ما في القبور من الموتى وبحث عنهم وأخرجوا. قال أبو عبيدة : بعثرت المتاع : جعلت أسفله أعلاه. قال الفرّاء : سمعت بعض العرب من بني أسد يقول : بحثر بالحاء مكان العين ، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (٢) (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي : ميز وبيّن ما فيها من الخير والشرّ ، والتحصيل : التمييز ، كذا قال المفسرون ، وقيل : حصل : أبرز. قرأ الجمهور : (حُصِّلَ) بضم الحاء وتشديد الصاد مكسورا مبنيا للمفعول ، وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم «حصل» بفتح الحاء والصاد وتخفيفها مبنيا للفاعل ، أي : ظهر (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي : إن ربّ المبعوثين بهم لخبير ، لا تخفى عليه منهم خافية ؛ فيجازيهم بالخير خيرا ، وبالشرّ شرّا. قال الزجاج : الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره ، ولكن المعنى : إن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم ، ومثله قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) (٣) معناه : أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم. قرأ الجمهور (إِنَّ رَبَّهُمْ) بكسر الهمزة وباللام في «لخبير» ، وقرأ أبو السمّال بفتح الهمزة وإسقاط اللام من «الخبير».

وقد أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والدار قطني في الأفراد ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر ، فنزلت : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) ضبحت بأرجلها» ولفظ ابن مردويه : ضبحت بمناخرها (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قدحت بحوافرها الحجارة فأورت نارا (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) صبحت القوم بغارة (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أثارت بحوافرها التراب (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) صبحت القوم جميعا. وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى العدوّ فأبطأ خبرها ، فشقّ ذلك عليه ، فأخبره الله خبرهم وما كان من أمرهم ، فقال : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : «هي الخيل». والضبح : نخير الخيل حين تنخر ، (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال : حين تجري الخيل توري نارا أصابت سنابكها الحجارة (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال : هي الخيل أغارت فصبحت العدوّ ، (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) قال : هي الخيل أثرن بحوافرها ، يقول : بعدو الخيل ، والنقع : الغبار ، (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال : الجمع : العدو. وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : تقاولت أنا وعكرمة في شأن العاديات ، فقال : قال ابن عباس : هي الخيل في القتال ، وضبحها حين ترخي مشافرها إذا عدت (فَالْمُورِياتِ

__________________

(١). إبراهيم : ١٨.

(٢). الانفطار : ٤.

(٣). النساء : ٦٣.

٥٩٠

قَدْحاً) أرت المشركين مكرهم (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال : إذا أصبحت العدو (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال : إذا توسطت العدو. وقال أبو صالح : فقلت : قال عليّ : هي الإبل في الحج ، ومولاي كان أعلم من مولاك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل يسأل عن «العاديات ضبحا» فقلت : الخيل حين تغير في سبيل الله ، ثم تأوي إلى الليل ؛ فيصنعون طعامهم ويورون نارهم ، فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب وهو جالس تحت سقاية زمزم ، فسأله عن العاديات ضبحا ، فقال : سألت عنها أحدا قبلي؟ قال : نعم سألت عنها ابن عباس ، فقال : هي الخيل حين تغير في سبيل الله ، فقال : اذهب فادعه لي ، فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك ، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام لبدر ، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون (الْعادِياتِ ضَبْحاً) إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى المزدلفة ، فإذا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران ، (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) من المزدلفة إلى منى ، فذلك جمع ، وأما قوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فهي نقع الأرض تطؤه بأخفافها وحوافرها. قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ، ورجعت إلى الّذي قال عليّ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : الإبل ، أخرجوه عنه من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي. قال إبراهيم : وقال عليّ بن أبي طالب : هي الإبل. وقال ابن عباس : هي الخيل ، فبلغ عليا قول ابن عباس : فقال : ما كانت لنا خيل يوم بدر. قال ابن عباس : إنما كانت تلك في سرية بعثت. وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي قال : تمارى عليّ وابن عباس في العاديات ضبحا ، فقال ابن عباس : هي الخيل ؛ وقال عليّ : كذبت يا ابن فلانة ، والله ما كان معنا يوم بدر فارس إلّا المقداد كان على فرس أبلق قال : وكان يقول هي الإبل ، فقال ابن عباس : ألا ترى أنها تثير نقعا فما شيء تثير إلا بحوافرها. وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصحّحه ، من طريق مجاهد عن ابن عباس (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : الخيل (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال : الرجل إذا أورى زنده (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال : الخيل تصبح العدوّ (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) قال : التراب (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال : العدوّ. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : قال ابن عباس : القتال. وقال ابن مسعود : الحج. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : ليس شيء من الدواب يضبح إلا الكلب أو الفرس (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال : هو مكر الرجل قدح فأورى (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال : غارة الخيل صبحا (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) قال : غبار وقع سنابك الخيل (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال : جمع العدوّ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : الخيل ضبحها زحيرها ، ألم تر أن الفرس إذا عدا قال : أح أح ، فذلك ضبحها. وأخرج ابن المنذر عن عليّ قال : الضبح من الخيل الحمحمة ، ومن الإبل النفس. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : هي الإبل في الحج (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) إذا سفت الحصى بمناسمها فضرب الحصى بعضه بعضا فيخرج منه النار

٥٩١

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) حين يفيضون من جمع (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) قال : إذا سرن يثرن التراب.

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : الكنود بلساننا أهل البلد الكفور. وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال لكفور. وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في الأدب ، والحكيم الترمذي وابن مردويه عن أبي أمامة قال : الكنود الّذي يمنع رفده ، وينزل وحده ، ويضرب عبده. ورواه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والديلمي وابن عساكر مرفوعا ـ وضعّف إسناده السيوطي ـ وفي إسناده جعفر بن الزبير وهو متروك ، والموقوف أصحّ لأنه لمن يكن من طريقه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) قال : الإنسان (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) قال : المال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) قال : بحث (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) قال : أبرز.

* * *

٥٩٢

سورة القارعة

هي إحدى عشرة آية ، وقيل : عشر آيات وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة القارعة بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة ؛ لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وتقرع أعداء الله بالعذاب ، والعرب تقول : قرعتهم القارعة ؛ إذا وقع بهم أمر فظيع. قال ابن أحمر :

وقارعة من الأيّام لولا

سبيلهم لراحت عنك حينا

وقال آخر :

متى تقرع بمروتكم (١) نسؤكم

ولم توقد لنا في القدر نار

والقارعة مبتدأ وخبرها قوله : (مَا الْقارِعَةُ) وبالرفع قرأ الجمهور ، وقرأ عيسى بنصبها على تقدير : احذروا القارعة ، والاستفهام للتعظيم والتفخيم لشأنها ، كما تقدّم بيانه في قوله : (الْحَاقَّةُ ـ مَا الْحَاقَّةُ ـ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٢) وقيل : معنى الكلام على التحذير. قال الزجاج : والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب ، وأنشد قول الشاعر :

لجديرون بالوفاء إذا قال

أخو النّجدة السّلاح السّلاح

والحمل على معنى التفخيم والتعظيم أولى ، ويؤيده وضع الظاهر موضع الضمير ، فإنه أدلّ على هذا المعنى ، ويؤيده أيضا قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) فإنه تأكيد لشدّة هولها ومزيد فظاعتها ؛ حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم ، وما الاستفهامية مبتدأ ، وأدراك خبرها وما القارعة مبتدأ

__________________

(١). «المروة» : حجر يقدح منه النار.

(٢). الحاقة : ١ ـ ٣.

٥٩٣

وخبر ، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني ؛ والمعنى : وأيّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ثم بيّن سبحانه متى تكون القارعة فقال : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) وانتصاب الظرف بفعل محذوف تدلّ عليه القارعة ، أي : تقرعهم يوم يكون الناس ... إلخ ، ويجوز أن يكون منصوبا بتقدير اذكر. وقال ابن عطية ومكي وأبو البقاء : هو منصوب بنفس القارعة ، وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، وإنما نصب لإضافته إلى الفعل ، فالفتحة فتحة بناء لا فتحة إعراب ، أي : هي يوم يكون ... إلخ ، وقيل التقدير : ستأتيكم القارعة يوم يكون. وقرأ زيد بن عليّ برفع يوم على الخبرية للمبتدأ المقدّر. والفراش : الطير الّذي تراه يتساقط في النار والسراج ، والواحدة : فراشة ، كذا قال أبو عبيدة وغيره. قال الفراء : الفراش : هو الطائر من بعوض وغيره. ومنه الجراد. قال : وبه يضرب المثل في الطيش والهوج ، يقال : أطيش من فراشة ، وأنشد :

فراشة الحلم فرعون العذاب وإن

يطلب نداه فكلب دونه كلب

وقول آخر :

وقد كان أقوام رددت حلومهم

عليهم وكانوا كالفراش من الجهل

والمراد بالمبثوث المتفرّق المنتشر ، يقال بثه : إذا فرّقه ، ومثل هذا قوله سبحانه في آية أخرى : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (١) وقال المبثوث ولم يقل المبثوثة ، لأنّ الكل جائز ؛ كما في قوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢) و (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٣) وقد تقدّم بيان وجه ذلك (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أي : كالصوف الملوّن بالألوان المختلفة الّذي نفش بالندف ، والعهن عند أهل اللغة : الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة سأل سائل ، وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة ، وقد قدّمنا بيان الجمع بينها. ثم ذكر سبحانه أحوال الناس وتفرّقهم فريقين على جهة الإجمال فقال : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ـ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) قد تقدّم القول في الميزان في سورة الأعراف وسورة الكهف وسورة الأنبياء.

وقد اختلف فيها هنا ، فقيل : هي جمع موزون ، وهو العمل الّذي له وزن وخطر عند الله ، وبه قال الفرّاء وغيره ، وقيل : هي جمع ميزان ، وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال ، وعبر عنه بلفظ الجمع ، كما يقال لكلّ حادثة ميزان ، وقيل : المراد بالموازين الحجج والدلائل ، كما في قول الشاعر :

قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه

ومعنى عيشة راضية : مرضية يرضاها صاحبها. قال الزجاج : أي ذات رضى يرضاها صاحبها ، وقيل : «عيشة راضية» أي : فاعلة للرضى ، وهو اللين ، والانقياد لأهلها. والعيشة : كلمة تجمع النعم التي في الجنة (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي : رجحت سيئاته على حسناته أو لم تكن له حسنات يعتدّ بها (فَأُمُّهُ

__________________

(١). القمر : ٧.

(٢). القمر : ٢٠.

(٣). الحاقة : ٧.

٥٩٤

هاوِيَةٌ) أي : فمسكنه جهنم ، وسمّاها أمه ؛ لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه ، والهاوية من أسماء جهنم ، وسميت هاوية ؛ لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها ، ومنه قول أمية بن أبي الصّلت :

فالأرض معقلنا وكانت أمّنا

فيها مقابرنا وفيها نولد

وقول الآخر :

يا عمرو لو نالتك أرماحنا

كنت كمن تهوي به الهاوية

والمهوى والمهواة : ما بين الجبلين ، وتهاوى القوم في المهواة ؛ إذا سقط بعضهم في إثر بعض. قال قتادة : معنى (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فمصيره إلى النار. قال عكرمة : لأنه يهوي فيها على أمّ رأسه. قال الأخفش : أمه مستقرّة (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع ؛ ببيان أنها خارجة عن المعهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر ولا تدري كنهها. ثم بيّنها سبحانه فقال : (نارٌ حامِيَةٌ) أي : قد انتهى حرّها وبلغ في الشدّة إلى الغاية وارتفاع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي نار حامية.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : (الْقارِعَةُ) من أسماء يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) قال : كقوله هوت أمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) قال : أمّ رأسه هاوية في جهنم. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه : ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فإذا كان مات ولم يأتهم قالوا خولف به إلى أمه الهاوية ، فبئست الأمّ وبئست المربية». وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب الأنصاري ونحوه. وأخرج ابن المبارك من حديث أبي أيوب نحوه أيضا.

* * *

٥٩٥

سورة التّكاثر

وهي مكية عند الجميع. وروى البخاري أنها مدنية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزل بمكة (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ). وأخرج الحاكم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال : أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر؟!». وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق ، والديلمي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله وهو ضاحك في وجهه ، قيل : يا رسول الله ومن يقوى على ألف آية؟ فقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم ألهاكم التكاثر إلى آخرها ، ثم قال : والّذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية». وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن الشخير قال : «انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر ، وفي لفظ : وقد أنزلت عليه ألهاكم التكاثر ، وهو يقول : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟». وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها بلفظ : «يقول العبد : مالي مالي ، وإنّما له من ماله ثلاثة : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدّق فأقنى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس». وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والبيهقي في الشعب ، وضعّفه ، عن جرير بن عبد الله قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني قارئ عليكم سورة ألهاكم التكاثر ، فمن بكى فله الجنة ، فقرأها فمنّا من بكى ومنّا من لم يبك ، فقال الذين لم يبكوا : قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه ، فقال : إني قارئها عليكم الثانية فمن بكى فله الجنّة ، ومن لم يقدر أن يبكي فليتباكى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

قوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي : شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد والتفاخر بكثرتها والتغالب فيها. يقال : ألهاه عن كذا وألهاه ؛ إذا شغله ، ومنه قول امرئ القيس :

فألهيتها عن ذي تمائم محول (١)

__________________

(١). وصدر البيت : فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع.

٥٩٦

وقال الحسن : معنى ألهاكم : أنساكم (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي : حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال. وقال قتادة : إن التكاثر : التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك : ألهاكم التشاغل بالمعاش. وقال مقاتل وقتادة أيضا وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا. وقال الكلبي : نزلت في حيّين من قريش : بني عبد مناف ، وبني سهم ، تعادّوا وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حيّ منهم : نحن أكثر سيدا ، وأعزّ عزيزا ، وأعظم نفرا ، وأكثر قائدا ، فكثر بنو عبد مناف بني سهم ، ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم سهم ، فنزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) فلم ترضوا (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) مفتخرين بالأموات. وقيل : نزلت في حيّين من الأنصار. والمقابر : جمع مقبرة بفتح الباء وضمها. وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة من الخصال المذمومة. وقال سبحانه (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ولم يقل عن كذا ، بل أطلقه لأن الإطلاق أبلغ في الذمّ ، لأنه يذهب الوهم فيه كلّ مذهب ، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام ، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، كما تقرّر في علم البيان ؛ والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كلّ شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله والعمل للآخرة ، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الّذي يزوره هذا على قول من قال : إن معنى (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) متم ، وأما على قول من قال : إن معنى (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ذكرتم الموتى وعدّدتموهم للمفاخرة والمكاثرة ، فيكون ذلك على طريق التهكم بهم ، وقيل : إنهم كانوا يزورون المقابر ، فيقولون هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ردع وزجر لهم عن التكاثر وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة وفيه وعيد شديد. قال الفرّاء : أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر ، ثم كرّر الردع والزجر والوعيد فقال : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل ، وقيل : الأوّل عند الموت أو في القبر ، والثاني يوم القيامة. قال الفرّاء : هذا التكرار على وجه التغليظ والتأكيد. قال مجاهد : هو وعيد بعد وعيد. وكذا قال الحسن ومجاهد (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لو تعلمون الأمر الّذي أنتم صائرون إليه علما يقينا كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا ، وجواب لو محذوف ، أي : لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر ، أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه ، وكلا في هذا الموضع الثالث للزجر والرّدع كالموضعين الأوّلين. وقال الفرّاء : هي بمعنى حقا ، وقيل : هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا. قال قتادة : اليقين هنا الموت ، وروى عنه أيضا أنه قال : هو البعث. قال الأخفش : التقدير لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم ، وقوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جواب قسم محذوف ، وفيه زيادة وعيد وتهديد ، أي : والله لترون الجحيم في الآخرة. قال الرازي : وليس هذا جواب لو ؛ لأن جواب لو يكون منفيا ، وهذا مثبت ولأنه عطف عليه (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) وهو مستقبل لا بدّ من وقوعه ، قال : وحذف جواب «لو» كثير ، والخطاب للكفار ، وقيل : عام كقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١) قرأ الجمهور : (لَتَرَوُنَ) بفتح التاء مبنيا للفاعل ، وقرأ الكسائي وابن عامر بضمها مبنيا

__________________

(١). مريم : ٧١.

٥٩٧

للمفعول ، ثم كرّر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي : ثم لترونّ الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين ، وهي المشاهدة والمعاينة ، وقيل : المعنى : لترونّ الجحيم بأبصاركم على البعد منكم ، ثم لترونها مشاهدة على القرب. وقيل : المراد بالأوّل رؤيتها قبل دخولها ، والثاني رؤيتها حال دخولها ، وقيل : هو إخبار عن دوام بقائهم في النار ، أي : هي رؤية دائمة متّصلة. وقيل المعنى : لو تعلمون اليوم علم اليقين وأنتم في الدنيا لترونّ الجحيم بعيون قلوبكم ، وهو أن تتصوّروا أمر القيامة وأهوالها (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي عن نعيم الدنيا الّذي ألهاكم عن العمل للآخرة. قال قتادة : يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ، ولم يشكروا ربّ النعم حيث عبدوا غيره وأشركوا به. قال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال قتادة : إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه ، وهذا هو الظاهر ، ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد ، أو نوع من الأنواع ؛ لأن تعريفه للجنس أو الاستغراق ، ومجرّد السؤال لا يستلزم تعذيب المسؤول على النعمة التي يسأل عنها ، فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها ، وبم عمل فيها؟ ليعرف تقصيره وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر ، وقيل : السؤال عن الأمن والصحة ، وقيل : عن الصحة والفراغ ، وقيل : عن الإدراك بالحواسّ ، وقيل : عن ملاذّ المأكول والمشروب ، وقيل : عن الغداء والعشاء ، وقيل : عن بارد الشراب وظلال المساكن ، وقيل : عن اعتدال الخلق ، وقيل : عن لذة النوم ، والأولى العموم كما ذكرنا.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بردة في قوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) قال : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان وفلان ، وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء. ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور ، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون كذلك ، فأنزل الله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ـ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) لقد كان لكم فيما زرتم عبرة وشغل. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) قال : في الأموال والأولاد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) يعني عن الطاعة (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يقول : حتى يأتيكم الموت (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني لو دخلتم قبوركم (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يقول : لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) قال : لو قد وقفتم على أعمالكم بين يدي ربكم (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) وذلك أن الصراط يوضع وسط جهنم ، فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، ومكدوش في نار جهنم (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يعني شبع البطون ، وبارد الشرب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذّة النوم. وأخرج ابن مردويه عن عياض بن غنم مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُ

٥٩٨

أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١). وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال : «الأمن والصحة». وأخرج البيهقي عن عليّ بن أبي طالب قال : النعيم : العافية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : من أكل خبز البرّ ، وشرب ماء الفرات مبردا ، وكان له منزل يسكنه ، فذلك من النعيم الّذي يسأل عنه. وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية : «أكل خبز البرّ ، والنوم في الظل ، وشرب ماء الفرات مبردا». ولعل رفع هذا لا يصح ، فربما كان من قول أبي الدرداء. وأخرج أحمد في الزهد ، وابن مردويه عن أبي قلابة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قال : «ناس من أمتي يعقدون السمن والعسل بالنّقي فيأكلونه» وهذا مرسل. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية. قال الصحابة : يا رسول الله أيّ نعيم نحن فيه؟ وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير ، فأوحى الله إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قل لهم : «أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد ، فهذا من النعيم». وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وأحمد وابن جرير وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن محمود بن لبيد قال : لما نزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) فقرأ حتى بلغ : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالوا : يا رسول الله أيّ نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان : الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدوّ حاضر ، فعن أيّ نعيم نسأل؟ قال : «أما إن ذلك سيكون». وأخرجه عبد بن حميد والترمذي وابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد ، والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه من حديث الزبير بن العوّام. وأخرج أحمد في الزهد ، وعبد ابن حميد والترمذي وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والحاكم ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أوّل ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصحّ لك جسدك ونروك من الماء البارد؟». وأخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن جابر بن عبد الله قال : «جاءنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر فأطعمناهم رطبا وسقيناهم ماء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا من النعيم الّذي تسألون عنه». وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي من حديث جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قالا : «خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال : ما أخرجكما من بيوتكما الساعة؟ قالا : الجوع يا رسول الله ، قال : والّذي نفسي بيده لأخرجني الّذي أخرجكما فقوما ، فقاما معه ، فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أين فلان؟ قالت : انطلق يستعذب لنا الماء ؛ إذ جاء الأنصاريّ ، فنظر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه فقال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني ، فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر. فقال : كلوا من هذا وأخذ المدية ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إياك والحلوب ، فذبح لهم فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق وشربوا ، فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر وعمر : والّذي نفسي بيده لنسألن عن هذا النعيم يوم القيامة» وفي الباب أحاديث.

__________________

(١). الإسراء : ٣٦.

٥٩٩

سورة العصر

وهي مكية عند الجمهور. وقال قتادة : هي مدنية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة العصر بمكة. وأخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مزينة الدارمي ، وكانت له صحبة قال : كان الرجلان من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر. ثم يسلّم أحدهما على الآخر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر ، لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء ، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عزوجل وعلى توحيده ، ويقال لليل : عصر وللنهار : عصر ، ومنه قول حميد بن ثور :

ولم يلبث العصران يوم وليلة

إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما

ويقال للغداة والعشيّ : عصران ، ومنه قول الشاعر :

وأمطله العصرين حتّى يملّني

ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم

وقال قتادة والحسن : المراد به في الآية العشيّ ، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها ، ومنه قول الشاعر :

تروّح بنا يا عمرو وقد قصر العصر

وفي الرّوحة الأولى الغنيمة والأجر

وروي عن قتادة أيضا أنه : آخر ساعة من ساعات النهار ، وقال مقاتل : إن المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها ، وقيل : هو قسم بعصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الزجاج : قال بعضهم ؛ معناه ورب العصر ، والأوّل أولى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) هذا جواب القسم. الخسر والخسران : النقصان وذهاب رأس المال ، والمعنى : أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحقّ حتى يموت. وقيل : المراد بالإنسان الكافر ، وقيل : جماعة من الكفار ، وهم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب بن أسد ، والأوّل أولى لما في لفظ الإنسان من العموم ولدلالة الاستثناء عليه. قال الأخفش : (لَفِي خُسْرٍ) في هلكة. وقال الفراء :

٦٠٠