فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

في كلام آخر كقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (١) وإنما أفردها هنا لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قائما مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ، ولا آمن. قال المبرد وأبو علي الفارسي : إن «لا» هنا بمعنى لم ، أي : فلم يقتحم العقبة ، وروي نحو ذلك عن مجاهد ، فلهذا لم يحتج إلى التكرير ، ومنه قول زهير :

وكان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها ولم يتقدّم

أي : فلم يبدها ولم يتقدم ، وقيل : هو جار مجرى الدعاء كقولهم : لا نجا. قال أبو زيد وجماعة من المفسرين : معنى الكلام هنا الاستفهام الّذي بمعنى الإنكار ، تقديره : أفلا اقتحم العقبة ، أو هلا اقتحم العقبة. ثم بيّن سبحانه العقبة فقال (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي : أيّ شيء أعلمك ما اقتحامها (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي هي إعتاق رقبة وتخليصها من أسار الرّق ، وكل شيء أطلقته فقد فككته ، ومنه : فك الرهن ، وفك الكتاب ، فقد بيّن سبحانه أن العقبة هي هذه القرب المذكورة التي تكون بها النجاة من النار. قال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي : هي الصراط الّذي يضرب على جهنم كحدّ السيف. وقال كعب : هي نار دون الجسر. قيل : وفي الكلام حذف ، أي : وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي «فك رقبة» على أنه فعل ماض ونصب رقبة على المفعولية ، وهكذا قرءوا أو أطعم : على أنه فعل ماض. وقرأ الباقون فكّ أو إطعام على أنهما مصدران وجرّ رقبة بإضافة المصدر إليها ، فعلى القراءة الأولى يكون الفعلان بدلا من اقتحم أو بيانا له كأنه قيل : فلا فك ولا أطعم ، والفكّ في الأصل : حلّ القيد ، سمّي العتق فكّا لأن الرق كالقيد ، وسمى المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) المسغبة : المجاعة ، والسّغب : الجوع ، والساغب : الجائع. قال الراغب : يقال منه : سغب الرجل سغبا وسغوبا فهو ساغب وسغبان ، والمسغبة مفعلة منه ، وأنشد أبو عبيدة :

فلو كنت حرّا يا ابن قيس بن عاصم

لما بتّ شبعانا وجارك ساغبا

قال النخعي (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي : عزيز فيه الطعام (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي : قرابة ، يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي ، واليتيم في الأصل : الضعيف ، يقال : يتم الرجل : إذا ضعف ، واليتيم عند أهل اللغة : من لا أب له ، وقيل : هو من لا أب له ولا أمّ ، ومنه قول قيس بن المللوّح :

إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا

إلى الله فقد الوالدين يتيم

(أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي : لا شيء ؛ له كأنه لصق بالتراب لفقره ، وليس له مأوى إلا التراب ، يقال : ترب الرجل يترب تربا ومتربة : إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرّا. قال مجاهد : هو الّذي لا يقيه

__________________

(١). القيامة : ٣١.

٥٤١

من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة : هو ذو العيال. وقال عكرمة : هو المديون. وقال أبو سنان : هو ذو الزّمانة. وقال ابن جبير : هو الّذي ليس له أحد. وقال عكرمة : هو البعيد التربة الغريب عن وطنه ، والأوّل أولى ، ومنه قول الهذليّ :

وكنّا إذا ما الضّيف حلّ بأرضنا

سفكنا دماء البدن في تربة الحال

قرأ الجمهور «ذي مسغبة» على أنه صفة ليوم ، ويتيما هو مفعول إطعام. وقرأ الحسن «ذا مسغبة» بالنصب على أنه مفعول إطعام ، أي : يطعمون ذا مسغبة ، ويتيما بدل منه (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على المنفيّ بلا ، وجاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محلّه. وفيه دليل على أن هذه القرب إنما نفع مع الإيمان ، وقيل : المعنى : ثم كان من الذين آمنوا بأن هذا نافع لهم. وقيل المعنى : أنه أتى بهذه القرب لوجه الله (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) معطوف على آمنوا ، أي : أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وعلى ما أصابهم من البلايا والمصائب (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي : بالرحمة على عباد الله فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين ، واستكثروا من فعل الخير بالصدقة ونحوها ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الموصول باعتبار اتّصافه بالصفات المذكورة هم (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي : أصحاب جهة اليمين ، أو أصحاب اليمن ، أو الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، وقيل غير ذلك مما قد قدّمنا ذكره في سورة الواقعة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي : بالقرآن ، أو بما هو أعمّ منه ، فتدخل الآيات التنزيلية والآيات التكوينية التي تدلّ على الصانع سبحانه (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي : أصحاب الشمال ، أو أصحاب الشؤم ، أو الذين يعطون كتبهم بشمالهم ، أو غير ذلك مما تقدّم (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي : مطبقة مغلقة ، يقال : آصدت الباب وأوصدته ؛ إذا أغلقته وأطبقته ، ومنه قول الشاعر :

تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده

قرأ الجمهور «موصدة» بالواو. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة مكان الواو ، وهما لغتان ، والمعنى واحد.

وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) قال : مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) يعني بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء ، فقتل له يومئذ ابن خطل صبرا ، وهو آخذ بأستار الكعبة ، فلم يحلّ لأحد من الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل فيها حراما حرّمه الله ، فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) قال مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) قال : أنت يا محمد يحلّ لك أن تقاتل فيه ، وأما غيرك فلا. وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : نزلت هذه الآية (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ـ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) فيّ ، خرجت فوجدت عبد الله بن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة ، فضربت عنقه بين الركن والمقام. وأخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عباس (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ـ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا

٥٤٢

الْبَلَدِ) قال : أحلّ له أن يصنع فيه ما شاء (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال : يعني بالوالد : آدم ، وما ولد : ولده. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية. قال : الوالد : الّذي يلد ، وما ولد : العاقر لا يلد من الرجال والنساء. وأخرج ابن جرير والطبراني عنه أيضا [في قوله : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) قال : مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) قال : مكة (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال : آدم] (١) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : اعتدال وانتصاب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : في نصب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : في شدّة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : في شدّة خلق ولادته ونبت أسنانه ومعيشته وختانه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : خلق الله كل شيء يمشي على أربع إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عنه أيضا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : منتصبا في بطن أمه أنه قد وكل له ملك إذا نامت الأمّ أو اضطجعت رفع رأسه ، ولو لا ذلك لغرق في الدم. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : (مالاً لُبَداً) قال : كثيرا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود في قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال : سبيل الخير والشرّ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال : الهدى والضلالة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه قال : سبيل الخير والشرّ. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سنان بن سعد عن أنس قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما نجدان ، فما جعل نجد الشرّ أحب إليكم من نجد الخير». تفرّد به سنان بن سعد ، ويقال : سعد بن سنان. وقد وثّقه يحيى بن معين. وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني : منكر الحديث. وقال أحمد : تركت حديثه لاضطرابه ، قد روى خمسة عشر حديثا منكرة كلها ، ما أعرف منها حديثا واحدا ، يشبه حديثه حديث الحسن البصري ، لا يشبه حديث أنس. وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه من طرق عن الحسن قال : ذكر لنا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول ، فذكره. وهذا مرسل ، وكذا رواه قتادة مرسلا. أخرجه عنه ابن جرير ويشهد له ما أخرج الطبراني عن أبي أمامة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أيها الناس إنهما نجدان : نجد خير ، ونجد شرّ ، فما جعل نجد الشرّ أحب إليكم من نجد الخير» ، ويشهد له أيضا ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما هما نجدان : نجد الخير ، ونجد الشرّ ، فلا يكن نجد الشرّ أحب إليكم من نجد الخير». وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال : الثّديين.

__________________

(١). ما بين حاصرتين سقط من الأصل واستدرك من الدر المنثور (٨ / ٥١٩)

٥٤٣

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال : جبل زلال في جهنم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العقبة النار. وأخرج عبد بن حميد عنه قال : عقبة بين الجنة والنار. وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة قالت : لما نزل (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قيل : يا رسول الله ما عند أحدنا ما يعتق إلا أنّ عند أحدنا الجارية السوداء تخدمه ، فلو أمرناهنّ بالزنا فجئن بالأولاد فأعتقناهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحبّ إليّ من أن آمر بالزنا ثم أعتق الولد». وأخرجه ابن جرير عنها بلفظ : «لعلاقة سوط في سبيل الله أعظم أجرا من هذا».

وقد ثبت الترغيب في عتق الرقاب بأحاديث كثيرة : منها في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج». وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) قال : مجاعة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) قال : جوع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) قال : ذا قرابة ، وفي قوله : (ذا مَتْرَبَةٍ) قال : بعيد التربة ، أي : غريبا عن وطنه. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عنه أيضا (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) قال : هو المطروح الّذي ليس له بيت. وفي لفظ للحاكم : هو الّذي لا يقيه من التراب شيء. وفي لفظ : هو اللازق بالتراب من شدّة الفقر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) قال : «الّذي مأواه المزابل». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) يعني بذلك رحمة الناس كلهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (مُؤْصَدَةٌ) قال : مغلقة الأبواب. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة (مُؤْصَدَةٌ) قال : مطبقة.

* * *

٥٤٤

سورة الشمس

وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت «والشمس وضحاها» بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، والنسائي عن بريدة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة العشاء والشمس وضحاها وأشباهها من السور». وقد تقدّم حديث جابر في الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «هلّا صليت بسبّح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى». وأخرج الطبراني عن ابن عباس : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بالليل إذا يغشى والشمس وضحاها». وأخرج البيهقي في الشعب عن عقبة ابن عامر قال : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نصلّي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها والضّحى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

أقسم سبحانه بهذه الأمور ، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، وقال قوم : إن القسم بهذه الأمور ونحوها مما تقدّم ، ومما سيأتي هو على حذف مضاف ، أي : وربّ (الشَّمْسِ) وربّ القمر ، وهكذا سائرها ، ولا ملجئ إلى هذا ولا موجب له ، وقوله : (وَضُحاها) هو قسم ثان ، قال مجاهد : (وَضُحاها) أي : ضوؤها وإشراقها ، وأضاف الضحى إلى الشمس لأنه إنما يكون عند ارتفاعها ، وكذا قال الكلبي. وقال قتادة : (ضُحاها) : نهارها كله. قال الفراء : الضحى : هو النهار. وقال المبرد : أصل الضحى ، الصبح ، وهو نور الشمس. قال أبو الهيثم : الضحى : نقيض الظلّ ، وهو نور الشمس على وجه الأرض ، وأصله : الضحى فاستثقلوا الياء فقلبوها ألفا. قيل : والمعروف عند العرب أن الضحى إذا طلعت الشمس وبعيد ذلك قليلا ، فإذا زاد فهو الضّحاء بالمد. قال المبرد : الضحى والضحوة مشتقان من الضّحّ وهو النور ، فأبدلت الألف والواو من الحاء.

واختلف في جواب القسم ماذا هو؟ فقيل : هو قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) قاله الزجاج وغيره. قال الزجاج : وحذفت اللام ؛ لأن الكلام قد طال ، فصار طوله عوضا منها ، وقيل : الجواب محذوف ، أي :

٥٤٥

والشمس ، وكذا : لتبعثنّ ، وقيل : تقديره : ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذّبوا صالحا ، وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) فكلام تابع لقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، وقيل : هو على التقديم والتأخير بغير حذف ، والمعنى : قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها والشمس وضحاها ، والأوّل أولى. (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي : تبعها ، وذلك بأن طلع بعد غروبها ، يقال : تلا يتلو تلوا ؛ إذا تبع. قال المفسّرون : وذلك في النصف الأوّل من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور. قال الزجاج : تلاها حين استدار ، فكان يتلو الشمس في الضياء والنور ، يعني إذا كمل ضوءه فصار تابعا للشمس في الإنارة ، ليلة الهلال إذا سقطت رؤي الهلال. قال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأوّل من الشهر تلاها القمر بالطلوع ، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب ، وقال الفراء : تلاها : أخذ منها ، يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي : جلّى الشمس ، وذلك أن الشمس عند انبساط النهار تنجلي تمام الانجلاء ، فكأنه جلاها مع أنها التي تبسطه. وقيل : الضمير عائد إلى الظلمة ، أي : جلّى الظلمة ، وإن لم يجر للظلمة ذكر ، لأن المعنى معروف. قال الفراء : كما تقول أصبحت باردة ، أي : أصبحت غداتنا باردة ، والأوّل أولى. ومنه قول قيس بن الخطيم :

تجلّت لنا كالشّمس تحت غمامة

بدا حاجب منها وضنّت بحاجب

وقيل : المعنى : جلّى ما في الأرض من الحيوانات وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل ، وقيل : جلّى الدّنيا ، وقيل : جلّى الأرض (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي : يغشى الشمس فيذهب بضوئها فتغيب وتظلم الآفاق ، وقيل : يغشى الآفاق ، وقيل : الأرض ، وإن لم يجر لهما ذكر لأن ذلك معروف ، والأوّل أولى (وَالسَّماءِ وَما بَناها) يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : والسماء وبنيانها. ويجوز أن تكون موصولة ، أي : والّذي بناها ، وإيثار «ما» على من لإدارة الوصفية لقصد التفخيم ؛ كأنه قال : والقادر العظيم الشأن الّذي بناها. ورجح الأوّل الفراء والزجاج ، ولا وجه لقول من قال : إن جعلها مصدرية مخلّ بالنّظم. ورجّح الثاني ابن جرير (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) الكلام في «ما» هذه كالكلام في التي قبلها ، ومعنى طحاها : بسطها ، كذا قال عامة المفسرين ، كما في قوله : (دَحاها) (١) قالوا : طحاها ودحاها واحد ، أي : بسطها من كل جانب ، والطّحو : البسط ، وقيل : معنى طحاها قسمها ، وقيل : خلقها ، ومنه قول الشاعر :

وما تدري جذيمة من طحاها

ولا من ساكن العرش الرّفيع

والأوّل أولى. والطّحو أيضا : الذهاب. قال أبو عمرو بن العلاء : طحا الرجل ؛ إذا ذهب في الأرض ،

__________________

(١). النازعات : ٣٠.

٥٤٦

يقال : ما أدري أين طحا! ويقال : طحا به قلبه ، ومنه قول الشاعر (١) :

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشّباب عصر حان مشيب

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) الكلام في «ما» هذه كما تقدّم ، ومعنى سوّاها : خلقها وأنشأها وسوّى أعضاءها. قال عطاء : يريد جميع ما خلق من الجنّ والإنس ، والتنكير للتفخيم ، وقيل : المراد نفس آدم (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي : عرّفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح. قال مجاهد : عرّفها طريق الفجور والتّقوى والطّاعة والمعصية. قال الفراء : فألهمها : عرّفها طريق الخير وطريق الشرّ ، كما قال : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢). قال محمد بن كعب : إذا أراد الله بعبده خيرا ألهمه الخير فعمل به ، وإذا أراد به الشرّ ألهمه الشرّ فعمل به. قال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى ، وخذلانه إياها للفجور ، واختار هذا الزجاج ، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان. قال الواحدي : وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام ؛ فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام ، والإلهام : أن يوقع في قلبه ويجعل فيه ، وإذا أوقع الله في قلب عبده شيئا ألزمه ذلك الشيء. قال : وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه ، وفي الكافر فجوره (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي : قد فاز من زكّى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب وظفر بكلّ محبوب ، وقد قدّمنا أن هذا جواب القسم على الرّاجح ، وأصل الزكاة : النموّ والزيادة ، ومنه زكا الزرع ؛ إذا كثر (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي : خسر من أضلّها وأغواها. قال أهل اللغة : دسّاها أصله دسّسها ، من التّدسيس ، وهو إخفاء الشيء في الشيء ، فمعنى دسّاها في الآية : أخفاها وأهملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح ، وكانت أجواد العرب تنزل الأمكنة المرتفعة ليشتهر مكانها فيقصدها الضيوف ، وكانت لئام العرب تنزل الهضاب والأمكنة المنخفضة ليخفى مكانها عن الوافدين. وقيل : معنى دساها : أغواها ، ومنه قول الشاعر :

وأنت الّذي دسّيت عمرا فأصبحت

حلائله منه أرامل ضيّعا

وقال ابن الأعرابي (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي : دسّ نفسه في جملة الصالحين وليس منهم (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) الطّغوى : اسم من الطغيان ؛ كالدعوى من الدعاء. قال الواحدي : قال المفسرون : كذبت ثمود بطغيانها ، أي : الطغيان حملهم على التكذيب ، والطغيان : مجاوزة الحدّ في المعاصي ، والباء للسببية. وقيل : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي : بعذابها الّذي وعدت به ، وسمّي العذاب طغوى ؛ لأنه طغى عليهم ، فتكون الباء على هذا للتعدية. وقال محمد بن كعب : (بِطَغْواها) أي : بأجمعها. قرأ الجمهور : (بِطَغْواها) بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة بضم الطاء ، فعلى القراءة الأولى هو مصدر بمعنى الطغيان ، وإنما قلبت الياء والواو للفرق بين الاسم والصفة ؛ لأنهم يقلبون الياء في الأسماء كثيرا نحو تقوى وسروى ، وعلى القراءة الثانية هو مصدر كالرّجعى والحسنى ونحوهما ، وقيل : هما لغتان. (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) العامل في الظرف كذبت ، أو بطغواها ، أي : حين قام أشقى ثمود ، وهو قدار بن

__________________

(١). هو علقمة.

(٢). البلد : ١٠.

٥٤٧

سالف فعقر الناقة ، ومعنى انبعث : انتدب لذلك وقام به ، يقال : بعثته على الأمر فانبعث له ، وقد تقدّم بيان هذا في الأعراف (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) يعني صالحا (ناقَةَ اللهِ) قال الزجاج : ناقة الله منصوبة على معنى : ذروا ناقة الله. قال الفراء : حذّرهم إياها ، وكل تحذير فهو نصب (وَسُقْياها) معطوف على ناقة ، وهو شربها من الماء. قال الكلبي ومقاتل : قال لهم صالح : ذروا ناقة الله فلا تعقروها وذروا سقياها ، وهو شربها من النهر فلا تعرّضوا له يوم شربها ، فكذبوا بتحذيره إياهم (فَعَقَرُوها) أي : عقرها الأشقى ، وإنما أسند العقر إلى الجميع لأنهم رضوا بما فعله. قال قتادة : إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. قال الفراء : عقرها اثنان ، والعرب تقول : هذان أفضل الناس ، وهذان خير الناس ، فلهذا لم يقل أشقياها (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها) أي : أهلكهم وأطبق عليهم العذاب ، وحقيقة الدمدمة : تضعيف العذاب وترديده ، يقال : دمدمت على الشيء ، أي : أطبقت عليه ، ودمدم عليه القبر ، أي : أطبقه ، وناقة مدمومة ؛ إذا لبسها الشحم ، والدمدمة : إهلاك باستئصال ، كذا قال المؤرّج. قال في الصحاح : دمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض وطحطحته ، ودمدم الله عليهم ، أي : أهلكهم. وقال ابن الأعرابي : دمدم : إذا عذّب عذابا تاما. والضمير في «فسوّاها» يعود إلى الدمدمة ، أي : فسوّى الدمدمة عليهم وعمّهم بها فاستوت على صغيرهم وكبيرهم ، وقيل : يعود إلى الأرض ، أي : فسوّى الأرض عليهم فجعلهم تحت التراب ، وقيل : يعود إلى الأمة ، أي : ثمود. قال الفراء : سوّى الأمة : أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها بمعنى سوّى بينهم. قرأ الجمهور : (فَدَمْدَمَ) بميم بين الدالين ، وقرأ ابن الزبير : «فدهدم» بهاء بين الدالين. قال القرطبي : وهما لغتان كما يقال : امتقع لونه ، واهتقع لونه (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي : فعل الله ذلك بهم غير خائف من عاقبة ولا تبعة ، والضمير في عقباها يرجع إلى الفعلة ، أو إلى الدمدمة المدلول عليها بدمدم. وقال السدّي والضحاك والكلبي : إن الكلام يرجع إلى العاقر لا إلى الله سبحانه ، أي : لم يخف الّذي عقرها عقبى ما صنع. وقيل : لا يخاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاقبة إهلاك قومه ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم ؛ لأنه قد أنذرهم ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور : (وَلا يَخافُ) بالواو ، وقرأ نافع وابن عامر بالفاء.

وقد أخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عباس (وَضُحاها) قال : ضوءها (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) قال : تبعها (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) قال : أضاءها (وَالسَّماءِ وَما بَناها) قال : الله بنى السماء (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) قال : دحاها (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال : علّمها الطاعة والمعصية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) يقول : قسمها (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال : من الخير والشرّ. وأخرج الحاكم وصحّحه عنه أيضا (فَأَلْهَمَها) قال : ألزمها فجورها وتقواها. وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمران بن حصين «أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه ، شيء قد قضي عليهم ، ومضى في قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون ممّا أتاهم نبيهم واتّخذت عليهم به الحجّة ، قال : بل شيء قد قضي عليهم ، قال : فلم يعملون إذن؟ قال : من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيّئه لعملها وتصديق ذلك في كتاب

٥٤٨

الله : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ـ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وسيأتي في السورة التي بعد هذه نحو هذا الحديث. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم آت نفسي تقواها ، وزكّها أنت خير من زكاها ، أنت وليّها ومولاها». وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس ، وزاد : «كان إذا تلا هذه الآية (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ـ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال : فذكره» وزاد أيضا : «وهو في الصلاة». وأخرج حديث زيد بن أرقم مسلم أيضا. وأخرج نحوه أحمد من حديث عائشة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) يقول : قد أفلح من زكّى الله نفسه (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) يقول : قد خاب من دسّ الله نفسه فأضله (وَلا يَخافُ عُقْباها) قال : قال : لا يخاف من أحد تبعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) يعني مكر بها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) الآية : أفلحت نفس زكّاها الله ، وخابت نفس خيّبها الله من كلّ خير وجويبر ضعيف. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (بِطَغْواها) قال : اسم العذاب الّذي جاءها الطّغوى ، فقال : كذّبت ثمود بعذابها. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال : «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر الناقة وذكر الّذي عقرها ، فقال (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) قال : «انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة». وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبغوي والطبراني وابن مردويه والحاكم ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «ألا أحدّثك بأشقى الناس؟ قال : بلى. قال : رجلان : أحيمر ثمود الّذي عقر الناقة ، والّذي يضربك على هذا» يعني قرنه «حتى تبتلّ منه هذه» يعني لحيته.

* * *

٥٤٩

سورة الليل

وهي مكية عند الجمهور ، وقيل : مدنية. وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) مكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البيهقي في سننه عن جابر بن سمرة قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الظهر والعصر (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ونحوها». وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بهم الهاجرة فرفع صوته ، فقرأ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) فقال له أبي بن كعب : يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء؟ قال : لا ، ولكن أردت أن أوقت لكم» ، وقد تقدّم حديث : «فهلا صلّيت بسبّح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى؟». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إني لأقول إن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي : يغطي بظلمته ما كان مضيئا. قال الزجاج : يغشى الليل الأفق وجميع ما بين السماء والأرض فيذهب ضوء النهار ، وقيل : يغشى النهار ، وقيل : يغشى الأرض ، والأوّل أولى (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي : ظهر وانكشف ووضح لزوال الظلمة التي كانت في الليل ، وذلك بطلوع الشمس (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) «ما» هنا هي الموصولة ، أي : والّذي خلق الذكر والأنثى ، وعبّر عن من بما للدلالة على الوصفية ولقصد التفخيم ، أي : والقادر العظيم الّذي خلق الذكر والأنثى. قال الحسن والكلبي : معناه والّذي خلق الذكر والأنثى ، فيكون قد أقسم بنفسه. قال أبو عبيدة : (وَما خَلَقَ) أي : ومن خلق. وقال مقاتل : يعني وخلق الذكر والأنثى ، فتكون «ما» على هذا مصدرية. قال الكلبي ومقاتل : يعني آدم وحواء ، والظاهر العموم. قرأ الجمهور : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وقرأ ابن مسعود : «والذكر والأنثى» بدون ما خلق (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هذا جواب القسم ، أي : إن عملكم لمختلف ؛ فمنه عمل للجنة ، ومنه عمل للنار. قال جمهور المفسرين : السعي : العمل ، فساع في فكاك نفسه ، وساع

٥٥٠

في عطبها ، وشتّى : جمع شتيت ، كمرضى ومريض ، وقيل للمختلف : شتّى ؛ لتباعد ما بين بعضه وبعض (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي : بذل ماله في وجوه الخير واتّقى محارم الله التي نهى عنها (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي : بالخلف من الله. قال المفسرون : فأما من أعطى المعسرين. وقال قتادة : أعطى حقّ الله الّذي عليه. وقال الحسن : أعطى الصدق من قبله وصدّق بالحسنى ، أي : بلا إله إلا الله ، وبه قال الضّحّاك والسّلمي. وقال مجاهد : بالحسنى : بالجنة. وقال زيد بن أسلم : بالصلاة والزكاة والصوم ، والأوّل أولى. قال قتادة : (بِالْحُسْنى) : أي بموعود الله الّذي وعده أن يثيبه. قال الحسن : بالخلف من عطائه ، واختار هذا ابن جرير (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي : فسنهيّئه للخصلة الحسنى ، وهي عمل الخير ، والمعنى : فسنيسّر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بالطاعة لله. قال الواحدي : قال المفسرون : نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذّبونهم في الله (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي : بخل بماله فلم يبذله في سبل الخير (وَاسْتَغْنى) أي : زهد في الأجر والثواب ، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي : بالخلف من الله عزوجل ، وقال مجاهد : بالجنة ؛ وروي عنه أيضا أنه قال : بلا إله إلا الله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي : فسنهيئه للخصلة العسرى ونسهّلها له حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ويضعف عن فعلها فيؤديه ذلك إلى النار. قال مقاتل : يعسر عليه أن يعطي خيرا. قيل : العسرى : الشر ؛ وذلك أن الشرّ يؤدي إلى العذاب ، والعسرة في العذاب ، والمعنى : سنهيئه للشرّ بأن نجريه على يديه. قال الفراء : سنيسّره : سنهيّئه ، والعرب تقول : قد يسّرت الغنم ؛ إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال الشاعر (١) :

همّا سيّدانا يزعمان وإنّما

يسوداننا إن يسّرت غنماهما

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي : لا يغني عنه شيئا ماله الّذي بخل به ، أو : أيّ شيء يغني عنه إذا تردّى ، أي : هلك ، يقال : ردي الرجل يردى ردى ، وتردّى يتردّى ؛ إذا هلك. وقال قتادة : وأبو صالح وزيد بن أسلم : (إِذا تَرَدَّى) إذا سقط في جهنم ، يقال : ردي في البئر وتردّى : إذا سقط فيها ، ويقال : ما أدري أين ردى ، أي : أين ذهب؟ (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) هذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، أي : إنّ علينا البيان. قال الزجاج : علينا أن نبيّن طريق الهدى من طريق الضلال. قال قتادة : على الله البيان ؛ بيان حرامه وطاعته ومعصيته. قال الفراء : من سلك الهدى فعلى الله سبيله ، لقوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) (٢) يقول : من أراد الله فو على السبيل القاصد. قال الفراء أيضا : المعنى إن علينا للهدى والإضلال ، فحذف الإضلال كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٣) وقيل المعنى : إن علينا ثواب هداه الّذي هديناه (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي : لنا كلّ ما في الآخرة ، وكلّ ما في الدنيا نتصرّف به كيف نشاء ، فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك منّا ، وقيل : المعنى : إن لنا ثواب الآخرة وثواب الدنيا (فَأَنْذَرْتُكُمْ

__________________

(١). هو أبو أسيدة الدبيري.

(٢). النحل : ٩.

(٣). النحل : ٨١.

٥٥١

ناراً تَلَظَّى) أي : حذّرتكم وخوّفتكم نارا تتوقد وتتوهج ، وأصله تتلظّى فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ على الأصل عبيد بن عمير ويحيى بن يعمر وطلحة بن مصرّف (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) أي : يصلاها صليا لازما على جهة الخلود إلا الأشقى وهو الكافر ، وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه ، والمراد بقوله : (يَصْلاها) : يدخلها أو يجد صلاها ، وهو حرّها. ثم وصف الأشقى فقال : (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي : كذّب بالحق الّذي جاءت به الرسل وأعرض عن الطاعة والإيمان. قال الفراء (إِلَّا الْأَشْقَى) إلا من كان شقيا في علم الله جلّ ثناؤه. قال أيضا : لم يكن كذب بردّ ظاهر ، ولكن قصّر عمّا أمر به من الطاعة فجعل تكذيبا ، كما تقول : لقي فلان العدوّ فكذب ؛ إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال الزجاج : هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء ، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر ؛ ولأهل النار منازل ، فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. والله سبحانه كلّ ما وعد عليه بجنس من العذاب ؛ فجدير أن يعذّب به ، وقد قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) فلو كان كلّ من لم يشرك لم يعذب لم يكن في قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فائدة. وقال في الكشاف : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل : الأشقى ، وجعل مختصّا بالصّلى ؛ كأن النار لم تخلق إلّا له ، وقيل : الأتقى ، وجعل مختصّا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل : المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف ، وبالأتقى أبو بكر الصدّيق ، ومعنى (سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) سيباعد عنها المتقي للكفر اتقاء بالغا. قال الواحدي : الأتقى أبو بكر الصدّيق في قول جميع المفسرين ، انتهى. والأولى حمل الأشقى والأتقى على كل متّصف بالصفتين المذكورتين ، ويكون المعنى أنه لا يصلاها صليا تاما لازما إلا الكامل في الشقاء وهو الكافر ، ولا يجنّبها ويبعد عنها تبعيدا كاملا بحيث لا يحوم حولها فضلا عن أن يدخلها إلا الكامل في التقوى ، فلا ينافي هذا دخول بعض العصاة من المسلمين النار دخولا غير لازم ، ولا تبعيد بعض من لم يكن كامل التقوى عن النار تبعيدا غير بالغ مبلغ تبعيد الكامل في التقوى عنها. والحاصل أن من تمسك من المرجئة بقوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) زاعما أن الأشقى الكافر ، لأنّه الّذي كذّب وتولّى ، ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين ، فيقال له : فما تقول في قوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) فإنه يدلّ على أنه لا يجنب النار إلا الكامل في التقوى ، فمن لم يكن كاملا فيها كعصاة المسلمين لم يكن ممن يجنب النار ، فإن أوّلت الأتقى بوجه من وجوه التأويل لزمك مثله في الأشقى فخذ إليك هذه مع تلك ، وكن كما قال الشاعر :

على أنّني راض بأن أحمل الهوى

وأخرج منه لا عليّ ولا ليه

وقيل : أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي ، كما قال طرفة بن العبد :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

__________________

(١). النساء : ٤٨.

٥٥٢

أي : بواحد. ولا يخفاك أنه ينافي هذا وصف الأشقى بالتكذيب ، فإن ذلك لا يكون إلا من الكافر فلا يتمّ ما أراده قائل هذا القول من شمول الوصفين لعصاة المسلمين.

ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى فقال : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) أي : يعطيه ويصرفه في وجوه الخير ، وقوله : (يَتَزَكَّى) في محل نصب على الحال من فاعل يؤتي ، أي : حال كونه يطلب أن يكون عند الله زكيّا لا يطلب رياء ولا سمعة ، ويجوز أن يكون بدلا من يؤتى داخلا معه في حكم الصلة. قرأ الجمهور : (يَتَزَكَّى) مضارع تزكى. وقرأ عليّ بن الحسين بن علي تزكى بإدغام التاء في الزاي (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون التزكّي على جهة الخلوص غير مشوب بشائبة تنافي الخلوص ، أي : ليس ممن يتصدّق بماله ليجازي بصدقته نعمة لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها ، وإنما يبتغي بصدقته وجه الله تعالى. ومعنى الآية : أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازي عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها ، وإنما قال «نجزي» مضارعا مبنيا للمفعول لأجل الفواصل ، والأصل يجزيها إياه ، أو يجزيه إياها (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) قرأ الجمهور : (إِلَّا ابْتِغاءَ) بالنصب على الاستثناء المنقطع لعدم اندراجه تحت جنس النعمة ، أي : لكن ابتغاء وجه ربّه الأعلى ، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول له على المعنى ، أي : لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربّه لا لمكافأة نعمة. قال الفراء : هو منصوب على التأويل ، أي : ما أعطيتك ابتغاء جزائك بل ابتغاء وجه الله ، وقرأ يحيى بن وثّاب بالرفع على البدل من محل نعمة ، لأن محلها الرفع إما على الفاعلية وإما على الابتداء ومن مزيدة ، والرفع لغة تميم ، لأنهم يجوّزون البدل في المنقطع ويجرونه مجرى المتصل. قال مكي : وأجاز الفراء الرفع في (ابْتِغاءَ) على البدل من موضع نعمة ، وهو بعيد. قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع عليها قراءة ، واستبعاده هو البعيد فإنها لغة فاشية ، وقرأ الجمهور أيضا (ابْتِغاءَ) بالمدّ ، وقرأ ابن أبي عبلة بالقصر ، والأعلى نعت للربّ (وَلَسَوْفَ يَرْضى) اللام هي الموطئة للقسم ، أي : وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم. قرأ الجمهور : (يَرْضى) مبنيا للفاعل ، وقرئ مبنيا للمفعول.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) قال : إذا أظلم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إن أبا بكر الصدّيق اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبيّ بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه لله ، فأنزل الله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) إلى قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) سعي أبي بكر وأمية وأبيّ إلى قوله : (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) قال : لا إله إلا الله إلى قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) قال : النار. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) من الفضل (وَاتَّقى) قال : اتقى ربه (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) قال : صدّق بالخلف من الله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) قال : للخير من الله (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) قال : بخل بماله واستغنى عن ربه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) قال : بالخلف من الله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) قال : للشرّ من الله. وأخرج ابن جرير عنه (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) قال : أيقن بالخلف. وأخرج

٥٥٣

ابن جرير عنه أيضا (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) يقول : صدّق بلا إله إلا الله (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) يقول : من أغناه الله فبخل بالزكاة. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة ، وكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بنيّ أراك تعتق أناسا ضعّفا ، فلو أنك تعتق رجالا جلدا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك. قال : أي أبت إنما أريد ما عند الله ، قال : فحدّثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ـ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ـ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى). وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ـ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) قال : أبو بكر الصدّيق (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ـ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) قال : أبو سفيان بن حرب. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عليّ بن أبي طالب قال : كنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة ، فقال : «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتّكل؟ قال : اعملوا فكل ميسّر لما خلق له ؛ أما من كان من أهل السعادة فييسّر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشقاء ، ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ـ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) إلى قوله (لِلْعُسْرى)». وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله «أن سراقة بن مالك قال : يا رسول الله في أيّ شيء نعمل؟ أفي شيء ثبتت فيه المقادير وجرت به الأقلام ، أم في شيء يستقبل فيه العمل؟ قال : بل في شيء ثبتت فيه المقادير وجرت فيه الأقلام ، قال سراقة : ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ قال : اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له ، وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) إلى قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)». وقد تقدّم حديث عمران بن حصين في السورة التي قبل هذه. وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة.

وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : «لتدخلن الجنة إلا من يأبى ، قالوا : ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)». وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة قال : لا يبقى أحد من هذه الأمة إلا أدخله الله الجنة ، إلا من شرد على الله كما يشرد البعير السّوء على أهله ، فمن لم يصدّقني فإن الله يقول : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ـ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وكذّب بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتولى عنه. وأخرج أحمد والحاكم والضياء عن أبي أمامة الباهلي أنه سئل عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا كلّكم يدخل الله الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله». وأخرج أحمد وابن ماجة وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار إلا شقّي. قيل : ومن الشقيّ؟ قال : الّذي لا يعمل لله بطاعة ولا يترك لله معصية». وأخرج أحمد والبخاري عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى ، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى».

وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة أنّ أبا بكر الصدّيق أعتق سبعة كلّهم يعذّب في الله : بلال ، وعامر بن فهيرة ، والنهدية وابنتها ، وزنيرة ، وأمّ عيسى ، وأمة بني المؤمل ، وفيه نزلت : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) إلى

٥٥٤

آخر السورة. وأخرج الحاكم وصحّحه عن عامر بن عبد الله ابن الزبير ما قدّمنا عنه ، وزاد فيه : فنزلت فيه هذه الآية : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) إلى قوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ـ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ـ وَلَسَوْفَ يَرْضى). وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عنه نحو هذا من وجه آخر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) قال : هو أبو بكر الصدّيق.

* * *

٥٥٥

سورة الضّحى

وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس : نزلت (وَالضُّحى) بمكة. وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، من طريق أبي الحسن المقري قال : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : «قرأت على إسماعيل بن قسطنطين ، فلما بلغت والضحى قال : كبّر حتى تختم ، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك. وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك. وأخبره أبيّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بذلك». وأبو الحسن المقري المذكور هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقري. قال ابن كثير : فهذه سنة تفرّد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة ، وكان إماما في القراءات. وأما في الحديث فقد ضعّفه أبو حاتم الرازي وقال : لا أخذت عنه ، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال : هو منكر الحديث. قال ابن كثير : ثم اختلف القرّاء في موضع هذا التكبير وكيفيته ، فقال بعضهم : يكبر من آخر الليل إذا يغشى ، وقال آخرون : من آخر الضحى. وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول : الله أكبر ، ويقتصر ، ومنهم من يقول : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر. وذكروا في مناسبة التكبير من أول الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتر تلك المدّة ، ثم جاء الملك ، فأوحي إليه : (وَالضُّحى ـ وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) السورة كبّر فرحا وسرورا ، ولم يرووا ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جندب البجلي قال : اشتكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا ، فأتته امرأة فقالت : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم يقربك ليلتين أو ثلاثا ، فأنزل الله : (وَالضُّحى ـ وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ـ ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)». وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن جندب قال : أبطأ جبريل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال المشركون : قد ودّع محمد ، فنزلت : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى). وأخرج الطبراني عن جندب قال : احتبس جبريل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت بعض بنات عمه : ما أرى صاحبك إلا قد قلاك ، فنزلت : والضحى. وأخرجه الترمذي وصححه وابن أبي حاتم عن جندب ، وفيه : فقالت له امرأة : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت : والضحى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

٥٥٦

والمراد بالضحى هنا النهار كله ، لقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) فلما قابل الضحى بالليل دلّ على أن المراد به النهار كله لا بعضه. وهو في الأصل اسم لوقت ارتفاع الشمس كما تقدّم في قوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) والظاهر أن المراد به الضحى من غير تعيين. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : إن المراد الضحى الّذي كلم الله فيه موسى ، والمراد بقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) ليلة المعراج ، وقيل : المراد بالضحى هو الساعة التي خرّ فيها السحرة سجدا ، كما في قوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٢) وقيل : المقسم به مضاف مقدّر كما تقدّم في نظائره ، أي : وربّ الضحى ، وقيل : تقديره : وضحاوة الضحى ، ولا وجه لهذا ، فلله سبحانه أن يقسم بما شاء من خلقه ، وقيل : الضحى : نور الجنة ، والليل : ظلمة النار ، وقيل : الضحى : نور قلوب العارفين ، والليل : سواد قلوب الكافرين ، (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي : سكن ، كذا قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة وغيرهم. يقال : ليلة ساجية : أي ساكنة ، ويقال للعين إذا سكن طرفها : ساجية ، يقال : سجا الشيء يسجو سجوا ؛ إذا سكن. قال عطاء : سجا : إذا غطّى بالظلمة. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : سجا : امتدّ ظلامه. وقال الأصمعي : سجو الليل : تغطيته النهار ، مثل ما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن : غشى بظلامه. وقال سعيد بن جبير : أقبل. وقال مجاهد أيضا : استوى ، والأوّل أولى ، وعليه جمهور المفسرين وأهل اللغة. ومعنى سكونه : استقرار ظلامه واستواؤه ، فلا يزاد بعد ذلك. (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) هذا جواب القسم ، أي : ما قطعك قطع المودّع. قرأ الجمهور : «ما ودّعك» بتشديد الدال من التوديع ، وهو توديع المفارق ، وقرأ ابن عباس وعروة بن الزبير وابنه هاشم وابن أبي عبلة وأبو حيوة بتخفيفها ، من قولهم ودعه ، أي : تركه ، ومنه قول الشاعر :

سل أميري ما الّذي غيّره

عن وصالي اليوم حتّى ودعه

والتوديع أبلغ في الوداع ؛ لأنّ من ودّعك مفارقا فقد بالغ في تركك. قال المبرد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر ، لضعف الواو إذا قدّمت ، واستغنوا عنها بترك. قال أبو عبيدة : ودّعك : من التوديع كما يودّع المفارق. وقال الزجاج : لم يقطع الوحي ، وقد قدّمنا سبب نزول هذه الآية في فاتحة هذه السورة (وَما قَلى) القلى : البغض ، يقال : قلاه يقليه قلاء. قال الزجاج : وما أبغضك ، وقال : وما قلى ، ولم يقل وما قلاك ؛ لموافقة رؤوس الآي ، والمعنى : وما أبغضك ، ومنه قول امرئ القيس :

ولست بمقليّ الخلال ولا قال (٣)

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) اللام جواب قسم محذوف ، أي : الجنة خير لك من الدنيا ، مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أوتي في الدنيا من شرف النبوّة ما يصغر عنده كلّ شرف ، ويتضاءل بالنسبة إليه كلّ مكرمة في الدنيا ، ولكنها لمّا كانت الدنيا بأسرها مشوبة بالأكدار ، منغّصة بالعوارض البشرية ، وكانت الحياة فيها

__________________

(١). الشمس : ١.

(٢). طه : ٥٩.

(٣). وصدر البيت : صرفت الهوى عنهن من خشية الردى.

٥٥٧

كأحلام نائم ، أو كظل زائل ، لم تكن بالنسبة إلى الآخرة شيئا ؛ ولما كانت طريقا إلى الآخرة وسببا لنيل ما أعدّه الله لعباده الصالحين من الخير العظيم بما يفعلونه فيها من الأعمال الموجبة للفوز بالجنة ؛ كان فيها خير في الجملة من هذه الحيثية. (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) هذه اللام قيل : هي لام الابتداء دخلت على الخبر لتأكيد مضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك إلخ ، وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكّدة ، وقيل : هي للقسم. قال أبو عليّ الفارسي : ليست هذه اللام هي التي في قولك : إن زيدا لقائم ، بل هي التي في قولك : لأقومنّ ، ونابت سوف عن إحدى نوني التأكيد ، فكأنه قال : وليعطينك. قيل : المعنى : ولسوف يعطيك ربك الفتح في الدنيا والثواب في الآخرة فترضى. وقيل : الحوض والشفاعة ، وقيل : ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك ، وقيل : غير ذلك. والظاهر أنه سبحانه يعطيه ما يرضى به من خيري الدنيا والآخرة ، ومن أهمّ ذلك عنده وأقدمه لديه قبول شفاعته لأمته.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) هذا شروع في تعداد ما أفاضه الله سبحانه عليه من النعم ، أي : وجدك يتيما لا أب لك فآوى ، أي : جعل لك مأوى تأوي إليه ، قرأ الجمهور : «فآوى» بألف بعد الهمزة رباعيا ، من آواه يؤويه ، وقرأ أبو الأشهب : «فأوى» ثلاثيا ، وهو إما بمعنى الرباعي ، أو هو من أوى له إذا رحمه. وعن مجاهد معنى الآية : ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك ، فجعل يتيما من قولهم : درّة يتيمة ، وهو بعيد جدا ، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه ، فكأنه قال : قد وجدك يتيما فآوى ، والوجود بمعنى العلم ، ويتيما مفعوله الثاني ، وقيل : بمعنى المصادفة ، ويتيما حال من مفعوله (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) معطوف على المضارع المنفيّ ، وقيل : هو معطوف على ما يقتضيه الكلام الّذي قبله كما ذكرنا ، أي : قد وجدك يتيما فآوى ووجدك ضالًّا فهدى ، والضلال هنا بمعنى الغفلة ، كما في قوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (١) وكما في قوله : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٢) والمعنى : أنه وجدك غافلا عما يراد بك من أمر النبوّة ، واختار هذا الزجاج. وقيل : معنى ضالا : لم تكن تدري القرآن ولا الشرائع فهداك لذلك. وقال الكلبي والسدّي والفراء : وجدك في قوم ضلال فهداهم الله لك. وقيل : وجدك طالبا للقبلة فهداك إليها كما في قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) (٣) ويكون الضلال بمعنى الطلب. وقيل : وجدك ضائعا في قومك فهداك إليه ، ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل : وجدك محبا للهداية فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى المحبة ، ومنه قول الشاعر :

عجبا لعزّة في اختيار قطيعتي

بعد الضّلال فحبلها قد أخلقا

وقيل : وجدك ضالا في شعاب مكة فهداك ، أي : ردّك إلى جدّك عبد المطلب (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)

__________________

(١). طه : ٥٢.

(٢). يوسف : ٣.

(٣). البقرة : ١٤٤.

٥٥٨

أي : وجدك فقيرا لا مال لك فأغناك ، يقال : عال الرجل يعيل عيلة ؛ إذا افتقر ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :

فما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغنيّ متى يعيل

أي : يفتقر. قال الكلبي : (فَأَغْنى) أي : رضّاك بما أعطاك من الرزق ، واختار هذا الفراء ، قال : لأنه لم يكن غنيا من كثرة ، ولكن الله سبحانه رضّاه بما آتاه ، وذلك حقيقة الغنى. وقال الأخفش : (عائِلاً) ذا عيال ، ومنه قول جرير :

الله أنزل في الكتاب فريضة

لابن السّبيل وللفقير العائل

وقيل : فأغنى بما فتح لك من الفتوح ، وفيه نظر ؛ لأن السورة مكية ، وقيل : بمال خديجة بنت خويلد ، وقيل : وجدك فقيرا من الحجج والبراهين فأغناك بها. قرأ الجمهور : «عائلا» وقرأ محمد بن السّميقع واليماني «عيّلا» بكسر الياء المشدّدة كسيد.

ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي : لا تقهره بوجه من وجوه القهر كائنا ما كان. قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما. قال الأخفش : لا تسلط عليه بالظلم ، ادفع إليه حقّه ، واذكر يتمك. قال الفرّاء والزّجّاج : لا تقهره على ماله فتذهب بحقّه لضعفه ، وكذا كانت العرب تفعل في حقّ اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحسن إلى اليتيم ويبرّه ويوصي باليتامى. قرأ الجمهور : «فلا تقهر» بالقاف ، وقرأ ابن مسعود والنّخعي والشعبيّ والأشهب العقيلي : «تكهر» بالكاف ، والعرب تعاقب بين القاف والكاف. قال النحاس : إنما يقال كهره ؛ إذا اشتدّ عليه وغلظ. وقيل : القهر : الغلبة ، والكهر : الزجر. قال أبو حيان : هي لغة ، يعني قراءة الكاف مثل قراءة الجمهور ، واليتيم منصوب بتقهر. (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) يقال : نهره وانتهره ؛ إذا استقبله بكلام يزجره ، فهو نهي عن زجر السائل والإغلاظ له ، ولكن يبذل اليسير أو يردّه بالجميل. قال الواحدي : قال المفسرون : يريد السائل على الباب ، يقول : لا تنهره إذا سألك فقد كنت فقيرا ، فإما أن تطعمه ، وإما أن تردّه ردّا لينا. قال قتادة : معناه ردّ السائل برحمة ولين. وقيل : المراد بالسائل الّذي يسأل عن الدين ، فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجبه برفق ولين ، كذا قال سفيان ، والسائل منصوب بتنهر ، والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ولا تنهر السائل (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أمره سبحانه بالتحدّث بنعم الله عليه وإظهارها للناس وإشهارها بينهم ، والظاهر النعمة على العموم من غير تخصيص بفرد من أفرادها أو نوع من أنواعها. وقال مجاهد والكلبي : المراد بالنعمة هنا القرآن. قال الكلبي : وكان القرآن أعظم ما أنعم الله بن عليه فأمره أن يقرأه. قال الفراء : وكان يقرؤه ويحدّث به. وقال مجاهد أيضا : المراد بالنعمة النبوّة التي أعطاه الله ، واختار هذا الزجاج فقال : أي بلغ ما أرسلت به وحدّث بالنبوّة التي آتاك الله ، وهي أجلّ النعم. وقال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدى بعد الضلالة وجبر اليتم ، والإغناء بعد العيلة فاشكر هذه النعم. والتحدث بنعمة الله شكر ، والجارّ والمجرور متعلق بحدّث ، والفاء غير مانعة من تعلقه به ، وهذه

٥٥٩

النواهي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي نواه له ولأمته لأنهم أسوته ، فكلّ فرد من أفراد هذه الأمة منهيّ بكلّ فرد من أفراد هذه النواهي.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) قال : إذا أقبل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه (إِذا سَجى) قال : إذا ذهب (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) قال : ما تركك (وَما قَلى) قال : ما أبغضك. وأخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدلائل ، عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي ، فأنزل الله (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم عنه أيضا قال : «عرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده فسّر بذلك ، فأنزل الله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) فأعطاه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك ، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم». وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) قال : رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : من رضا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وأخرج الخطيب في التلخيص من وجه آخر عنه أيضا في الآية قال : لا يرضى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحد من أمته في النار ، ويدلّ على هذا ما أخرجه مسلم عن ابن عمرو «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله في إبراهيم : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (١) وقول عيسى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (٢) الآية ، فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي ، وبكى ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك». وأخرج ابن المنذر وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، من طريق حرب بن شريح قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين : أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدّث بها أهل العراق أحقّ هي؟ قال : إي والله ، حدثني محمد بن الحنفية عن عليّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أشفع لأمتي حتى يناديني ربي : أرضيت يا محمد؟ فأقول : نعم يا رب رضيت ، ثم أقبل عليّ فقال : إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣) قلت إنا لنقول ذلك ، قال : فكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وهي الشفاعة». وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، ولسوف يعطيك ربك فترضى». وأخرج العسكري في المواعظ ، وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرّحى ، وعليها كساء من جلد الإبل ، فلما نظر إليها قال : يا فاطمة تعجّلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة ، فأنزل الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)». وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت

__________________

(١). إبراهيم : ٣٦.

(٢). المائدة : ١١٨.

(٣). الزمر : ٥٣.

٥٦٠