فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

قال مقاتل : يعني الكفار لأنهم تكبروا عن عبادة الله. قال قتادة وابن زيد : خاشعة في النار ، وقيل : أراد وجوه اليهود والنصارى على الخصوص ، والأوّل أولى. قوله : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) معنى عاملة أنها تعمل عملا شاقا. قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : عمل يعمل عملا ، ويقال للسحاب إذا دام برقه : قد عمل يعمل عملا. قيل : وهذا العمل هو جرّ السلاسل والأغلال والخوض في النار. (ناصِبَةٌ) أي : تعبة ، يقال : نصب بالكسر ينصب نصبا ؛ إذا تعب ، والمعنى : أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله. وقيل : إن قوله : (عامِلَةٌ) في الدنيا إذ لا عمل في الآخرة ، أي : تعمل في الدنيا بالكفر والمعاصي ، وتنصب في ذلك. وقيل : إنها عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة ، والأوّل أولى. قال قتادة : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تكبرت في الدنيا عن طاعة الله ؛ فأعملها الله ، وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال والوقوف حفاة عراة في العرصات (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (١) قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب فأعملها وأنصبها في جهنم. قال الكلبي : يجرّون على وجوههم في النار. وقال أيضا : يكلّفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم ، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض في الوحل. قرأ الجمهور : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) بالرفع فيهما على أنهما خبران آخران للمبتدأ ، أو على تقدير مبتدأ ، وهما خبران له ، وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد وابن كثير في رواية عنه بنصبهما على الحال أو على الذم. وقوله : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) خبر آخر للمبتدأ ، أي : تدخل نارا متناهية في الحرّ ، يقال : حمي النهار وحمي التنور ، أي : اشتدّ حرّهما. قال الكسائي : يقال : اشتدّ حمي النهار وحموه بمعنى. قرأ الجمهور : «تصلى» بفتح التاء مبنيا للفاعل. وقرأ أبو عمرة ويعقوب وأبو بكر بضمها مبنيا للمفعول. وقرأ أبو رجاء بضم التاء وفتح الصاد وتشديد اللام ، والضمير راجع إلى الوجوه على جميع هذه القراءات ، والمراد أصحابها كما تقدّم ، وهكذا الضمير (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) والمراد بالعين الآنية : المتناهية في الحرّ ، والآني : الّذي قد انتهى حره ، من الإيناء (٢) بمعنى التأخر ، يقال : آناه يؤنيه إيناء ، أي : أخّره وحبسه كما في قوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٣) قال الواحدي : قال المفسرون : لو وقعت منها نقطة على جبال الدنيا لذابت. ولما ذكر سبحانه شرابهم عقبه بذكر طعامهم فقال : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) هو نوع من الشوك يقال له الشّبرق في لسان قريش إذا كان رطبا ، فإذا يبس فهو الضريع. كذا قال مجاهد وقتادة وغيرهما من المفسرين. قيل : وهو سمّ قاتل ، وإذا يبس لا تقربه دابة ولا ترعاه ، وقيل : هو شيء يرمى به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام ، لا من أقوات الناس ، فإذا رعت منه الإبل لم تشبع وهلكت هزالا. قال الخليل : الضريع نبات أخضر منتن الريح يرمى به البحر. وجمهور أهل اللغة والتفسير قالوا : بالأوّل ،

__________________

(١). المعارج : ٤.

(٢). الصواب أن يقول : من : أنى يأني ، كرمى يرمي. وليس من الإيناء مصدر آنى بمعنى آخر.

(٣). الرّحمن : ٤٤.

٥٢١

ومنه قول أبي ذؤيب :

رعى الشّبرق الرّيّان حتّى إذا ذوى

وعاد ضريعا بان عنه النّحائص (١)

وقال الهذلي يذكر إبلاء وسوء مرعاها :

وحبسن في هزم الضّريع فكلّها

حدباء دامية اليدين حرود (٢)

وقال سعيد بن جبير : الضريع : الحجارة ، وقيل : هو شجرة في نار جهنم. وقال الحسن : هو بعض ما أخفاه الله من العذاب. وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرّعون إلى الله بالخلاص منه ، فسمّي بذلك ؛ لأن آكله يتضرّع إلى الله في أن يعفى عنه لكراهته وخشونته. قال النحاس : قد يكون مشتقا من الضارع وهو الذليل ، أي : من شربه يلحقه ضراعة وذلة. وقال الحسن أيضا : هو الزقوم ، وقيل : هو واد في جهنم ، وقد تقدّم في سورة الحاقة (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ـ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣) والغسلين غير الضريع كما تقدّم ، وجمع بين الآيتين بأن النار دركات ، فمنهم من طعامه الضريع ، ومنهم من طعامه الغسلين. ثم وصف سبحانه الضريع فقال : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي : لا يسمن الضريع آكله ولا يدفع عنه ما به من الجوع. قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية. قال المشركون : إن إبلنا تسمن من الضريع ، فنزلت : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وكذبوا في قولهم هذا ، فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه. وقيل : اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبات النافع. ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي : ذات نعمة وبهجة ، وهي وجوه المؤمنين صارت وجوههم ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وما أعدّه الله لهم من الخير الّذي يفوق الوصف ، ومثله قوله : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٤) ثم قال : (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي : لعملها الّذي عملته في الدنيا راضية ؛ لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرّت به عيونها ، والمراد بالوجوه هنا أصحابها كما تقدّم (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة ، أو عالية لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) قرأ الجمهور : (لا تَسْمَعُ) بفتح الفوقية ونصب لاغية ، أي : لا تسمع أنت أيها المخاطب ، أو لا تسمع تلك الوجوه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية مضمومة مبنيا للمفعول ورفع لاغية. وقرأ نافع بالفوقية مضمومة مبنيا للمفعول ورفع لاغية. وقرأ الفضل والجحدري بفتح التحتية مبنيا للفاعل ونصب لاغية ، واللغو : الكلام الساقط. قال الفرّاء والأخفش : أي لا تسمع فيها كلمة لغو.

__________________

(١). «النحائص» : جمع نحوص ، وهي الأتان الوحشية التي في بطنها ولد.

(٢). «هزيم الضريع» : ما تكسر منه. «الحدباء» : الناقة التي بدت حراقفها وعظم ظهرها. «الحرود» : التي لا تكاد تدرّ.

(٣). الحاقة : ٣٥ ـ ٣٦.

(٤). المطففين : ٢٤.

٥٢٢

قيل : المراد بذلك الكذب والبهتان والكفر قاله قتادة ، وقال مجاهد : أي الشتم. وقال الفرّاء : لا تسمع فيها حالفا يحلف بكذب. وقال الكلبي : لا تسمع في الجنة حالفا بيمين برّة ولا فاجرة. وقال الفرّاء أيضا : لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة تلغى ؛ لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم ، وهذا أرجح الأقوال لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم ، ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصّص يصلح للتخصيص ، ولاغية : إما صفة موصوف محذوف ، أي : كلمة لاغية ، أو نفس لاغية ، أو مصدر ، أي : لا تسمع فيها لغوا (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) قد تقدّم في سورة الإنسان أن فيها عيونا ، والعين هنا بمعنى : العيون ؛ كما في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) (١) ومعنى جارية أنها تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة. قال الكلبي : لا أدري بماء أو بغيره (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي : عالية مرتفعة السمك ، أو عالية القدر (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) قد تقدّم أن الأكواب جمع كوب ، وأنه القدح الّذي لا عروة له ، ومعنى موضوعة : أنها موضوعة بين أيديهم يشربون منها (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) النمارق : الوسائد. قال الواحدي : في قول الجميع ، واحدتها نمرقة بضم النون ، وزاد الفرّاء سماعا عن العرب نمرقة بكسرها. قال الكلبي : وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض ، ومنه قول الشاعر :

وإنّا لنجري الكأس بين شروبنا

وبين أبي قابوس فوق النّمارق

وقال الآخر :

كهول وشبّان حسان وجوههم

على سرر مصفوفة ونمارق

قال في الصحاح : النّمرق والنّمرقة : وسادة صغيرة ، وكذلك النّمرقة بالكسر لغة حكاها يعقوب (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) يعني البسط ، واحدها : زربيّة. قال أبو عبيدة والفرّاء : الزرابيّ : الطنافس التي لها خمل رقيق ، واحدها زربيّة ، والمبثوثة : المبسوطة ، قاله قتادة. وقال عكرمة : بعضها فوق بعض. قال الواحدي : ويجوز أن يكون المعنى : أنها مفرقة في المجالس. وبه قال القتبيّ. وقال الفرّاء : معنى مبثوثة : كثيرة ، والظاهر أن معنى البث : التفرّق مع كثرة ، ومنه (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) (٢). (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر كما في نظائره مما مرّ غير مرّة ، والجملة مسوقة لتقرير أمر البعث والاستدلال عليه ، وكذا ما بعدها ، وكيف منصوبة بما بعدها ، والجملة في محل جر على أنها بدل اشتمال من الإبل ، والمعنى : أينكرون أمر البعث ويستبعدون وقوعه ، أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر ما يشاهدونه من المخلوقات (كَيْفَ خُلِقَتْ) على ما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثّتها ومزيد قوّتها وبديع أوصافها. قال أبو عمرو بن العلاء : إنما خصّ الإبل لأنها من ذوات الأربع تبرك فتحمل عليها الحمولة ، وغيرها من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم : قال الزّجّاج :

__________________

(١). التكوير : ١٤.

(٢). البقرة : ١٦٤.

٥٢٣

نبّههم على عظيم من خلقه قد ذلّه الله للصغير يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك ، فينهض بثقل حمله ، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره ، فأراهم عظيما من خلقه ليدلّ بذلك على توحيده. وسئل الحسن عن هذه الآية ، وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به ، ثم هو خنزير لا يركب ظهره ولا يؤكل لحمه ولا يحلب درّه ، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه ، تأكل النّوى والقتّ ، وتخرج اللبن ، ويأخذ الصبيّ بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها. وقال المبرد : الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب ، وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة. وروى عن الأصمعي أنه قال : من قرأ (خُلِقَتْ) بالتخفيف عنى به البعير ، ومن قرأ بالتشديد عنى به السحاب. (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي : رفعت فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل ، وقيل : رفعت فلا ينالها شيء (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) على الأرض مرساة راسخة لا تميد ولا تزول (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي : بسطت ، والسطح : بسط الشيء ، يقال : لظهر البيت إذا كان مستويا : سطح. قرأ الجمهور : (سُطِحَتْ) مبنيا للمفعول مخففا. وقرأ الحسن : بالتشديد. وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن السّميقع وأبو العالية : خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل ، وضم التاء فيها كلها. ثم أمر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير فقال : (فَذَكِّرْ) والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : فعظهم يا محمد وخوّفهم ، ثم علل الأمر بالتذكير فقال : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي : ليس عليك إلا ذلك ، و (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) المصيطر والمسيطر بالسين والصاد : المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله كذا في الصحاح ، أي : لست عليهم بمصيطر حتى تكرههم على الإيمان ، وهذا منسوخ بآية السيف. قرأ الجمهور : (بِمُصَيْطِرٍ) بالصاد ، وقرأ هشام وقنبل في رواية بالسين. وقرأ خلف بإشمام الصاد زايا. وقرأ هارون الأعور بفتح الطاء اسم مفعول (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) هذا استثناء منقطع ، أي : لكن من تولى عن الوعظ والتذكير (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) (الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو عذاب جهنم الدائم ، وقيل : هو استثناء متصل من قوله : (فَذَكِّرْ) أي : فذكر كلّ أحد إلا من انقطع طمعك عن إيمانه وتولّى فاستحق العذاب الأكبر ، والأوّل أولى. وإنما قال : (الْأَكْبَرَ) لأنهم قد عذّبوا في الدّنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقرأ ابن مسعود : «فإنه يعذّبه الله» وقرأ ابن عباس وقتادة : «ألا من تولى» على أنها ألا التي للتنبيه والاستفتاح (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي : رجوعهم بعد الموت ، يقال آب يؤوب : إذا رجع ، ومنه قول عبيد بن الأبرص :

وكلّ ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

قرأ الجمهور : (إِيابَهُمْ) بالتخفيف ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بالتشديد. قال أبو حاتم : لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام ، وقيل : هما لغتان بمعنى. قال الواحدي : وأما (إِيابَهُمْ) بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) يعني جزاءهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث ، و «ثم» للتراخي في الرتبة ؛ لبعد منزلة الحساب في الشدّة عن منزلة الإياب.

٥٢٤

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الغاشية من أسماء القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) قال : الساعة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ـ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال : تعمل وتنصب في النار (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال : هي التي قد طال أنيها (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال : الشبرق. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ـ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال : يعني اليهود والنصارى تخشع ولا ينفعها عملها (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال : قد أنى غليانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) قال : حارّة ، (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال : انتهى حرّها (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) يقول : من شجر من نار. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا (إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال : الشبرق اليابس. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) يقول : لا تسمع أذى ولا باطل وفي قوله : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) قال : بعضها فوق بعض (وَنَمارِقُ) قال : مجالس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (وَنَمارِقُ) قال : المرافق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) قال : جبار (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) قال : حسابه على الله. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضا (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ثم نسخ ذلك فقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١). وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) قال : مرجعهم

* * *

__________________

(١). التوبة : ٥.

٥٢٥

سورة الفجر

هي ثلاثون آية ، وقيل : تسع وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس ، والنحاس في ناسخه ، وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال : نزلت (وَالْفَجْرِ) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله. وأخرج النسائي عن جابر قال : صلى معاذ صلاة ، فجاء رجل فصلى معه فطوّل ، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف ، فبلغ ذلك معاذا فقال : منافق ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله جئت أصلي فطوّل عليّ ، فانصرفت فصليت في ناحية المسجد فعلفت ناضحي ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتان أنت يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والفجر ، والليل إذا يغشى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

أقسم سبحانه بهذه الأشياء كما أقسم بغيرها من مخلوقاته. واختلف في الفجر الّذي أقسم الله به هنا ؛ فقيل : هو الوقت المعروف ، وسمّي فجرا لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم. وقال قتادة : إنه فجر أوّل يوم من شهر محرّم ؛ لأن منه تتفجر السنة. وقال مجاهد : يريد يوم النحر. وقال الضحاك : فجر ذي الحجّة ؛ لأن الله قرن الأيام به فقال : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) أي : ليال من ذي الحجّة ، وبه قال السدّي والكلبي. وقيل المعنى : وصلاة الفجر أو ربّ الفجر. والأوّل أولى. وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) كذا قال ابن الأنباري ، وقيل : محذوف لدلالة السياق عليه ، أي : ليجازينّ كل أحد بما عمل ، أو ليعذبن ، وقدّره أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله ، أي : والفجر إلخ ... لإيابهم إلينا وحسابهم علينا ، وهذا ضعيف جدّا. وأضعف منه قول من قال : إن الجواب من قوله : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) وأن هل بمعنى قد ؛ لأن هذا لا يصح أن يكون مقسما عليه أبدا (وَلَيالٍ عَشْرٍ) هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين. وقال الضحاك : إنها الأواخر من رمضان ، وقيل : العشر الأوّل من المحرّم إلى عاشرها يوم عاشوراء. قرأ الجمهور : (لَيالٍ) بالتنوين ، و «عشر» صفة لها. وقرأ ابن عباس : وليالي عشر بالإضافة ، قيل : والمراد ليالي أيام عشر ، وكان حقه على هذا أن يقال عشرة ،

٥٢٦

لأن المعدود مذكر. وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان. (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) الشفع والوتر يعمّان كلّ الأشياء شفعها ووترها ، وقيل : شفع الليالي ووترها. وقال قتادة : الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها ، منها شفع ومنها وتر. وقيل : الشفع يوم عرفة ويوم النحر ، والوتر : ليلة يوم النحر. وقال مجاهد وعطية العوفي : الشفع : الخلق ، والوتر : الله الواحد الصمد ، وبه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة. وقال الربيع بن أنس وأبو العالية : هي صلاة المغرب فيها ركعتان والوتر الركعة. وقال الضحاك : الشفع : عشر ذي الحجة ، والوتر : أيام منى الثلاثة ، وبه قال عطاء. وقيل : هما آدم وحواء ، لأن آدم كان وترا فشفع بحوّاء. وقيل : الشفع : درجات الجنة وهي ثمان ، والوتر : دركات النار وهي سبع ، وبه قال الحسين بن الفضل. وقيل : الشفع الصفا والمروة ، والوتر : الكعبة. وقال مقاتل : الشفع : الأيام والليالي ، والوتر : اليوم الّذي لا ليلة بعده ، وهو يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة : الوتر : هو الله سبحانه ، وهو الشفع أيضا لقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (١) الآية. وقال الحسن : المراد بالشفع والوتر : العدد كله ؛ لأن العدد لا يخلو عنهما. وقيل : الشفع : مسجد مكة والمدنية ، والوتر : مسجد بيت المقدس. وقيل : الشفع حج القران ، والوتر : الإفراد. وقيل : الشفع : الحيوان لأنه ذكر وأنثى ، والوتر : الجماد. وقيل : الشفع : ما سمّى ، والوتر : ما لا يسمّى. ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين والضعف الظاهر ، والإنكار في التعيين على مجرّد الرأي الزائف ، والخاطر الخاطئ.

والّذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب ، وهما معروفان واضحان ، فالشفع عند العرب : الزوج ، والوتر : الفرد. فالمراد بالآية إما نفس العدد أو ما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر. وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية ، فإن كان الدليل يدلّ على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك ، وإن كان الدليل يدلّ على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعا من تناولها لغيره. قرأ الجمهور «والوتر» بفتح الواو. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسرها ، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه وهما لغتان ، والفتح لغة قريش وأهل الحجاز ، والكسر لغة تميم ، قال الأصمعي : كلّ فرد وتر ، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد. وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو وكسر التاء ، فيحتمل أن تكون لغة ثالثة ، ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قرأ الجمهور (يَسْرِ) بحذف الياء وصلا ووقفا اتباعا لرسم المصحف. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف. قال الخليل : تسقط الياء موافقة لرؤوس الآي. قال الزجاج : والحذف أحب إليّ لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياءات. قال الفرّاء : قد تحذف العرب الياء وتكتفي بكسر ما قبلها ، وأنشد بعضهم :

كفّاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما

__________________

(١). المجادلة : ٧.

٥٢٧

ما تليق ؛ أي : ما تمسك. قال المؤرّج : سألت الأخفش عن العلّة في إسقاط الياء من يسر فقال : لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة ، فبتّ على باب داره سنة فقال : الليل لا يسري ، وإنما يسرى فيه ، فهو مصروف عن جهته ، وكلّ ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه ، ألا ترى إلى قوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (١) ولم يقل بغية ؛ لأنه صرفها من باغية.

وفي كلام الأخفش هذا نظر ، فإن صرف الشيء عن معناه لسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه ، ولو صحّ ذلك للزم في كلّ المجازات العقلية واللفظية ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، والأصل ها هنا إثبات الياء ؛ لأنها لام الفعل المضارع المرفوع ، ولم تحذف لعلة من العلل إلا لاتباع رسم المصحف وموافقة رؤوس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي ، ومعنى (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) إذا يمضي ، كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (٢). (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) (٣) وقيل : معنى يسر : يسار فيه ، كما يقال : ليل نائم ونهار صائم ، كما في قول الشاعر (٤) :

لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت وما ليل المطيّ بنائم

وبهذا قال الأخفش والقتبي وغيرهما من أهل المعاني ، وبالأوّل قال جمهور المفسرين. وقال قتادة وأبو العالية : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي جاء وأقبل. وقال النخعي : أي استوى. قال عكرمة وقتادة والكلبي ومحمد ابن كعب : هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه ، وقيل : ليلة القدر لسراية الرحمة فيها. والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هذا الاستفهام لتقرير تعظيم ما أقسم سبحانه به وتفخيمه من هذه الأمور المذكورة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى تلك الأمور ، والتذكير بتأويل المذكور ، أي : هل في ذلك المذكور ، من الأمور التي أقسمنا بها قسم ، أي مقسم به حقيق بأن تؤكد به الأخبار (لِذِي حِجْرٍ) أي : عقل ولبّ ، فمن كان ذا عقل ولبّ علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به ، ومثل هذا قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٥). قال الحسن : (لِذِي حِجْرٍ) أي : لذي حلم. وقال أبو مالك : لذي ستر من الناس. وقال الجمهور : الحجر : العقل. قال الفرّاء : الكل يرجع إلى معنى واحد ، لذي عقل ولذي حلم ولذي ستر ، الكلّ بمعنى العقل. وأصل الحجر : المنع ، يقال لمن ملك نفسه ومنعها : إنه لذو حجر ، ومنه سمي الحجر لامتناعه بصلابته ، ومنه حجر الحاكم على فلان ، أي : منعه. قال والعرب تقول : إنه لذو حجر ؛ إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها. ثم ذكر سبحانه على طريقة الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيرا للكفار في عصر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخويفا لهم أن يصيبهم ما أصابهم

__________________

(١). مريم : ٢٨.

(٢). المدثر : ٣٣.

(٣). التكوير : ١٧.

(٤). هو جرير.

(٥). الواقعة : ٧٦.

٥٢٨

فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ـ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) قرأ الجمهور بتنوين : عاد على أن يكون إرم عطف بيان لعاد ، والمراد بعاد اسم أبيهم ، وإرم : اسم القبيلة أو بدلا منه ، وامتناع صرف إرم للتعريف والتأنيث. وقيل : المراد بعاد أولاد عاد ، وهم عاد الأولى ، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى ، فيكون ذكر إرم على طريقة عطف البيان أو البدل ؛ للدلالة على أنهم عاد الأولى لا عاد الأخرى ، ولا بدّ من تقدير مضاف على كلا القولين : أي أهل إرم ، أو سبط إرم؟ فإن إرم هو جدّ عاد ، لأنه عاد بن إرم بن عوص بن سام ابن نوح. وقرأ الحسن وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم. وقرأ الجمهور : (إِرَمَ) بكسر الهمزة. وفتح الراء والميم. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك (إِرَمَ) بفتح الهمزة والراء ، وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفا ، وقرئ بإضافة إرم إلى ذات العماد. قال مجاهد : من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإرم التي هي الأعلام واحدها أرم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي : والفجر كذا وكذا (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أَلَمْ تَرَ) ، أي : ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد ، وهذه الرؤية رؤية القلب ، والخطاب للنبيّ ، أو لكلّ من يصلح له ، وقد كان أمر عاد وثمود مشهورا عند العرب ؛ لأن ديارهم متصلة بديار العرب ، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون. وقال مجاهد أيضا : إرم : أمة من الأمم ، وقال قتادة : هي قبيلة من عاد ، وقيل : هما عادان ، فالأولى هي إرم ، ومنه قول قيس بن الرّقيّات :

مجدا تليدا بناه أوّلهم

أدرك عادا وقبله إرما

قال معمر : إرم إليه مجتمع عاد وثمود ، وكان يقال : عاد إرم وعاد وثمود ، وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم. قال أبو عبيدة : هما عادان ، فالأولى إرم. ومعنى ذات العماد : ذات القوّة والشدّة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، كذا قال الضحاك : وقال قتادة ومجاهد : إنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم. وقال مقاتل : ذات العماد يعني طولهم ، كان طول الرجل منهم اثني عشرة ذراعا ، ويقال رجل طويل العماد : أي القامة. قال أبو عبيدة : ذات العماد ذات الطول ، يقال رجل معمد : إذا كان طويلا. وقال مجاهد وقتادة : أيضا كان عمادا لقومهم ، يقال : فلان عميد القوم وعمودهم ، أي : سيدهم. وقال ابن زيد : ذات العماد يعني إحكام البنيان بالعمد. قال في الصحاح : والعماد : الأبنية الرفيعة ، تذكر وتؤنث ، قال عمرو بن كلثوم :

ونحن إذا عماد الحيّ خرّت

على الأخفاض نمنع من يلينا

وقال عكرمة وسعيد المقبري : هي دمشق ، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية. (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) هذه صفة لعاد ، أي : لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدّة والقوّة ، وهم الذين قالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) (١) أو صفة للقرية على قول من قال : إن إرم اسم

__________________

(١). فصلت : ١٥.

٥٢٩

لقريتهم أو للأرض التي كانوا فيها. والأولى أولى. ويدل عليه قراءة أبيّ التي لم يخلق مثلهم في البلاد وقيل : الإرم : الهلاك. قال الضحاك إرم ذات العماد : أي أهلكهم فجعلهم رميما ، وبه قال شهر بن حوشب. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها ، وإن حصباءها جواهر وترابها مسك ، وليس بها أنيس ولا فيها ساكن من بني آدم ، وإنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع ، فتارة تكون باليمن ، وتارة تكون بالشام ، وتارة تكون بالعراق ، وتارة تكون بسائر البلاد ، وهذا كذب بحت لا ينفق على من له أدنى تمييز. وزاد الثعلبي في تفسيره فقال : إن عبد الله ابن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة ، وهذا كذب على كذب وافتراء على افتراء ، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء وفاقرة عظمى ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترءون على الكذب ، تارة على بني إسرائيل ، وتارة على الأنبياء ، وتارة على الصالحين ، وتارة على ربّ العالمين ، وتضاعف هذا الشرّ وزاد كثرة بتصدّر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز ، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه ، فحرّفوا وغيروا وبدّلوا. ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتابي الّذي سمّيته : «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة».

ثم عطف سبحانه القبيلة الآخرة ، وهي ثمود على قبيلة عاد فقال : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) وهم قوم صالح سموا باسم جدّهم ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ، ومعنى جابوا الصخر : قطعوه ، والجوب القطع ، ومنه جاب البلاد : إذا قطعها ، ومنه سمّي جيب القميص لأنه جيب ، أي : قطع. قال المفسرون : أوّل من نحت الجبال والصخور ثمود ، فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ، ومنه قوله سبحانه : (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) (١) وكانوا ينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتا يسكنون فيها ، وقوله : (بِالْوادِ) متعلق بجابوا ، أو بمحذوف على أنه حال من الصخر ، وهو وادي القرى. قرأ الجمهور : (ثَمُودَ) بمنع الصرف على أنه اسم للقبيلة ، ففيه التأنيث والتعريف. وقرأ يحيى بن وثّاب بالصرف على أنه اسم لأبيها. وقرأ الجمهور أيضا بالواد بحذف الياء وصلا ووقفا اتباعا لرسم المصحف. وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما. وقرأ قنبل في رواية عنه بإثباتها في الوصل دون الوقف (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي : ذو الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدّونها بالأوتاد ، أو جعل الجنود أنفسهم أوتادا لأنهم يشدّون الملك كما تشد الأوتاد الخيام ، وقيل : كان له أوتاد يعذّب الناس بها ويشدّهم إليها. وقد تقدم بيان هذا في سورة ص (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) الموصول صفة لعاد وثمود وفرعون ، أي : طغت كل طائفة منهم في بلادهم وتمرّدت وعتت ، والطغيان : مجاوزة الحدّ (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) بالكفر ومعاصي الله والجور على عباده ، ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين طغوا ،

__________________

(١). الشعراء : ١٤٩.

٥٣٠

أو في محل نصب على الذمّ (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي : أفرغ عليهم وألقى على تلك الطوائف سوط عذاب ، وهو ما عذّبهم به. قال الزجاج : جعل سوطه الّذي ضربهم به العذاب ، يقال : صبّ على فلان خلعة ، أي : ألقاها عليه ، ومنه قول النابغة :

فصبّ عليه الله أحسن صنعه

وكان له بين البريّة ناصرا

ومنه قول الآخر :

ألم تر أنّ الله أظهر دينه

وصبّ على الكفّار سوط عذاب

ومعنى سوط عذاب : نصيب عذاب ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو بالنسبة إلى ما أعدّه لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وقيل : ذكر السوط للدلالة على شدة ما نزل بهم ، وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذّب به. قال الفرّاء : هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب ، وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الّذي يعذبون به ، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه عندهم غاية العذاب. وقيل معناه : عذاب يخالط اللحم والدم ، من قولهم : يسوطه سوطا ، أي : خلطه ، فالسوط : خلط الشيء بعضه ببعض ، ومنه قول كعب بن زهير :

لكنّها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع (١) وإخلاف وتبديل

وقال الآخر :

أحارث إنّا لو تساط دماؤنا

تزايلن حتّى لا يمسّ دم دما

وقال آخر :

فسطها ذميم الرّأي غير موفّق

فلست على تسويطها بمعان

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قد قدّمنا قول من قال إن هذا جواب القسم. والأولى أن الجواب محذوف ، وهذه الجملة تعليل لما قبلها ، وفيها إرشاد إلى أن كفار قومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصيبهم ما أصاب أولئك الكفار ، ومعنى بالمرصاد : أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا. قال الحسن وعكرمة : أي عليه طريق العباد لا يفوته أحد ، والرصد والمرصاد : الطريق. وقد تقدّم بيانه في سورة براءة ، وتقدّم أيضا عند قوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) (٢).

وقد أخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (وَالْفَجْرِ) قال : فجر النهار. وأخرج ابن جرير عنه قال : يعني صلاة الفجر. وأخرج سعيد

__________________

(١). «فجع» : إصابة بمكروه. «ولع» : كذب.

(٢). النبأ : ٢١.

٥٣١

ابن منصور والبيهقي في الشعب وابن عساكر عنه أيضا في قوله : (وَالْفَجْرِ) قال : هو المحرّم فجر السنة ، وقد ورد في فضل صوم شهر محرّم أحاديث صحيحة ، ولكنها لا تدلّ على أنه المراد بالآية لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما. وأخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن جابر «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَالْفَجْرِ ـ وَلَيالٍ عَشْرٍ ـ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال : إن العشر عشر الأضحى ، والوتر : يوم عرفة ، والشفع : يوم النحر. وفي لفظ : هي ليالي من ذي الحجة». وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن عبد الله أنه دخل على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرّحمن فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة ، فقال أبو سلمة : أليس هذه الليالي العشر التي ذكرها الله في القرآن؟ فقال ابن عمر : وما يدريك؟ قال : ما أشك ، قال : بلى فشكّ. وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث. وليس فيها ما يدل على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال : هي العشر الأواخر من رمضان. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه عن عمران بن حصين «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الشفع والوتر ، فقال : هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر». وفي إسناده رجل مجهول ، وهو الراوي له عن عمران بن حصين. وقد روي عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين بإسقاط الرجل المجهول. وقال الترمذي بعد إخراجه بالإسناد الّذي فيه الرجل المجهول : هو حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة. قال ابن كثير : وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه ، والله أعلم. قال : ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر. وقد أخرج هذا الحديث موقوفا على عمران بن حصين عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير ، فهذا يقوّي ما قاله ابن كثير. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) فقال : كل شيء شفع فهو اثنان ، والوتر واحد. وأخرج الطبراني وابن مردويه ـ قال السيوطي : بسند ضعيف ـ عن أبي أيوب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه سئل عن الشفع والوتر فقال : يومان وليلة ، يوم عرفة ، ويوم النحر ، والوتر ليلة النحر ليلة جمع». وأخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشفع اليومان ، والوتر اليوم الثالث». وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير أنه سئل عن الشفع والوتر فقال : الشفع : قول الله (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١) والوتر : اليوم الثالث. وفي لفظ : الوتر أوسط أيام التشريق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، من طرق عن ابن عباس قال : الشفع : يوم النحر ، والوتر : يوم عرفة. وأخرج ابن جرير عنه (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قال : إذا ذهب. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ (وَالْفَجْرِ) إلى قوله : (إِذا يَسْرِ) قال : هذا قسم على إن ربك بالمرصاد. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ،

__________________

(١). البقرة : ٢٠٣.

٥٣٢

من طرق عن ابن عباس في قوله : (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال : لذي حجى وعقل ونهى. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (بِعادٍ ـ إِرَمَ) قال : يعني بالإرم : الهالك ، ألا ترى أنك تقول : أرم بنو فلان ، (ذاتِ الْعِمادِ) يعني طولهم مثل العماد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) فقال : «كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أيّ حيّ» أراد فيهلكهم. وفي إسناده رجل مجهول ؛ لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدّثه عن المقدام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) قال : وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كانوا ينحتون من الجبال بيوتا (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قال : الأوتاد : الجنود الذين يشدّون أمره. وأخرج الحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود في قوله : (ذِي الْأَوْتادِ) قال : وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قال : يسمع ويرى. وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن مسعود في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قال : من وراء الصراط جسور : جسر عليه الأمانة ، وجسر عليه الرحم ، وجسر عليه الربّ عزوجل.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

لما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد ذكر ما يدلّ على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير وعند إصابة الشرّ ، وأن مطمح أنظارهم ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي : امتحنه واختبره بالنعم (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) أي : أكرمه بالمال ووسّع عليه رزقه (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فرحا بما نال وسرورا بما أعطي ، غير شاكر لله على ذلك ولا خاطر بباله أن ذلك امتحان له من ربه واختبار لحاله وكشف لما يشتمل عليه من الصبر والجزع والشكر للنعمة وكفرانها ، و «ما» في قوله : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) تفسير للابتلاء. ومعنى (أَكْرَمَنِ) أي : فضلني بما أعطاني من المال وأسبغه عليّ من النعم لمزيد استحقاقي لذلك وكوني موضعا له ، والإنسان مبتدأ ، وخبره «فيقول ربي أكرمن» ودخلت الفاء فيه لتضمن أما معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر وإن تقدّم لفظا فهو مؤخر في المعنى ، أي : فأما الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام. قال الكلبي : الإنسان هو الكافر أبيّ بن خلف. وقال مقاتل : نزلت في أمية بن خلف ،

٥٣٣

وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة وأبي حذيفة بن المغيرة (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي : اختبره وعامله معاملة من يختبره (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي : ضيّقه ولم يوسعه له ، ولا بسط له فيه (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي : أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الّذي لا يؤمن بالبعث ، لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا في متاعها ، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها ، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ويوفّقه لعمل الآخرة ، ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم تيقّظه أن ما صار إليه من الخير وما أصيب به من الشرّ في الدنيا ليس إلا للاختبار والامتحان ، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء. قرأ نافع بإثبات الياء في «أكرمن وأهانن» وصلا وحذفهما وقفا ، وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ويعقوب بإثباتهما وصلا ووقفا ، وقرأ الباقون بحذفهما في الوصل والوقف اتباعا لرسم المصحف ولموافقة رؤوس الآي ، والأصل إثباتها لأنها اسم ، ومن الحذف قول الشاعر :

ومن كاشح ظاهر غمره

إذا ما انتصبت له أنكرن

أي : أنكرني. وقرأ الجمهور «فقدر» بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر بالتشديد ، وهما لغتان. وقرأ الحرميان وأبو عمرو «ربي» بفتح الياء في الموضعين وأسكنها الباقون. وقوله : (كَلَّا) ردع للإنسان القائل في الحالتين ما قال : وزجر له ، فإن الله سبحانه قد يوسع الرزق ويبسط النعم للإنسان لا لكرامته ، ويضيقه عليه لا لإهانته ، بل للاختبار والامتحان كما تقدّم. قال الفراء : كلّا في هذا الموضع بمعنى أنه لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا ، ولكن يحمد الله على الغنى والفقر. ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله فقال : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتحتية على الخبر ، وهكذا اختلفوا فيما بعد هذا من الأفعال ، فقرأ الجمهور «تحضون ، وتأكلون ، وتحبون» بالفوقية على الخطاب فيها. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتحتية فيها ، والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان ، لأن المراد به الجنس ، أي : بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر ، وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم فتأكلون ماله وتمنعونه من فضل أموالكم. قال مقاتل : نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف. (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) قرأ الجمهور «تحضون» من حضّه على كذا ، أي : أغراه به ، ومفعوله محذوف ، أي : لا تحضون أنفسكم ، أو لا يحضّ بعضكم بعضا على ذلك ولا يأمر به ولا يرشد إليه ، وقرأ الكوفيون «تحاضون» بفتح التاء والحاء بعدها ألف ، وأصله تتحاضون ، فحذف إحدى التاءين ، أي : لا يحضّ بعضكم بعضا. وقرأ الكسائي في رواية عنه والسلمي «تحاضون» بضم التاء من الحضّ ، وهو الحث. وقوله : (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) متعلّق بتحضون ، وهو إما اسم مصدر ، أي : على إطعام المسكين ، أو اسم للمطعوم ، ويكون على حذف مضاف ، أي : على بذل طعام المسكين ، أو على إعطاء طعام المسكين (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أصله الوراث ، فأبدلت التاء من الواو المضمومة ، كما في تجاه ووجاه ، والمراد به أموال اليتامى الذين يرثونه من قراباتهم ، وكذلك أموال النساء ،

٥٣٤

وذلك أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصبيان ويأكلون أموالهم (أَكْلاً لَمًّا) أي : أكلا شديدا ، وقيل معنى لمّا : جمعا ، من قولهم : لممت الطعام ؛ إذا أكلته جميعا. قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب اليتيم ، وكذا قال أبو عبيدة : وأصل اللمّ في كلام العرب : الجمع ، يقال : لممت الشيء ألمه لما : جمعته ، ومنه قولهم : لمّ الله شعثه : أي جمع ما تفرّق من أموره ، ومنه قول النابغة :

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث أيّ الرّجال المهذّب

قال الليث : اللمّ : الجمع الشديد ، ومنه حجر ملموم ، وكتيبة ملمومة ، وللآكل : يلمّ الثريد فيجمعه ثم يأكله. وقال مجاهد : يسفّه سفّا. وقال ابن زيد : هو إذا أكل ماله ألمّ بمال غيره فأكله ولا يفكر فيما أكل من خبيث وطيب (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي : حبّا كثيرا ، والجمّ : الكثير ، يقال : جمّ الماء في الحوض ؛ إذا كثر واجتمع ، والجملة : المكان الّذي يجتمع فيه الماء. ثم كرّر سبحانه الردع لهم والزجر فقال (كَلَّا) أي : ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم. ثم استأنف سبحانه فقال (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر ، والدكّ : الكسر والدق ، والمعنى هنا : أنها زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك. قال ابن قتيبة : دكّت جبالها حتى استوت. قال الزّجّاج : أي : تزلزلت فدكّ بعضها بعضا. قال المبرّد : أي : بسطت وذهب ارتفاعها. قال : والدكّ : حطّ المرتفع بالبسط ، وقد تقدّم الكلام على الدكّ في سورة الأعراف ، وفي سورة الحاقة. والمعنى : أنها دكت مرة بعد أخرى ، وانتصاب «دكا» الأوّل على أنه مصدر مؤكد للفعل ، و «دكا» الثاني تأكيد للأوّل ، كذا قال ابن عصفور. ويجوز أن يكون النصب على الحال ، أي : حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة ، كما يقال : علّمته الحساب بابا بابا ، وعلّمته الخطّ حرفا حرفا ، والمعنى : أنه كرّر الدك عليها حتى صارت هباء منبثا. (وَجاءَ رَبُّكَ) أي : جاء أمره وقضاؤه وظهرت آياته ، وقيل : المعنى : أنها زالت الشبه في ذلك اليوم ، وظهرت المعارف ، وصارت ضرورية ، كما يزول الشكّ عن مجيء الشيء الّذي كان يشكّ فيه ، وقيل : جاء قهر ربّك وسلطانه وانفراده والتدبير من دون أن يجعل إلى أحد من عباده شيئا من ذلك (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) انتصاب «صفا صفا» على الحال ، أي : مصطفين ، أو ذوي صفوف. قال عطاء : يريد صفوف الملائكة ، وأهل كلّ سماء صفّ كلّ على حدة. قال الضحاك : أهل كلّ سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض ومن فيها ، فيكونون سبعة صفوف (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) «يومئذ» منصوب بجيء ، والقائم مقام الفاعل بجهنم ، وجوّز مكّي أن يكون يومئذ هو القائم مقام الفاعل ، وليس بذاك. قال الواحدي : قال جماعة من المفسرين : جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام ، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرّونها حتى تنصب عن يسار العرش ، فلا يبقى ملك مقرّب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول : يا ربّ نفسي نفسي. وسيأتي الّذي نقله هذا عن جماعة المفسرين مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شاء الله. (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) «يومئذ» هذا بدل من يومئذ الّذي قبله ، أي : يوم جيء بجهنم يتذكر الإنسان ، أي : يتّعظ ويذكر ما فرط منه ويندم على ما قدّمه في الدنيا من الكفر والمعاصي. وقيل : إن قوله «يومئذ» الثاني بدل من قوله «إذا دكت» والعامل فيهما هو قوله :

٥٣٥

(يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي : ومن أين له التّذكّر والاتّعاظ ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزّجّاج : يظهر التوبة ومن أين له التوبة؟ (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا يقول الإنسان ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من قوله : يتذكر ، والمعنى : يتمنى أنه قدّم الخير والعمل الصالح ، واللام في لحياتي بمعنى لأجل حياتي ، والمراد حياة الآخرة ، فإنها الحياة بالحقيقة ؛ لأنها دائمة غير منقطعة. وقيل : إن اللام بمعنى في ، والمراد حياة الدنيا ، أي : يا ليتني قدّمت الأعمال الصالحة في وقت حياتي في الدنيا أنتفع بها هذا اليوم ، والأوّل أولى. قال الحسن : علم والله أنه صادف حياة طويلة لا موت فيها (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي : يوم يكون زمان ما ذكر من الأحوال لا يعذب كعذاب الله أحد (وَلا يُوثِقُ) ك (وَثاقَهُ أَحَدٌ) أو لا يتولى عذاب الله ووثاقه أحد سواه إذ الأمر كله له ، والضميران على التقديرين في عذابه ووثاقه لله عزوجل ، وهذا على قراءة الجمهور يعذب ويوثق مبنيين للفاعل. وقرأ الكسائي على البناء للمفعول فيهما ، فيكون الضميران راجعين إلى الإنسان ، أي : لا يعذب كعذاب ذلك الإنسان أحد ولا يوثق كوثاقه أحد ، والمراد بالإنسان الكافر ، أي : لا يعذب من ليس بكافر كعذاب الكافر ، وقيل : إبليس ، وقيل : المراد به أبيّ بن خلف. قال الفرّاء : المعنى أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد لتناهيه في الكفر والعناد. وقيل : المعنى : أنه لا يعذب مكانه أحد ولا يوثق مكانه أحد ، ولا تؤخذ منه فدية ، وهو كقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) والعذاب بمعنى التعذيب ، والوثاق بمعنى التوثيق ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الكسائي ، قال : وتكون الهاء في الموضعين ضمير الكافر ؛ لأنه معروف أنه لا يعذب أحد كعذاب الله. قال أبو عليّ الفارسي : يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة ، أي : لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر.

ولما فرغ سبحانه من حكاية أحوال الأشقياء ذكر بعض أحوال السعداء فقال (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) المطمئنة : هي الساكنة الموقنة بالإيمان وتوحيد الله ، الواصلة إلى ثلج اليقين ؛ بحيث لا يخالطها شكّ ولا يعتريها ريب. قال الحسن : هي المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها ، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل ، هي الآمنة المطمئنة. وقال ابن كيسان : المطمئنة بذكر الله ، وقيل : المخلصة. قال ابن زيد : المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي : ارجعي إلى الله (راضِيَةً) بالثواب الّذي أعطاك (مَرْضِيَّةً) عنده ، وقيل : ارجعي إلى موعده ، وقيل : إلى أمره. وقال عكرمة وعطاء : معنى (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) إلى جسدك الّذي كنت فيه ، واختاره ابن جرير ، ويدل على هذا قراءة ابن عباس «فادخلي في عبدي» بالإفراد ، والأوّل أولى (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي : في زمرة عبادي الصالحين ، وكوني من جملتهم ، وانتظمي في سلكهم

__________________

(١). الأنعام : ١٦٤.

٥٣٦

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم ، قيل : إنه يقال لها ارجعي إلى ربك عند خروجها من الدنيا ، ويقال لها : ادخلي في عبادي وادخلي جنتي يوم القيامة ، والمراد بالآية كل نفس مطمئنة على العموم ، ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَكْلاً لَمًّا) قال : سفا ، وفي قوله : (حُبًّا جَمًّا) قال : شديدا ، وأخرج ابن جرير عنه (أَكْلاً لَمًّا) قال : شديدا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) قال : تحريكها. وأخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) يقول : وكيف له؟ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ) الآية قال : لا يعذب بعذاب الله أحد ولا يوثق بوثاق الله أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عنه أيضا في قوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال : المؤمنة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) يقول : إلى جسدك. قال : «نزلت هذه الآية وأبو بكر جالس ، فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا ، فقال : أما إنه سيقال لك هذا». وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، عن سعيد بن جبير نحوه مرسلا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول نحوه عن أبي بكر الصديق وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال : هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : (النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) المصدّقة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : تردّ الأرواح يوم القيامة في الأجساد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً) قال : بما أعطيت من الثواب (مَرْضِيَّةً) عنها بعملها (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) المؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عباس بالطائف ، فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ـ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ـ فَادْخُلِي فِي عِبادِي ـ وَادْخُلِي جَنَّتِي). وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عكرمة مثله.

* * *

٥٣٧

سورة البلد

ويقال سورة : لا أقسم ، هي عشرون آية وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة لا أقسم بهذا البلد بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

قوله : (لا أُقْسِمُ) لا زائدة ، والمعنى أقسم (بِهذَا الْبَلَدِ) وقد تقدّم الكلام على هذا في تفسير (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) ، ومن زيادة «لا» في الكلام في غير القسم قول الشاعر :

تذكّرت ليلى فاعترتني صبابة

وكاد صميم القلب لا يتصدّع (٢)

أي : يتصدّع ، ومن ذلك قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (٣) أي : أن تسجد. قال الواحدي : أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة. قرأ الجمهور «لا أقسم» وقرأ الحسن والأعمش «لأقسم» من غير ألف ، وقيل : هو نفي للقسم ، والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه. وقال مجاهد : إن «لا» ردّ على من أنكر البعث ، ثم ابتدأ فقال أقسم ، والمعنى : ليس الأمر كما تحسبون ، والأوّل أولى. والمعنى : أقسم بالبلد الحرام الّذي أنت حلّ فيه. وقال الواسطي : إن المراد بالبلد المدينة ، وهو مع كونه خلاف إجماع المفسرين هو أيضا مدفوع لكون السورة مكية لا مدنية ، وجملة قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) معترضة ، والمعنى : أقسم بهذا البلد (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ ـ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) واعترض بينهما بهذه الجملة ، والمعنى : ومن المكابد أن مثلك عليّ عظيم حرمته يستحل بهذا البلد كما يستحلّ الصيد في غير الحرم. وقال الواحدي : الحلّ والحلال والمحل واحد ، وهو ضدّ المحرّم ، أحلّ الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة يوم

__________________

(١). القيامة : ١.

(٢). في تفسير القرطبي : لا يتقطع.

(٣). الأعراف : ١٢.

٥٣٨

الفتح حتى قاتل ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار». قال : والمعنى أن الله لما ذكر القسم بمكة دلّ ذلك على عظم قدرها مع كونها حراما ، فوعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحلّها له حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده ، فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلا ، انتهى. فالمعنى : وأنت حلّ بهذا البلد في المستقبل ، كما في قوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) قال مجاهد : المعنى ما صنعت فيه من شيء فأنت حلّ. قال قتادة : أنت حلّ له لست بآثم ، يعني : أنك غير مرتكب في هذه البلد ما يحرم عليك ارتكابه ، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي. وقيل : المعنى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلك ، فعلى القول بأن لا نافية غير زائدة يكون المعنى : لا أقسم به وأنت حالّ به ، فأنت أحقّ بالإقسام بك ، وعلى القول بأنها زائدة يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الّذي أنت مقيم به تشريفا لك وتعظيما لقدرك ؛ لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا ، وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم ، ولكن هذا إذا تقرّر في لغة العرب أن لفظ حلّ يجيء بمعنى حلّ ، وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) عطف على البلد. قال قتادة ومجاهد والضحاك والحسن وأبو صالح (وَوالِدٍ) أي : آدم (وَما وَلَدَ) أي : وما تناسل من ولده أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير ، وفيهم الأنبياء والعلماء والصالحون. وقال أبو عمران الجوني : الوالد : إبراهيم وما ولد : ذريته. قال الفرّاء : إن «ما» عبارة عن الناس كقوله : (ما طابَ لَكُمْ) (٢) وقيل : الوالد : إبراهيم ، والولد : إسماعيل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عكرمة وسعيد بن جبير : (وَوالِدٍ) يعني الّذي يولد له (وَما وَلَدَ) يعني العاقر الّذي لا يولد له ، وكأنهما جعلا «ما» نافية ، وهو بعيد ، ولا يصحّ ذلك إلا بإضمار الموصول : أي : ووالد والّذي ما ولد ، ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين ، وقال عطية العوفي : هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات ، واختار هذا ابن جرير (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) هذا جواب القسم ، والإنسان هو هذا النوع الإنساني ، والكبد : الشدّة والمشقة ، يقال : كابدت الأمر : قاسيت شدّته ، والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها حتى يموت ، وأصل الكبد : الشدّة ، ومنه تكبّد اللبن : إذا غلظ واشتدّ ، ويقال : كبد الرجل ؛ إذا وجعت كبده ، ثم استعمل في كل شدّة ومشقة ، ومنه قول أبي الأصبغ :

لي ابن عمّ لو أن النّاس في كبد

لظلّ محتجرا بالنّبل يرميني

قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال أيضا : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضرّاء ، لا يخلو عن أحدهما. قال الكلبي : نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له أبو الأشدين (٣) ، وكان يأخذ الأديم العكاظيّ ويجعله تحت رجليه ، ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه

__________________

(١). الزمر : ٣٠.

(٢). النساء : ٣.

(٣). في الكشاف : أبو الأشدّ.

٥٣٩

عشرة حتى يتمزّق ولا تزول قدماه ، وكان من أعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه نزل : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) يعني لقوّته ، ويكون معنى (فِي كَبَدٍ) على هذا : في شدّة خلق ، وقيل : معنى (فِي كَبَدٍ) أنه جريء القلب غليظ الكبد (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أي : يظنّ ابن آدم أن لن يقدر عليه ولا ينتقم منه أحد ، أو يظنّ أبو الأشدّين أن لن يقدر عليه أحد ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن مقدّر. ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا الإنسان فقال : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي : كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. قال الليث : مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته. قال الكلبي ومقاتل : يقول أهلكت في عداوة محمد مالا كثيرا. وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ؛ أذنب فاستفتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد. قرأ الجمهور «لبدا» بضم اللام وفتح الباء مخفّفا ، وقرأ مجاهد وحميد بضم اللام والباء مخففا. وقرأ أبو جعفر بضم اللام وفتح الباء مشدّدا. قال أبو عبيدة : لبد : فعل من التلبيد ، وهو المال الكثير بعضه على بعض. قال الزجاج : فعل للكثرة ، يقال رجل حطم : إذا كان كثير الحطم. قال الفرّاء : واحدته لبدة والجمع لبد. وقد تقدّم بيان هذا في سورة الجنّ (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي : أيظنّ أنه لم يعاينه أحد ، قال قتادة : أيظنّ أن الله سبحانه لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه ، وأين أنفقه؟ وقال الكلبي : كان كاذبا لم ينفق ما قال ، فقال الله : أيظنّ أن الله لم ير ذلك منه ، فعل أو لم يفعل ، أنفق أو لم ينفق.

ثم ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم ليعتبروا فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر لهما (وَلِساناً) ينطق به (وَشَفَتَيْنِ) يستر بهما ثغره. قال الزجاج : المعنى ألم نفعل به ما يدلّ على أن الله قادر على أن يبعثه ، والشفة محذوفة الهاء ، وأصلها شفهة بدليل تصغيرها على شفيهة (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) النجد : الطريق في ارتفاع. قال المفسرون : بيّنّا له طريق الخير وطريق الشرّ. قال الزجاج : المعنى ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشرّ ، مبينتين كتبيّن الطريقين العاليتين. وقال عكرمة وسعيد بن المسيب والضحاك : النجدان : الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه ، والأوّل أولى. وأصل النجد المكان المرتفع ، وجمعه نجود ، ومنه سمّيت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة ، فالنجدان : الطريقان العاليان ، ومنه قول امرئ القيس :

فريقان منهم قاطع بطن نخلة

وآخر منهم قاطع نجد كبكب

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) الاقتحام : الرمي بالنفس في شيء من غير روية ، يقال منه : قحم في الأمر قحوما ، أي : رمى بنفسه فيه من غير روية ، وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير رويّة ، والقحمة بالضم : المهلكة. والعقبة في الأصل : الطريق التي في الجبل ؛ سمّيت بذلك لصعوبة سلوكها ، وهو مثل ضربه سبحانه لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، فجعله كالذي يتكلّف صعود العقبة. قال الفرّاء والزجاج : ذكر سبحانه هنا «لا» مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع حتى يعيدوها

٥٤٠