فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

دَحاها) قال : خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء ، وإنما قوله : (دَحاها) : بسطها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : (دَحاها) أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام وما بينهما في يومين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الطامة من أسماء يوم القيامة. وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن الساعة فنزلت : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها)». وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : «ما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) فانتهى فلم يسأل عنها». وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) فكفّ عنها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس ـ قال السيوطي : بسند ضعيف ـ أن مشركي مكة سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : متى الساعة؟ استهزاء منهم. فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) يعني مجيئها (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) يعني ما أنت من علمها يا محمد (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) يعني منتهى علمها. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : «كانت الأعراب إذا قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول : إن يعش هذا قرنا قامت عليكم ساعتكم» (١).

* * *

__________________

(١). انظر رأي الإمام النووي والحافظ ابن حجر حول هذا الحديث في فتح الباري (١٠ / ٥٥٧)

٤٦١

سورة عبس

وتسمى سورة السفرة ، وهي إحدى وأربعون ، أو اثنتان وأربعون آية وهي مكية في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة عبس بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي : كلح بوجهه وأعرض. وقرئ «عبّس» بالتشديد (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) مفعول لأجله ، أي : لأن جاءه الأعمى ، والعامل فيه إما عبس أو تولى على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل المختار إعمال الأوّل أو الثاني؟.

وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية : أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقطع عليه ابن أمّ مكتوم كلامه ، فأعرض عنه فنزلت ، وسيأتي في آخر البحث بيان هذا إن شاء الله ، (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) التفت سبحانه إلى خطاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن المشافهة أدخل في العتاب ، أي : أيّ شيء يجعلك داريا بحاله حتى تعرض عنه ، وجملة (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) مستأنفة لبيان أن له شأنا ينافي الإعراض عنه ، أي : لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك ، فالضمير في «لعله» راجع إلى «الأعمى» ، وقيل : هو راجع إلى الكافر ، أي : وما يدريك أن ما طعمت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى أو يذكر ، والأوّل أولى. وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجوّ التزكي مما

٤٦٢

لا يجوز. قرأ الجمهور : (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) على الخبر بدون استفهام ، ووجهه ما تقدّم. وقرأ الحسن : «آن جاءه» بالمدّ على الاستفهام ، فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دلّ عليه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ، والتقدير : آن جاءه الأعمى تولّى وأعرض ، ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) (١) وكذلك قوله في سورة الكهف : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) وقوله : (أَوْ يَذَّكَّرُ) عطف على يزكى داخل معه في حكم الترجي ، أي : أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي : الموعظة. قرأ الجمهور : «فتنفعه» بالرفع ، وقرأ عاصم ابن أبي إسحاق وعيسى والسّلمي وزرّ بن حبيش بالنصب على جواب الترجي (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي كان ذا ثروة وغنى ، أو استغنى عن الإيمان وعما عندك من العلم (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي : تصغي لكلامه ، والتصدي : الإصغاء. قرأ الجمهور : «تصدى» بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفا ، وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام ، وفي هذا مزيد تنفير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإقبال عليهم والإصغاء إلى كلامهم (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي : أيّ شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار ، ويجوز أن تكون «ما» نافية ، أي : ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من تصدّيت له وأقبلت عليه ، وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير تصدّى. ثم زاد سبحانه في معاتبة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) أي : وصل إليك حال كونه مسرعا في المجيء إليك ؛ طالبا منك أن ترشده إلى الخير وتعظه بمواعظ الله ، وجملة (وَهُوَ يَخْشى) حال من فاعل يسعى على التداخل ، أو من فاعل جاءك على الترادف (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي : تتشاغل عنه ، وتعرض عن الإقبال عليه ، والتلهي : التشاغل والتغافل ، يقال : لهيت عن الأمر ألهى ، أي : تشاغلت عنه ، وكذا تلهيت. وقوله : (كَلَّا) ردع له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما عوتب عليه ، أي : لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير ، والتصدي للغني والتشاغل به ، مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة ، وهذا الواقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو من باب ترك الأولى ، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي : إن هذه الآيات أو السورة موعظة ، حقّها أن تتعظ بها وتقبلها وتعمل بموجبها ويعمل بها كل أمتك (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي : فمن رغب فيها اتّعظ بها وحفظها وعمل بموجبها ، ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره. قيل : الضميران في «إنها» ، وفي «ذكره» للقرآن ، وتأنيث الأوّل لتأنيث خبره. وقيل : الأوّل للسورة ، أو للآيات السابقة ، والثاني للتذكرة لأنها في معنى الذكر ، وقيل : إن معنى (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به ، والأوّل أولى. ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة وجلالتها فقال : (فِي صُحُفٍ) أي : إنها تذكرة كائنة في صحف ، فالجار والمجرور صفة لتذكرة ، وما بينهما اعتراض ، والصّحف : جمع صحيفة ، ومعنى (مُكَرَّمَةٍ) أنها مكرمة عند الله

__________________

(١). الأنعام : ٥٢.

(٢). الكهف : ٢٨.

٤٦٣

لما فيها من العلم والحكمة ، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ ، وقيل : المراد بالصحف كتب الأنبياء ، كما في قوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ـ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١). ومعنى (مَرْفُوعَةٍ) أنها رفيعة القدر عند الله ، وقيل : مرفوعة في السماء السابعة. قال الواحدي : قال المفسرون : مكرّمة يعني اللوح المحفوظ (مَرْفُوعَةٍ) يعني في السماء السابعة. قال ابن جرير : مرفوعة القدر والذكر ، وقيل : مرفوعة عن الشبه والتناقض (مُطَهَّرَةٍ) أي : منزّهة لا يمسها إلا المطهرون. قال الحسن : مطهرة من كل دنس. قال السدي : مصانة عن الكفار لا ينالونها (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) السفرة : جمع سافر ككتبة وكاتب ، والمعنى : أنها بأيدي كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ. قال الفراء : السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله ، من السفارة وهو السعي بين القوم ، وأنشد :

فما أدع السّفارة بين قومي

ولا أمشي بغشّ إن مشيت (٢)

قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر بكسر السين ، والكاتب سافر ، لأن معناه أنه يبيّن ، يقال أسفر الصبح ؛ إذا أضاء ، وأسفرت المرأة ؛ إذا كشفت النقاب عن وجهها ، ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة ، أي : أصلحت بينهم. قال مجاهد : هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد. وقال قتادة : السفرة هنا هم القراء لأنهم يقرءون الأسفار. وقال وهب بن منبه : هم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال : (كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي : كرام على ربهم ، كذا قال الكلبي. وقال الحسن : كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وقيل : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو قضى حاجته. وقيل : يؤثرون منافع غيرهم على منافع. وقيل : يتكرّمون على المؤمنين بالاستغفار لهم. والبررة : جمع بارّ ، مثل كفرة وكافر ، أي : أتقياء مطيعون لربهم صادقون في إيمانهم ، وقد تقدّم تفسيره.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) أي : لعن الإنسان الكافر ما أشدّ كفره! وقيل : عذّب ، قيل : والمراد به عتبة بن أبي لهب ، ومعنى (ما أَكْفَرَهُ) التعجب من إفراط كفره. قال الزجاج : معناه اعجبوا أنتم من كفره ، وقيل : المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) وقيل : المراد به الجنس ، وهذا هو الأولى ، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر ، ويدخل تحته من كان سببا لنزول الآية دخولا أوّليا.

ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره ويكفّ عن طغيانه فقال : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي : من أيّ شيء خلق الله هذا الكافر ، والاستفهام للتقرير. ثم فسّر ذلك فقال : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) أيّ من ماء مهين ، وهذا تحقير له. قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرّتين ، ومعنى (فَقَدَّرَهُ) أي : فسوّاه وهيّأه لمصالح نفسه ، وخلق له اليدين والرجلين والعينين وسائر الآلات والحواسّ ، وقيل : قدّره أطوارا من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة إلى أن تمّ خلقه (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)

__________________

(١). الأعلى : ١٨ ـ ١٩.

(٢). في المطبوع : ولا أمشي بغير أب نسيب.

٤٦٤

أي : يسرّ له الطريق إلى الخير والشرّ. وقال السدي ومقاتل وعطاء وقتادة : يسّره للخروج من بطن أمه ، والأوّل أولى. ومثله قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) وانتصاب السبيل بمضمر يدل عليه الفعل المذكور ، أي : يسّر السبيل يسّره (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي : جعله بعد أن أماته ذا قبر يوارى فيه إكراما له ، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباع والطير ، كذا قال الفراء : وقال أبو عبيدة : جعل له قبرا وأمر أن يقبر فيه. وقال أقبره ، ولم يقل قبره ، لأن القابر هو الدافن بيده ، ومنه قول الأعشى :

لو أسندت ميتا إلى صدرها (٢)

عاش ولم ينقل إلى قابر

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي : ثم إذا شاء إنشاره أنشره ، أي : أحياه بعد موته ، وعلق الإنشار بالمشيئة للدلالة على أن وقته غير متعين ، بل هو تابع للمشيئة. قرأ الجمهور : (أَنْشَرَهُ) بالألف ، وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة «نشره» بغير ألف ، وهما لغتان فصيحتان (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) كلا : ردع وزجر للإنسان الكافر ، أي : ليس الأمر كما يقول. ومعنى : «لما يقض ما أمره» : لم يقض ما أمره الله به من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ، وقيل : المراد الإنسان على العموم ، وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدّة لأنه لا يخلو من تقصير. قال الحسن : أي حقا لم يعمل ما أمر به. وقال ابن فورك : أي كلّا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له. قال ابن الأنباري : الوقف على كلا قبيح والوقف على أمره جيد ، وكلّا على هذا بمعنى حقا. وقيل : المعنى : لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره ، بل أخلّ به ؛ بعضها بالكفر ، وبعضها بالعصيان ، وما قضى ما أمره الله إلا القليل.

ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها ، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلقة بحدوثه فقال : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي : ينظر كيف خلق الله طعامه الّذي جعله سببا لحياته؟ وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعدّ بها للسعادة الأخروية؟ قال مجاهد : معناه فلينظر الإنسان إلى طعامه ، أي : إلى مدخله ومخرجه ، والأوّل أولى. ثم بيّن ذلك سبحانه فقال : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) قرأ الجمهور : «إنا» بالكسر على الاستئناف. وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من طعامه بدل اشتمال ؛ لكون نزول المطر سببا لحصول الطعام ، فهو كالمشتمل عليه ، أو بتقدير لام العلّة. قال الزجاج : الكسر على الابتداء والاستئناف ، والفتح على معنى البدل من الطعام. المعنى : فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبّا ، وأراد بصبّ الماء المطر. وقرأ الحسن بن عليّ بالفتح والإمالة (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي : شققناها بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر شقا بديعا لائقا بما يخرج منه في الصغر والكبر والشكل والهيئة. ثم بيّن سبب هذا الشقّ وما وقع لأجله فقال : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) يعني الحبوب الّذي يتغذى بها ، والمعنى : أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حبا ، وقوله : (وَعِنَباً) معطوف على «حبا» ، أي : وأنبتنا فيها عنبا ، قيل : وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ، فلا ضير في خلوّ إنبات العنب عن شقّ

__________________

(١). البلد : ١٠.

(٢). في تفسير القرطبي (١٩ / ٢١٩) : نحرها.

٤٦٥

الأرض ، والقضب : هو القتّ الرطب الّذي يقضب مرّة بعد أخرى تعلف به الدواب ، ولهذا سمّي قضبا على مصدر قضبه ، أي : قطعه ؛ كأنه لتكرّر قطعها نفس القطع. قال الخليل : القضب : الفصفصة الرطبة ، فإذا يبست فهي القتّ. قال في الصحاح : والقضبة والقضب الرّطبة ، قال : والموضع الّذي ينبت فيه مقضبة. قال القتبيّ وثعلب : وأهل مكة يسمون القتّ القضب. والزيتون : هو ما يعصر منه الزيت ، وهو شجرة الزيتون المعروفة ، والنخل هو جمع نخلة (وَحَدائِقَ غُلْباً) جمع حديقة ، وهي البستان ، والغلب : العظام الغلاظ الرقاب. وقال مجاهد ومقاتل : الغلب : الملتف بعضها ببعض ، يقال : رجل أغلب ؛ إذا كان عظيم الرقبة ، ويقال للأسد أغلب ؛ لأنه مصمت العنق ؛ لا يلتفت إلا جميعا. قال العجّاج :

 ما زلت يوم البين ألوي صلبي

والرّأس حتّى صرت مثل الأغلب

وجمع أغلب وغلباء غلب ، كما جمع أحمر وحمراء على حمر. وقال قتادة وابن زيد : الغلب : النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة : هي غلاظ الأوساط والجذوع. والفاكهة : ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار كالعنب والتين والخوخ ونحوها. والأبّ : كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ولا يزرعونه من الكلأ وسائر أنواع المرعى ، ومنه قول الشاعر :

جذمنا قيس ونجد دارنا

ولنا الأبّ به والمكرع (١)

قال الضحاك : الأبّ كل شيء ينبت على وجه الأرض. وقال ابن أبي طلحة : هو الثمار الرطبة. وروي عن الضحاك أيضا أنه قال : هو التين خاصة ، والأوّل أولى. ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) يعني صيحة يوم القيامة ، وسمّيت صاخة لشدّة صوتها لأنها تصخ الآذان ، أي : تصمها فلا تسمع ، وقيل : سميت صاخة لأنها يصيخ لها الأسماع ، من قولك أصاخ إلى كذا ، أي : استمع إليه ، والأوّل أصح. قال الخليل : الصاخّة : صيحة تصخ الآذان حتى تصمّها بشدّة وقعها ، وأصل الكلمة في اللغة مأخوذة من الصك الشديد ، يقال : صخّه بالحجر ؛ إذا صكّه بها ، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي : فإذا جاءت الصّاخّة اشتغل كل أحد بنفسه ، والظرف في قوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ـ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ـ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) إما بدل من «إذا جاءت» ، أو منصوب بمقدّر ، أي : أعني ويكون تفسيرا للصاخة ، أو بدلا منها مبنيّ على الفتح ، وخصّ هؤلاء بالذكر لأنهم أخصّ القرابة ، وأولاهم بالحنوّ والرأفة ، فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم ، وخطب فظيع (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي : لكل إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم. وقيل : إنما يفرّ عنهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينهم ، وقيل : يفرّ عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدّة ، وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا كما قال تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) (٢) والجملة مستأنفة

__________________

(١). «الجذم» : الأصل. «المكرع» : مفعل من الكرع ، أراد به الماء الصالح للشرب.

(٢). الدخان : ٤١.

٤٦٦

مسوقة لبيان سبب الفرار. قال ابن قتيبة : (يُغْنِيهِ) أي : يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال : أغن عني وجهك ، أي : اصرفه. قرأ الجمهور : «يغنيه» بالغين المعجمة. وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء ، أي : يهمه ، من عناه الأمر إذا أهمه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) وجوه مبتدأ وإن كان نكرة ؛ لأنه في مقام التفصيل ، وهو من مسوّغات الابتداء بالنكرة ، و «يومئذ» متعلق به ، و «مسفرة» خبره ، ومعنى مسفرة : مشرقة مضيئة ، وهي وجوه المؤمنين لأنهم قد علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة ، يقال : أسفر الصبح ؛ إذا أضاء. قال الضحاك : مسفرة من آثار الوضوء ، وقيل : من قيام الليل (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي : فرحة بما نالته من الثواب الجزيل. ثم لما فرغ من ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي : غبار وكدورة لما تراه مما أعدّه الله لها من العذاب (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي : يغشاها ويعلوها سواد وكسوف ، وقيل : ذلّة ، وقيل : شدّة ، والقتر في كلام العرب : الغبار ، كذا قال أبو عبيدة ، وأنشد قول الفرزدق :

متوّج برداء الملك يتبعه

موج ترى فوقه الرايات والقترا

ويدفع ما قاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة فإنها واحدة الغبار. وقال زيد بن أسلم : القترة ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة ما انحطت إلى الأرض (أُولئِكَ) يعني أصحاب الوجوه (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي : الجامعون بين الكفر بالله والفجور ، يقال : فجر ؛ أي فسق ، وفجر ، أي : كذب ، وأصله الميل ، والفاجر : المائل عن الحق.

وقد أخرج الترمذي وحسّنه ، وابن المنذر وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : «أنزلت عبس وتولى في ابن أمّ مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول : «أترى بما أقول بأسا؟» فيقول : لا ، ففي هذا أنزلت». وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو يعلى عن أنس قال : «جاء بن أمّ مكتوم ، وهو يكلم أبيّ بن خلف ، فأعرض عنه ، فأنزل الله (عَبَسَ وَتَوَلَّى ـ أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يكرمه». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجي عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبا جهل بن هشام ، وكان يتصدى لهم كثيرا ، ويحرص عليهم أن يؤمنوا ، فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم يمشي ، وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية من القرآن قال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبس في وجهه وتولى ، وكره كلامه ، وأقبل على الآخرين ، فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجواه ، وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ، ثم خفق برأسه ، ثم أنزل الله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) الآية ، فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلمه وقال له : «ما حاجتك؟ هل تريد مني شيء»؟ وإذا ذهب من عنده قال : «هل لك حاجة في شيء»؟ قال ابن كثير : فيه غرابة ، وقد تكلم في إسناده. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال : كتبة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي

٤٦٧

حاتم عنه (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال : هم بالنبطية القراء. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (كِرامٍ بَرَرَةٍ) قال : الملائكة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الّذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السّفرة الكرام البررة ، والّذي يقرؤه وهو عليه شاقّ له أجران».

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال : يعني بذلك خروجه من بطن أمه يسره له. وأخرج ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير في قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) قال : إلى مدخله ومخرجه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) قال : إلى خرئه. وأخرج ابن المنذر عنه (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) قال : المطر (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) قال : عن النبات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَقَضْباً) قال : الفصفصة ، يعني القتّ ، (وَحَدائِقَ غُلْباً) قال : طوالا (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) قال : الثمار الرطبة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الحدائق : كل ملتفّ ، والغلب : ما غلظ ، والأبّ : ما أنبتت الأرض مما تأكله الدوابّ ولا يأكله الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا (وَحَدائِقَ غُلْباً) قال : شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئا. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الأبّ : الكلأ والمرعى. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق عن الأبّ ما هو؟ فقال : أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد : أن رجلا سأل عمر عن قوله : (وَأَبًّا) فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرّة. وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، والخطيب عن أنس أن عمر قرأ على المنبر : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) إلى قوله : (وَأَبًّا) قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأبّ؟ ثم رفض (١) عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا عليه ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : الصاخة من أسماء يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مُسْفِرَةٌ) قال : مشرقة ، وفي قوله : (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) قال : تغشاها شدّة وذلّة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (قَتَرَةٌ) قال : سواد الوجه.

* * *

__________________

(١). في اللسان : رفض الشيء : تركه.

٤٦٨

سورة التّكوير

وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ : إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ارتفاع الشمس بفعل محذوف يفسره ما بعده على الاشتغال ، وهذا عند البصريين ، وأما عند الكوفيين والأخفش فهو مرتفع على الابتداء. والتكوير : الجمع ، وهو مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها. قال الزجاج : لفت كما تلف العمامة ، يقال : كورت العمامة على رأسي أكورها كورا ، وكوّرتها تكويرا ؛ إذا لففتها. قال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة تلف فتجمع. قال الربيع ابن خثيم : (كُوِّرَتْ) أي رمي بها ، ومنه كوّرته فتكوّر ، أي : سقط. وقال مقاتل وقتادة والكلبي : ذهب ضوءها. وقال مجاهد : اضمحلت. قال الواحدي : قال المفسرون : تجمع الشمس بعضها إلى بعض ثم تلف فيرمى بها. فالحاصل أن التكوير إما بمعنى لفّ جرمها ، أو لفّ ضوئها ، أو الرمي بها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي : تهافتت وانقضّت وتناثرت ، يقال : انكدر الطائر من الهواء ؛ إذا انقضّ ، والأصل في الانكدار الانصباب. قال الخليل : يقال انكدر عليهم القوم ؛ إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم. قال أبو عبيدة : انصبت كما ينصب العقاب. قال الكلبي وعطاء : تمطر السماء يومئذ نجوما ، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع

٤٦٩

على الأرض ، وقيل : انكدارها : طمس نورها (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي : قلعت عن الأرض ، وسيرت في الهواء ، ومنه قوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) (١). (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) العشار : النوق الحوامل التي في بطونها أولادها ، الواحدة عشراء ، وهي التي قد أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع. وخصّ العشار لأنها أنفس مال عند العرب ، وأعزّه عندهم ، ومعنى «عطّلت» : تركت هملا بلا راع ؛ وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم ، قيل : وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء ، بل المراد أنه لو كان للرجل ناقة عشراء في ذلك اليوم أو نوق عشار لتركها ولم يلتفت إليها ؛ اشتغالا بما هو فيه من هول يوم القيامة ، وسيأتي آخر البحث إن شاء الله ما يفيد أن هذا في الدنيا. وقيل : العشار : السحاب ، فإن العرب تشبهها بالحامل ، ومنه قوله : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢) وتعطيلها عدم إمطارها. قرأ الجمهور : «عطلت» بالتشديد ، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف. وقيل : المراد أن الديار تعطّل فلا تسكن ، وقيل : الأرض التي يعشّر زرعها تعطّل فلا تزرع (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) الوحوش : ما توحّش من دوابّ البرّ ، ومعنى حشرت : بعثت حتى يقتصّ بعضها من بعض ، فيقتصّ للجماء من القرناء. وقيل : حشرها : موتها ، وقيل : إنها مع نفرتها اليوم من الناس وتبدّدها في الصحارى تضم ذلك اليوم إليهم. قرأ الجمهور : «حشرت» بالتخفيف ، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون بالتشديد (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي : أو قدت فصارت نارا تضطرم. وقال الفراء : ملئت بأن صارت بحرا واحدا وكثر ماؤها ، وبه قال الربيع بن خثيم والكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. وقيل : أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها حتى امتلأت ، وقيل : فجرت فصارت بحرا واحدا. وروي عن قتادة وابن حبان أن معنى الآية : يبست ولا يبقى فيها قطرة ، يقال : سجرت الحوض أسجره سجرا ؛ إذا ملأته. وقال القشيري : هو من سجرت التنوّر أسجره سجرا ؛ إذا أحميته. قال ابن زيد وعطية وسفيان ووهب وغيرهم : أوقدت فصارت نارا ، وقيل : معنى سجرت أنها صارت حمراء كالدم ، من قولهم عين سجراء ، أي : حمراء. قرأ الجمهور : «سجرت» بتشديد الجيم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيفها ، (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي : قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، وقرن بين رجل السوء مع رجل السوء في النار. وقال عطاء : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين. وقيل : قرن كل شكل إلى شكله في العمل ، وهو راجع إلى القول الأوّل. وقيل : قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان ، كما في قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) (٣) وقال عكرمة (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) : يعني قرنت الأرواح بالأجساد. وقال الحسن : ألحق كل امرئ بشيعته ؛ اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ، والمجوس بالمجوس ، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض والمنافقون بالمنافقين ، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان ، ويقرن المطيع بمن دعاه

__________________

(١). الكهف : ٤٧.

(٢). الذاريات : ٢.

(٣). الصافات : ٢٢.

٤٧٠

إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل : قرنت النفوس بأعمالها (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) أي : المدفونة حية ، وقد كان العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار أو الحاجة ، يقال : وأد يئد وأدا فهو وائد ، والمفعول به موءود ، وأصله مأخوذ من الثقل لأنها تدفن ، فيطرح عليها التراب فيثقلها فتموت ، ومنه : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (١) أي : لا يثقله ، ومنه قول متمّم بن نويرة :

وموءودة مقبورة في مفازة (٢)

ومنه قول الراجز :

سمّيتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن رميت

قرأ الجمهور : «الموءودة» بهمزة بين واوين ساكنين كالموعودة. وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة. وقرأ الأعمش : «المودة» بزنة الموزة. وقرأ الجمهور : «سئلت» مبنيا للمفعول ، وقرأ الحسن بكسر السين من سال يسيل. وقرأ الجمهور : «قتلت» بالتخفيف مبنيا للمفعول ، وقرأ أبو جعفر بالتشديد على التكثير. وقرأ عليّ وابن مسعود وابن عباس سألت مبنيا للفاعل «قتلت» بضم التاء الأخيرة. ومعنى «سئلت» على قراءة الجمهور : أن توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها حتى كان لا يستحق أن يخاطب ويسأل عن ذلك ، وفيه تبكيت لقاتلها وتوبيخ له شديد. قال الحسن : أراد الله أن يوبّخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب ، وفي مصحف أبيّ «وإذا الموءودة سألت بأيّ ذنب قتلتني». (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) يعني صحائف الأعمال نشرت للحساب ، لأنها تطوى عند الموت وتنشر عند الحساب ، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها ، فيقول : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٣) قرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو : «نشرت» بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد على التكثير. (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) الكشط : قلع عن شدّة التزاق ، [فالسماء تكشط كما] (٤) يكشط الجلد عن الكبش ، والقشط بالقاف لغة في الكشط ، قال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف. وقال الفراء : نزعت فطويت. وقال مقاتل : كشفت عما فيها. قال الواحدي : ومعنى الكشط رفعك شيئا عن شيء قد غطاه (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي : أوقدت لأعداء الله إيقادا شديدا. قرأ الجمهور : «سعرت» بالتخفيف ، وقرأ نافع وابن ذكوان وحفص بالتشديد لأنها أوقدت مرّة بعد مرّة. قال قتادة : سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي : قرّبت إلى المتقين وأدنيت منهم. قال الحسن : إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال ابن زيد : معنى أزلفت تزيّنت. والأوّل أولى لأن الزلفى في كلام العرب القرب. قيل : هذه الأمور الاثنا عشر ؛ ستّ منها في الدنيا ، وهي من أوّل السورة إلى قوله : (وَإِذَا الْبِحارُ

__________________

(١). البقرة : ٢٥٥.

(٢). وعجز البيت : بآمتها موسودة لم يمهّد.

(٣). الكهف : ٤٩.

(٤). من تفسير القرطبي (١٩ / ٢٣٥)

٤٧١

سُجِّرَتْ) ، وستّ في الآخرة وهي : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) إلى هنا ، وجواب الجميع قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) على أن المراد الزمان الممتدّ من الدنيا إلى الآخرة ، لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كلّ جزء من أجزاء هذا الوقت الممتدّ ، بل المراد علمت ما أحضرته عند نشر الصحف ، يعني ما عملت من خير أو شرّ ، ومعنى (ما أَحْضَرَتْ) : ما أحضرت من أعمالها ، والمراد حضور صحائف الأعمال ، أو حضور الأعمال نفسها ، كما ورد أن الأعمال تصوّر بصور تدلّ عليها وتعرف بها ، وتنكير «نفس» المفيد لثبوت العلم المذكور لفرد من النفوس ، أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها من الظهور والوضوح بحيث لا يخفى على أحد ، ويدلّ على هذا قوله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) (١) وقيل : يجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كلّ نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت ، فكيف وكلّ نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه : لعلك ستندم على ما فعلت ، وربما ندم الإنسان على فعله (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) «لا» زائدة كما تقدّم تحقيقه وتحقيق ما فيه من الأقوال في أوّل سورة القيامة ، أي : فأقسم بالخنس ، وهي الكواكب ؛ وسميت الخنس من خنس ؛ إذا تأخر ؛ لأنها تخنس بالنهار فتخفى ولا ترى ، وهي زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد كما ذكره أهل التفسير. ووجه تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم أنها تستقبل الشمس وتقطع المجرة. وقال في الصحاح : الخنس : الكواكب كلها ؛ لأنها تخنس في المغيب ، أو لأنها تخفى نهارا ، أو يقال هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة. قال الفراء : إنها الكواكب الخمسة المذكورة ، لأنها تخنس في مجراها ، وتكنس ، أي : تستر كما تكنس الظباء في المغار ، ويقال : سمّيت خنسا لتأخّرها ؛ لأنها الكواكب المتحيزة التي ترجع وتستقيم. يقال : خنس عنه يخنس خنوسا ؛ إذا تأخر ، وأخنسه غيره ؛ إذا خلفه ومضى عنه ، والخنس : تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، ومعنى (الْجَوارِ) أنها تجري مع الشمس والقمر ، ومعنى (الْكُنَّسِ) أنها ترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس ؛ فخنوسها رجوعها ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها ، وقيل : خنوسها : خفاؤها بالنهار ، وكنوسها : غروبها. قال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، والمعنى متقارب لأنها تتأخر في النهار عن البصر لخفائها فلا ترى ، وتظهر بالليل وتكنس في وقت غروبها. وقيل : المراد بها بقر الوحش لأنها تتصف بالخنس وبالجوار وبالكنس. وقال عكرمة : الخنس : البقر والكنس الظباء ، فهي تخنس إذا رأت الإنسان وتنقبض وتتأخر وتدخل كناسها. وقيل : هي الملائكة. والأوّل أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا ، والكنس مأخوذ من الكناس الّذي يختفي فيه الوحش ، والخنس : جمع خانس وخانسة ، والكنس : جمع كانس وكانسة (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) قال أهل اللغة : هو من الأضداد ، يقال : عسعس الليل ؛ إذا أقبل ، وعسعس ؛ إذا أدبر ، ويدل على أن المراد هنا أدبر قوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر ، كذا حكاه عنه الجوهري ، وقال الحسن :

__________________

(١). آل عمران : ٣٠.

٤٧٢

أقبل بظلامه. قال الفراء : العرب تقول عسعس الليل ؛ إذا أقبل ، وعسعس الليل ؛ إذا أدبر ، وهذا لا ينافي ما تقدّم عنه ، لأنه حكى عن المفسرين أنهم أجمعوا على حمل معناه في هذه الآية على أدبر ، وإن كان في الأصل مشتركا بين الإقبال والإدبار. قال المبرد : هو من الأضداد. قال : والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ، وهو ابتداء الظلام أوّله وإدباره في آخره. قال رؤبة بن العجاج :

يا هند ما أسرع ما تعسعسا

من بعد ما كان فتى ترعرعا (١)

وقال امرؤ القيس :

عسعس حتّى لو يشاء إدّنا

كان لنا من ناره مقبس

وقوله :

ألمّا على الرّبع القديم بعسعسا (٢)

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) التنفس الأصل : خروج النسيم من الجوف ، وتنفس الصبح : إقباله ؛ لأنه يقبل بروح ونسيم ، فجعل ذلك تنفسا له مجازا. قال الواحدي : (تَنَفَّسَ) أي امتدّ ضوءه حتى يصير نهارا ، ومنه يقال للنهار إذا زاد : تنفس. وقيل : (إِذا تَنَفَّسَ) إذا انشقّ وانفلق ، ومنه تنفست القوس ، أي : تصدّعت. ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني جبريل ؛ لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأضاف القول إلى جبريل لكونه مرسلا به ، وقيل : المراد بالرسول في الآية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأوّل أولى. ثم وصف الرسول المذكور بأوصاف محمودة فقال : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي : ذي قوّة شديدة في القيام بما كلّف به ، كما في قوله : (شَدِيدُ الْقُوى) (٣) ، ومعنى (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أنه ذو رفعة عالية ومكانة مكينة عند الله سبحانه ، وهو في محل نصب على حال من «مكين» ، وأصله الوصف فلما قدّم صار حالا ، ويجوز أن يكون نعتا لرسول ، يقال : مكن فلان عند فلان مكانة ، أي : صار ذا منزلة عنده ومكانة. قال أبو صالح : من مكانته عند ذي العرش أنه يدخل سبعين سرادقا بغير إذن ، ومعنى (مُطاعٍ) أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه ويطيعونه (ثَمَّ أَمِينٍ) قرأ الجمهور بفتح «ثمّ» على أنها ظرف مكان للبعيد ، والعامل فيه «مطاع» أو ما بعده ، والمعنى : أنه مطاع في السّماوات أو أمين فيها ، أي : مؤتمن على الوحي وغيره ، وقرأ هشيم وأبو جعفر وأبو حيوة بضمها على أنها عاطفة ، وكان العطف بها للتراخي في الرتبة ؛ لأن ما بعدها أعظم مما قبلها ، ومن قال : إن المراد بالرسول محمد

__________________

(١). في لسان العرب : تسعسع بدل تعسعس وسرعرع بدل ترعرع ومعنى «تسعسع» : أدبر وفني. و «السرعرع» : الشاب الناعم.

(٢). وعجز البيت : كأني أنادي أو أكلم أخرسا.

(٣). النجم : ٥.

٤٧٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمعنى : أنه ذو قوّة على تبليغ الرسالة إلى الأمة «مطاع» يطيعه من أطاع الله «أمين» على الوحي (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) الخطاب لأهل مكة ، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : وما محمد يا أهل مكة بمجنون ، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره ، وأنه ليس ممّا يرمونه به من الجنون وغيره في شيء ، وأنهم افتروا عليه ذلك عن علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم ، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم ، فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون ، وأنه يأتي بالقرآن من جهة نفسه (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) اللام واقعة جواب قسم محذوف ، أي : وتالله لقد رأى محمد جبريل بالأفق المبين ، أي : بمطلع الشمس من قبل المشرق ؛ لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين ؛ لأن من جهته ترى الأشياء. وقيل : (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) : أقطار السماء ونواحيها ، ومنه قول الشاعر :

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع

وإنما قال سبحانه : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) مع أنه قد رآه غير مرّة ؛ لأنه رآه هذه المرّة في صورته له ستّمائة جناح ، قال سفيان : إنه رآه في أفق السماء الشرقي. وقال ابن بحر : في أفق السماء الغربي. وقال مجاهد : رآه نحو أجياد ، وهو مشرق مكة ، و «المبين» صفة للأفق ، قاله الربيع. وقيل : صفة لمن رآه قاله مجاهد ، وقيل : معنى الآية : ولقد رأى محمد ربه عزوجل ، وقد تقدّم القول في هذا في سورة النجم (وَما هُوَ) أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلَى الْغَيْبِ) يعني خبر السماء وما اطلع عليه ممّا كان غائبا علمه عن أهل مكة (بِضَنِينٍ) بمتهم ، أي : هو ثقة فبما يؤدي عن الله سبحانه. وقيل : «بضنين» : ببخيل ، أي : لا يبخل بالوحي ، ولا يقصر في التبليغ ، وسبب هذا الاختلاف اختلاف القراء ؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «بظنين» بالظاء المشالة ، أي : بمتهم ، والظنة : التهمة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال : لأنهم لم يبخّلوه ولكن كذبوه. وقرأ الباقون بضنين بالضاد ، أي : ببخل ، من ضننت بالشيء أضنّ ضنا ؛ إذا بخلت. قال مجاهد : أي لا يضنّ عليكم بما يعلم بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه. وقيل : المراد جبريل إنه ليس على الغيب بضنين ، والأوّل أولى (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي : وما القرآن بقول شيطان من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب. قال الكلبي : يقول إن القرآن ليس بشعر ولا كهانة كما قالت قريش. قال عطاء : يريد بالشيطان : الشيطان الأبيض الّذي كان يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. ثم بكّتهم سبحانه ووبّخهم فقال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي : أين تعدلون عن هذا القرآن وعن طاعته ، كذا قاله قتادة. وقال الزجاج : معناه أيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم ، يقال : أين تذهب؟ وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب : ذهبت الشام ، وخرجت العراق ، وانطلقت السوق ، أي : إليها. قال : سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة ، وأنشد لبعض بني عقيل :

تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا

وأيّ الأرض تذهب بالصّياح

٤٧٤

تريد إلى أيّ الأرض تذهب ، فحذف إلى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي : ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين ، وتذكير لهم ، وقوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) بدل من العالمين بإعادة الجار ومفعول المشيئة «أن يستقيم» أي : لمن شاء منكم الاستقامة على الحقّ والإيمان والطاعة (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : وما تشاؤون الاستقامة إلا أن يشاء الله تلك المشيئة ، فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق إليه ، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه ، ومثل هذا قوله سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (١) وقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) وقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣) والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال : أظلمت (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال : تغيرت. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن أبي مريم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال : كوّرت في جهنم (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال : انكدرت في جهنم ، فكلّ من عبد من دون الله فهو في جهنم ، إلا ما كان من عيسى وأمه ، ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية قال : ست آيات من هذه السورة في الدنيا ، والناس ينظرون إليها ، وست في الآخرة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إلى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) هذه في الدنيا والناس ينظرون إليها (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) إلى (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) هذه في الآخرة. وأخرج ابن أبي الدنيا في الأهوال ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم ؛ إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت ، ففزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ ، واختلطت الدوابّ والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال : اختلطت (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) قال : أهملها أهلها (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال : قالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجّج ، فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال : حشر البهائم : موتها ، وحشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس فإنهما يوافيان يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والخطيب في المتفق والمفترق ، عنه في قوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال : يحشر كل شيء يوم القيامة حتى أن الدوابّ لتحشر. وأخرج البيهقي في البعث عنه أيضا في قوله : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال : تسجر حتى تصير نارا. وأخرج الطبراني عنه (سُجِّرَتْ) قال : اختلط ماؤها بماء الأرض. وأخرج عبد الرزاق والفريابي

__________________

(١). يونس : ١٠٠.

(٢). الأنعام : ١١١.

(٣). القصص : ٥٦.

٤٧٥

وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في البعث ، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال : يقرن بين الرجل الصالح مع الصالح في الجنة ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار ، كذلك تزويج الأنفس : وفي رواية : ثم قرأ : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) (١) وأخرج نحوه ابن مردويه عن النعمان بن بشير مرفوعا. وأخرج البزار ، والحاكم في الكنى ، والبيهقي في سننه ، عن عمر بن الخطاب قال : جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعتق عن كل واحدة رقبة» ، قال : إني صاحب إبل ، قال : «فأهد عن كل واحدة بدنة». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قال : قربت. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) قال : خمسة أنجم ؛ زحل وعطارد والمشتري وبهرام والزهرة ، ليس شيء يقطع المجرّة غيرها. وأخرج ابن مردويه ، والخطيب في كتاب النجوم ، عن ابن عباس في الآية قال : هي النجوم السبعة : زحل وبهرام وعطارد والمشتري والزهرة والشمس والقمر ، خنوسها : رجوعها ، وكنوسها : تغيبها بالنهار. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، من طرق عن ابن مسعود في قوله : (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال : هي بقر الوحش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هي البقر تكنس إلى الظلّ. وأخرج ابن المنذر عنه قال : تكنس لأنفسها في أصول الشجر وتتوارى فيه. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : هي الظباء. وأخرج ابن راهويه وعبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال : هي الكواكب. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس الخنس البقر (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) الظباء ، ألم ترها إذا كانت في الظلّ كيف تكنس بأعناقها ومدّت نظرها. وأخرج أبو أحمد الحاكم في الكنى ، عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ما (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) فطعن عمر بمحضرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن رأسه ، فقال عمر : أحروريّ؟ والّذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك. وهذا منكر ، فالحرورية لم يكونوا في زمن عمر ولا كان لهم في ذلك الوقت ذكر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) قال : إذا أدبر (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) قال : إذا بدا النهار حين طلوع الفجر. وأخرج الطبراني عنه (إِذا عَسْعَسَ) قال : إقبال سواده. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) قال : جبريل. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) قال : رأى جبريل له ستّمائة جناح قد سدّ الأفق.

__________________

(١). الصافات : ٢٢.

٤٧٦

وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إنما عنى جبريل وأن محمدا رآه في صورته عند سدرة المنتهى. وأخرج ابن مردويه عنه بالأفق المبين ، قال : السماء السابعة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ : (بِضَنِينٍ) بالضاد ، وقال : ببخيل. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ : «وما هو على الغيب بظنين» بالظاء قال : ليس بمتّهم. وأخرج الدار قطني في الأفراد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والخطيب في تاريخه ، عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرؤه «بظنين» بالظاء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قالوا : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فهبط جبريل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كذبوا يا محمد (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

* * *

٤٧٧

سورة الانفطار

وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النسائي عن جابر قال : «قام معاذ فصلّى العشاء فطوّل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفتّان أنت يا معاذ؟ أين أنت عن : سبّح اسم ربك الأعلى ، والضحى ، وإذا السماء انفطرت» وأصل الحديث في الصحيحين ، ولكن بدون ذكر (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) وقد تفرّد بها النسائي ، وقد تقدّم في سورة التكوير حديث : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كوّرت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

قوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) قال الواحدي : قال المفسرون : انفطارها : انشقاقها ، كقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (١) والفطر : الشق ، يقال : فطرته فانفطر ، ومنه فطر ناب البعير ؛ إذا طلع ، قيل : والمراد أنها انفطرت هنا لنزول الملائكة منها ، وقيل : انفطرت لهيبة الله ، (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي : تساقطت متفرقة ، يقال : نثرت الشيء أنثره نثرا. (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي : بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا ، واختلط العذب منها بالمالح. وقال الحسن : معنى فجرت : ذهب ماؤها ويبست ، وهذه الأشياء بين يدي الساعة كما تقدّم في السورة التي قبل هذه ، (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي : قلب ترابها وأخرج الموتى الذين هم فيها ، يقال : بعثر يبعثر بعثرة ؛ إذا قلب التراب ، ويقال : بعثر المتاع : قلبه ظهرا لبطن ، وبعثرت الحوض وبحثرته ؛ إذا هدمته وجعلت أعلاه أسفله. قال الفراء : بعثرت : أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة ، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبا وفضتها. ثم ذكر سبحانه

__________________

(١). الفرقان : ٢٥.

٤٧٨

الجواب عما تقدّم فقال : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) والمعنى : أنها علمته عند نشر الصحف لا عند البعث ؛ لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ، والكلام في إفراد نفس هنا كما تقدّم في السورة الأولى في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١). ومعنى (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما قدّمت من عمل خير أو شرّ ، وما أخّرت من سنّة حسنة أو سيئة ؛ لأن لها أجر ما سنّته من السنن الحسنة وأجر من عمل بها ، وعليها وزر ما سنّته من السنن السيئة ووزر من عمل بها. وقال قتادة : ما قدّمت من معصية وأخّرت من طاعة ، وقيل : ما قدّم من فرض وأخّر من فرض ، وقيل : أوّل عمله وآخره ، وقيل : إن النفس تعلم عند البعث بما قدّمت وأخّرت علما إجماليا ؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة ، وأما العلم التفصيلي فإنما يحصل عند نشر الصحف (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هذا خطاب للكافر ، أي : ما الّذي غرّك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الّذي تفضّل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسّك ، وجعلك عاقلا فاهما ، ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها. قال قتادة : غرّه شيطانه المسلّط عليه. وقال الحسن : غرّه شيطانه الخبيث ، وقيل : حمقه وجهله ، وقيل : غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أوّل مرّة. كذا قال مقاتل ، (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي : خلقك من نطفة ولم تك شيئا ، فسوّاك رجلا تسمع وتبصر وتعقل ، فعدلك : جعلك معتدلا. قال عطاء : جعلك قائما معتدلا حسن الصورة. وقال مقاتل : عدّل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين ، والمعنى : عدل بين ما خلق لك من الأعضاء. قرأ الجمهور : (فَعَدَلَكَ) مشدّدا ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأولى. قال الفراء وأبو عبيد : يدلّ عليها قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢) ومعنى القراءة الأولى : أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها ؛ ومعنى القراءة الثانية : أنه صرفه وأماله إلى أيّ صورة شاء ، إما حسنا وإما قبيحا ، وإما طويلا وإما قصيرا ، (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) في أيّ صورة متعلق بركبك ، وما مزيدة ، وشاء صفة لصورة ، أي : ركبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة ، وتكون هذه الجملة كالبيان لقوله : (فَعَدَلَكَ) والتقدير : فعدلك : ركبك في أيّ صورة شاءها ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال ، أي : ركبك حاصلا في أيّ صورة. ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين أنه متعلق بعدّلك. واعترض عليه بأن أيّ لها صدر الكلام فلا يعمل فيها ما قبلها. قال مقاتل والكلبي ومجاهد : في أيّ شبه من أب أو أمّ أو خال أو عمّ. وقال مكحول : إن شاء ذكرا وإن شاء أنثى ، وقوله : (كَلَّا) للردع والزجر عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به والمعاصي له ، ويجوز أن يكون بمعنى حقا. وقوله : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إضراب عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام ، كأنه قيل : بعد الردع وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجاوزونه إلى ما هو أعظم منه من التكذيب بالدين وهو الجزاء ، أو بدين الإسلام. قال ابن الأنباري : الوقف الجيد على «الدين» وعلى

__________________

(١). التكوير : ١٤.

(٢). التين : ٤.

٤٧٩

«ركبك» ، وعلى «كلا» قبيح ، والمعنى : بل تكذبون يا أهل مكة بالدين ، أي : بالحساب ، وبل لنفي شيء تقدّم وتحقيق غيره ، وإنكار البعث قد كان معلوما عندهم وإن لم يجر له ذكر. قال الفراء : كلا ليس الأمر كما غررت به. قرأ الجمهور : «تكذبون» بالفوقية على الخطاب. وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة بالتحتية على الغيبة ، وجملة (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) في محل نصب على الحال من فاعل تكذبون ، أي : تكذبون ، والحال أن عليكم من يدفع تكذيبكم ، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم ، والحافظين الرقباء من الملائكة الذين يحفظون على العباد أعمالهم ويكتبونها في الصحف. ووصفهم سبحانه بأنهم كرام لديه يكتبون ما يأمرهم به من أعمال العباد ، وجملة (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) في محل نصب على الحال من ضمير كاتبين ، أو على النعت ، أو مستأنفة. قال الرازي : والمعنى التعجيب من حالهم ، كأنه قال : إنكم تكذبون بيوم الدين ، وملائكة الله موكّلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ، ونظيره قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ـ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١). ثم بيّن سبحانه حال الفريقين فقال : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ـ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) والجملة مستأنفة لتقرير هذا المعنى الّذي سيقت له ، وهي كقوله سبحانه : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٢) وقوله : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) صفة لجحيم ؛ ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في متعلق الجارّ والمجرور ، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ما حالهم؟ فقيل (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم الجزاء الّذي كانوا يكذبون به ، ومعنى يصلونها : أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها وحرّها يومئذ. قرأ الجمهور : «يصلونها» مخففا مبنيا للفاعل ، وقرئ بالتشديد مبنيا للمفعول (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي : لا يفارقونها أبدا ولا يغيبون عنها ، بل هم فيها ، وقيل المعنى : وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون حرّها في قبورهم. ثم عظّم سبحانه ذلك اليوم فقال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي : يوم الجزاء والحساب ، وكرّره تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه ، وتهويلا لأمره كما في قوله : (الْقارِعَةُ ـ مَا الْقارِعَةُ ـ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (٣) و (الْحَاقَّةُ ـ مَا الْحَاقَّةُ ـ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٤) والمعنى : أيّ شيء جعلك داريا ما يوم الدين. قال الكلبي : الخطاب للإنسان الكافر. ثم أخبر سبحانه عن اليوم فقال : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» على أنه بدل من يوم الدين ، أو خبر مبتدأ محذوف. وقرأ أبو عمرو في رواية : «يوم» بالتنوين ، والقطع عن الإضافة. وقرأ الباقون بفتحه على أنها فتحة إعراب بتقدير أعني أو اذكر ، فيكون مفعولا به ، أو على أنها فتحة بناء لإضافته إلى الجملة على رأي الكوفيين ، وهو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه بدل من يوم الدين. قال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه مبني على الفتح لإضافته إلى قوله : (لا تَمْلِكُ) وما أضيف إلى غير المتمكن فقد يبنى على الفتح ، وإن كان في موضع رفع ، وهذا الّذي ذكره إنما تجوز عند الخليل وسيبويه إذا

__________________

(١). ق : ١٧ ـ ١٨.

(٢). الشورى : ١٧.

(٣). القارعة : ١ ـ ٣.

(٤). الحاقة : ١ ـ ٣.

٤٨٠