فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يوسف

وهي مكية كلّها ، وقيل : نزلت ما بين مكة والمدينة وقت الهجرة. وقال ابن عباس في رواية عنه وقتادة : إلا أربع آيات. وأخرج النحّاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة يوسف بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الحاكم وصحّحه عن رفاعة بن رافع الزرقي : أنه خرج هو وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة ، وذكر قصة ، وفي آخرها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّمهما سورة يوسف ، واقرأ باسم ربك ، ثم رجعا. وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي صالح عن ابن عباس : «أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف ، فقال : يا محمد من علّمكها؟ قال : الله علّمنيها ، فعجب الحبر لما سمع منه ، فرجع إلى اليهود ، فقال لهم : والله إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة ، فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ، ونظروا إلى خاتم النبوّة بين كتفيه ، فجعلوا سمعهم إلى قراءته لسورة يوسف فتعجبوا منه ، وأسلموا عند ذلك». وأخرج الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وعلّموا أقاربكم سورة يوسف ، فإنه أيّما مسلم تلاها ، أو علّمها أهله وما ملكت يمينه ؛ هوّن الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما». وفي إسناده سلام بن سالم ، ويقال ابن سليم المدائني ، وهو متروك ، عن هارون بن كثير. قال أبو حاتم : مجهول ، وقد ذكر له الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم ، عن هارون بن كثير ، ومن طريق شبابة عن مجلز ابن عبد الواحد ، عن عليّ بن زيد بن جدعان ، وعن عطاء بن ميمون ، عن زرّ بن حبيش ، عن أبيّ بن كعب مرفوعا فذكر نحوه ، وهو منكر من جميع طرقه. قال القرطبي : قال سعد بن أبي وقّاص : أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : لو حدّثتنا ، فنزل قوله تعالى ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (١) (٢) ـ قال : قال العلماء : وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن ، وكرّرها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة ، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكرّرها ، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرّر ، ولا على معارضة غير المتكرّر.

__________________

(١). تنبيه : جرى المفسر رحمه‌الله في ضبط ألفاظ القرآن على رواية نافع ، مع تعرّضه للقراءات السبع ، وأثبتنا القرآن طبق رسم المصحف العثماني.

(٢). الزمر : ٢٣.

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

قوله : (الر) قد تقدّم الكلام فيه في فاتحة سورة يونس ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ) إلى آيات السورة ، والكتاب المبين ، السورة ، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة ، آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم ، والمبين من أبان بمعنى بان ؛ أي الظاهر أمره في كونه من عند الله وفي إعجازه ، أو المبين بمعنى الواضح المعنى بحيث لا يلتبس على قارئه وسامعه ، أو المبين لما فيه من الأحكام (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي الكتاب المبين حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، فعلى تقدير أن الكتاب السورة تكون تسميتها قرآنا ؛ باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى البعض ، وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن ، فتكون تسميته قرآنا واضحة ؛ وعربيا صفة لقرآنا ؛ أي على لغة العرب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) القصص : تتبع الشيء ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (١) ؛ أي تتبّعي أثره ، وهو مصدر ، والتقدير : نحن نقصّ عليك قصصا أحسن القصص ، فيكون بمعنى الاقصاص ، أو هو بمعنى المفعول ؛ أي المقصوص : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بإيحائنا إليك (هذَا الْقُرْآنَ) وانتصاب القرآن على أنه صفة لاسم الإشارة ، أو بدل منه ، أو عطف بيان. وأجاز الزجّاج الرفع على تقدير المبتدأ ، وأجار الفرّاء الجرّ ، ولعل وجهه أن يقدّر حرف الجرّ في (بِما أَوْحَيْنا) داخلا على اسم الإشارة ، فيكون المعنى : نحن نقصّ عليك أحسن القصص بهذا القرآن (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) إن هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة بينها وبين النافية ، والضمير في من قبله عائد على الإيحاء المفهوم من أوحينا ، والمعنى : أنك قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة.

واختلف في وجه كون ما في هذه السورة هو أحسن القصص ، فقيل : لأنّ ما في هذه السورة من القصص يتضمّن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها ؛ وقيل : لما فيها من حسن المحاورة ، وما كان من يوسف من الصبر على أذى إخوته وعفوه عنهم ؛ وقيل : لأنّ فيها ذكر الأنبياء والصّالحين والملائكة والشّياطين والجنّ والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجّار والعلماء والجهّال والرجال والنّساء وحيلهنّ ومكرهنّ ؛

__________________

(١). القصص : ١١.

٦

وقيل : لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وما دار بينهما ؛ وقيل : إن أحسن هنا بمعنى أعجب ؛ وقيل : إن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة. قوله : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) إذ منصوب على الظرفية بفعل مقدّر ؛ أي اذكر وقت قال يوسف. قرأ الجمهور «يوسف» بضم السين ، وقرأ طلحة بن مصرّف بكسرها مع الهمز مكان الواو ، وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين ، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية ؛ وقيل : هو عربي. والأول أولى بدليل عدم صرفه. (لِأَبِيهِ) أي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (يا أَبَتِ) بكسر التاء في قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ونافع وابن كثير ، وهي عند البصريين علامة التأنيث ، ولحقت في لفظ أب في النداء خاصة بدلا من الياء ، وأصله يا أبي ، وكسرها للدلالة على أنها عوض عن حرف يناسب الكسر. وقرأ ابن عامر بفتحها ؛ لأن الأصل عنده يا أبتا ، ولا يجمع بين العوض والمعوّض ، فيقال يا أبتي ، وأجاز الفراء يا أبت بضم التاء (إِنِّي رَأَيْتُ) من الرؤيا النومية لا من الرؤية البصرية ، كما يدلّ عليه (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ). قوله : (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) قرئ بسكون العين تخفيفا لتوالي الحركات ، وقرئ بفتحها على الأصل (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) إنّما أخّرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما ؛ كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة ؛ وقيل : إن الواو بمعنى مع ، وجملة (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها ، وأجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم ؛ لوصفها بوصف العقلاء ، وهو كونها ساجدة ، كذا قال الخليل وسيبويه ، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) الرؤيا مصدر رأى في المنام رؤيا على وزن فعلى كالسّقيا والبشرى ، وألفه للتأنيث ، ولذلك لم يصرف ، نهى يعقوب عليه‌السلام ابنه يوسف عن أن يقصّ رؤياه على إخوته ؛ لأنه قد علم تأويلها ، وخاف أن يقصّها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له ، ولهذا قال : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) وهذا جواب النهي وهو منصوب بإضمار أن ؛ أي : فيفعلوا لك ؛ أي لأجلك كيدا مثبتا راسخا لا تقدر على الخلوص منه ، أو كيدا خفيا عن فهمك ؛ وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيدا ؛ وقيل : إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدّي باللام ، فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعا الكيد والاحتيال ، كما هو القاعدة في التضمين أن يقدّر أحدهما أصلا والآخر حالا ، وجملة (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) مستأنفة ، كأن يوسف عليه‌السلام قال : كيف يقع منهم ، فنبهه بأنّ الشّيطان يحملهم على ذلك ، لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها. قوله : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي : مثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في النوم من سجود الكواكب والشمس والقمر ، يجتبيك ربك ، ويحقّق فيك تأويل تلك الرؤيا ، فيجعلك نبيا ، ويصطفيك على سائر العباد ، ويسخّرهم لك كما تسخّرت لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك. قال النحّاس : والاجتباء أصله من جبيت الشيء حصلته ، ومنه جبيت الماء في الحوض : جمعته ، ومعنى الاجتباء : الاصطفاء ، وهذا يتضمّن الثّناء على يوسف وتعديد نعم الله عليه ، ومنها (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تأويل الرؤيا. قال القرطبي : وأجمعوا أنّ ذلك في تأويل الرؤيا ، وقد كان يوسف عليه‌السلام أعلم الناس بتأويلها ؛ وقيل : المراد : ويعلّمك من

٧

تأويل أحاديث الأمم والكتب ؛ وقيل : المراد به إحواج إخوته إليه ؛ وقيل : إنجاؤه من كلّ مكروه ؛ وقيل : إنجاؤه من القتل خاصة (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) فيجمع لك بين النبوّة والملك ، كما تدلّ عليه هذه الرؤيا التي أراك الله ، أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة ، (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم ، وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوّة كما قاله جماعة من المفسرين ، ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم ؛ التي من جملتها كون الملك فيهم مع كونهم أنبياء (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) أي إتماما مثل إتمامها على أبويك ؛ وهي نعمة النبوّة عليهما ، مع كون إبراهيم اتّخذه الله خليلا ، ومع كون إسحاق نجّاه الله سبحانه من الذّبح وصار لهما الذرّية الطيبة ؛ وهم يعقوب ، ويوسف ، وسائر الأسباط. ومعنى (مِنْ قَبْلُ) من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه ، أو من قبلك ، وإبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك ، وعبّر عنهما بالأبوين مع كون أحدهما جدّا ؛ وهو إبراهيم ؛ لأنّ الجدّ أب (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بكل شيء (حَكِيمٌ) في كلّ أفعاله ، والجملة مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها تعليلا له ؛ أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم ، وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيرا لرؤياه على طريق الإجمال ، أو علم ذلك من طريق الوحي ، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية.

وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) قال : بيّن الله حلاله وحرامه. وأخرج ابن جرير عن معاذ قال : بيّن الله الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ، وهي ستة أحرف. وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قرآنا عربيا ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألهم إسماعيل هذا اللسان العربيّ إلهاما». وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزل القرآن بلسان قريش ، وهو كلامهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ؛ لو قصصت علينا ، فنزلت : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ). وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) قال : من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم ، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل هذا القرآن (لَمِنَ الْغافِلِينَ).

وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) قال : القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) قال : رؤيا الأنبياء وحي. وأخرج سعيد بن منصور والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي ، وابن حبان في الضعفاء ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه. وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال : «جاء بستاني اليهودي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ، ما أسماؤها؟ فسكت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجبه بشيء ، فنزل عليه جبريل فأخبره بأسمائها ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البستاني اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال : نعم ، قال : جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكتفين ، وقابس ، ووثّاب ، وعمودان ، والفيلق ، والمصبح ، والضروح ، وذو القرع ، والضياء ، والنور ، رآها في أفق السماء ساجدة له ، فلما قصّ يوسف

٨

على يعقوب قال : هذا أمر مشتّت يجمعه الله من بعد ، فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها» هكذا ساقه السيوطي في الدرّ المنثور ، وأما ابن كثير فجعل قوله : «فلما قصّ إلخ» رواية منفردة وقال : تفرّد بها الحكم ابن ظهير الفزاري ، وقد ضعّفوه وتركه الأكثرون. وقال الجوزجاني : ساقط. وقال ابن الجوزي : هو موضوع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) قال : إخوته ، والشمس قال : أمه ، والقمر قال : أبوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدّي نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه أيضا.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) قال : يصطفيك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قال : عبارة الرؤيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قال : تأويل العلم والحلم ، وكان يوسف من أعبر الناس. وأخرج ابن جرير عن عكرمة (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) قال : فنعمته على إبراهيم : أن نجّاه من النار ، وعلى إسحاق : أن نجّاه من الذّبح.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

أي (لَقَدْ كانَ) في قصّتهم علامات دالّة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه (لِلسَّائِلِينَ) من النّاس عنها. وقرأ أهل مكة «آية» على التوحيد. وقرأ الباقون على الجمع ، واختار قراءة الجمع أبو عبيد. قال النحّاس : وآية هاهنا قراءة حسنة ؛ وقيل : المعنى : لقد كان في يوسف وإخوته آيات دالّة على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للسّائلين له من اليهود ، فإنّه روي أنه قال له جماعة من اليهود وهو بمكة : أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي ، ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء ، وإنّما وجّهوا إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا ، فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة. وقيل : معنى (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) عجب لهم ، وقيل : بصيرة ، وقيل : عبرة. قال القرطبي : وأسماؤهم يعني إخوة يوسف : روبيل ، وهو أكبرهم ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، وزيالون ، ويشجر ، وأمهم ليا بنت ليان ، وهي بنت خال يعقوب ، وولد له من سريتين أربعة ، وهم : دان ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر ، ثم ماتت ليا فتزوّج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف ، وبنيامين. وقال السهيلي : إن أمّ يوسف اسمها رفقا ، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين وهو أكبر من يوسف (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) أي وقت قالوا ، والظرف متعلّق بكان (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا). والمراد بقوله : (وَأَخُوهُ) هو بنيامين ، وخصّوه بكونه أخاه مع أنهم جميعا إخوته ؛ لأنه أخوه لأبويه كما تقدّم ، ووحّد الخبر فقال : أحب مع تعدّد المبتدأ ؛

٩

لأنّ أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرّف ، واللام في (لَيُوسُفُ) هي الموطئة للقسم ، وإنما قالوا هذه لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده ، وجملة (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) في محل نصب على الحال ، والعصبة : الجماعة ، قيل : وهي ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى الخمسة عشر ، وقيل : من العشرة إلى الأربعين ، ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنّفر والرّهط ، وقد كانوا عشرة (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : لفي ذهاب عن وجه التدبير وبالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ، ولا يصحّ أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي : قالوا : افعلوا به أحد الأمرين ؛ إما القتل ، أو الطّرح في أرض ، أو المشير بالقتل بعضهم والمشير بالطرح البعض الآخر ؛ أو كان المتكلّم بذلك واحد منهم فوافقه الباقون ، فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم ، وانتصاب أرضا على الظرفية ، والتنكير للإبهام ؛ أي أرضا مجهولة ، وجواب الأمر (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حبا كاملا. (وَتَكُونُوا) معطوف على يخل ، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن. (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد يوسف ، والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه ؛ وقيل : من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف (قَوْماً صالِحِينَ) في أمور دينكم وطاعة أبيكم ، أو صالحين في أمور دنياكم لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك ، وهو الحسد ليوسف وتكدّر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه ؛ أو المراد بالصالحين : التائبون من الذنب (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من الإخوة ، قيل : هو يهوذا ، وقيل : روبيل ، وقيل : شمعون (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قيل : ووجه الإظهار في لا تقتلوا يوسف استجلاب شفقتهم عليه ، قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام «في غيابة الجب» بالإفراد. وقرأ أهل المدينة «في غيابات» بالجمع ، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع ، لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد. قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ، وغيابات على الجمع تجوّز ، والغيابة : كلّ شيء غيب عنك شيئا ؛ وقيل للقبر غيابة ، والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه ، أو طاقة فيه. قال الشاعر :

ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث

أنا ذاكما كما قد غيّبتني غيابيا

والجب : البئر التي لم تطو ، ويقال لها قبل الطيّ : ركيّة ، فإذا طويت قيل لها بئر ، سمّيت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا ، وجمع الجبّ جببة وجباب وأجباب ، وجمع بين الغيابة والجبّ مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجبّ شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين. قيل : وهذه البئر ببيت المقدس ، وقيل : بالأردن ، وجواب الأمر (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) قرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة «تلتقطه» بالمثناة الفوقية ، ووجهه أن بعض السيارة سيارة. وحكي عن سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، ومنه قول الشاعر :

أرى مرّ السّنين أخذن منّي

كما أخذ السّرار (١) من الهلال

وقرأ الباقون «يلتقطه» بالتحتية ، والسيارة : الجمع الذين يسيرون في الطريق ، والالتقاط : هو أخذ شيء

__________________

(١). السرار : سرار الشهر : آخر ليلة منه.

١٠

مشرف على الضياع ، وكأنهم أرادوا أنّ بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه ، ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد ، فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك ، ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره ، كأنه لم يجزم بالأمر ، بل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره. وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء ، فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلما وبغيا ؛ وقيل : كانوا أنبياء ، وكان ذلك منهم زلّة قدم ، وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم. وردّ بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكبيرة المتبالغة في الكبر ، مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب ؛ وقيل : إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء ، بل صاروا أنبياء من بعد.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) قال : عبرة. وأخرج أيضا عن قتادة في الآية يقول : من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قصّ الله عليكم وأنبأكم به. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال : إنما قصّ الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر يوسف وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه ، لما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوّته ليأتسي به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) يعني بنيامين هو أخوه لأبيه وأمه ، وفي قوله : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) قال : العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد قال : العصبة : الجماعة (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قال : لفي خطأ من رأيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) قال : قاله كبيرهم الذي تخلف ، قال : والجبّ بئر بالشام (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) قال : التقطه ناس من الأعراب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) يعني الركية. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك قال : الجبّ البئر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ قال : هي بئر ببيت المقدس ، يقول : في بعض نواحيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : الجبّ حذاء طبرية ، بينه وبينها أميال.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

١١

لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجبّ ، جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوّة استعطافا له ، وتحريكا للحنوّ الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء ، وتوسّلا بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبّروه ، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه ، ف (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) أي : أيّ شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه؟ وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى. وقرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزّهري «لا تأمنا» بالإدغام بغير إشمام. وقرأ طلحة بن مصرف «لا تأمننا» بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثّاب وأبو رزين والأعمش «لا تيمنا» وهو لغة تميم كما تقدّم. وقرأ سائر القرّاء بالإدغام والإشمام ليدلّ على حال الحرف قبل إدغامه (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) في حفظه وحيطته حتى نردّه إليك (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) أي إلى الصّحراء التي أرادوا الخروج إليها ، وغدا ظرف ، والأصل عند سيبويه غدو. قال النّضر بن شميل : ما بين الفجر وطلوع الشمس ، يقال له غدوة ، وكذا يقال له بكرة. (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) هذا جواب الأمر. قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين كما رواه البعض عنهم. وقرءوا أيضا بالاختلاس ، وقرأ الباقون بالنون وكسر العين ، والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير ؛ إذا أكل كيف شاء ، أو المعنى : نتسع في الخصب ، وكلّ مخصب راتع ؛ قال الشاعر :

فارعي فزارة لا هناك المرتع

ومنه قول الشاعر (١) :

ترتع ما رتعت (٢) حتى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

والقراءة الثانية مأخوذة من : رعى الغنم. وقرأ مجاهد وقتادة (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالتحتية فيهما ، ورفع يلعب على الاستئناف ، والضمير ليوسف. وقال القتبي : معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضا ، من قولهم : رعاك الله ؛ أي حفظك ، ونلعب من اللعب. قيل لأبي عمرو بن العلاء : كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال : لم يكونوا يومئذ أنبياء ؛ وقيل : المراد به اللعب المباح من الأنبياء ، وهو مجرّد الانبساط ؛ وقيل : هو اللعب الذي يتعلّمون به الحرب ويتقوّون به عليه ، كما في قولهم : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) لا اللعب المحظور الذي هو ضدّ الحق ، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا : ونلعب ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجابر : «فهلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك» ، فأجابهم يعقوب بقوله : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي ذهابكم به ، واللام في (لَيَحْزُنُنِي) لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص المضارع بالحال ، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أي : ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب. قال يعقوب هذا تخوّفا عليه منهم ، فكنى عن ذلك بالذئب. وقيل : إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة ، لأن ذلك المكان

__________________

(١). البيت للخنساء ، من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا.

(٢). في تفسير القرطبي (٩ / ١٣٩) : ما غفلت.

١٢

كان كثير الذئاب ، ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه. قال ثعلب : والذئب مأخوذ من تذأبت الريح ؛ إذا هاجت من كلّ وجه. قال : والذئب مهموز لأنه يجيء من كلّ وجه. وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز على الأصل ، وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتّخفيف (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) لاشتغالكم بالرّتع واللعب ، أو لكونهم غير مهتمّين بحفظه (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) اللام هي الموطئة للقسم. والمعنى : والله لئن أكله الذئب والحال إن نحن عصبة ؛ أي جماعة كثيرة ، عشرة (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي : إنما في ذلك الوقت ، وهو أكل الذئب له لخاسرون هالكون ضعفا وعجزا ، أو مستحقّون للهلاك لعدم الاعتداد بنا ، وانتفاء القدرة على أيسر شيء وأقلّه ، أو مستحقّون لأن يدعى علينا بالخسار والدّمار ؛ وقيل : (لَخاسِرُونَ) لجاهلون حقه ، وهذه الجملة جواب القسم المقدّر في الجملة التي قبلها (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) من عند يعقوب (وَأَجْمَعُوا) أمرهم (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قد تقدّم تفسير الغيابة والجب قريبا ، وجواب لما محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه ، والتقدير : فعلوا به ما فعلوا ؛ وقيل : جوابه (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) وقيل : والجواب المقدّر جعلوه فيها ، وقيل : الجواب أوحينا والواو مقحمة ، ومثله قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ـ وَنادَيْناهُ) (١) أي : ناديناه (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي : إلى يوسف تيسيرا له ، وتأنيسا لوحشته ؛ مع كونه صغيرا اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته ، بقلوب غليظة ؛ فقد نزعت عنها الرحمة ، وسلبت منها الرّأفة ، فإنّ الطّبع البشري يأبى ذلك. وإن كان قد وقع منه خطأ فدع عنك الدين يتجاوز عن ذنب الصغير ويغفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن أيسر شيء يراد منه ، فكيف بصغير لا ذنب له ، بل كيف بصغير هو أخ لهم وله أب مثل يعقوب ، فلقد أبعد من قال إنهم كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين. وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيرا ويعطيه النبوّة حينئذ ، كما وقع في عيسى ويحيى بن زكريا ؛ وقد قيل : إنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبالغ الرجال ، وهو بعيد جدّا ، فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله الذئب (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) أي لتخبرنّ إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك مما أرادوه بك من الكيد ، وأنزلوه عليك من الضرر ، وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في محل نصب على الحال ؛ أي : لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجبّ ، ولبعد عهدهم بك ، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك ، وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر. قوله : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) عشاء منتصب على الظرفية ، وهو آخر النهار ، وقيل : في الليل ؛ ويبكون في محل نصب على الحال ، أي : باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة ، بل فعلوا فعل من يبكي ترويجا لكذبهم وتنفيقا لمكرهم وغدرهم ، فلما وصلوا إلى أبيهم (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي : نتسابق في العدو أو في الرمي ؛ وقيل : ننتضل ، ويؤيده قراءة ابن مسعود «ننتضل» قال الزجّاج : وهو نوع من المسابقة. وقال الأزهري : النضال في السهام ،

__________________

(١). الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٣

والرهان في الخيل ، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري : نستبق ، أي : في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام ، والغرض من المسابقة التدرّب بذلك في القتال (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي : عند ثيابنا ليحرسها (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) الفاء للتعقيب ؛ أي : أكله عقب ذلك. وقد اعتذروا عليه بما خافه سابقا عليه. وربّ كلمة تقول لصاحبها دعني (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) بمصدق لنا في هذا العذر الذي أبدينا ، والكلمة التي قلناها (وَلَوْ كُنَّا) عندك أو في الواقع (صادِقِينَ) لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له. قال الزّجّاج : والمعنى ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدّقتنا في هذه القضية لشدّة محبتك ليوسف. وكذا ذكره ابن جرير وغيره (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) على قميصه في محل نصب على الظرفية ، أي : جاءوا فوق قميصه بدم ، ووصف الدم بأنه كذب مبالغة ، كما هو معروف في وصف اسم العين باسم المعنى ؛ وقيل : المعنى : بدم ذي كذب أو بدم مكذوب فيه. وقرأ الحسن وعائشة «بدم كذب» بالدال المهملة ، أي بدم طريّ ، يقال للدم الطريّ كذب. وقال الشعبي : إنه المتغير ، والكذب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث ، فيجوز أن يكون شبّه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين. وقد استدلّ يعقوب على كذبهم بصحة القميص ، وقال لهم : متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟ ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليهم فقال : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت وسهلت. قال النيسابوري : التسويل تقرير في معنى النفس مع الطمع في تمامه ، وهو تفعيل من السول وهو الأمنية. قال الأزهري : وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال الزجّاج : أي فشأني ، أو الذي أعتقده صبر جميل. وقال قطرب : أي فصبري صبر جميل ؛ وقيل : فصبر جميل أولى بي. قيل : والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه. قال الزجّاج : قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف «فصبرا جميلا» قال : وكذا في مصحف أنس. قال المبرد : فصبر جميل بالرفع أولى من النصب ، لأن المعنى : قال ربّ عندي صبر جميل ، وإنما النصب على المصدر ، أي : فلأصبرنّ صبرا جميلا. قال الشاعر :

شكا إليّ جملي طول السّرى

صبرا جميلا فكلانا مبتلى

(وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) أي المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ) أي على إظهار حال ما تصفون ، أو على احتمال ما تصفون ، وهذا منه عليه‌السلام إنشاء لا إخبار.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) قال : نسعى وننشط ونلهو. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه ، والسّلفي في الطّيوريات ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلقّنوا الناس فيكذبوا ، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس ، فلما لقّنهم أبوهم كذبوا ، فقالوا : أكله الذئب». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) الآية قال : أوحى إلى يوسف وهو في الجب لتنبئن إخوتك بما صنعوا وهم لا

١٤

يشعرون بذلك الوحي. وأخرج هؤلاء عن قتادة قال : أوحى الله إليه وحيا وهو في الجبّ أن سينبئهم بما صنعوا ، وهم ـ أي إخوته ـ لا يشعرون بذلك الوحي ، فهوّن ذلك الوحي عليه ما صنع به.

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قال : لم يعلموا بوحي الله إليه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصّواع فوضعه على يده ، ثم نقره فطنّ ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجبّ فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كذب ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم ، فقال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية نزلت إلا في ذلك لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بكر ابن عياش قال : كان يوسف في الجبّ ثلاثة أيام.

وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) قال : بمصدّق لنا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) قال : كان دم سخلة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) قال : لما أتي يعقوب بقميص يوسف فلم ير فيه خرقا قال : كذبتم ، لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) قال : أمرتكم أنفسكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) يقول : بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي على ما تكذبون. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبّان بن أبي جبلة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال : لا شكوى فيه. من بثّ لم يصبر. وهو من طريق هشيم عن عبد الرحمن عن حبّان بن أبي جبلة ، وهو مرسل. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال : ليس فيه جزع.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما كان بعد ذلك من خبره ، وقد تقدّم تفسير السّيارة ، والمراد بها هنا رفقة مارّة تسير من الشام إلى مصر ، فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجبّ ، وكان في

١٥

قفرة بعيدة عن العمران. والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، وكان اسمه فيما ذكر المفسرون «مالك بن ذعر» من العرب العاربة (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أرسله ، يقال : أدلى دلوه ؛ إذا أرسلها ليملأها ، ودلاها : إذا أخرجها ، قاله الأصمعي وغيره. فتعلّق يوسف بالحبل ، فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد ف قال يا بشراي هكذا قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة ، وأهل الشام بإضافة البشرى إلى الضمير. وقرأ أهل الكوفة (يا بُشْرى) غير مضاف ، ومعنى مناداته للبشرى ؛ أنه أراد حضورها في ذلك الوقت. فكأنه قال : هذا وقت مجيئك وأوان حضورك. وقيل : إنه نادى رجلا اسمه بشرى. والأوّل أولى. قال النحاس : والمعنى نداء البشرى التبشير لمن حضر ، وهو أوكد من قولك بشرته ، كما تقول يا عجبا ، أي : يا عجب هذا من أيامك فاحضر. قال : وهذا مذهب سيبويه (وَأَسَرُّوهُ) أي أسرّ الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف فلم يظهروه لهم ؛ وقيل : إنهم لم يخفوه ، بل أخفوا وجدانه لهم في الجبّ ، وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر ؛ وقيل : ضمير الفاعل في أسرّوه لإخوة يوسف ، وضمير المفعول ليوسف ، وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام ، فأتاه يوم خروجه من البئر فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلام أبق منا فاشتروه منهم ، وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه. والأوّل أولى. وانتصاب بضاعة على الحال ، أي : أخفوه حال كونه بضاعة ، أي : متاعا للتجارة ، والبضاعة : ما يبضع من المال ، أي : يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتّجر به ، قيل : قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه ، وفي قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) وعيد شديد لمن كان فعله سببا لما وقع فيه يوسف من المحن ، وما صار فيه من الابتذال يجري البيع والشراء فيه ، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وصفه بذلك. قوله : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) يقال : شراه بمعنى اشتراه ، وشراه بمعنى باعه. قال الشاعر (١) :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامة

أي بعته.

وقال آخر (٢) :

فلمّا شراها فاضت العين عبرة (٣)

أي اشتراها ، والمراد هنا : وباعوه ، أي : باعه الوارد وأصحابه (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي ناقص أو زائف. وقيل : يعود إلى إخوة يوسف على القول السابق ؛ وقيل : عائد إلى الرفقة ، والمعنى : اشتروه ؛ وقيل : بخس : ظلم ، وقيل : حرام. قيل : باعوه بعشرين درهما ، وقيل : بأربعين ، ودراهم بدل من ثمن ؛ أي دنانير ،

__________________

(١). هو يزيد بن مفرغ الحميري. و «برد» : اسم عبد كان له ندم على بيعه.

(٢). هو الشمّاخ.

(٣). وتمام البيت : وفي الصّدر حزّاز من اللّوم حامز. و «حامز» : عاصر.

١٦

ومعدودة وصف لدراهم ، وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعدّ ولا توزن ، لأنهم كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهما. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) يقال : زهدت وزهدت بفتح الهاء وكسرها. قال سيبويه والكسائي : قال أهل اللغة : يقال زهد فيه ، أي : رغب عنه ، وزهد عنه ، أي : رغب فيه ، والمعنى : أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه ، الذين لا يبالون به ، فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس ، وذلك لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به ، والضمير من كانوا يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال فيه (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) هو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، وكان وزيرا لملك مصر ، وهو «الريان ابن الوليد» من العمالقة ؛ وقيل : إن الملك هو فرعون موسى ، قيل : اشتراه بعشرين دينارا ، وقيل : تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر ، فلما اشتراه العزيز قال (لِامْرَأَتِهِ) واللام متعلّقة باشتراه (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي منزله الذي يثوي فيه بالطعام واللباس الحسن ، يقال : ثوى بالمكان ، أي : أقام به (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي : يكفينا بعض المهمات ممّا نحتاج إلى مثله فيه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي : نتبنّاه فنجعله ولدا لنا ، قيل : كان العزيز حصورا لا يولد له ، وقيل : كان لا يأتي النساء ، وقد كان تفرّس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه من أمر المملكة. قوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) الكاف في محل نصب على أنه نعت مصدر محذوف ، والإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجبّ ، وعطف قلب العزيز عليه ، أي : مثل ذلك التمكين البديع مكّنا ليوسف حتى صار متمكّنا من الأمر والنهي ، يقال : مكنه فيه ، أي : أثبته فيه ، ومكن له فيه ، أي : جعل له فيه مكانا ، ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر. قوله : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) هو علّة لمعلل محذوف ، كأنه قيل : فعلنا ذلك التّمكين لنعلمه من تأويل الأحاديث أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة ، أو معطوف على مقدّر ، وهو أن يقال : مكنّا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ومعنى تأويل الأحاديث : تأويل الرؤيا ، فإنها كانت من الأسباب التي بلغ بها ما بلغ من التمكن ؛ وقيل : معنى تأويل الأحاديث فهم أسرار الكتب الإلهية وسنن من قبله من الأنبياء ، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي : على أمر نفسه لا يمتنع منه شيء ، ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ، ومن جملة ما يدخل تحت هذا العامّ كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى الضمير ما يتعلق بيوسف عليه‌السلام من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه ؛ وقيل معنى (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أنه كان من أمر يعقوب أن لا يقصّ رؤيا يوسف على إخوته ، فغلب أمر الله سبحانه حتى قصّت عليهم حتى وقع منهم ما وقع ، وهذا بعيد جدّا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يطلعون على غيب الله وما في طيّه من الأسرار العظيمة والحكم النافعة ؛ وقيل : المراد بالأكثر : الجميع ؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله ؛ وقيل : إن الله سبحانه قد يطلع بعض عبيده على بعض غيبه كما في قوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ـ إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٢) ؛ وقيل : المعنى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب

__________________

(١). يس : ٨٢.

(٢). الجن : ٢٦ و ٢٧.

١٧

على أمره وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. قوله (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) الأشدّ : قال سيبويه : جمع ، واحده شدّة. قال الكسائي : واحده شدّ. وقال أبو عبيد : إنه لا واحد له من لفظه عند العرب ، ويردّه قول الشاعر :

عهدي به شدّ النّهار كأنّما

خضب البنان ورأسه بالعظلم (١)

والأشدّ : هو وقت استكمال القوّة ثم يكون بعده النقصان. قيل : هو ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل : بلوغ الحلم ، وقيل : ثماني عشرة سنة ، وقيل غير ذلك مما قد قدّمنا بيانه في النساء والأنعام. والحكم : هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان ملك مصر ، والعلم : هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه ؛ وقيل : العقل والفهم والنبوّة ؛ وقيل : الحكم هو النبوّة ، والعلم : هو العلم بالدين ؛ وقيل : علم الرؤيا. ومن قال إنه أوتي النبوّة صبيا قال : المراد بهذا الحكم والعلم الذي آتاه الله هو الزيادة فيهما (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي المحسنين ، فكلّ من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه ، وجعل عاقبة الخير من جملة ما يجزيه به ، وهذا عامّ يدخل تحته جزاء يوسف على صبره الحسن دخولا أوليّا. قال الطبري : هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول الله تعالى كما فعل هذا بيوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة وأمكّن لك في الأرض. والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته ما ذكره ابن جرير الطبري.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن الضحّاك في قوله : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) قال : جاءت سيارة فنزلت على الجبّ (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) فاستسقى الماء فاستخرج يوسف ، فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاما لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربّه ، فزهدوا فيه فباعوه ، وكان بيعه حراما ، وباعوه بدراهم معدودة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) يقول : فأرسلوا رسولهم (فَأَدْلى دَلْوَهُ) فنشب الغلام بالدلو ، فلما خرج (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) تباشروا به حين استخرجوه ، وهي بئر ببيت المقدس معلوم مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : يا بشراي قال : كان اسم صاحبه بشرى ، كما تقول يا زيد ، وهذا على ما فيه من البعد لا يتمّ إلا على قراءة من قرأ (يا بُشْرى) بدون إضافة. وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي نحوه.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) يعني إخوة يوسف أسرّوا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم ، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) قال : صاحب الدلو ومن معه ، قالوا لأصحابهم : إنا استبضعناه خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا به ، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثقوا منه لا

__________________

(١). شدّ النهار : أي : أشدّه ، يعني أعلاه. «العظلم» : نبت يختضب به.

١٨

يأبق حتى وقفوا بمصر ، فقال : من يبتاعني ويبشر ، فابتاعه الملك والملك مسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (وَشَرَوْهُ) قال : إخوة يوسف باعوه حين أخرجه المدلي دلوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : بيع بينهم بثمن بخس ، قال : حرام لم يحلّ لهم بيعه ، ولا أكل ثمنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) قال : هم السيارة. وأخرج أبو الشيخ عن علي ابن أبي طالب أنه قضى في اللقيط أنه حر ، وقرأ : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ). وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : البخس القليل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود قال : إنما اشتري يوسف بعشرين درهما ، وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلاثمائة وتسعين إنسانا ، رجالهم أنبياء ، ونساؤهم صدّيقات ، والله ما خرجوا مع موسى حتى بلغوا ستّمائة ألف وسبعين ألفا. وقد روي في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى التطويل بذكره.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) قال : كان اسمه قطفير. وأخرج أبو الشيخ عن شعيب الجبائي : أن اسم امرأة العزيز زليخا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : الذي اشتراه أطيفير بن روحب ، وكان اسم امرأته راعيل بنت رعاييل. وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : اسم الذي باعه من العزيز مالك بن ذعر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) قال : منزلته. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف فقال (لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) وأبو بكر حين استخلف عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قال : عبارة الرؤيا. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قال : ثلاثا وثلاثين سنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : أربعين سنة. وأخرج عن عكرمة قال : خمسا وعشرين سنة. وأخرج عن السدّي قال : ثلاثين سنة. وأخرج عن سعيد بن جبير قال : ثمانية عشر سنة. وأخرج عن ربيعة قال : الحلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك قال : عشرين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) قال : هو الفقه والعلم والعقل قبل النبوّة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال : المهتدين.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ

١٩

وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

المراودة الإرادة والطلب برفق ولين ، وقيل : هي مأخوذة من الرّود : أي الرّفق والتّأني ، يقال : أرودني : أمهلني ؛ وقيل المراودة مأخوذة من راد يرود ؛ إذا جاء وذهب ، كأن المعنى : أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع ، ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ ، وقد يخصّ بمحاولة الوقاع ، فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه ؛ إذا حاول كل منهما الوطء والجماع ، وهي مفاعلة ، وأصلها أن تكون من الجانبين ، فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائما مقام المسبب ، فكأن يوسف عليه‌السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن سببا لمراودة امرأة العزيز له مراود. وإنما قال : (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) ولم يقل امرأة العزيز ، وزليخا ، قصدا إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة والمحافظة على الستر عليها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) قيل في هذه الصيغة ما يدلّ على التكثير ، فيقال : غلّق الأبواب ، ولا يقال : غلّق الباب ، بل يقال : أغلق الباب ، وقد يقال : أغلق الأبواب ، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء :

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها

حتى أتيت أبا عمرو بن عمّار

قيل : وكانت الأبواب سبعة. قوله : (هَيْتَ لَكَ). قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وحمزة والأعمش بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء ، وبها قرأ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة. قال ابن مسعود : لا تنطعوا في القراءة ، فإنما هو مثل قول أحدكم هلمّ وتعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ عبد الرحمن السلمي وابن كثير هيت بفتح الهاء وضم التاء ، ومنه قول طرفة :

ليس قومي بالأبعدين إذا ما

قال داع من العشيرة هيت

وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء. وقرأ عليّ وابن عباس في رواية عنه وهشام بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء. وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. ومعنى هيت على جميع القراءات معنى هلمّ وتعال ؛ لأنها من أسماء الأفعال إلا في قراءة من قرأ بكسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة ، فإنها بمعنى : تهيأت لك. وأنكر أبو عمرو هذه القراءة. وقال أبو عبيدة : سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فقال : باطل ، جعلها بمعنى تهيأت ، اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن ، هل تعرف أحدا يقول هكذا؟ وأنكرها أيضا الكسائي. وقال النحاس : هي جيدة عند البصريين ؛ لأنه يقال : هاء الرجل يهاء ويهيئ هيئة ، ورجّح الزجّاج القراءة الأولى ، وأنشد بيت طرفة المذكور هيت بالفتح ، ومنه قول الشاعر في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه :

٢٠