فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

وقيل : اذكر اسم ربك في وعده ووعيده ؛ لتوفّر على طاعته وتبعد عن معصيته ، وقيل المعنى : دم على ذكر ربك ليلا ونهارا واستكثر من ذلك. وقال الكلبي : المعنى صلّ لربك. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي : انقطع إليه انقطاعا بالاشتغال بعبادته ، والتبتل : الانقطاع ، يقال : بتلت الشيء : أي قطعته وميزته من غيره ، وصدقة بتلة ، أي : منقطعة من مال صاحبها ، ويقال للراهب : متبتل ؛ لانقطاعه عن الناس ، ومنه قول الشاعر (١) :

تضيء الظّلام بالعشاء كأنّها

منارة ممسى راهب (٢) متبتّل.

ووضع تبتيلا مكان تبتلا لرعاية الفواصل. قال الواحدي : والتبتل : رفض الدنيا وما فيها ، والتماس ما عند الله. (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر بجرّ «ربّ» على النعت «لربك» أو البدل منه ، أو البيان له. وقرأ الباقون برفعه على أنه مبتدأ وخبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ربّ المشرق. وقرأ زيد بن عليّ بنصبه على المدح. وقرأ الجمهور : (الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) مفردين ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «المشارق والمغارب» على الجمع ، وقد قدّمنا تفسير المشرق والمغرب ، والمشرقين والمغربين ، والمشارق والمغارب (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي : إذا عرفت أنه المختصّ بالربوبية فاتخذه وكيلا ، أي : قائما بأمورك ، وعوّل عليه في جميعها ، وقيل : كفيلا بما وعدك من الجزاء والنصر (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من الأذى والسب والاستهزاء ، ولا تجزع من ذلك (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي : لا تتعرّض لهم ، ولا تشتغل بمكافأتهم ، وقيل : الهجر الجميل : الّذي لا جزع فيه ، وهذا كان قبل الأمر بالقتال (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) أي : دعني وإيّاهم ، ولا تهتم بهم ، فإني أكفيك أمرهم ، وأنتقم لك منهم. قيل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وهم عشرة ، وقد تقدّم ذكرهم. وقال يحيى بن سلّام : هم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشر. (أُولِي النَّعْمَةِ) أي : أرباب الغنى والسعة والترفّه واللذة في الدنيا (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي : تمهيلا قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو زمانا قليلا على أنه صفة لزمان محذوف ، والمعنى : أمهلهم إلى انقضاء آجالهم ، وقيل : إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر ، والأول أولى لقوله : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) وما بعده ، فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة ، والأنكال : جمع نكل ، وهو القيد ، كذا قال الحسن ومجاهد وغيرهما ، وقال الكلبي : الأنكال : والأغلال ، والأوّل أعرف في اللغة ، ومنه قول الخنساء :

أتوك فقطّعت أنكالهم (٣)

وقد كنّ قبلك لا تقطع

وقال مقاتل : هي أنواع العذاب الشديد. وقال أبو عمران الجوني : هي قيود لا تحلّ (وَجَحِيماً) أي : نارا مؤججة (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي : لا يسوغ في الحلق ، بل ينشب فيه ، فلا ينزل ولا يخرج.

__________________

(١). هو امرؤ القيس.

(٢). «ممسى راهب» : أي إمساؤه.

(٣). في تفسير القرطبي (١٩ / ٤٦) : دعاك فقطّعت أنكاله.

٣٨١

قال مجاهد : هو الزّقّوم. وقال الزجاج : هو الضريع كما قال : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (١) قال : وهو شوك العوسج. قال عكرمة : هو شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج ، والغصّة : الشّجا في الحلق ، وهو ما ينشب فيه من عظم أو غيره ، وجمعها : غصص (وَعَذاباً أَلِيماً) أي : ونوعا آخر من العذاب غير ما ذكر (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) انتصاب الظرف إما بذرني ، أو بالاستقرار المتعلّق به لدينا ، أو هو صفة لعذاب فيتعلق بمحذوف ، أي : عذابا واقعا يوم ترجف ، أو متعلّق بأليما. قرأ الجمهور : (تَرْجُفُ) بفتح التاء وضم الجيم مبنيا للفاعل ، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول ، مأخوذ من أرجفها ، والمعنى : تتحرك وتضطرب بمن عليها ، والرجفة : الزلزلة والرعدة الشديدة (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) أي : وتكون الجبال ، وإنما عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه ، والكثيب : الرمل المجتمع ، والمهيل : الّذي يمرّ تحت الأرجل. قال الواحدي : أي رملا سائلا ، يقال لكل شيء أرسلته إرسالا من تراب أو طعام : أهلته هيلا. قال الضحاك والكلبي : المهيل : الّذي إذا وطئته بالقدم زلّ من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال ، ومنه قول حسان :

عرفت ديار زينب بالكثيب

كخطّ الوحي في الورق القشيب (٢)

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) الخطاب لأهل مكة ، أو لكفار العرب ، أو لجميع الكفار ، والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) يعني موسى (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) الّذي أرسلناه إليه ، وكذّبه ، ولم يؤمن بما جاء به ، ومحل الكاف النصب على أنها نعت لمصدر محذوف ، والمعنى : إنا أرسلنا إليكم رسولا فعصيتموه ، كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي : شديدا ثقيلا غليظا ، والمعنى : عاقبنا فرعون عقوبة شديدة غليظة بالغرق ؛ وفيه تخويف لأهل مكة أنه سينزل بهم من العقوبة مثل ما نزل به ؛ وإن اختلف نوع العقوبة. قال الزجاج : أي ثقيلا غليظا ، ومنه قيل للمطر : وابل. وقال الأخفش : شديدا ، والمعنى متقارب ، ومنه طعام وبيل ؛ إذا كان لا يستمرأ ، ومنه قول الخنساء :

لقد أكلت بجيلة يوم لاقت

فوارس مالك أكلا وبيلا

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) أي : كيف تقون أنفسكم (إِنْ كَفَرْتُمْ) أي : إن بقيتم على كفركم (يَوْماً) أي : عذاب يوم (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) لشدّة هوله ، أي : يصير الولدان شيوخا ، والشيب : جمع أشيب ، وهذا يجوز أن يكون حقيقة ، وأنهم يصيرون كذلك ، أو تمثيلا ؛ لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه ، وضعفت أعضاؤه ، وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوّة ، وفي هذا تقريع لهم شديد وتوبيخ عظيم. قال الحسن : أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم ، وكذا قرأ ابن مسعود وعطية ، و «يوما» مفعول به لتتقون. قال ابن الأنباري : ومنهم من نصب اليوم بكفرتم ، وهذا قبيح. والولدان : الصبيان. ثم زاد في

__________________

(١). الغاشية : ٦.

(٢). «الوحي» : ـ هنا ـ الكتابة. «القشيب» : الجديد.

٣٨٢

وصف ذلك اليوم بالشدّة فقال : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي : متشققة به بشدّته وعظيم هوله ، والجملة صفة أخرى ليوم ، والباء سببية ، وقيل : هي بمعنى في ، أي : منفطر فيه ، وقيل : بمعنى اللام ، أي : منفطر له ، وإنما قال منفطر ولم يقل منفطرة لتنزيل السماء منزلة شيء لكونها قد تغيرت ، ولم يبق منها إلا ما يعبّر عنه بالشيء. وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل منفطرة ؛ لأن مجازها (١) السقف ، كما قال الشاعر :

فلو رفع السّماء إليه قوما

لحقنا بالسّماء وبالسّحاب

فيكون هذا كما في قوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) وقال الفرّاء : السماء تذكّر وتؤنّث. وقال أبو عليّ الفارسي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢) قال أيضا : أي السماء ذات انفطار كقولهم : امرأة مرضع ، أي : ذات إرضاع على طريق النسب ، وانفطارها لنزول الملائكة ، كما قال : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (٣) وقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) (٤) وقيل : منفطر به ، أي : بالله ، والمراد بأمره ، والأوّل أولى (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي : وكان وعد الله بما وعد به من البعث والحساب وغير ذلك كائنا لا محالة ، والمصدر مضاف إلى فاعله ، أو : وكان وعد اليوم مفعولا ، فالمصدر مضاف إلى مفعوله. وقال مقاتل : كان وعده أن يظهر دينه على الدّين كلّه.

وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، والبيهقي في سننه ، عن سعد بن هشام قال : قلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : ألست تقرأ هذه السورة (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (٥) قلت : بلى ، قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوّعا من بعد فرضه» وقد روي هذا الحديث عنها من طرق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت أوّل المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين أوّلها وآخرها نحو من سنة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن نصر عن أبي عبد الرّحمن السّلمي قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٦) فاستراح الناس. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن نصر وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : في المزمل (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ـ نِصْفَهُ) نسختها الآية التي فيها (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وناشئة الليل أوّله. كانت صلاتهم أوّل الليل. يقول : هذا أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من قيام الليل ، وذلك أن الإنسان

__________________

(١). «مجازها» : معناها.

(٢). القمر : ٢٠.

(٣). الانفطار : ١.

(٤). الشورى : ٥.

(٥). المزمل : ١.

(٦). المزمل : ٢٠.

٣٨٣

إذا نام لم يدر متى يستيقظ. وقوله : (أَقْوَمُ قِيلاً) هو أجدر أن يفقه قراءة القرآن ، وقوله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) يقول : فراغا طويلا. وأخرج الحاكم وصحّحه ، عنه في قوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال : زملت هذا الأمر فقم به. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية أيضا قال : يتزمل (١) بالثياب. وأخرج الفريابي عن أبي صالح عنه أيضا (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال : تقرأ آيتين ثلاثا ثم تقطع لا تهدر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن منيع في مسنده ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر عنه أيضا (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال : بيّنه تبيينا. وأخرج العسكري في المواعظ ، عن عليّ بن أبي طالب مرفوعا نحوه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر ، والحاكم وصحّحه ، عن عائشة «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها ، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه ، وتلت : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن نصر ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) قال : قيام الليل بلسان الحبشة ، إذا قام الرجل قالوا : نشأ. وأخرج البيهقي عنه قال (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أوّله. وأخرج ابن المنذر وابن نصر عنه أيضا قال : الليل كله ناشئة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود قال : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) بالحبشة قيام الليل. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن نصر ، والبيهقي في سننه ، عن أنس بن مالك قال : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) ما بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد بن حميد وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) قال : السبح : الفراغ للحاجة والنوم. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل ، عن عائشة قالت : لما نزلت (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) لم يكن إلا يسيرا حتى كانت وقعة بدر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) قال : قيودا. وأخرج عبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي عن ابن عباس (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) قال : شجرة الزقوم. وأخرج الحاكم وصحّحه عنه في قوله : (كَثِيباً مَهِيلاً) قال : المهيل الّذي إذا أخذت منه شيئا تبعك آخره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (كَثِيباً مَهِيلاً) قال : الرمل السائل ، وفي قوله : (أَخْذاً وَبِيلاً) قال : شديدا. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) قال : ذلك يوم القيامة ، وذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار ، قال : من كم يا ربّ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، وينجو واحد ، فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فقال حين أبصر ذلك في وجوههم : إن بني آدم كثير ، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، إنه لا يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه ألف رجل ، ففيهم وفي أشباههم جنّة لكم». وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه بأخصر منه. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن

__________________

(١). في الدر المنثور (٨ / ٣١٢) : يتدثر.

٣٨٤

ابن عباس في قوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال : ممتلئة ، بلسان الحبشة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : مثقلة موقرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : يعني تشقق السماء.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

الإشارة بقوله : (إِنَّ هذِهِ) إلى ما تقدّم من الآيات. والتذكرة : الموعظة ، والإشارة إلى جميع آيات القرآن ، لا إلى ما في هذه السورة فقط (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي : اتخذ بالطاعة التي أهم أنواعها التوحيد إلى ربّه طريقا توصله إلى الجنة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) معنى أدنى : أقلّ ، استعير له الأدنى لأن المسافة بين الشّيئين إذا دنت قلّ ما بينهما (وَنِصْفَهُ) معطوف على أدنى (وَثُلُثَهُ) معطوف على نصفه ، والمعنى : أن الله يعلم أن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم أقلّ من ثلثي الليل ، ويقوم نصفه ، ويقوم ثلثه ، وبالنصب قرأ ابن كثير والكوفيون ، وقرأ الجمهور : (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالجرّ ، عطفا على ثلثي الليل ، والمعنى : أن الله يعلم أن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم أقلّ من ثلثي الليل ، وأقلّ من نصفه ، وأقلّ من ثلثه ، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه. وقال الفرّاء : القراءة الأولى أشبه بالصواب ؛ لأنه قال : أقلّ من ثلثي الليل ، ثم فسر القلة. (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) معطوف على الضمير في تقوم ، أي : وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي : يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها ، ويختصّ بذلك دون غيره ؛ وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة. قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون ، أي : أنه يعلم مقادير الليل والنهار ، فيعلم قدر الّذي تقومونه من الليل (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أن لن تطيقوا علم مقادير الليل والنهار على الحقيقة ، وفي «أن» ضمير شأن محذوف ، وقيل المعنى : لن تطيقوا قيام الليل. قال القرطبي : والأوّل أصحّ ؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره : لما نزل : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ـ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ـ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) شقّ ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتفخت أقدامهم وانتقعت ألوانهم ، فرحمهم‌الله ، وخفّف عنهم ، فقال : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي : علم أن لن تحصوه ؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكلّف ما ليس فرضا ، وإن نقصتم شقّ ذلك عليكم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي : فعاد عليكم بالعفو ، ورخّص لكم في ترك القيام. وقيل : فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم ، وأصل التوبة : الرجوع ، كما تقدّم ؛ فالمعنى : رجع بكم من التثقيل إلى التخفيف ، ومن العسر إلى اليسر (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي : فاقرؤوا في الصلاة بالليل ما خفّ عليكم وتيسّر لكم منه ؛

٣٨٥

من غير أن ترقبوا وقتا. قال الحسن : هو ما نقرأ في صلاة المغرب والعشاء. قال السدّي : ما تيسّر منه هو مائة آية. قال الحسن : أيضا من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن : وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين ، وقال سعيد : خمسون آية ، وقيل : معنى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) فصلوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل ، والصلاة تسمّى قرآنا كقوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) (١) قيل : إنّ هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف ، والزيادة عليه. فيحتمل أن يكون ما تضمّنته هذه الآية فرضا ثابتا ، ويحتمل أن يكون منسوخا لقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٢). قال الشافعي : الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين ، فوجدنا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدلّ على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس. وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حق أمته. وقيل : نسخ التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب. وقيل : إنه نسخ في حق الأمة ، وبقي فرضا في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأولى القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حق أمته ، وليس في قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ما يدل على بقاء شيء من الوجوب ؛ لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن فقد وجدت في صلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة ، وإن كان المراد به الصلاة من الليل ؛ فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوّع. وأيضا الأحاديث الصحيحة المصرّحة بقول السائل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل عليّ غيرها؟ يعني الصلوات الخمس فقال : «لا ، إلا أن تطوّع» تدل على عدم وجوب غيرها ، فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته على الأمة ، كما ارتفع وجوب ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) (٣) قال الواحدي : قال المفسرون في قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) كان هذا في صدر الإسلام ، ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين ، وثبت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وذلك قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ). ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) فلا يطيقون قيام الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم ، فلا يطيقون قيام الليل (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني المجاهدين فلا يطيقون قيام الليل. ذكر سبحانه ها هنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ، ورفع وجوب قيام الليل ، فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم. ثم ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وقد سبق تفسيره قريبا ، والتكرير للتأكيد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يعني المفروضة ، وهي الخمس لوقتها (وَآتُوا الزَّكاةَ) يعني الواجبة في الأموال. وقال الحارث العكلي : هي صدقة الفطر ؛ لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك ، وقيل : صدقة التطوّع ، وقيل : كل أفعال الخير (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي : أنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقا حسنا. وقد مضى تفسيره في سورة الحديد. قال زيد بن أسلم : القرض الحسن : النفقة على الأهل ، وقيل : النفقة في الجهاد ، وقيل : هو إخراج الزكاة

__________________

(١). الإسراء : ٧٨.

(٢). الإسراء : ٧٩.

(٣). الإسراء : ٧٩.

٣٨٦

المفترضة على وجه حسن ، فيكون تفسيرا لقوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) والأوّل أولى لقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) فإن ظاهره العموم ، أي : أيّ خير كان ممّا ذكر وممّا لم يذكر (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) مما تؤخّرونه إلى عند الموت ، أو توصون به ليخرج بعد موتكم ، وانتصاب خيرا على أنه ثاني مفعولي تجدوه ، وضمير هو ضمير فصل ، وبالنصب قرأ الجمهور ، وقرأ أبو السّمّال وابن السّميقع بالرفع على أن يكون هو مبتدأ ، وخير خبره ، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي تجدوه ، قال أبو زيد : وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل ، وأنشد سيبويه :

تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها

وكنت عليها بالملاء أنت أقدر

وقرأ الجمهور أيضا : (وَأَعْظَمَ) بالنصب عطفا على خيرا : وقرأ أبو السّمّال وابن السّميقع بالرفع ، كما قرأ برفع (خَيْرٍ) وانتصاب (أَجْراً) على التمييز (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي : اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم ؛ فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : كثير المغفرة لمن استغفره ، كثير الرحمة لمن استرحمه.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال : مائة آية. وأخرج الدار قطني ، والبيهقي في سننه ، وحسّناه ، عن قيس بن أبي حازم قال : «صليت خلف ابن عباس ، فقرأ في أوّل ركعة بالحمد لله ربّ العالمين ، وأوّل آية من البقرة ثم ركع ، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال : إن الله يقول : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)» قال ابن كثير : وهذا حديث غريب جدّا ، لم أره إلّا في معجم الطبراني. وأخرج أحمد ، والبيهقي في سننه ، عن أبي سعيد قال : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر». وقد قدّمنا في البحث الأول من هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل ، فارجع إليه.

* * *

٣٨٧

سورة المدّثّر

وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة المدثر بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وسيأتي أن أوّل هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

قال الواحدي : قال المفسرون : لما بدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي أتاه جبريل ، فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلألئ ، ففزع ووقع مغشيّا عليه ، فلما أفاق دخل على خديجة ودعا بماء فصبّه عليه ، وقال : «دثروني دثروني» فدثروه بقطيفة ، فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ـ قُمْ فَأَنْذِرْ) ومعنى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) : يا أيها الّذي قد تدثّر بثيابه ، أي : تغشّى بها ، وأصله المتدثر ، فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقد قرأ الجمهور بالإدغام ، وقرأ أبيّ «المتدثر» على الأصل ، والدثار : هو ما يلبس فوق الشعار ، والشعار : هو الّذي علي الجسد ، وقال عكرمة : المعنى يا أيها المدّثّر بالنبوّة وأثقالها. قال ابن العربي : وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبيا إذ ذاك. (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي : انهض فخوّف أهل مكة ، وحذّرهم العذاب إن لم يسلموا ، أو قم من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم. وقيل : الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوتّه ، وقيل : إعلامهم بالتوحيد. وقال الفراء : المعنى قم فصّل وأمر بالصلاة (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي : واختصّ سيدك ومالك ومصلح أمورك بالتكبير ، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة ، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار ، وأعظم من أن يكون له صاحبة ، أو ولد. قال ابن العربي : المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام ، ولا يتخذ وليا غيره ، ولا يعبد سواه ، ولا يرى لغيره فعلا إلا له ، ولا نعمة إلا منه. قال الزجاج : إن الفاء في «فكبر» دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في «فأنذر». وقال ابن جني : هو كقولك زيدا فاضرب ، أي : زيدا اضرب ، فالفاء زائدة (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) المراد بها الثياب

٣٨٨

الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي ، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات ، وإزالة ما وقع فيها منها ، وقيل : المراد بالثياب العمل ، وقيل : القلب ، وقيل : النفس ، وقيل : الجسم ، وقيل : الأهل ، وقيل : الدين ، وقيل : الأخلاق. قال مجاهد وابن زيد وأبو رزين : أي عملك فأصلح. وقال قتادة : نفسك فطهّر من الذنب ، والثياب عبارة عن النفس. وقال سعيد بن جبير : قلبك فطهر ، ومن هذا قول امرئ القيس :

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (١)

وقال عكرمة : المعنى البسها على غير غدرة وغير فجرة (٢). وقال : أما سمعت قول الشاعر :

فإنّي بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع

والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي. ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة :

فشككت بالرّمح الطّويل ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم

وقول الآخر (٣) :

ثياب بني عوف طهارى نقيّة (٤)

وقال الحسن والقرظي : إن المعنى : وأخلاقك فطهر ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ، ومنه قول الشاعر :

ويحيى لا يلام بسوء خلق

ويحيى طاهر الأثواب حرّ

وقال الزجاج : المعنى وثيابك فقصر ؛ لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجرّ على الأرض ، وبه قال طاوس ، والأوّل أولى لأنه المعنى الحقيقي. وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق ، وليس في مثل هذا الأصل ، أعني : الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف ، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرجز معناه في اللغة : العذاب ، وفيه لغتان كسر الراء وضمّها ، وسمّي الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنها سبب الرجز. قرأ الجمهور : الرجز بكسر الراء. وقرأ الحسن ومجاهد وعكرمة وحفص وابن محيصن بضمها. وقال مجاهد وعكرمة : الرّجز الأوثان كما في قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) وبه قال ابن زيد. وقال إبراهيم النخعي : الرجز : المأثم ، والهجر : الترك. وقال قتادة : الرجز : إساف ونائلة ، وهما صنمان كانا عند البيت. وقال أبو العالية والربيع والكسائي : الرجز بالضم الوثن وبالكسر العذاب. وقال السدي : الرّجز بضم الراء الوعيد ، والأوّل أولى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قرأ الجمهور (لا تَمْنُنْ) بفك الإدغام ، وقرأ الحسن

__________________

(١). وصدر البيت : وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة.

(٢). «الفجرة» : الكذبة العظيمة.

(٣). هو ابن أبي كبشة ، وينسب لامرئ القيس.

(٤). وعجز البيت : وأوجههم بيض المسافر غرّان.

٣٨٩

وأبو اليمان (١) والأشهب العقيلي بالإدغام ، وقرأ الجمهور : (تَسْتَكْثِرُ) بالرفع على أنه حال ، أي : ولا تمنن حال كونك مستكثرا ، وقيل : على حذف أن ، والأصل : ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت رفع. قال الكسائي : فإذا حذف أن رفع الفعل. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (تَسْتَكْثِرُ) بالنصب ؛ على تقدير أن وبقاء عملها ، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود «ولا تمنن أن تستكثر» بزيادة أن. وقرأ الحسن أيضا وابن أبي عبلة (تَسْتَكْثِرُ) بالجزم على أنه بدل من تمنن كما في قوله : (يَلْقَ أَثاماً ـ يُضاعَفْ لَهُ) (٢) ، وقول الشاعر :

متى تأتنا تلمّم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا

أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف ، كما في قول امرئ القيس :

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما (٣) من الله ولا واغل

بتسكين أشرب. وقد اعترض على هذه القراءة ؛ لأن قوله «تستكثر» لا يصح أن يكون بدلا من «تمنن» ، لأن المنّ غير الاستكثار ، ولا يصح أن يكون جوابا للنهي.

واختلف السلف في معنى الآية ، فقيل : المعنى : لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير ، وقيل : لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها ، قاله عكرمة وقتادة. قال الضحاك : هذا ما حرّمه الله على رسوله ؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق ، وأباحه لأمته. وقال مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولك : «حبل متين» إذا كان ضعيفا. وقال الربيع بن أنس : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير. وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منّة من الله عليك ؛ إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته. وقيل : لا تمنن بالنبوّة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. وقال محمد بن كعب : لا تعط مالك مصانعة. وقال زيد بن أسلم : إذا أعطيت عطية فأعطها لربك. (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي : لوجه ربك فاصبر على طاعته وفرائضه ، والمعنى : لأجل ربك وثوابه. وقال مقاتل ومجاهد : اصبر على الأذى والتكذيب. وقال ابن زيد : حمّلت أمرا عظيما فحاربتك العرب والعجم ؛ فاصبر عليه لله. وقيل : اصبر تحت موارد القضاء لله ، وقيل : فاصبر على البلوى ، وقيل : على الأوامر والنواهي. (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) الناقور : فاعول من النقر ، كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت ، والنقر في كلام العرب : الصوت ، ومنه قول امرئ القيس :

أخفّضه بالنّقر لمّا علوته (٤)

__________________

(١). في تفسير القرطبي : أبو السّمّال.

(٢). الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩.

(٣). «استحقب الإثم» : ارتكبه.

(٤). وعجز البيت : ويرفع طرفا غير خاف غضيض.

٣٩٠

ويقولون : نقّر باسم الرجل إذا دعاه ، والمراد هنا النفخ في الصور ، والمراد النفخة الثانية ، وقيل : الأولى ، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل ، والفاء للسببية ، كأنه قيل : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم ، والعامل في «إذا» ما دلّ عليه قوله : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ـ عَلَى الْكافِرِينَ) فإن معناه عسر الأمر عليهم ، وقيل : العامل فيه ما دلّ علي (فَذلِكَ) لأنه إشارة إلى النقر ، و «يومئذ» بدل من «إذا» ، أو مبتدأ وخبره «يوم عسير» ، والجملة خبر فذلك ، وقيل : هو ظرف للخبر ؛ لأن التقدير وقوع يوم عسير ، وقوله : (غَيْرُ يَسِيرٍ) تأكيد لعسره عليهم ؛ لأن كونه غير يسير قد فهم من قوله : «يوم عسير». (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي : دعني ، وهي كلمة تهديد ووعيد ، والمعنى : دعني والّذي خلقته حال كونه وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد ، هذا على أن «وحيدا» منتصب على الحال من الموصول ، أو من الضمير العائد إليه المحذوف ، ويجوز أن يكون حالا من الياء في «ذرني» ، أي : دعني وحدي معه ، فإني أكفيك في الانتقام منه ، والأوّل أولى. قال المفسرون : وهو الوليد بن المغيرة. قال مقاتل : يقول : خلّ بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته ، وإنما خصّ بالذكر لمزيد كفره وعظيم جحوده لنعم الله عليه ، وقيل : أراد بالوحيد الّذي لا يعرف أبوه ، وكان يقال في الوليد بن المغيرة : إنه دعيّ. (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي : كثيرا ، أو يمدّ بالزيادة والنماء شيئا بعد شيء. قال الزجاج : مالا غير منقطع عنه ، وقد كان الوليد بن المغيرة مشهورا بكثرة المال على اختلاف أنواعه ، قيل : كان يحصل له من غلّة أمواله ألف ألف دينار ، وقيل : أربعة آلاف دينار ، وقيل : ألف دينار. (وَبَنِينَ شُهُوداً) أي : وجعلت له بنين حضورا بمكة معه لا يسافرون ولا يحتاجون إلى التفرّق في طلب الرزق ؛ لكثرة مال أبيهم. قال الضحاك : كانوا سبعة ولدوا بمكة. وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر ولدا. وقال مقاتل : كانوا سبعة كلهم رجال ، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد ، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل : معنى شهودا أنه إذا ذكر ذكروا معه ، وقيل : كانوا يشهدون معه ما كان يشهده ، ويقومون بما كان يباشره. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي : بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش ، والتمهيد عند العرب : التوطئة ، ومنه : مهد الصبيّ. وقال مجاهد : إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي : يطمع بعد هذا كلّه في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم وإشراكه بالله. قال الحسن : ثمّ يطمع أن أدخله الجنة ، وكان يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي. ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال : (كَلَّا) أي : لست أزيده. ثم علّل ذلك بقوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي : معاندا لها كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا. يقال : عند يعند بالكسر إذا خالف الحق وردّه ، وهو يعرفه ، فهو عنيد وعاند ، والعاند : البعير الّذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد ، ومنه قول الحارثيّ :

إذا ركبت فاجعلاني وسطا

إنّي كبير لا أطيق العنّدا

قال أبو صالح : «عنيدا» معناه مباعدا. وقال قتادة : جاحدا ، وقال مقاتل : معرضا. (سَأُرْهِقُهُ

٣٩١

صَعُوداً) أي : سأكلّفه مشقّة من العذاب ، وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الّذي لا يطاق ، وقيل : المعنى : إنه يكلف أن يصعد جبلا من نار ، والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل. وجملة : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) تعليل لما تقدّم من الوعيد ، أي : إنه فكّر في شأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أنزل عليه من القرآن ، وقدّر في نفسه ، أي : هيّأ الكلام في نفسه ، والعرب تقول : هيأت الشيء ؛ إذا قدّرته ، وقدرت الشيء ؛ إذا هيأته ، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه ، وقدّر في نفسه ما يقول ، فذمّه الله وقال : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي : لعن وعذّب كيف قدّر ، أي : على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام ، كما يقال في الكلام : لأضربنه كيف صنع ، أي : على أيّ حال كانت منه ، وقيل : المعنى : قهر وغلب كيف قدّر ، ومنه قول الشاعر (١) :

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي

بسهميك في أعشار قلب مقتّل

وقال الزهري : عذّب ، وهو من باب الدعاء عليه. والتكرير في قوله : (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) للمبالغة والتأكيد (ثُمَّ نَظَرَ) أي : بأيّ شيء يدفع القرآن ويقدح فيه ، أو فكّر في القرآن وتدبّر ما هو (ثُمَّ عَبَسَ) أي : قطّب وجهه لمّا لم يجد مطعنا يطعن به في القرآن ، والعبس : مصدر عبس مخفّفا يعبس عبسا وعبوسا ؛ إذا قطّب ، وقيل : عبس في وجوه المؤمنين ، وقيل : عبس في وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَبَسَرَ) أي : كلح وجهه وتغيّر ، ومنه قول الشاعر (٢) :

صبحنا تميما غداة الجفار

بشهباء ملمومة بأسره (٣)

وقول الآخر (٤) :

وقد رابني منها صدود رأيته

وإعراضها عن حاجتي وبسورها

وقيل : إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة ، وظهور البسور في الوجه قبلها ، والعرب تقول : وجه باسر ؛ إذا تغير واسودّ. وقال الراغب : البسر : استعجال الشرّ قبل أوانه ، نحو بسر الرجل حاجته ، أي : طلبها في غير أوانها. قال : ومنه قوله : (عَبَسَ وَبَسَرَ) أي : أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته ، وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر ، أي : وقف لا يتقدّم ولا يتأخر ، وقد أبسرنا ، أي : صرنا إلى البسور (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي : أعرض عن الحقّ ، وذهب إلى أهله ، وتعظّم عن أن يؤمن ، (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي : يأثره عن غيره ويرويه عنه. والسّحر : إظهار الباطل في صورة الحقّ ، أو

__________________

(١). هو امرؤ القيس.

(٢). هو بشر بن أبي خازم.

(٣). «الجفار» : اسم موضع. «ملمومة» : مجتمعة.

(٤). هو توبة بن الحمير.

٣٩٢

الخديعة ؛ على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة ، يقال : أثرت الحديث آثره ؛ إذا ذكرته عن غيرك ، ومنه قول الأعشى :

إنّ الّذي فيه تماريتما

بيّن للسّامع والآثر

(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) يعني أنه كلام الإنس ، وليس بكلام الله ، وهو تأكيد لما قبله ، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة ، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه. ولما قال هذا القول الّذي حكاه الله عنه قال الله عزوجل : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي : سأدخله النار ، وسقر من أسماء النار ، ومن دركات جهنم ، وقيل : إن هذه الجملة بدل من قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) أي : وما أعلمك أي شيء هي؟ والعرب تقول : وما أدراك ما كذا ؛ إذا أرادوا المبالغة في أمره وتعظيم شأنه وتهويل خطبه ، و «ما» الأولى مبتدأ ، وجملة «ما سقر» خبر المبتدأ. ثم فسّر حالها فقال : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) والجملة مستأنفة لبيان حال سقر ، والكشف عن وصفها ، وقيل : هي في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم ، لأن قوله : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) يدلّ على التعظيم ، فكأنه قال : استعظموا سقر في هذه الحال ، والأوّل أولى ، ومفعول الفعلين محذوف. قال السدّي : لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما. وقال عطاء : لا تبقي من فيها حيّا ولا تذره ميتا ، وقيل : هما لفظان بمعنى واحد ، كرّرا للتأكيد ، كقولك : صدّ عني ، وأعرض عني. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قرأ الجمهور : (لَوَّاحَةٌ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : على أنه نعت لسقر ، والأوّل أولى وقرأ الحسن وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل ، لاح يلوح ، والمعنى : أنها تظهر للبشر. قال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عيانا كقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (١) وقيل : معنى (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي : مغيرة لهم ومسوّدة. قال مجاهد : والعرب تقول : لاحه الحرّ والبرد والسّقم والحزن ؛ إذا غيره ، وهذا أرجح من الأوّل ؛ وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر :

وتعجب هند أن رأتني شاحبا

تقول لشيء لوّحته السّمائم (٢)

أي : غيرته. ومنه قول رؤبة بن العجّاج :

لوّح منه بعد بدن وسنق

تلويحك الضّامر يطوى للسّبق (٣)

__________________

(١). النازعات : ٣٦.

(٢). «السمائم» : جمع سموم ، وهي الريح الحارّة.

(٣). «البدن» : السمن واكتناز اللحم. «السنق» : الشبع حتى يكون كالتخمة. «الضامر» : الفرس. «يطوى» : يجوع.

٣٩٣

وقال الأخفش : المعنى أنها معطّشة للبشر ، وأنشد :

سقتني على لوح من الماء شربة

سقاها به الله الرّهام الغواديا (١)

والمراد بالبشر إما جلدة الإنسان الظاهرة كما قاله الأكثر ، أو المراد به أهل النار من الإنس كما قال الأخفش ، (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال المفسرون : يقول : على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها ، وقيل : تسعة عشر صنفا من أصناف الملائكة ، وقيل : تسعة عشر صفّا من صفوفهم ، وقيل : تسعة عشر نقيبا ، مع كل نقيب جماعة من الملائكة ، والأوّل أولى. قال الثعلبي : ولا ينكر هذا ، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق. قرأ الجمهور : (تِسْعَةَ عَشَرَ) بفتح الشين من عشر. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان بإسكانها.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرّحمن قال : إن أوّل ما نزل من القرآن : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فقال له يحيى بن أبي كثير : يقولون : إن أوّل ما نزل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (٢) فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، قلت له مثل ما قلت ، فقال جابر : لا أحدّثنك إلا ما حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاورت بحراء ؛ فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثيت منه رعبا ، فرجعت فقلت : دثّروني فدثّروني ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إلى قوله : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أوّل سورة أنزلت ، والجمع ممكن. وأخرج الحاكم وصحّحه ؛ عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فقال : دثر هذا الأمر ، فقم به. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فقال : النائم (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال : الأصنام (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال : لا تعط تلتمس بها أفضل منها. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عنه أيضا (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : من الإثم. قال : وهي في كلام العرب نقيّ الثياب. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : من الغدر ، لا تكن غدّارا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضا أنه سئل عن قوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : لا تلبسها على غدرة ، ثم قال : ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة :

فإنّي بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع

__________________

(١). «اللوح» : شدة العطش. «الرهام» : جمع رهمة وهي المطرة الضعيفة.

(٢). العلق : ١.

٣٩٤

وأخرج الطبراني ، والبيهقي في سننه ، عنه أيضا : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال : لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال : الصور (يَوْمٌ عَسِيرٌ) قال : شديد. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) قال الوليد بن المغيرة. وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل ، عنه أيضا : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، وأنك كاره له ، قال : وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه هذا الّذي يقول شيئا من هذا ، والله إن لقوله الّذي يقول لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ؛ قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكّر ، فلما فكّر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً). وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلا ، وكذا أخرجه ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر وغير واحد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) قال : غلة شهر بشهر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) قال : ألف دينار. وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال : هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه ، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت ، فإذا رفعوها عادت كما كانت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (عَنِيداً) قال : جحودا. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصعود جبل في النار ؛ يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبدا». قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن درّاج. قال ابن كثير : وفيه غرابة ونكارة ، انتهى. وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (صَعُوداً) صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه. وأخرج ابن المنذر عنه قال : جبل في النار. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) قال : لا تبقي منهم شيئا ، وإذا بدّلوا خلقا آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأوّل. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال : تلوح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه ، فيصير أسود من الليل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (لَوَّاحَةٌ) قال : محرقة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن البراء : أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خزنة جهنم ، فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء جبريل ، فأخبر النبيّ ، فنزلت عليه ساعتئذ (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ).

٣٩٥

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

لما نزل قوله سبحانه : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال أبو جهل : أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر يخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدّهم (١) ، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجون من النار؟ فقال أبو الأشدّ ، وهو رجل من بني جمح : يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة ، فأنا أمشي بين أيديكم ، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر ونمضي ندخل الجنة ، فأنزل الله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) يعني : ما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة ، فمن يطيق الملائكة؟ ومن يغلبهم؟ فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم؟ وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجنّ والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة ، وقيل : لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له ، وأشدهم بأسا وأقواهم بطشا (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) أي : ضلالة (لِلَّذِينَ) استقلوا عددهم ، ومحنة لهم ، والمعنى : ما جعلنا عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلا ضلالة ومحنة لهم ، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم ، ويكثر غضب الله عليهم. وقيل : معنى إلا فتنة إلا عذابا ؛ كما في قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (٢) أي : يعذبون ، واللام في قوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) متعلّق بجعلنا ، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم. قاله قتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم ، والمعنى : أن الله جعل عدّة الخزنة هذه العدّة ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) وقيل : المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وقيل : أراد بالذين آمنوا : المؤمنين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : ليزدادوا يقينا إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم ، وجملة : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) مقرّرة لما تقدّم من الاستيقان وازدياد الإيمان ، والمعنى : نفي الارتياب عنهم في الدين ، أو : في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر ، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين ، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) المراد بالذين في قلوبهم مرض هم المنافقون ، والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق ، فهو إخبار بما سيكون في المدينة ، أو المراد بالمرض مجرّد حصول الشكّ والريب ، وهو كائن في الكفار. قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ، فالمرض في هذه الآية الخلاف ، والمراد بقوله : (وَالْكافِرُونَ) كفار العرب من أهل

__________________

(١). «الدهم» : العدد الكثير.

(٢). الذاريات : ١٣.

٣٩٦

مكة وغيرهم ، ومعنى (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل. قال الليث : المثل : الحديث ، ومنه قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (١) أي : حديثها والخبر عنها (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) أي : مثل ذلك الإضلال المتقدّم ذكره ، وهو قوله : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) من عباده ، والكاف نعت مصدر محذوف (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من عباده ، والمعنى : مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضلّ الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. وقيل : المعنى : كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء ويهدي إليها من يشاء (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي : ما يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم إلا هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد. وقال عطاء : يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدّتهم إلا الله ، والمعنى : أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه. ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي : وما سقر وما ذكر من عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للعالم ، وقيل : (وَما هِيَ) أي : الدلائل والحجج والقرآن إلا تذكرة للبشر. وقال الزجاج : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة ، وهو بعيد. وقيل : ما هي أي عدّة خزنة جهنم إلا تذكرة للبشر ؛ ليعلموا كمال قدرة الله وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار. وقيل : الضمير في (وَما هِيَ) يرجع إلى الجنود. ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال : (كَلَّا وَالْقَمَرِ) قال الفراء : كلا صلة للقسم. التقدير : أي والقمر ، وقيل : المعنى : حقا والقمر. قال ابن جرير : والمعنى ردّ زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم ، أي : ليس الأمر كما يقول ، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده ، وهذا هو الظاهر من معنى الآية (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) أي ولى. قرأ الجمهور : إذا بزيادة الألف ، دبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان ، وقرأ نافع وحفص وحمزة : (إِذْ) بدون ألف ، أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ، ودبر وأدبر لغتان ، كما يقال : أقبل ، وقبل الزمان ، يقال : دبر الليل وأدبر ؛ إذا تولى ذاهبا (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي : أضاء وتبين (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) هذا جواب القسم ، والضمير راجع إلى سقر ، أي : إنّ سقر لإحدى الدواهي أو البلايا الكبر ، والكبر : جمع كبرى ، وقال مقاتل : إن الكبر اسم من أسماء النار ، وقيل : إنها : أي : تكذيبهم لمحمد لإحدى الكبر ، وقيل : إن قيام الساعة لإحدى الكبر ، ومنه قول الشاعر :

يا ابن المعلّى نزلت إحدى الكبر

داهية الدّهر وصمّاء الغير

قرأ الجمهور : (لَإِحْدَى) بالهمزة ، وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن وابن كثير في رواية عنه : إنها لحدي بدون همزة. وقال الكلبي : أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) انتصاب نذيرا على الحال من الضمير في إنها ، قاله الزجاج. وروي عنه وعن الكسائي وأبي عليّ الفارسي أنه حال من قوله : (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي : قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيرا للبشر. وقال الفراء : هو مصدر بمعنى الإنذار

__________________

(١). الرعد : ٣٥.

٣٩٧

منصوب بفعل مقدّر ، وقيل : إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التعظم ؛ كأنه قيل : أعظم الكبر إنذارا ، وقيل : إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أوّل السورة ، وقيل : منصوب بإضمار أعني ، وقيل : منصوب بتقدير : ادع ، وقيل : منصوب بتقدير : ناد أو بلغ ، وقيل : إنه مفعول لأجله ، والتقدير : وإنها لإحدى الكبر لأجل إنذار البشر. قرأ الجمهور بالنصب ، وقرأ أبيّ بن كعب وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي نذير ، أو هو نذير.

وقد اختلف في النذير ، فقال الحسن : هي النار ، وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو رزين : المعنى أنا نذير لكم منها ، وقيل : القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) هو بدل من قوله للبشر ، أي : نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى الطاعة أو يتأخر عنها ، والمعنى : أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر ، وقيل : فاعل المشيئة هو الله سبحانه ، أي : لمن شاء أن يتقدّم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر ، والأوّل أولى. وقال السدّي : لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخّر إلى الجنة.

وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما سمع أبو جهل (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ). قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم (١) ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟. وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال : قال أبو الأشدّ : خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤونتهم ، قال : وحدّثت أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف خزّان جهنم فقال : «كأن أعينهم البرق ، وكأن أفواههم الصّياصي ، يجرّون أشعارهم ، لهم مثل قوّة الثقلين ، يقبل أحدهم بالأمّة من الناس يسوقهم وعلى رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم». وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّثهم عن ليلة أسرى به قال : «فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا ، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ، وتلا هذه الآية : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)». وأخرج أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطّت السماء وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع إصبع إلا عليه ملك ساجد». وأخرجه الترمذي وابن ماجة. قال الترمذي : حسن غريب ، ويروى عن أبي ذرّ موقوفا.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (إِذْ أَدْبَرَ) قال : دبور ظلامه. وأخرج مسدّد في مسنده وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : سألت ابن عباس عن قوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ناداني : يا مجاهد هذا حين دبر الليل. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) قال : من شاء اتبع طاعة الله ، ومن شاء تأخّر عنها.

__________________

(١). «الدهم» : أي العدد الكثير والشجعان.

٣٩٨

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي : مأخوذة بعملها ومرتهنة به ، إما خلّصها وإما أوبقها ، والرهينة : اسم بمعنى الرهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وليست صفة ، ولو كانت صفة لقيل : رهين ؛ لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والمعنى : كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم ، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم.

واختلف في تعيينهم ، فقيل : هم الملائكة ، وقيل : المؤمنون ، وقيل : أولاد المسلمين ، وقيل : الذين كانوا عن يمين آدم ، وقيل : أصحاب الحقّ ، وقيل : هم المعتمدون على الفضل دون العمل ، وقيل : هم الذين اختارهم الله لخدمته ، (فِي جَنَّاتٍ) هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة استئناف جوابا عن سؤال نشأ مما قبله ، ويجوز أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين ، وأن يكون حالا من فاعل يتساءلون ، وأن يكون ظرفا ليتساءلون ، وقوله : (يَتَساءَلُونَ) يجوز أن يكون على بابه ، أي : يسأل بعضهم بعضا ، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون ، أي : يسألون غيرهم ، نحو دعيته وتداعيته ، فعلى الوجه الأوّل يكون (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) متعلقا بيتساءلون ، أي : يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين ، وعلى الوجه الثاني تكون عن زائدة ، أي : يسألون المجرمين ، وقوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) هو على تقدير القول ، أي : يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم : ما سلككم في سقر ، أو يسألونهم قائلين لهم : ما سلككم في سقر ، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال ، والمعنى : ما أدخلكم في سقر ، تقول : سلكت الخيط في كذا ؛ إذا دخلته فيه. قال الكلبي : يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه ، فيقول له : يا فلان ما سلكك في النار؟ وقيل : إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم : ما سلككم في سقر؟ قال الفراء : في هذا ما يقوّي أن أصحاب اليمين هم الولدان ؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي : من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي : لم نتصدّق على المساكين ، قيل : وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة ؛ لأنه لا تعذيب على غير الواجب ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات ، (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي : نخالط أهل الباطل في باطلهم. قال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه. وقال السدّي : كنا نكذّب مع المكذّبين. وقال ابن زيد : نخوض مع الخائصين في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قولهم : كاذب ، مجنون ، ساحر ، شاعر (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي : بيوم الجزاء والحساب

٣٩٩

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) وهو الموت ، كما في قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١).

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي : شفاعة الملائكة والنبيين كما تنفع الصالحين (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) التذكرة : التذكير بمواعظ القرآن ، والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها ، وانتصاب معرضين على الحال من الضمير في متعلق الجارّ والمجرور ، أي : أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الّذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى. ثم شبّههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل ، ومعنى مستنفرة : نافرة ، يقال : نفر واستنفر ، مثل عجب واستعجب ، والمراد : الحمر الوحشية. قرأ الجمهور : (مُسْتَنْفِرَةٌ) بكسر الفاء ، أي : نافرة ، وقرأ نافع وابن عامر بفتحها ، أي : منفرة مذعورة ، واختار القراءة الثانية أبو حاتم وأبو عبيد. قال في الكشاف : المستنفرة : الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له ، وحملها عليه (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي : من رماة يرمونها ، والقسور : الرامي ، وجمعه قسورة قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن كيسان ، وقيل : هو الأسد ، قاله عطاء والكلبي. قال ابن عرفة من القسر بمعنى القهر ؛ لأنه يقهر السباع ، وقيل : القسورة : أصوات الناس ، وقيل : القسورة بلسان العرب : الأسد ، وبلسان الحبشة : الرماة. وقال ابن الأعرابي : القسورة : أوّل الليل ، أي : فرّت من ظلمة الليل ، وبه قال عكرمة ، والأوّل أولى ، وكلّ شديد عند العرب فهو قسورة ، ومنه قول الشاعر :

يا بنت كوني خيرة لخيّره

أخوالها الجنّ وأهل القسورة

ومنه قول لبيد :

إذا ما هتفنا هتفة في نديّنا

أتانا الرّجال العابدون القساور

ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر :

مضمّر تحذره الأبطال

كأنّه القسور الرّهال

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) عطف على مقدر يقتضيه المقام ، كأنه قيل : لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد ... قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله. والصحف : الكتب ، واحدتها صحيفة ، والمنشرة : المنشورة المفتوحة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (٢) قرأ الجمهور : (مُنَشَّرَةً) بالتشديد. وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف. وقرأ الجمهور : أيضا بضم الحاء من صحف. وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها. ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ

__________________

(١). الحجر : ٩٩.

(٢). الإسراء : ٩٣.

٤٠٠