فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

سورة الصّفّ

وهي مدنية. قال الماوردي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الصف بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة الصفّ بمكة ، ولعل هذا لا يصحّ عنه. ويؤيد كونها مدنية ما أخرجه أحمد عن عبد الله ابن سلام قال : تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسأله : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا رجلا رجلا فجمعنا ، فقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها ، وأخرجه ابن أبي حاتم ، وقال في آخره : فنزلت فيهم هذه السورة. وأخرجه أيضا الترمذي وابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، والبيهقي في الشعب والسنن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قد تقدّم الكلام على هذا ، ووجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة ، وفي بعضها بلفظ المضارع ، وفي بعضها بلفظ الأمر : الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها ، وقد قدّمنا نحو هذا في أوّل سورة الحديد (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : الغالب الّذي لا يغالب ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي : لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه ، و «لم» مركبة من اللام الجارّة ، وما الاستفهامية ، وحذفت ألفها تخفيفا لكثرة استعمالها كما في نظائرها ، ثم ذمّهم سبحانه على ذلك فقال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي : عظم ذلك في المقت ، وهو البغض ، والمقت

٢٦١

والمقاتة مصدران ، يقال : رجل مقيت وممقوت ؛ إذا لم يحبه الناس. قال الكسائي : (أَنْ تَقُولُوا) في موضع رفع ، لأن «كبر» فعل بمعنى بئس ، و «مقتا» منتصب على التمييز ، وعلى هذا فيكون في كبر ضمير مبهم مفسّر بالنكرة ، وأن «تقولوا» هو المخصوص بالذم ، ويجيء فيه الخلاف هل رفعه بالابتداء ، وخبره الجملة المتقدمة عليه ، أو خبره محذوف أو هو خبر مبتدأ محذوف. وقيل : إنه قصد بقوله كبر التعجب ، وقد عدّه ابن عصفور من أفعال التعجب. وقيل : إنه ليس من أفعال الذم ولا من أفعال التعجب ، بل هو مسند إلى «أن تقولوا» ، و «مقتا» تمييز محوّل عن الفاعل. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا : وددنا أن الله يخبرنا بأحبّ الأعمال إليه حتى نعمله ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا. فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ) الآية ، وانتصاب «صفا» على المصدرية ، والمفعول محذوف ، أي : يصفون أنفسهم صفا ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، أي : صافّين أو مصفوفين. قرأ الجمهور : (يُقاتِلُونَ) على البناء للفاعل. وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول ، وقرئ «يقتلون» بالتشديد ، وجملة (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) في محل نصب على الحال من فاعل يقاتلون ، أو من الضمير في «صفا» على تقدير أنه مؤوّل بصافين أو مصفوفين ، ومعنى مرصوص : ملتصق بعضه ببعض ، يقال : رصصت البناء أرصّه رصّا ؛ إذا ضممت بعضه إلى بعض. قال الفرّاء : مرصوص بالرصاص. قال المبرد : هو مأخوذ من رصصت البناء ؛ إذا لاءمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة ، وقيل : هو من الرّصيص ، وهو ضمّ الأشياء بعضها إلى بعض ، والتراصّ : التلاصق. (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) لما ذكر سبحانه أنه يحبّ المقاتلين في سبيله بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد ، وجاهدا في سبيل الله ، وحلّ العقاب بمن خالفهما ، والظرف متعلّق بمحذوف هو اذكر ، وأي : اذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى ، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) هذا مقول القول ، أي : لم تؤذونني بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم ، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص ، ومن ذلك رميه بالأدرة ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الأحزاب ، وجملة (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) في محل نصب على الحال ، و (قد) لتحقّق العلم أو لتأكيده ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار ، والمعنى : كيف تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله ، والرسول يحترم ويعظم ، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي ، وتفيدكم العلم بها علما يقينيا (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي : لما أصرّوا على الزيغ ، واستمرّوا عليه ، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ؛ وصرفها عن قبول الحقّ ، وقيل : فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب. قال مقاتل : لما عدلوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه ، يعني أنهم لما تركوا الحقّ بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء بما ارتكبوا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها. قال الزجاج : لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق ، والمعنى : أنه لا يهدي كل متّصف بالفسق وهؤلاء من جملتهم (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) معطوف على (وَإِذْ قالَ مُوسى) معمول لعامله ، أو

٢٦٢

معمول لعامل مقدّر معطوف على عامل الظرف الأوّل (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي : إني رسول الله إليكم بالإنجيل مصدّقا لما بين يديّ من التوراة لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة ، بل هي مشتملة على التبشير بي ، فكيف تنفرون عني وتخالفونني ، وانتصاب مصدّقا على الحال ، (وَ) كذا (مُبَشِّراً) ، والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال ، والمعنى : أني أرسلت إليكم حال كوني مصدّقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا بمن يأتي بعدي ، وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير فلا مقتضى لتكذيبي ، وأحمد اسم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو علم منقول من الصفة ، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل ، فيكون معناها أنه أكثر حمدا لله من غيره ، أو من المفعول فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره ، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والسلمي وزرّ بن حبيش وأبو بكر عن عاصم (مِنْ بَعْدِي) بفتح الياء. وقرأ الباقون بإسكانها (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الّذي جاءنا به سحر واضح ظاهر ، وقيل : المراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لما جاءهم بذلك قالوا هذه المقالة ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور : (سِحْرٌ) وقرأ حمزة والكسائي : «ساحر». (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أي : لا أحد أكثر ظلما منه حيث يفتري على الله الكذب ، والحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الّذي هو خير الأديان وأشرفها ؛ لأن من كان كذلك فحقّه أن لا يفتري على غيره الكذب ، فكيف يفتريه على ربّه. قرأ الجمهور : (وَهُوَ يُدْعى) من الدعاء مبنيا للمفعول. وقرأ طلحة ابن مصرّف (يُدْعى) بفتح الياء وتشديد الدال من الادّعاء مبنيا للفاعل ، وإنما عدّي بإلى لأنه ضمّن معنى الانتماء والانتساب (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها. والمعنى : لا يهدي من اتصف بالظلم ، والمذكورون من جملتهم (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) الإطفاء : الإخماد ، وأصله في النار ، واستعير لما يجري مجراها من الظهور. والمراد بنور الله القرآن ، أي : يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول ، أو الإسلام ، أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الحجج والدلائل ، أو جميع ما ذكر ، ومعنى بأفواههم : بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) بإظهاره في الآفاق وإعلائه على غيره. قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (مُتِمُّ نُورِهِ) بالإضافة والباقون بتنوين متمّ (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك فإنه كائن لا محالة ، والجملة في محل نصب على الحال. قال ابن عطية : واللام في «ليطفئوا» لام مؤكّدة دخلت على المفعول ؛ لأن التقدير : يريدون أن يطفئوا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدّم ، كقولك : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصدت ، وقيل : هي لام العلة ، والمفعول محذوف ، أي : يريدون إبطال القرآن أو دفع الإسلام أو هلاك الرسول ليطفئوا ، وقيل : إنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة بنفسها. قال الفراء : العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر ، وإليه ذهب الكسائي ، ومثل هذا قوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (١) وجملة : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، والهدى : القرآن أو المعجزات ، ومعنى دين الحق : الملّة الحقة ، وهي

__________________

(١). النساء : ٢٦.

٢٦٣

ملّة الإسلام ؛ ومعنى ليظهره : ليجعله ظاهرا على جميع الأديان ، عاليا عليها غالبا لها ، ولو كره المشركون ذلك فإنه كائن لا محالة. قال مجاهد : ذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام ، والدّين مصدر يعبّر به عن الأديان المتعدّدة ، وجواب «لو» في الموضعين محذوف ، والتقدير : أتمه وأظهره.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : وددنا لو أن الله أخبرنا بأحبّ الأعمال فنعمل به ، فأخبر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أحبّ الأعمال إيمان بالله لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشقّ عليهم أمره ، فقال الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ). وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قال : هذه الآية في القتال وحده ، وهم قوم كانوا يأتون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول الرجل : قاتلت وضربت بسيفي ولم يفعلوا ، فنزلت. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عنه أيضا قال : قالوا لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لفعلناه ، فأخبرهم الله فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) فكرهوا ذلك ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قال : مثبت لا يزول ملصق بعضه على بعض. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الّذي يحشر الله الناس على قدمي ، وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب : والعاقب الّذي ليس بعده نبيّ».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) جعل العمل المذكور بمنزلة التجارة لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها ، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار. قرأ الجمهور : (تُنْجِيكُمْ) بالتخفيف من الإنجاء. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حيوة بالتشديد من التنجية. ثم بيّن سبحانه هذه التجارة التي دلّ عليها فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وهو خبر في معنى الأمر للإيذان بوجوب الامتثال ، فكأنه قد وقع فأخبر بوقوعه ، وقدّم ذكر الأموال على الأنفس لأنها

٢٦٤

هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهّز إلى الجهاد. قرأ الجمهور : (تُؤْمِنُونَ) وقرأ ابن مسعود : «آمنوا وجاهدوا» على الأمر. قال الأخفش : تؤمنون عطف بيان لتجارة ، والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد ، وهو مبتدأ وخبره (خَيْرٌ لَكُمْ) أي : هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : إن كنتم ممن يعلم فإنكم تعلمون أنه خير لكم ، لا إذا كنتم من أهل الجهل فإنكم لا تعلمون ذلك (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر ، ولهذا جزم. قال الزجاج والمبرد : قوله : (تُؤْمِنُونَ) في معنى آمنوا ، ولذلك جاء يغفر لكم مجزوما. وقال الفرّاء : يغفر لكم جواب الاستفهام فجعله مجزوما لكونه جواب الاستفهام ، وقد غلّطه بعض أهل العلم. قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقال الرازي في توجيه قول الفراء : إن «هل أدلكم» في معنى الأمر عنده ، يقال : هل أنت ساكت؟ أي : اسكت ، وبيانه أن هل بمعنى الاستفهام ، ثم يتدرّج إلى أن يصير عرضا وحثا ، والحثّ كالإغراء ، والإغراء أمر. وقرأ زيد بن عليّ : «تؤمنوا ، وتجاهدوا» على إضمار لام الأمر. وقيل : إن (يَغْفِرْ لَكُمْ) مجزوم بشرط مقدّر ، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم ، وقرأ بعضهم بالإدغام في يغفر لكم ، والأولى ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرّر فلا يحسن إدغامه في اللام (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد تقدّم بيان كيفية جري الأنهار من تحت الجنات (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي : في جنات إقامة (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : ذلك المذكور من المغفرة ، وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو الفوز الّذي لا فوز بعده ، والظفر الّذي لا ظفر يماثله (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) ، قال الأخفش والفرّاء : «أخرى» معطوفة على «تجارة» فهي في محل خفض ، أي : وهل أدلّكم على خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة ، وقيل : هي في محل رفع ، أي : ولكم خصلة أخرى ، وقيل : في محل نصب ، أي : ويعطيكم خصلة أخرى. ثم بيّن سبحانه هذه الأخرى فقال : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي : هي نصر من الله لكم ، وفتح قريب يفتحه عليكم ، وقيل : نصر بدل من أخرى على تقدير كونها في محلّ رفع ، وقيل : التقدير : ولكم نصر وفتح قريب. قال الكلبي : يعني النصر على قريش وفتح مكة. وقال عطاء : يريد فتح فارس والروم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) معطوف على محذوف ، أي : قل يا أيها الذين آمنوا وبشر ، أو على تؤمنون لأنه في معنى الأمر ، والمعنى : وبشر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح ، أو بشرهم بالنصر في الدنيا والفتح ، وبالجنة في الآخرة ، أو وبشرهم بالجنة في الآخرة. ثم حضّ سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) أي : دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع (أَنْصارَ اللهِ) بالتنوين وترك الإضافة. وقرأ الباقون بالإضافة ، والرسم يحتمل القراءتين معا ، واختار أبو عبيد قراءة الإضافة لقوله : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) بالإضافة (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) فقالوا : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والكاف في (كَما قالَ) نعت مصدر محذوف تقديره : كونوا كونا كما قال ، وقيل : الكاف في محل نصب على إضمار الفعل ،

٢٦٥

وقيل : هو كلام محمول على معناه دون لفظه ، والمعنى : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله وقوله : (إِلَى اللهِ) قيل : إلى بمعنى مع ، أي من أنصاري مع الله ، وقيل التقدير : من أنصاري فيما يقرّب إلى الله. وقيل : التقدير : من أنصاري متوجّها إلى نصرة الله ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة آل عمران. والحواريون : هم أنصار المسيح وخلّص أصحابه ، وأوّل من آمن به ، وقد تقدّم بيانهم (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أي آمنت طائفة بعيسى وكفرت به طائفة ، وذلك لأنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرّقوا وتقاتلوا (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أي : قوينا المحقين منهم على المبطلين (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي : عالين غالبين ، وقيل المعنى : فأيّدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعا.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قالوا : لو كنّا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فكرهوا فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) إلى قوله : (بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (١). وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) قال : قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلا فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه. وأخرج ابن إسحاق وابن سعد عن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة : «أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم». وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنقباء : «إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل قومي ، قالوا : نعم». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) قال : فقوينا الذين آمنوا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته على عدوّهم (فَأَصْبَحُوا) اليوم (ظاهِرِينَ).

* * *

__________________

(١). الصف : ٢ ـ ٤.

٢٦٦

سورة الجمعة

وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : نزلت سورة الجمعة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج مسلم وأهل السنن عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الجمعة سورة الجمعة و (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ). وأخرج مسلم وأهل السنن عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن حبان ، والبيهقي في سننه ، عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة ب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ، ليلة الجمعة ، سورة الجمعة والمنافقون.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

قوله : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قد تقدم تفسير هذا في أوّل سورة الحديد ، وما بعدها من المسبّحات (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) قرأ الجمهور بالجرّ في هذه الصفات الأربع على أنها نعت لله ، وقيل : على البدل ، والأوّل أولى. وقرأ أبو وائل بن محارب وأبو العالية ونصر بن عاصم ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ. وقرأ الجمهور : (الْقُدُّوسِ) بضم القاف ، وقرأ زيد بن علي بفتحها ، وقد تقدم تفسيره. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) المراد بالأميين العرب ، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها ، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب ، والأميّ في الأصل الّذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب ، وكان غالب العرب كذلك ، وقد مضى بيان معنى الأميّ في سورة البقرة ، ومعنى (مِنْهُمْ) من أنفسهم ومن جنسهم ومن جملتهم ، وما كان حيّ من أحياء العرب إلا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم قرابة ، ووجه الامتنان بكونه

٢٦٧

منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة ، لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعني القرآن مع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلّم ذلك من أحد ، والجملة صفة ل «رسولا» ، وكذا قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ) قال ابن جريج ومقاتل : أي يطهرهم من دنس الكفر والذنوب ، وقال السدّي : يأخذ زكاة أموالهم ، وقيل : يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) هذه صفة ثالثة ل «رسولا» ، والمراد بالكتاب : القرآن ، وبالحكمة : السّنّة ، كذا قال الحسن. وقيل : الكتاب : الخط بالقلم ، والحكمة : الفقه في الدين ، كذا قال مالك بن أنس (١) (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : وإن كانوا من قبل بعثته فيهم في شرك وذهاب عن الحق (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) معطوف على الأميين ، أي : بعث في الأميين ، وبعث في آخرين منهم (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ذلك الوقت ، وسيلحقون بهم من بعد ، أو هو معطوف على المفعول الأوّل في «يعلمهم» ، أي : ويعلم آخرين ، أو على مفعول «يزكيهم» أي : يزكّيهم ويزكّي آخرين منهم ، والمراد بالآخرين من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، وقيل : المراد بهم من أسلم من غير العرب. وقال عكرمة : هم التابعون. وقال مجاهد : هم الناس كلهم ، وكذا قال ابن زيد والسدّي. وجملة : (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) صفة لآخرين ، والضمير في «منهم» و «بهم» راجع إلى الأميين ، وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان مرسلا إلى جميع الثقلين ، فتخصيص العرب ها هنا لقصد الامتنان عليهم ، وذلك لا ينافي عموم الرسالة ، ويجوز أن يراد بالآخرين العجم ؛ لأنهم وإن لم يكونوا من العرب ، فقد صاروا بالإسلام منهم والمسلمون كلهم أمة واحدة ، وإن اختلفت أجناسهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : بليغ العزة والحكمة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره. وقال الكلبي : يعني الإسلام. وقال قتادة : يعني الوحي والنبوّة. وقيل : إلحاق العجم بالعرب ، وهو مبتدأ وخبره (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي : يعطيه من يشاء من عباده (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الّذي لا يساويه فضل ولا يدانيه (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي : كلّفوا القيام بها والعمل بها فيها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي : لم يعملوا بموجبها ، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) هي جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير ، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل (٢) ؛ فهكذا اليهود. وقال الجرجاني : هو يعني حملوا من الحمالة بمعنى الكفالة ، أي : ضمّنوا أحكام التوراة ، وقوله : يحمل في محل نصب على الحال ، أو صفة للحمار إذ ليس المراد به حمارا معينا ، فهو في حكم النكرة ، كما في قول الشاعر :

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّ قلت : لا يعنيني

__________________

(١). في تفسير القرطبي (١٨ / ٩٢) : أن تفسير الكتاب بالخط بالقلم هو قول ابن عباس ، وأن تفسير الحكمة بالفقه في الدّين من قول مالك بن أنس.

(٢). «الزبيل» : الزّبل والقفّة.

٢٦٨

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي : بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، على أن التمييز محذوف ، والفاعل المفسّر به مضمر ، ومثل القوم هو المخصوص بالذّمّ ، أو مثل القوم فاعل بئس ، والمخصوص بالذمّ الموصول بعده على حذف مضاف ، أي : مثل الذين كذبوا ، ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم ، فيكون في محل جرّ ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، والتقدير بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني على العموم ، فيدخل فيهم اليهود دخولا أوّليا (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) المراد بالذين هادوا الذين تهوّدوا ، وذلك أن اليهود ادّعوا الفضيلة على الناس ، وأنهم أولياء الله من دون الناس ، كما في قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١) وقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢) فأمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم لما ادّعوا هذه الدعوى الباطلة : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذا الزعم ، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحبّ الخلوص من هذه الدار. قرأ الجمهور : (فَتَمَنَّوُا) بضم الواو ، وقرأ ابن السميقع بفتحها تخفيفا ، وحكى الكسائي إبدال الواو همزة. ثم أخبر الله سبحانه أنهم لا يفعلون ذلك أبدا بسبب ذنوبهم ، فقال : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي والتحريف والتبديل (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) يعني على العموم ، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولا أوّليا. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم بأن الفرار من الموت لا ينجيهم وأنه نازل بهم ، فقال : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لا محالة ، ونازل بكم بلا شك ، والفاء في قوله : (فَإِنَّهُ) داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط ، قال الزجاج : لا يقال إن زيدا فمنطلق ، وها هنا قال : «فإنه ملاقيكم» لما في معنى «الّذي» من الشرط والجزاء ، أي : إن فررتم منه فإنه ملاقيكم ، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. وقيل : إنها مزيدة ، وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : (تَفِرُّونَ مِنْهُ) ثم ابتدأ فقال : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ). (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وذلك يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الأعمال القبيحة ويجازيكم عليها.

وقد أخرج ابن المنذر والحاكم ، والبيهقي في الشعب ، عن عطاء بن السائب عن ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أوّل سورة الجمعة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب». وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : «كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزلت سورة الجمعة فتلاها ، فلما بلغ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي وقال : والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء». وأخرجه أيضا مسلم من حديثه مرفوعا بلفظ : «لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال

__________________

(١). المائدة : ١٨.

(٢). البقرة : ١١١.

٢٦٩

من فارس ، أو قال من أبناء فارس». وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس». وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالا ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب ، ثم قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) قال : الدّين. وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) قال : اليهود. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (أَسْفاراً) قال : كتبا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أي : وقع النداء لها ، والمراد به الأذان إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة ، لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نداء سواه ، وقوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان لإذا وتفسير لها. وقال أبو البقاء : إن «من» بمعنى «في» ، كما في قوله : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) (١) أي في الأرض. قرأ الجمهور : «الجمعة» بضم الميم. وقرأ عبد الله بن الزبير والأعمش بإسكانها تخفيفا. وهما لغتان ، وجمعها جمع وجمعات. قال الفراء : يقال الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها. وهي صفة لليوم ، أي : يوم يجمع الناس ، قال الفراء أيضا وأبو عبيد : والتخفيف أخفّ وأقيس ، نحو : غرفة وغرف ، وطرفة وطرف ، وحجرة وحجر. وفتح الميم لغة عقيل. وقيل : إنما سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم ، وقيل : لأن الله فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمعت فيها جميع المخلوقات ، وقيل : لاجتماع الناس فيها للصلاة (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال عطاء : يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة. وقال الفراء : المضي والسعي والذهاب في معنى واحد ، ويدلّ على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود فامضوا إلى ذكر الله وقيل : المراد القصد. قال الحسن : والله ما هو بسعي على الأقدام ، ولكنه قصد بالقلوب والنيات ، وقيل : هو العمل كقوله : (مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (٢) وقوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٣) وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٤) قال القرطبي : وهذا قول الجمهور ، ومنه قول زهير :

__________________

(١). فاطر : ٤٠ والأحقاف : ٤.

(٢). الإسراء : ١٩.

(٣). الليل : ٨٤.

(٤). النجم : ٣٩.

٢٧٠

سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم (١)

وقال أيضا :

سعى ساعيا غيظ بن مرّة بعد ما

تبزّل ما بين العشيرة بالدّم (٢)

أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله ، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه ، ويؤيد هذا القول قول الشاعر :

أسعى على جلّ بني مالك

كلّ امرئ في شأنه ساعي

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي : اتركوا المعاملة به ويلحق به سائر المعاملات. قال الحسن : إذا أذّن المؤذن يوم الجمعة لم يحلّ الشراء والبيع ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى السعي إلى ذكر الله وترك البيع ، وهو مبتدأ وخبره (خَيْرٌ لَكُمْ) أي : خير لكم من فعل البيع وترك السعي ، لما في الامتثال من الأجر والجزاء. وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجبا للعقوبة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : إن كنتم من أهل العلم ، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي : إذا فعلتم الصلاة وأدّيتموها وفرغتم منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) للتجارة والتصرف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : من رزقه الّذي يتفضّل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب ، وقيل : المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر بعمل الطاعات واجتناب ما لا يحلّ (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي : ذكرا كثيرا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيويّ ، وكذا اذكروه بما يقرّبكم إليه من الأذكار ، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة ، فأقبلت عير (٣) من الشام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا في المسجد. ومعنى : «انفضّوا إليها» تفرّقوا خارجين إليها. وقال المبرد : مالوا إليها ، والضمير للتجارة ، وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو لأنها كانت أهمّ عندهم ، وقيل : التقدير : وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه ، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه كما في قول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

وقيل : إنه اقتصر على ضمير التجارة ؛ لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموما مع الحاجة إليها فكيف

__________________

(١). وعجزه : فلم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا.

(٢). «غيظ بن مرة» : حيّ من غطفان بن سعد. «تبزّل بالدم» : أي تشقّق.

(٣). «العير» : الإبل تحمل الطعام ، ثم غلب على كل قافلة.

٢٧١

بالانفضاض إلى اللهو ، وقيل غير ذلك : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي : على المنبر ، ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا ، فقال : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) يعني من الجزاء العظيم وهو الجنة (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) اللذين ذهبتم إليهما وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجلها (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فمنه اطلبوا الرزق ، وإليه توسّلوا بعمل الطاعة ، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه.

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «قلت : يا رسول الله لأيّ شيء سمي يوم الجمعة؟ قال : لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم ، وفيه الصعقة والبعثة ، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له». وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن سلمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قالها ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة : هو اليوم الّذي جمع الله فيه أباكم آدم ، أفلا أحدّثكم عن يوم الجمعة» الحديث. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم.

وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة ، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها ، وفي الساعة التي فيها ، وأنه يستجاب الدعاء فيها ، وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن خرشة بن الحرّ قال : رأى معي عمر بن الخطاب لوحا مكتوبا فيه : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) فقال : من أملى عليك هذا؟ قلت : أبيّ بن كعب ، قال : إنّ أبيّا أقرأنا للمنسوخ اقرأها : «فامضوا إلى ذكر الله» وروى هؤلاء ما عدا أبا عبيد عن ابن عمر قال : لقد توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما نقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلا «فامضوا إلى ذكر الله» ، وأخرجه عنه أيضا الشافعي في الأمّ ، وعبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم. وأخرجوا كلهم أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : «فامضوا إلى ذكر الله» قال : ولو كان فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي. وأخرج عبد بن حميد عن أبيّ بن كعب أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال : فامضوا. وأخرج عبد ابن حميد عنه أن السعي : العمل. وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب : أن رجلين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام ، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فيدعونه ويقومون ، فنزلت الآية : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فحرم عليهم ما كان قبل ذلك. وأخرج ابن جرير عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) قال : ليس لطلب دنيا ، ولكن عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : لم تؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله. وأخرج

٢٧٢

البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر ، فأنزل الله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) إلى آخر السورة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال : جاءت عير عبد الرّحمن بن عوف تحمل الطعام ، فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري ، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية ، وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر ، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا. وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى عن جماعة من الصحابة وغيرهم.

* * *

٢٧٣

سورة المنافقون

وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة المنافقين بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط ، قال السيوطي : بسند حسن ، عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرّض بها المؤمنين ، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين. وأخرج البزار والطبراني عن أبي عنبة الخولاني مرفوعا نحوه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) أي : إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك ، وجواب الشرط قالوا ، وقيل : محذوف ، وقالوا : حال ، والتقدير : جاءوك قائلين كيت وكيت فلا تقبل منهم ، وقيل : الجواب : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) وهو بعيد (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أكدوا شهادتهم بإنّ ، واللام للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم ، والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، ومعنى نشهد : نحلف ، فهو يجري مجرى القسم ، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم ، ومن هذا قول قيس بن ذريح :

وأشهد عند الله أنّي أحبّها

فهذا لها عندي فما عندها ليا

ومثل نشهد نعلم ، فإنه يجري مجرى القسم ، كما في قول الشاعر :

ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها

٢٧٤

وجملة (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، وهو ما أظهروه من الشهادة ، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد ؛ لا إلى منطوق كلامهم ، وهو الشهادة بالرسالة ، فإنه حق ، والمعنى : والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمّنه كلامهم من التأكيد الدالّ على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب وموافقة باطن لظاهر (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي : جعلوا حلفهم الّذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم وإن محمدا لرسول الله وقاية تقيهم منكم ، وسترة يستترون بها من القتل والأسر ، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه ، وقد تقدّم قول من قال إنها جواب الشرط. قرأ الجمهور : «أيمانهم» بفتح الهمزة ، وقرأ الحسن بكسرها ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة المجادلة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوّة. هذا معنى الصدّ الّذي بمعنى الصّرف ، ويجوز أن يكون من الصدود ، أي : أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من النفاق والصدّ ، وفي ساء معنى التعجب والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره من الكذب والصدّ وقبح الأعمال ، وهو مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) أي : بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقا (ثُمَّ كَفَرُوا) في الباطن ، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين وأظهروا الكفر للكافرين ، وهذا صريح في كفر المنافقين ، وقيل : نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدّوا. والأوّل أولى كما يفيده السياق (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : ختم عليها بسبب كفرهم. قرأ الجمهور : «فطبع «» على البناء للمفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده ، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل ، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه ، ويدل على هذه قراءة الأعمش «فطبع الله على قلوبهم» (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ما فيه من صلاحهم ورشادهم وهو الإيمان (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي : هيئاتهم ومناظرهم ، يعني أن لهم أجساما تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) فتحسب أن قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم ، وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا ، وكان يحضر مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا قال سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته. قال الكلبي : المراد عبد الله بن أبيّ ، وجدّ بن قيس ، ومعتّب ابن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لكلّ من يصلح له ، ويدل عليه قراءة من قرأ «يسمع» على البناء للمفعول ، وجملة : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) مستأنفة لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، شبهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم ، وهم كذلك لخلوّهم عن الفهم النافع والعلم الّذي ينتفع به صاحبه ، قال الزجاج : وصفهم بتمام الصور ، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب. قرأ الجمهور : «خشب» بضمتين ، وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل بإسكان الشين ، وبها قرأ البراء بن عازب ، واختارها أبو عبيد ؛ لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن ، واختار القراءة الأولى أبو حاتم. وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب بفتحتين ، ومعنى مسندة

٢٧٥

أنها أسندت إلى غيرها ، من قولهم : أسندت كذا إلى كذا ، والتشديد للتكثير. ثم عابهم الله سبحانه بالجبن فقال : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي : يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم ، نازلة بهم ، لفرط جبنهم ورعب قلوبهم ، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان : أحدهما أنه عليهم ، ويكون قوله : (هُمُ الْعَدُوُّ) جملة مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون ، والوجه الثاني أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله : (هُمُ الْعَدُوُّ) ، ويكون قوله : (عَلَيْهِمْ) متعلقا بصيحة ، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر ، وكان حقه أن يقال : هو العدوّ ، والوجه الأوّل أولى. قال مقاتل والسدّي : أي : إذا نادى مناد في العسكر ، أو انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالّة ، ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب ، ومن هذا قول الشاعر (١) :

ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليهم ورجالا

وقيل : كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ، ويبيح دماءهم وأموالهم. ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال : (فَاحْذَرْهُمْ) أن يتمكنوا من فرصة منك ، أو يطلعوا على شيء من أسرارك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار. ثم دعا عليهم بقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : لعنهم الله ، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب ، كقولهم : قاتله الله من شاعر ، أو ما أشعره ، وليس بمراد هنا ، بل المراد ذمهم وتوبيخهم ، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته عزوجل أن يلعنهم ويخزيهم ، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك ؛ ومعنى (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق ويميلون عنه إلى الكفر. قال قتادة : معناه يعدلون عن الحق. وقال الحسن : معناه يصرفون عن الرشد (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) أي : إذا قال لهم القائل من المؤمنين : قد نزل فيكم ما نزل من القرآن ، فتوبوا إلى الله ورسوله ، وتعالوا يستغفر لكم رسول الله (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي : حرّكوها استهزاء بذلك. قال مقاتل : عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. قرأ الجمهور : «لوّوا» بالتشديد. وقرأ نافع بالتخفيف ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي : يعرضون عن قول من قال لهم : تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، أو يعرضون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجملة : (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى ، ويه يصدّون ؛ لأن الرؤية بصرية فيصدّون في محل نصب على الحال ، والمعنى : ورأيتهم صادّين مستكبرين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي : الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك ؛ لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر. قرأ الجمهور : «أستغفرت» بهمزة مفتوحة من غير مدّ ، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة أم عليها. وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي : ما داموا على النفاق (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : الكاملين في الخروج عن الطاعة والانهماك في معاصي الله ، ويدخل فيهم المنافقون دخولا أوّليا. ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال :

__________________

(١). هو الأخطل.

٢٧٦

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي : حتّى يتفرّقوا عنه ، يعنون بذلك فقراء المهاجرين ، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم ، أو لعدم مغفرة الله لهم. قرأ الجمهور : «ينفضوا» من الانفضاض ، وهو التفرّق ، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي «ينفضوا» من أنفض القوم ؛ إذا فنيت أزوادهم ، يقال : نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضّ. ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين ؛ لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عزوجل وأنه الباسط القابض المعطي المانع. ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وعنى بالأعزّ نفسه ومن معه ، وبالأذلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة ، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم ، وهو عبد الله بن أبيّ ، لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم ، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون. ثم ردّ الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي : القوّة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم. اللهم كما جعلت العزّة للمؤمنين على المنافقين فاجعل العزّة للعادلين من عبادك ، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) بما فيه النفع فيفعلونه ، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه ، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فأصاب الناس شدّة ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) من حوله ، وقال : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ فسأله ، فاجتهد يمينه ما فعل ، فقالوا : كذب زيد رسول الله ، فوقع في نفسي مما قالوا شدّة ، حتى أنزل الله تصديقي في (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ، فدعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر لهم فلوّوا رؤوسهم ، وهو قوله : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) قال : كانوا رجالا أجمل شيء. وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما سمّاهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان. وأخرج ابن المنذر عنه (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) قال : حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنوا بأيمانهم من القتل والحرب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) قال : نخل قيام. وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عنه أيضا ، قال : نزلت هذه الآية (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) في عسيف (١) لعمر بن الخطاب. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرءا :

__________________

(١). «العسيف» : الأجير المستهان به.

٢٧٧

(لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا من حوله). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر ابن عبد الله قال : «كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة ، قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع (١) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال المهاجري : يا للمهاجرين ، وقال الأنصاريّ : يا للأنصار ، فسمع ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما بال دعوى الجاهلية»؟ قالوا : رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوها فإنها منتنة» ، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ فقال : وقد فعلوها ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعه ، لا يتحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» زاد الترمذي : «فقال له ابنه عبد الله ، والله لا تنفلت (٢) حتى تقرّ أنك الذليل ، ورسول الله العزيز ، ففعل».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

لما ذكر سبحانه قبائح المنافقين رجع إلى خطاب المؤمنين مرغّبا لهم في ذكره فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) فحذرهم عن أخلاق المنافقين الذين ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله ، ومعنى لا تلهكم : لا تشغلكم ، والمراد بالذكر فرائض الإسلام ، قاله الحسن. وقال الضحاك : الصلوات الخمس. وقيل : قراءة القرآن ، وقيل : هو خطاب للمنافقين ، ووصفهم بالإيمان لكونهم آمنوا ظاهرا ، والأوّل أولى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : يلتهي بالدنيا عن الدين (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : الكاملون في الخسران (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) الظاهر أن المراد الإنفاق في الخير على عمومه ، ومن للتبعيض ، أي : أنفقوا بعض ما رزقناكم في سبيل الخير ، وقيل : المراد الزكاة المفروضة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بأن تنزل به أسبابه ويشاهد حضور علاماته ، وقدّم المفعول على الفاعل للاهتمام (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي : يقول عند نزول ما نزل به مناديا لربه هلا أمهلتني وأخّرت موتي إلى أجل قريب ، أي : أمدّ قصير (فَأَصَّدَّقَ) أي : فأتصدّق بمالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قرأ الجمهور : «فأصّدّق» بإدغام التاء في الصاد ، وانتصابه على أنه جواب التمني ، وقيل : إن «لا» في لو لا زائدة ، والأصل : لو أخرتني. وقرأ أبيّ وابن مسعود وسعيد بن جبير «فأتصدق» بدون إدغام على الأصل. وقرأ الجمهور : «وأكن» بالجزم على محل فأتصدّق ، كأنه قيل : إن أخّرتني أتصدّق وأكن. قال الزجاج : معناه هلا أخّرتني ، وجزم

__________________

(١). «كسع» : ضرب عجيزته ودبره ، بيد أو رجل أو سيف ، أو غيره.

(٢). «تنفلت» : أي لا ترجع.

٢٧٨

«أكن» على موضع فأصدق لأنه على معنى إن أخرتني أصدّق وأكن. وكذا قال أبو عليّ الفارسي وابن عطية وغيرهم. وقال سيبويه حاكيا عن الخليل : إنه جزم على توهم الشرط الّذي يدلّ عليه التمني ، وجعل سيبويه هذا نظير قول زهير :

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا (١) إذا كان جائيا

فخفض «ولا سابق» عطفا على «مدرك» الّذي هو خبر ليس على توهم زيادة الباء فيه. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن ومجاهد «وأكون» بالنصب عطفا على «فأصدق» ، ووجهها واضح. ولكن قال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان «وأكن» بغير واو ، وقرأ عبيد بن عمير : «وأكون» بالرفع على الاستئناف ، أي : وأنا أكون. قال الضحاك : لا ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤدّ زكاة إلا سأل الرجعة ، وقرأ هذه الآية ؛ ثم أجاب الله سبحانه عن هذا المتمني فقال : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) أي : إذا حضر أجلها وانقضى عمرها (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لا يخفى عليه شيء منه ، فهو مجازيكم بأعمالكم. قرأ الجمهور : (تَعْمَلُونَ) بالفوقية على الخطاب ، وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالتحتية على الخبر.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) الآية قال : هم عباد من أمتي الصالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وعن الصلوات الخمس المفروضة. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان له مال يبلغه حجّ بيت الله ، أو تجب عليه فيه الزكاة ، فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله ، فإنما يسأل الرجعة الكافر ، فقال : سأتلوا عليكم بذلك قرآنا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخر السورة». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال : أحجّ.

* * *

__________________

(١). في الديوان ص (٢٨٧) : ولا سابقي شيء.

٢٧٩

سورة التغابن

وهي مدنية في قول الأكثر. وقال الضحاك : هي مكية. وقال الكلبي : هي مدنية ومكية. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : نزلت سورة التغابن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة التغابن بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعيّ ، شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) إلى آخر السورة (١). وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار نحوه. وأخرج ابن حبان في «الضعفاء» ، والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود يولد إلّا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن» قال ابن كثير : وهو غريب جدّا ، بل منكر. وأخرج البخاري في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال : ما من مولود يولد إلّا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أوّل سورة التغابن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

قوله : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : ينزّهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) يختصّان به ليس لغيره منهما شيء ، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي : فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن. قال الضحاك : فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السرّ كافر في العلانية كعمار بن ياسر ونحوه ممن أكره على الكفر. وقال عطاء : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب. قال الزجاج : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن

__________________

(١). التغابن : ١٤ ـ ١٨.

٢٨٠