فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

عقوبة ، وقال ابن زيد : لفي شرّ. قرأ الجمهور : «والعصر» بسكون الصاد. وقرءوا أيضا : (خُسْرٍ) بضم الخاء وسكون السين. وقرأ يحيى بن سلام (وَالْعَصْرِ) بكسر الصاد. وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى : (خُسْرٍ) بضم الخاء والسين ، ورويت هذه القراءة عن عاصم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح ، فإنهم في ربح لا في خسر ؛ لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها ، والاستثناء متصل ، ومن قال : إن المراد بالإنسان الكافر فقط ؛ فيكون منقطعا ، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة ، ولا وجه لما قيل من أن المراد الصحابة أو بعضهم ، فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتّصف بالإيمان والعمل الصالح (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي : وصّى بعضهم بعضا بالحق الّذي يحقّ القيام به ، وهو الإيمان بالله والتوحيد ، والقيام بما شرعه الله ، واجتناب ما نهى عنه. قال قتادة : «بالحق» أي : بالقرآن ، وقيل : بالتوحيد ، والحمل على العموم أولى (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي : بالصبر عن معاصي الله سبحانه ، والصبر على فرائضه. وفي جعل التواصي بالصبر قرينا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه ، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١) وأيضا التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق ، فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنصّ عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ، ومزيد شرفه عليها ، وارتفاع طبقته عنها.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَالْعَصْرِ) قال : الدهر. وأخرج ابن جرير عنه قال : هو ساعة من ساعات النهار. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : هو ما قبل مغيب الشمس من العشيّ. وأخرج الفريابي ، وأبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن عليّ بن أبي طالب أنه كان يقرأ : «والعصر ، ونوائب الدهر ، إن الإنسان لفي خسر ، وإنه فيه إلى آخر الدهر». وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : «والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، وإنه لفيه إلى آخر الدهر».

* * *

__________________

(١). البقرة : ١٥٣.

٦٠١

سورة الهمزة

هي تسع آيات ، وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

الويل : هو مرتفع على الابتداء ، وسوّغ الابتداء به مع كونه نكرة كونه دعاء عليهم ، وخبره (لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) والمعنى : خزي ، أو عذاب ، أو هلكة ، أو واد في جهنم لكل همزة لمزة. قال أبو عبيدة والزجاج : الهمزة اللمزة الّذي يغتاب الناس ، وعلى هذا هما بمعنى. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء ابن أبي رباح : الهمزة : الّذي يغتاب الرجل في وجهه ، واللمزة : الّذي يغتابه من خلفه. وقال قتادة عكس هذا. وروي عن قتادة ومجاهد أيضا أن الهمزة : الّذي يغتاب الناس في أنسابهم. وروي عن مجاهد أيضا أن الهمزة : الّذي يهمز الناس بيده ، واللمزة : الّذي يلمزهم بلسانه. وقال سفيان الثوري : يهمزهم بلسانه ويلمزهم بعينه. وقال ابن كيسان : الهمزة : الّذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ ، واللمزة : الّذي يكسر عنه على جليسه ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه ، والأوّل أولى ، ومنه قول زياد الأعجم :

تدلي بودّي إذا لاقيتني كذبا

وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزه

وقول الآخر :

إذا لقيتك عن سخط تكاشرني

وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزه

وأصل الهمز الكسر ، يقال : همز رأسه كسره ، ومنه قول العجاج :

ومن همزنا رأسه تهشّما

وقيل : أصل الهمز واللمز : الضرب والدفع ، يقال : همزه يهمزه همزا ، ولمزه يلمزه لمزا : إذا دفعه وضربه ، ومنه قول الشاعر :

ومن همزنا عزّه تبركعا

على استه زوبعة أو زوبعا

٦٠٢

البركعة : القيام على أربع ، يقال : بركعه فتبركع ، أي : صرعه فوقع على استه ، كذا في الصحاح. وبناء فعلة يدلّ على الكثرة ، ففيه دلالة على أن يفعل ذلك كثيرا ، وأنه قد صار ذلك عادة له ، ومثله ضحكة ولعنة. قرأ الجمهور (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) بضم أوّلهما وفتح الميم فيهما. وقرأ الباقر والأعرج بسكون الميم فيهما. وقرأ أبو وائل والنّخعي والأعمش «ويل للهمزة اللمزة» ، والآية تعمّ كلّ من كان متّصفا بذلك ، ولا ينافيه نزولها على سبب خاص ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) الموصول بدل من كلّ ، أو في محل نصب على الذمّ ، وهذا أرجح ؛ لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح ، وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب ، والعلّة في الهمز واللمز ، وهو إعجابه بما جمع من المال وظنه أنه الفضل ، فلأجل ذلك يستقصر غيره. قرأ الجمهور : (جَمَعَ) مخففا. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد. وقرأ الجمهور : (وَعَدَّدَهُ) بالتشديد ، وقرأ الحسن الكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية بالتخفيف ، والتشديد في الكلمتين يدلّ على التكثير ، وهو جمع الشيء بعد الشيء ، وتعديده مرّة بعد أخرى. قال الفراء : معنى عدّده : أحصاه. وقال الزجاج : وعدّده لنوائب الدّهور. يقال أعددت الشيء وعددته : إذا أمسكته. قال السدّي : أحصى عدده. وقال الضحاك : أعدّ ماله لمن يرثه. وقيل المعنى : فاخر بكثرته وعدده ، والمقصود ذمه على جمع المال ، وإمساكه وعدم إنفاقه في سبيل الخير. وقيل : المعنى على قراءة التخفيف في عدّده ؛ أنه جمع عشيرته وأقاربه. قال المهدوي : من خفّف «وعدّده» فهو معطوف على المال ، أي : وجمع عدده ، وجملة (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) مستأنفة لتقرير ما قبلها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال ، أي : يعمل عمل من يظنّ أن ماله يتركه حيا مخلدا لا يموت. وقال عكرمة : يحسب أن ماله يزيد في عمره ، والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ. وقيل : هو تعريض بالعمل الصالح ، وأنه الّذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية ، لا المال. وقوله : (كَلَّا) ردع له عن ذلك الحسبان ، أي : ليس الأمر على ما يحسبه هذا الّذي جمع المال وعدده ، واللام في (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) جواب قسم محذوف ، أي : ليطرحنّ في النّار وليلقينّ فيها. قرأ الجمهور : (لَيُنْبَذَنَ) وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب ونصر ابن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن : «لينبذانّ» بالتثنية ، أي : لينبذ هو وماله في النار. وقرأ الحسن أيضا : «لينبذنّ» أي : لينبذنّ ماله في النار (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع ؛ حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام. ثم بيّنها سبحانه فقال : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) أي : هي نار الله الموقدة بأمر الله سبحانه ، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها وتفخيم ، وكذلك في وصفها بالإيقاد ، وسمّيت حطمة لأنها تحطم كل ما يلقى فيها وتهشمه ، ومنه :

إنّا حطمنا بالقضيب مصعبا

يوم كسرنا أنفه ليغضبا

قيل : هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم ، وقيل : الطبقة الثانية منها ، وقيل : الطبقة الرابعة (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي : يخلص حرّها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها ، وخصّ الأفئدة مع كونها تغشى جميع أبدانهم ؛ لأنها محلّ العقائد الزائغة ، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها ، أي : إنهم في حال من يموت

٦٠٣

وهم لا يموتون. وقيل : معنى (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أنها تعلم بمقدار ما يستحقّه كل واحد منهم من العذاب ، وذلك بأمارات عرّفها الله بها (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي : مطبقة مغلقة ؛ كما تقدّم بيانه في سورة البلد ، يقال : آصدت الباب ؛ إذا أغلقته ، ومنه قول ابن قيس الرقيات :

إنّ في القصر لو دخلنا غزالا

مصفقا (١) موصدا عليه الحجاب

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم ، أي : كائنين في عمد ممدّدة موثقين فيها ، أو في محلّ رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم في عمد ، أو صفة لمؤصدة ، أي : مؤصدة بعمد ممدّدة. قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ؛ ثم شدّت بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح. ومعنى كون العمد ممدّدة : أنها مطوّلة ، وهي أرسخ من القصيرة. وقيل : العمد أغلال في جهنم ، وقيل : القيود. قال قتادة : المعنى هم في عمد يعذبون بها ، واختار هذا ابن جرير : قرأ الجمهور (فِي عَمَدٍ) بفتح العين والميم. قيل : هو اسم جمع لعمود. وقيل : جمع له. قال الفرّاء : هي جمع لعمود كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة : هي جمع عماد. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بضم العين والميم ، جمع عمود. قال الفرّاء : هما جمعان صحيحان لعمود. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور. قال الجوهري : العمود : عمود البيت ، وجمع القلة : أعمدة ، وجمع الكثرة : عمد وعمد ، وقرئ بهما. قال أبو عبيدة : العمود : كلّ مستطيل من خشب أو حديد.

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال : هو المشّاء بالنميمة ، المفرّق بين الجمع ، المغري بين الإخوان. وأخرج ابن جرير عنه (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) قال : طعان (لُمَزَةٍ) قال : مغتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال : مطبقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال : عمد من نار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : هي الأدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأبواب هي الممدّدة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : أدخلهم في عمد فمدّت عليهم في أعناقهم فشدّت بها الأبواب.

* * *

__________________

(١). «صفق الباب وأصفقه» : أغلقه.

٦٠٤

سورة الفيل

هي خمس آيات ، وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت بمكة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

الاستفهام في قوله : (أَلَمْ تَرَ) لتقرير رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنكار عدمها. قال الفرّاء : المعنى ألم تخبر. وقال الزجاج : ألم تعلم ، وهو تعجيب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فعله الله (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة ، و «كيف» منصوبة بالفعل الّذي بعدها ، ومعلقة لفعل الرؤية ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجوز أن يكون لكلّ من يصلح له. والمعنى : قد علمت يا محمد ، أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل وما فعل الله بهم ، فما لكم لا تؤمنون؟ والفيل هو الحيوان المعروف ، وجمعه أفيال ، وفيول ، وفيلة. قال ابن السكيت : ولا تقل أفيلة ، وصاحبه فيّال ، وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) أي : ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه ؛ حتى لم يصلوا إلى البيت ، ولا إلى ما أرادوه بكيدهم ، والهمزة للتقرير ، كأنه قيل : قد جعل كيدهم في تضليل ، والكيد : هو إرادة المضرّة بالغير ؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي ، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أي : أقاطيع يتبع بعضها بعضا كالإبل المؤبلة. قال أبو عبيدة : أبابيل : جماعات في تفرقة ، يقال : جاءت الخيل أبابيل ، أي : جماعات من هاهنا وهاهنا. قال النحاس : وحقيقته أنها جماعات عظام ، يقال : فلان توبل على فلان ، أي : تعظم عليه وتكبر ، وهو مشتق من الإبل ، وهو من الجمع الّذي لا واحد له. وقال بعضهم : واحده إبّول مثل عجّول. وقال بعضهم : إبّيل. قال الواحدي : ولم نر أحدا يجعل لها واحدا. قال الفراء : لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي ، وكان ثقة ، أنه سمع في واحدها : إبّال مشدّدا. وحكى الفرّاء أيضا : إبال بالتخفيف. قال سعيد بن جبير : كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها. قال قتادة : هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا مع كل طائر ثلاثة أحجار ؛ حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، لا يصيب شيئا إلا هشمه. وقيل : كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع. وقيل :

٦٠٥

كان لها خراطيم كخراطيم الطير وأكفّ كأكف الكلاب. وقيل في صفتها غير ذلك ، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير ، كما في قول الشاعر :

تراهم إلى الدّاعي سراعا كأنّهم

أبابيل طير تحت دجن مسخّن (١)

وتستعملها في غير الطير ، كقول الآخر :

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد (٢) الأبابيل

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) الجملة في محلّ نصب صفة لطير. قرأ الجمهور : (تَرْمِيهِمْ) بالفوقية. وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة بالتحتية ، واسم الجمع يذكر ويؤنث. وقيل : الضمير في القراءة الثانية لله عزوجل. قال الزجاج (مِنْ سِجِّيلٍ) أي : ممّا كتب عليهم العذاب به ، مشتقا من السجل. قال في الصحاح : قالوا : هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم. قال عبد الرّحمن ابن أبزى : (مِنْ سِجِّيلٍ) من السماء ، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط ، وقيل : من الجحيم التي هي سجين ، ثم أبدلت النون لاما ، ومنه قول ابن مقبل :

ضربا تواصت به الأبطال سجّيلا (٣)

وإنما هو سجّينا. قال عكرمة : كان ترميهم بحجارة معها ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري ، وكان الحجر كالحمّصة وفوق العدسة ، وقد قدّمنا الكلام في سجيل في سورة هود (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي : جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل ، شبّه تقطع أوصالهم بتفرّق أجزائه. وقيل : المعنى : أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدّوابّ وبقي منه بقايا ، أو أكلت حبة فبقي بدون حبة. والعصف جمع عصفة وعصافة وعصيفة ، وقد قدّمنا الكلام في العصف في سورة الرّحمن فارجع إليه.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت الله لم يسلّط عليه أحدا ، قالوا : لا نرجع حتى نهدمه وكانوا لا يقدّمون فيلهم إلا تأخر ، فدعا الله الطير الأبابيل ، فأعطاها حجارة سودا عليها الطين ، فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة ، فكان لا يحكّ الإنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه. وأخرج ابن المنذر والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عنه قال : أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب ، فقال لملكهم. ما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء؟ فقال : أخبرت بهذا البيت الّذي

__________________

(١). قال في حاشية القرطبي : لعل صوابه : مسخر.

(٢). «الجرد» : الخيل لا رجالة فيها.

(٣). وصدر البيت : ورجلة يضربون البيض عن عرض.

٦٠٦

لا يدخله أحد إلا أمن ، فجئت أخيف أهله ، فقال : إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع ، فأبى إلا أن يدخله ، وانطلق يسير نحوه ، وتخلف عبد المطلب ، فقام على جبل فقال : لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله ، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله : (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) فجعل الفيل يعجّ عجا (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ). وقصّة أصحاب الفيل مبسوطة مطوّلة في كتب التاريخ والسير فلا نطوّل بذكرها. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال : حجارة مثل البندق وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة حجار. حجران في رجليه ، وحجر في منقاره حلقت عليه من السماء ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة فلم تعد عسكرهم. وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء والضحاك عنه : أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة. فأرسل الله عليهم طيرا أبابيل يريد مجتمعة ، لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها وحصاتين في رجليها. ترسل واحدة على رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظاما خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عنه أيضا : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) يقول : كالتبن. وأخرج ابن إسحاق في السيرة ، والواقدي وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان. وأخرج الواقدي نحوه عن أسماء بنت أبي بكر. وأخرج أبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : ولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل. وأخرج ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال : ولدت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل.

* * *

٦٠٧

سورة قريش

ويقال : سورة لإيلاف ، وهي أربع آيات وهي مكية عند الجمهور. وقال الضحاك والكلبي : هي مدنية.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة (لِإِيلافِ) بمكة. وأخرج البخاري في تاريخه ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضّل الله قريشا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم ولا يعطيها أحدا بعدهم : أني فيهم. وفي لفظ : النبوّة فيهم ، والخلافة فيهم ، والحجابة فيهم ، والسقاية فيهم ، ونصروا على الفيل ، وعبدوا الله سبع سنين. وفي لفظ : عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم ، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)» قال ابن كثير : هو حديث غريب ، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوّام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضّل الله قريشا بسبع خصال : فضّلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش ، وفضّلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون ، وفضّلهم بأنها نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم ، وهي لإيلاف قريش ، وفضّلهم بأن فيهم النبوّة ، والخلافة ، والسقاية». وأخرج الخطيب في تاريخه ، عن سعيد بن المسيب مرفوعا نحوه ، وهو مرسل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

اللام في قوله : (لِإِيلافِ) قيل : هي متعلقة بآخر السورة التي قبلها ، كأنه قال سبحانه : أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش. قال الفرّاء : هذه السورة متّصلة بالسورة الأولى ؛ لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة ، ثم قال : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) أي : فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش ، وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها فلا يغار عليها في الجاهلية ، يقولون : هم أهل بيت الله عزوجل ، حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ويأخذ حجارتها فيبني بها بيتا في اليمن يحجّ الناس إليه ، فأهلكهم الله عزوجل ، فذكّرهم نعمته ، أي : فعل ذلك لإيلاف قريش ، أي : ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم ، وذكر نحو هذا ابن قتيبة. قال الزجاج : والمعنى : فجعلهم كعصف مأكول (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) أي : أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. وقال في الكشاف : إن اللام متعلق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين ، ودخلت الفاء لما في الكلام

٦٠٨

من معنى الشرط ؛ لأن المعنى : أما لا فليعبدوه. وقد تقدّم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد ، والمعنى : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. وقال الكسائي والأخفش : اللام لام التعجب ، أي : اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل : هي بمعنى إلى. قرأ الجمهور : (لِإِيلافِ) بالياء مهموزا من ألفت أولف إيلافا. يقال : ألفت الشيء إلافا وإلفا ، وألفته إيلافا بمعنى ، ومنه قول الشاعر :

المنعمين إذا النّجوم تغيّرت

والظّاعنين لرحلة الإيلاف

وقرأ ابن عامر : «لإلاف» بدون الياء ، وقرأ أبو جعفر : «لإلف» وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر ، فقال :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

وقرأ عكرمة : «ليألف قريش» بفتح اللام على أنها لام الأمر ، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود ، وفتح لام الأمر لغة معروفة. وقرأ بعض أهل مكة : «إلاف قريش» ، واستشهد بقول أبي طالب :

تذود الورى (١) عن عصبة هاشمية

إلافهم في النّاس خير إلاف

وقريش هم : بن والنضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي ، وقريش يأتي منصرفا إن أريد به الحيّ ، وغير منصرف إن أريد به القبيلة ، ومنه قول الشاعر (٢) :

وكفى قريش المعضلات وسادها (٣)

وقيل : إنّ قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر ، والأوّل أصح ، وقوله : (إِيلافِهِمْ) بدل من إيلاف قريش ، و (رِحْلَةَ) مفعول به لإيلافهم وأفردها ، ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس ، وقيل : إن إيلافهم تأكيد للأوّل لا بدل ، والأوّل أولى. ورجحه أبو البقاء ، وقيل : إن رحلة منصوبة بمصدر مقدّر ، أي : ارتحالهم رحلة (الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) وقيل : هي منصوبة على الظرفية ، والرحلة : الارتحال ، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حارّة ، والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف لأنها بلاد باردة. وروي أنهم كانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف. والأوّل أولى ، فإن ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام. قال ابن قتيبة : إنما كانت تعيش قريش بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة ؛ رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام ، ولو لا هاتان الرحلتان لم يمكن بها مقام ، ولو لا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرّف (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم

__________________

(١). في تفسير القرطبي (٢٠ / ٢٠٢) : العدا.

(٢). هو عدي بن الرقاع.

(٣). وصدر البيت : غلب المساميح الوليد سماحة.

٦٠٩

به عليهم ، أي : إن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة ، والبيت : الكعبة. وعرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت ؛ لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها ، فميّز نفسه عنها. وقيل : لأنهم بالبيت تشرفوا على سائر العرب ، فذكر لهم ذلك تذكيرا لنعمته (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي : أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وقيل : إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذّبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم ، فقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فاشتد القحط ، فقالوا : يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون ، فدعا ؛ فأخصبوا ، وزال عنهم الجوع ، وارتفع القحط (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي : من خوف شديد كانوا فيه. قال ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض ، ويسبي بعضها بعضا ، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان : آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.

وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) ويحكم يا قريش ، اعبدوا ربّ هذا البيت الّذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) قال : نعمتي على قريش (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) كانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) قال : الكعبة (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قال : الجذام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) قال : لزومهم (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) يعني قريشا أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) (١) ، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) حيث قال إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (٢). وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في قوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) الآية ، قال : نهاهم عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت ، وكفاهم المؤنة ، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف ولم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف ، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع ، وآمنهم من خوف فألفوا الرحلة وكان ذلك من نعمة الله عليهم. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : أمروا أن يألفوا عبادة ربّ هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف ، وقد وردت أحاديث في فضل قريش وإن الناس تبع لهم في الخير والشرّ ، وإن هذا الأمر يعني الخلافة لا تزال فيهم ما بقي اثنان ، وهي في دواوين الإسلام.

* * *

__________________

(١). البقرة : ١٢٦.

(٢). إبراهيم : ٣٥.

٦١٠

سورة الماعون

ويقال : سورة الدين ، ويقال : سورة الماعون ، ويقال : سورة اليتيم ، وهي سبع آيات وهي مكية في قول عطاء وجابر ، وأحد قولي ابن عباس ، ومدنية في قول قتادة وآخرين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح له ، والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين. والرؤية : بمعنى المعرفة ؛ والدين : الجزاء والحساب في الآخرة. قيل : وفي الكلام حذف ، والمعنى : أرأيت الّذي يكذب بالدين أمصيب هو أم مخطئ. قال مقاتل والكلبي : نزلت في العاص بن وائل السهمي. وقال السدّي : في الوليد بن المغيرة. وقال الضحّاك : في عمرة بن عائذ. وقال ابن جرير في أبي سفيان ، وقيل : في رجل من المنافقين. قرأ الجمهور (أَرَأَيْتَ) بإثبات الهمزة الثانية. وقرأ الكسائي بإسقاطها. قال الزجاج : لا يقال في رأيت ريت ، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا. وقيل : الرؤية : هي البصرية ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، وهو الموصول ، أي : أأبصرت المكذب. وقيل : إنها بمعنى أخبرني ؛ فيتعدى إلى اثنين. الثاني محذوف ، أي : من هو (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) الفاء جواب شرط مقدّر ، أي إن تأملته أو طلبته فذلك الّذي يدعّ اليتيم ، ويجوز أن تكون عاطفة على الّذي يكذب ، إما عطف ذات على ذات ، أو صفة على صفة. فعلى الأوّل يكون اسم الإشارة مبتدأ وخبره الموصول بعده ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فهو ذلك ، والموصول صفته. وعلى الثاني يكون في محل نصب لعطفه على الموصول الّذي هو في محل نصب. ومعنى يدعّ : يدفع دفعا بعنف وجفوة ، أي : يدفع اليتيم عن حقّه دفعا شديدا ، ومنه قوله سبحانه : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١) وقد قدّمنا أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصبيان (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي : لا يحضّ نفسه ولا أهله ولا غيرهم على ذلك ؛ بخلا بالمال ، أو تكذيبا بالجزاء ، وهو مثل قوله في سورة الحاقة (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٢) (فَوَيْلٌ) يومئذ (لِلْمُصَلِّينَ) الفاء جواب

__________________

(١). الطور : ١٣.

(٢). الحاقة : ٣٤.

٦١١

لشرط محذوف ، كأنه قيل : إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين فويل للمصلين (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي : عذاب لهم ، أو هلاك ، أو واد في جهنم لهم كما سبق الخلاف في معنى الويل ، ومعنى ساهون : غافلون غير مبالين بها ، ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم ، ووضع المصلّين موضع ضمير هم للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخرى غير ما ذكر. قال الواحدي : نزلت في المنافقين الّذين لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا ، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا ، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها ، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء ، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا ، وهو معنى قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي : يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا ، أو يراءون الناس بكل ما علموه من أعمال البرّ ليثنوا عليهم. قال النخعي : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) هو الّذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتا. وقال قطرب : هو الّذي لا يقرأ ولا يذكر الله. وقرأ ابن مسعود : الذين هم عن صلاتهم لاهون (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ). قال أكثر المفسرين : الماعون : اسم لما يتعاوره الناس بينهم : من الدلو والفأس والقدر ، وما لا يمنع كالماء والملح. وقيل : هو الزكاة ، أي : يمنعون زكاة أموالهم. وقال الزجاج وأبو عبيد والمبرّد : الماعون في الجاهلية : كل ما فيه منفعة حتى الفأس والدلو والقدر والقدّاحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير ، وأنشدوا قول الأعشى :

بأجود منه بماعونه

إذا ما سماؤهم لم تغم

قال الزجاج وأبو عبيد والمبرّد أيضا : والماعون في الإسلام : الطاعة والزكاة ، وأنشدوا قول الراعي :

أخليفة الرّحمن إنّا معشر

حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا

حقّ الزّكاة منزّلا تنزيلا

قوم على الإسلام لمّا يمنعوا

ماعونهم ويضيّعوا التّهليلا

وقيل : الماعون : الماء. قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون : الماء ، وأنشدني :

يمجّ صبيره الماعون صبّا

والصبير : السحاب ، وقيل : الماعون : هو الحق على العبد على العموم ، وقيل : هو المستغلّ من منافع الأموال ، مأخوذ من المعن ، وهو القليل. قال قطرب : أصل الماعون من القلة ، والمعن : الشيء القليل ، فسمّى الله الصدقة والزكاة ونحو ذلك من المعروف ماعونا ؛ لأنه قليل من كثير ، وقيل : هو ما لا يبخل به كالماء والملح والنار.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قال : يكذب بحكم الله (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) قال : يدفعه عن حقّه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ـ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال : هم المنافقون يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العارية بغضا لهم ، وهي الماعون. وأخرج

٦١٢

ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال : هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ ، ويصلون في العلانية. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبيّ : أرأيت قول الله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أيّنا لا يسهو؟ أيّنا لا يحدّث نفسه؟ قال : إنه ليس ذلك ، إنه إضاعة الوقت. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن سعد بن أبي وقاص قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال : هم الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها. وقال الحاكم والبيهقي : الموقوف أصح. قال ابن كثير : وهذا يعني الموقوف أصح إسنادا. قال : وقد ضعّف البيهقي رفعه وصحّح وقفه ، وكذلك الحاكم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه ـ قال السيوطي : بسند ضعيف ـ عن أبي برزة الأسلمي قال : «لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر ، هذه الآية خير لكم من أن يعطى كل رجل منكم جميع الدنيا ، هو الّذي إن صلّى لم يرج خير صلاته ، وإن تركها لم يخف ربّه». وفي إسناده جابر الجعفي ، وهو ضعيف ، وشيخه مبهم لم يسمّ. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هم الذين يؤخّرونها عن وقتها. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، من طرق عن ابن مسعود قال : كنا نعدّ الماعون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارية الدلو والقدر والفأس والميزان وما تتعاطون بينكم. وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر والفأس وشبهه فيمنعونهم ، فأنزل الله : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ). وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قال : ما تعاون الناس بينهم الفأس والقدر والدلو وأشباهه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قرّة بن دعموص النميري : «أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قال : لا تمنعوا الماعون ، قالوا : وما الماعون؟ قال : في الحجر والحديدة وفي الماء ، قالوا : فأيّ الحديدة؟ قال : قدوركم النحاس وحديد الفأس الّذي تمتهنون به ، قالوا : وما الحجر؟ قال : قدوركم الحجارة». قال ابن كثير : غريب جدا ، ورفعه منكر ، وفي إسناده من لا يعرف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن سعيد بن عياض عن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الماعون : الفأس والقدر والدلو. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، والضياء في المختارة ، من طرق عن ابن عباس في الآية قال : عارية متاع البيت. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن عليّ بن أبي طالب قال : الماعون : الزكاة المفروضة (يُراؤُنَ) بصلاتهم (وَيَمْنَعُونَ) زكاتهم.

* * *

٦١٣

سورة الكوثر

وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت سورة الكوثر بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

قرأ الجمهور : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) وقرأ الحسن وابن محيصن وطلحة والزعفراني «أنطيناك» بالنون. قيل : هي لغة العرب العاربة. قال الأعشى :

حباؤك خير حبا الملوك

يصان الحلال وتنطى الحلولا

و (الْكَوْثَرَ) فوعل من الكثرة ، وصف به للمبالغة في الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر ، والعرب تسمي كلّ شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثرا ، ومنه قول الشاعر (١) :

وقد ثار نقع الموت حتّى تكوثرا (٢)

فالمعنى على هذا : إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية. وذهب أكثر المفسرين كما حكاه الواحدي إلى أن الكوثر نهر في الجنة ، وقيل : هو حوض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف ، قاله عطاء. وقال عكرمة : الكوثر : النبوّة. وقال الحسن : هو القرآن. وقال الحسن بن الفضل : هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقال أبو بكر بن عياش : هو كثرة الأصحاب والأمة. وقال ابن كيسان : هو الإيثار. وقيل : هو الإسلام ، وقيل : رفعة الذكر ، وقيل : نور القلب ، وقيل : الشفاعة ، وقيل : المعجزات ، وقيل : إجابة الدعوة ، وقيل : لا إله إلا الله ، وقيل : الفقه في الدين ، وقيل : الصلوات الخمس ، وسيأتي بيان ما هو الحق. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والمراد الأمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة (وَانْحَرْ) البدن التي هي خيار أموال العرب. قال محمد بن كعب : إن ناسا كانوا يصلّون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، فأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون صلاته ونحره له. وقال قتادة وعطاء وعكرمة : المراد صلاة العيد ، ونحر الأضحية. وقال سعيد بن جبير : صلّ لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع ، وانحر البدن

__________________

(١). هو حسان بن نشبة.

(٢). وصدر البيت : أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم.

٦١٤

في منى : وقيل : النحر : وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر ، قاله محمد بن كعب. وقيل : هو أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره. وقيل : هو أن يستقبل القبلة بنحره ، قاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص. قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : نتناحر ، أي : نتقابل ؛ نحر هذا إلى نحر هذا ، أي : قبالته ، ومنه قول الشاعر :

أبا حكم ما أنت عمّ مجالد

وسيّد أهل الأبطح المتناحر

أي : المتقابل. وقال ابن الأعرابي : هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب ، من قولهم : منازلهم تتناحر ، أي : تتقابل. وروي عن عطاء أنه قال : أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره. وقال سليمان التيمي : المعنى : وارتفع يديك بالدعاء إلى نحرك ، وظاهر الآية الأمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمطلق الصلاة ومطلق النحر ، وأن يجعلهما لله عزوجل لا لغيره ، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص فهو في حكم التقييد له ، وسيأتي إن شاء الله. (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : إن مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم ، فيعمّ خيري الدنيا والآخرة ، أو الّذي لا عقب له ، أو الّذي لا يبقى ذكره بعد موته. وظاهر الآية العموم ، وأن هذا شأن كل من يبغض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مرّ غير مرّة. قيل : كان أهل الجاهلية إذا مات الذكور من أولاد الرجل قالوا : قد بتر فلان ، فلما مات ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال : بتر محمد ، فنزلت الآية. وقيل : القائل بذلك عقبة بن أبي معيط. قال أهل اللغة : الأبتر من الرجال ؛ الّذي لا ولد له ، ومن الدوابّ ؛ الّذي لا ذنب له ، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر ، وأصل البتر : القطع ، يقال : بترت الشيء بترا ؛ قطعته.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أنس قال : «أغفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما فقال : إنه أنزل عليّ آنفا سورة ، فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ـ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) حتى ختمها قال : هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هو نهر أعطانيه ربي في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته كعدد الكواكب يختلج (١) العبد منهم فأقول : يا ربّ إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث بعدك». وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه ، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر ، قلت : ما هذا يا جبريل ، قال : هذا الكوثر الّذي أعطاكه الله» وقد روي عن أنس من طرق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الّذي في الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن جرير وابن مردويه عن عائشة أنها سئلت عن قوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قالت : هو نهر أعطيه نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بطنان الجنة.

__________________

(١). أي ينتزع ويقتطع.

٦١٥

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه نهر في الجنة. وأخرج الطبراني في الأوسط ، عن حذيفة في قوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قال : نهر في الجنة ، وحسّن السيوطي إسناده. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أسامة ابن زيد مرفوعا «أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر ، فقال : أجل ، وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ». وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه : «أن رجلا قال : يا رسول الله ما الكوثر؟ قال : هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله».

فهذه الأحاديث تدلّ على أن الكوثر هو النهر الّذي في الجنة ، فيتعين المصير إليها ، وعدم التعويل على غيرها ، وإن كان معنى الكوثر : هو الخير الكثير في لغة العرب ، فمن فسّره بما هو أعمّ مما ثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغويّ. كما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والترمذي وصحّحه ، وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عطاء بن السائب قال : قال محارب بن دثار : قال سعيد بن جبير في الكوثر : قلت : حدّثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير فقال : صدق إنه للخير الكثير. ولكن حدّثنا ابن عمر قال : نزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب يجري على الدرّ والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : في الكوثر هو الخير الّذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الّذي في الجنة من الخير الّذي أعطاه الله إياه. وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر إلى المعنى اللغويّ كما عرّفناك ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فسّره فيما صحّ عنه أنه النهر الّذي في الجنة ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عليّ بن أبي طالب قال : «لما نزلت هذه السورة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لجبريل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ فقال : إنها ليست بنحيرة ، ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) ، وهو من طريق مقاتل بن حيان ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن عليّ. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : «إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة ، فذاك النحر». وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والدار قطني في الأفراد ، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ، ثم وضعهما على صدره في الصّلاة. وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي في سننه ، عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن شاهين في سننه ، وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال : إذا صليت فرفعت رأسك من الركوع فاستو قائما. وأخرج ابن جرير وابن

٦١٦

المنذر عن ابن عباس في الآية قال : الصلاة المكتوبة ، والذبح يوم الأضحى. وأخرج البيهقي في سننه ؛ عنه (وَانْحَرْ) قال : يقول : واذبح يوم النحر. وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة. فقالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيّدهم ، ألا ترى إلى هذا الصّابئ المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة؟! قال : أنتم خير منه ، فنزلت : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ونزلت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) إلى قوله : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (١) قال ابن كثير : وإسناده صحيح. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال : لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا : إن هذا الصابئ قد بتر الليلة فأنزل الله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) إلى آخر السورة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أكبر ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القاسم ، ثم زينب ، ثم عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية ، فمات القاسم وهو أوّل ميت من أهله ، وولده بمكة ، ثم مات عبد الله ، فقال العاص بن وائل السهمي : قد انقطع نسله ؛ فهو أبتر ، فأنزل الله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وفي إسناده الكلبي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) قال : أبو جهل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (إِنَّ شانِئَكَ) يقول : عدوّك.

* * *

__________________

(١). النساء : ٤٤ ـ ٥٢.

٦١٧

سورة الكافرون

وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة. ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت سورة (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله ابن الزبير قال : أنزلت (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) بالمدينة. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهذه السورة ، وبقل هو الله ، في ركعتي الطواف». وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وأخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، والنسائي وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن ابن عمر : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة ، أو بضع عشرة مرة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)». وأخرج الحاكم وصحّحه ، عن أبيّ قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوتر بسبّح ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). وأخرج محمد بن نصر ، والطبراني في الأوسط ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) تعدل ربع القرآن ، وكان يقرأ بهما في ركعتي الفجر». وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ يا أيها الكافرون كانت له عدل ربع القرآن». وأخرج الطبراني في الصغير ، والبيهقي في الشعب ، عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فكأنما قرأ ربع القرآن ، ومن قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فكأنما قرأ ثلث القرآن». وأخرج أحمد وابن الضريس والبغوي ، وحميد بن زنجويه في ترغيبه ، عن شيخ أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خرجت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فمرّ برجل يقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فقال : أما هذا فقد برىء من الشرك ، وإذا آخر يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بها وجبت له الجنة» ، وفي رواية : «أما هذا فقد غفر له». وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن فروة بن نوفل بن معاوية الأشجعي عن أبيه أنه قال : يا رسول الله علّمني ما أقول إذا أويت إلى فراشي قال : «اقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك». وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن مردويه عن عبد الرّحمن بن نوفل الأشجعي عن أبيه مرفوعا مثله. وأخرج ابن مردويه عن البراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنوفل بن معاوية الأشجعي : «إذا أتيت مضجعك للنوم فاقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فإنك إذا قلتها فقد برئت من الشرك». وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط ، عن الحارث بن جبلة ، وقال الطبراني : عن جبلة بن حارثة ، وهو أخو زيد ابن حارثة قال : «قلت : يا رسول الله علمني شيئا أقوله عند منامي قال : إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى تمرّ بآخرها فإنها براءة من الشرك». وأخرج البيهقي في الشعب ،

٦١٨

عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ : «اقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) عند منامك فإنها براءة من الشرك». وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أدلّكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله؟ تقرؤون (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) عند منامكم». وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه عن خباب أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أخذت مضجعك فاقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأت فراشه قطّ إلا قرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى يختم». وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لقي الله بسورتين فلا حساب عليه (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)». وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن الضريس عن أبي مسعود الأنصاري قال : من قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في ليلة فقد أكثر وأطاب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

الألف واللام في (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) للجنس ، ولكنها لما كانت الآية خطابا لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره ؛ كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك ؛ لأنّ من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله سبحانه. وسبب نزول هذه السورة أن الكفّار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة ، فأمره الله سبحانه أن يقول لهم : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي : لا أفعل ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون من الأصنام ، وقيل : والمراد فيما يستقبل من الزمان لأن لا النافية لا تدخل في الغالب إلا على المضارع الّذي في معنى الاستقبال ، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي : ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي : ولا أنا قطّ فيما سلف عابد ما عبدتم فيه ، والمعنى : أنه لم يعهد مني ذلك (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي : وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته ، كذا قيل ، وهذا على قول من قال : إنه لا تكرار في هذه الآيات ؛ لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدّمنا من أن «لا» لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الاستقبال ، والدليل على ذلك أن لن تأكيد لما تنفيه لا. قال الخليل في لن : إن أصله لا ، فالمعنى : لا أعبد ما تعبدون في المستقبل ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي. ثم قال : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي : ولست في الحال بعباد معبودكم ، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي. وقيل : بعكس هذا ، وهو أن الجملتين الأوليين للحال ، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) كما لو قال القائل : أنا ضارب زيدا ، وأنا قاتل عمرا ، فإنه لا يفهم منه إلا الاستقبال. قال الأخفش والفرّاء : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ،

٦١٩

ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد. قال الزجاج : نفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل ، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل. وقيل : إن كل واحد منهما يصلح للحال والاستقبال ، ولكنّا نخصّ أحدهما بالحال ، والثاني بالاستقبال دفعا للتكرار. وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف ، فإن جعل قوله : ولا أعبد ما تعبدون للاستقبال. وإن كان صحيحا على مقتضى اللغة العربية ، ولكنه لا يتمّ جعل قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) للاستقبال ؛ لأن الجملة اسمية تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام ، والثبات في كل الأوقات ، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحا للزم مثله في قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وفي قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فلا يتمّم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال ، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس ؛ لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية ، مصدّرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها ، مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد ، وهو لفظ لا في كل واحد منها ، فكيف يصحّ القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة. وأما قول من قال : إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال ، فهو إقرار منه بالتكرار ؛ لأن حمل هذا على معنى وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الّذي لا يدلّ عليه دليل. وإذا تقرّر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التي لا تجحد ، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرّروا ، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا ، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب ، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ويبرهن على ما هو متنازع فيه. وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشكّ فيه شاكّ ، ولا يرتاب فيه مرتاب ، فهو مستغن عن التطويل ، غير محتاج إلى تكثير القال والقيل. وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن ، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرّحمن وسورة المرسلات وفي أشعار العرب من هذا ما لا يتأتى عليه الحصر ، ومن ذلك قول الشاعر (١) :

يا لبكر أنشروا لي كليبا

يا لبكر أين أين الفرار؟

وقول الآخر :

هلّا سألت جموع كندة

يوم ولّوا أين أينا

وقول الآخر :

يا علقمه يا علقمه يا علقمه

خير تميم كلّها وأكرمه

وقول الآخر :

ألا يا اسلمي ثمّ اسلمي ثمّت اسلمي

ثلاث تحيّات وإن لم تكلّم

__________________

(١). هو المهلهل بن ربيعة.

٦٢٠