فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ، ومن رتبة إلى رتبة ، حتى صاروا أعداء كتاب الله ، وسنّة رسوله ، وخير أمته ، وصالحي عباده ، وسائر المؤمنين ، وأهملوا فرائض الله ، وهجروا شعائر الدين ، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ، ورموا الدين وأهله بكلّ حجر ومدر ، والله من ورائهم محيط (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : كثير الرأفة والرحمة ، بلّغهما لمن يستحق ذلك من عبادك.

وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز من مسيئهم. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله؟ أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهنّ شيئا فقال : ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه‌الله ، فقال رجل من الأنصار ، وفي رواية فقال أبو طلحة الأنصاري : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تدّخريه شيئا ، قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية ، قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم وتعالي فأطفئي السراج ؛ ونطوي بطوننا الليل لضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففعلت ، ثم غدا الضيف على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة» ، وأنزل فيهما : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ). وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر قال : أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منّا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوّل ، فنزلت فيهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ). وأخرج الفريابي وسعيد ابن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود أن رجلا قال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال : إني سمعت الله يقول : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء ، فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشحّ ، ولكنه البخل ، ولا خير في البخل. وإن الشحّ الّذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : ليس الشحّ أن يمنع الرجل ماله ، ولكنه البخل وإنه لشرّ ، إنما الشحّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له. وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : من أدّى زكاة ماله فقد وقي شحّ نفسه. وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما محق الإسلام محق الشحّ شيء قط». وأخرج أحمد ، والبخاري في الأدب ، ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشحّ فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلّوا محارمهم». وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الشحّ.

وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : الناس على ثلاث منازل ، قد مضت منزلتان وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ

٢٤١

جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه عن عائشة قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبّوهم ، ثم قرأت هذه الآية (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الآية ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) الآية. ثم قال : هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية ، ثم قال : أفمن هؤلاء أنت؟ قال : أرجو ، قال : ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين ، ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة لتعجيب المؤمنين من حالهم ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) والخطاب لرسول الله ، أو لكلّ من يصلح له ، والذين نافقوا هم : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وجملة : (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) مستأنفة لبيان المتعجب منه ، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة ، أو للدلالة على الاستمرار ، وجعلهم إخوانا لهم لكون الكفر قد جمعهم ، وإن اختلف نوع كفرهم فهم إخوان في الكفر ، واللام في «لإخوانهم» هي لام التبليغ ، وقيل : هو من قول بني النضير لبني قريظة ، والأوّل أولى ؛ لأن بني النضير وبني قريظة هم يهود ، والمنافقون غيرهم ، واللام في قوله : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) هي الموطئة للقسم ، أي : والله لئن أخرجتم من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) هذا جواب القسم ، أي : لنخرجن من ديارنا في صحبتكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي : في شأنكم ، ومن أجلكم (أَحَداً) ممّن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان ، وهو معنى قوله : (أَبَداً). ثم لما وعدوهم بالخروج معهم وعدوهم بالنصرة لهم ، فقالوا :

٢٤٢

(وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) على عدوّكم. ثم كذّبهم سبحانه فقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم. ثم لمّا أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصّل ما كذبوا فيه فقال : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وقد كان الأمر كذلك ، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود وهم بنو النضير ومن معهم ، ولم ينصروا من قوتل من اليهود وهم بنو قريظة وأهل خيبر (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي : لو قدّر وجود نصرهم إياهم ؛ لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده ، قال الزجاج : معناه لو قصدوا نصر اليهود (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) يعني اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم ، وهم المنافقون ، وقيل : يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك ، بل يذلّهم الله ، ولا ينفعهم نفاقهم ، وقيل : معنى الآية : لا ينصرونهم طائعين ، ولئن نصروهم مكرهين ليولنّ الأدبار ، وقيل : معنى «لا ينصرونهم» : لا يدومون على نصرهم ، والأوّل أولى ، ويكون من باب قوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١) (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي : لأنتم يا معاشر المسلمين أشدّ خوفا وخشية في صدور المنافقين ، أو صدور اليهود ، أو صدور الجميع من الله ، أي : من رهبة الله ، والرهبة هنا بمعنى المرهوبية ، لأنها مصدر من المبني للمفعول ، وانتصابها على التمييز (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي : ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشيء من الأشياء ، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الّذي سلطكم عليهم ، فهو أحقّ بالرهبة منه دونكم ، ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم وضعف نكايتهم ، فقال : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ، ولا يقدرون على ذلك (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالدروب والدور ، أو من وراء جدر ، أي : من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. قرأ الجمهور (جُدُرٍ) بالجمع ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وابن كثير وأبو عمرو جدار بالإفراد. واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم لأنها موافقة لقوله «قرى محصنة». وقرأ بعض المكّيين (جُدُرٍ) بفتح الجيم وإسكان الدال ، وهي لغة في الجدار. (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي : بعضهم غليظ فظّ على بعض ، وقلوبهم مختلفة ، ونباتهم متباينة. قال السدّي : المراد اختلاف قلوبهم حيث لا يتفقون على أمر واحد. وقال مجاهد : بأسهم بينهم شديد بالكلام والوعيد : ليفعلن كذا ، والمعنى : أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدّة والبأس ، وإذا لاقوا عدوّا ذلّوا وخضعوا وانهزموا ، وقيل : المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد ، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من الرعب ، والأوّل أولى لقوله : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) فإنه يدلّ على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن ، وهذا التخالف هو البأس الّذي بينهم الموصوف بالشدّة ، ومعنى شتّى : متفرّقة ، قال مجاهد : يعني اليهود والمنافقين تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى. وروي عنه أيضا أنه قال : المراد المنافقون. وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب. قال قتادة : «تحسبهم جميعا» أي : مجتمعين على أمر ورأي ، وقلوبهم شتى متفرقة ، فأهل

__________________

(١). الأنعام : ٢٨.

٢٤٣

الباطن مختلفة آراؤهم ، مختلفة شهادتهم ، مختلفة أهواؤهم ، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ. وقرأ ابن مسعود : «وقلوبهم أشتّ» أي : أشدّ اختلافا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي : ذلك الاختلاف والتشتّت بسبب أنهم قوم لا يعقلون شيئا ، ولو عقلوا لعرفوا الحقّ واتبعوه (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : مثلهم كمثل الذين من قبلهم ، والمعنى : أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين (قَرِيباً) يعني في زمان قريب ، وانتصاب قريبا على الظرفية ، أي : يشبهونهم في زمن قريب ، وقيل : العامل فيه ذاقوا ، أي : ذاقوا في زمن قريب ، ومعنى (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي : سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر ، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، قاله مجاهد وغيره ، وقيل : المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم ، قاله قتادة. وقيل : قتل بني قريظة ، قاله الضحاك. وقيل : هو عامّ في كل من انتقم الله منه بسبب كفره ، والأوّل أولى (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر فقال : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) أي : مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم ، فهو إما خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر آخر للمبتدأ المقدّر قبل قوله : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) على تقدير حذف حرف العطف ، كما تقول : أنت عاقل ، أنت عالم ، أنت كريم. وقيل : المثل الأوّل خاص باليهود ، والثاني خاص بالمنافقين ، وقيل : المثل الثاني بيان للمثل الأوّل. ثم بيّن سبحانه وجه الشبه فقال : (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) أي : أغراه بالكفر ، وزيّنه له ، وحمله عليه ، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان ، وقيل : هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) أي : فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان ، وقبولا لتزيينه ، قال الشيطان : إني بريء منك. وهذا يكون منه يوم القيامة. وجملة (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره ، وقيل : المراد بالإنسان هنا أبو جهل ، والأوّل أولى. قال مجاهد : المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم ، قيل : وليس قول الشيطان (إِنِّي أَخافُ اللهَ) على حقيقته ، إنما هو على وجه التبرّي من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) قرأ الجمهور : (إِنِّي) بإسكان الياء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتحها (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) قرأ الجمهور : (عاقِبَتَهُما) بالنصب على أنه خبر كان ، واسمها «أنهما في النار». وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان ، والخبر ما بعده ؛ والمعنى : فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الّذي كفر أنهما صائران إلى النار (خالِدَيْنِ فِيها) قرأ الجمهور (خالِدَيْنِ) بالنصب على الحال ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وزيد بن عليّ وابن أبي عبلة «خالدان» على أنه خبر أنّ والظرف متعلق به (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي : الخلود في النار جزاء الظالمين ، ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا. ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي : اتّقوا عقابه بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي : لتنظر أيّ شيء قدّمت من الأعمال ليوم القيامة ، والعرب تكني عن المستقبل بالغد ، وقيل : ذكر الغد تنبيها على قرب الساعة (وَاتَّقُوا اللهَ) كرّر الأمر بالتقوى للتأكيد (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لا تخفى عليه من

٢٤٤

ذلك خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي : تركوا أمره ، أو ما قدروه حقّ قدره ، أو لم يخافوه ، أو جميع ذلك (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي : جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له ، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب ، ولم يكفّوا عن المعاصي التي توقعهم فيه ، ففي الكلام مضاف محذوف ، أي : أنساهم حظوظ أنفسهم. قال سفيان : نسوا حقّ الله فأنساهم حق أنفسهم ، وقيل : نسوا لله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : الكاملون في الخروج عن طاعة الله (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) في الفضل والرتبة ، والمراد الفريقان على العموم ، فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولا أوّليا ، ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولا أوّليا لأن السياق فيهم ، وقد تقدم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة ، وفي سورة السجدة ، وفي سورة ص. ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة بعد نفي التساوي بينهم وبين أهل النار فقال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي : الظافرون بكلّ مطلوب ، الناجون من كلّ مكروه.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) قال : عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ورفاعة بن تابوت ، وعبد الله بن نبتل ، وأوس بن قيظي ، وإخوانهم بنو النضير. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر ، وأبو نعيم في الدلائل ، عنه : أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ووديعة بن مالك ، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربّصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة (١) ، فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام.

وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال : هم المشركون. وأخرج عبد الرزاق وابن راهويه ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن عليّ بن أبي طالب أن رجلا كان يتعبد في صومعة ، وأن امرأة كان لها إخوة ، فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت ، فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها ، فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به ، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : إني أنا الّذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك ، فسجد له ، فذلك قوله : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) الآية. قلت : وهذا لا يدلّ على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية ، بل يدلّ على أنه من جملة من تصدق عليه. وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا ، وليس فيه ما يدلّ على أنه المقصود بالآية. وأخرجوه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود

__________________

(١). «الحلقة» : السلاح ، وقيل : الدروع خاصة.

٢٤٥

في قوله : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) قال : ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار ، وبيّن عدم استوائهم في شيء من الأشياء ، ذكر تعظيم كتابه الكريم ، وأخبر عن جلالته ، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب ، وترقّ له الأفئدة ، فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : من شأنه ، وعظمته ، وجودة ألفاظه ، وقوّة مبانيه ، وبلاغته ، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب ؛ أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة وشدّة الصلابة وضخامة الجرم خاشعا متصدعا ، أي : متشققا من خشية الله سبحانه ؛ حذرا من عقابه ، وخوفا من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله ، وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوّ شأن القرآن وقوّة تأثيره في القلوب ، ويدلّ على هذا قوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ وينزجروا بالزواجر ، وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن ، ولا اتعظوا بمواعظه ، ولا انزجروا بزواجره ، والخاشع : الذليل المتواضع. وقيل : الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت ولتصدّع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له وقوّيناك عليه ، فيكون على هذا من باب الامتنان على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله سبحانه ثبّته لما لا تثبت له الجبال الرواسي. ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته ، فقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : عالم ما غاب من الإحساس وما حضر ، وقيل : عالم السرّ والعلانية ، وقيل : ما كان وما يكون ، وقيل : الآخرة والدنيا ، وقدّم الغيب على الشهادة لكونه متقدّما وجودا (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) قد تقدّم تفسير هذين الاسمين (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرّره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقا بذلك (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) أي : الطاهر من كل عيب ، المنزّه عن كل نقص ، والقدس : بالتحريك في لغة أهل الحجاز السّطل ؛ لأنه يتطهر به ، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء. قرأ الجمهور : (الْقُدُّوسُ) بضم القاف. وقرأ أبو ذرّ وأبو السّمّال بفتحها ، وكان سيبويه يقول : سبوح قدّوس بفتح أوّلهما ، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا يقرأ : (الْقُدُّوسُ) بفتح القاف. قال ثعلب : كل اسم على فعول فهو مفتوح الأوّل إلا السبوح والقدّوس ،

٢٤٦

فإن الضم فيهما أكثر ، وقد يفتحان. (السَّلامُ) أي : الّذي سلم من كل نقص وعيب ، وقيل : المسلّم على عباده في الجنة ، كما قال : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (١) وقيل : الّذي سلم الخلق من ظلمه ، وبه قال الأكثر ، وقيل : المسلم لعباده ، وهو مصدر وصف به للمبالغة. (الْمُؤْمِنُ) أي : الّذي وهب لعباده الأمن من عذابه ، وقيل : المصدّق لرسله بإظهار المعجزات ، وقيل : المصدّق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب ، والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب ، يقال : أمنه من الأمن وهو ضدّ الخوف ، ومنه قول النابغة :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكّة بين الغيل والسّند (٢)

وقال مجاهد : المؤمن الّذي وحّد نفسه بقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). قرأ الجمهور : (الْمُؤْمِنُ) بكسر الميم اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بفتحها بمعنى المؤمن به على الحذف كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (٣) وقال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة لأن معناه أنه كان خائفا فأمنه غيره. (الْمُهَيْمِنُ) أي : الشهيد على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم. كذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل : يقال : همين يهيمن فهو مهيمن ؛ إذا كان رقيبا على الشيء. قال الواحدي : وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن ، فيكون بمعنى المؤمن ، والأوّل أولى ، وقد قدّمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة ، (الْعَزِيزُ) الّذي لا يوجد له نظير ، وقيل : القاهر ، وقيل : الغالب غير المغلوب ، وقيل : القويّ ، (الْجَبَّارُ) جبروت الله : عظمته ، والعرب تسمّي الملك الجبار ، ويجوز أن يكون من جبر : إذا أغنى الفقير ، وأصلح الكسير ، ويجوز أن يكون من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد ، فهو الّذي جبر خلقه على ما أراد منهم ، وبه قال السدّي ومقاتل ، واختاره الزجاج والفراء ، قال : هو من أجبره على الأمر ، أي : قهره. قال : ولم أسمع فعّالا من أفعل إلا في جبّار من أجبر ، ودرّاك من أدرك ، وقيل : الجبار الّذي لا تطاق سطوته. (الْمُتَكَبِّرُ) أي : الّذي تكبّر عن كل نقص ، وتعظّم عمّا لا يليق به ، وأصل التكبر الامتناع وعدم الانقياد ، ومنه قول حميد بن ثور :

عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت

بها كبرياء الصّعب وهي ذلول

والكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذمّ. قال قتادة : هو الّذي تكبر عن كل سوء. قال ابن الأنباري : المتكبر : ذو الكبرياء ، وهو الملك ، ثم نزّه سبحانه نفسه عن شرك المشركين ، فقال : (سُبْحانَ

__________________

(١). يس : ٥٨.

(٢). «العائذات» : ما عاذ بالبيت من الطير.

«الغيل» : الشجر الكثيف الملتف.

«السند» : ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح.

(٣). الأعراف : ١٥٥.

٢٤٧

اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : عمّا يشركونه أو عن إشراكهم به (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) أي : المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته (الْبارِئُ) أي : المنشئ ، المخترع للأشياء ، الموجد لها. وقيل : المميّز لبعضها من بعض. (الْمُصَوِّرُ) أي : الموجد للصور ، المركّب لها على هيئات مختلفة ، فالتصوير مترتب على الخلق والبراية وتابع لهما ، ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل ، قال النابغة :

الخالق البارئ المصوّر في ال

أرحام ماء حتّى يصير دما

وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي : «المصوّر» بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول له للبارئ ، أي : الّذي برأ المصوّر ، أي : ميّزه. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قد تقدّم بيانها والكلام فيها عند تفسير قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (١) (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ينطق بتنزيهه بلسان الحال ، أو المقال كل ما فيهما (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : الغالب لغيره الّذي لا يغالبه مغالب ، الحكيم في كل الأمور التي يقضي بها.

وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ، في قوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) قال : يقول لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل ، حمّلته إياه ، تصدّع وخشع من ثقله ومن خشية الله ، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشّع. قال : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وأخرج الديلمي عن ابن مسعود وعليّ مرفوعا في قوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) إلى آخر السورة قال : هي رقية الصداع. رواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف حال رجالهما. وأخرج الخطيب في تاريخه ، بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف ، فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك ، فإني قرأت على حمزة ، فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك ، فإني قرأت على الأعمش ثم ساق الإسناد مسلسلا هكذا إلى ابن مسعود فقال : فإني قرأت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بلغت هذه الآية قال لي : «ضع يدك على رأسك ، فإن جبريل لما نزل بها قال لي : ضع يدك على رأسك ، فإنها شفاء من كل داء إلا السام ، والسام الموت». قال الذهبي : هو باطل. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر رجلا إذا آوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سور الحشر وقال : «إن متّ متّ شهيدا». وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعوّذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ، ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكا يطردون عنه شياطين الإنس والجنّ ، إن كان ليلا حتى يصبح ، وإن كان نهارا حتى يمسي» وأخرج أحمد والدارمي ، والترمذي وحسّنه ، والطبراني وابن الضريس ، والبيهقي في الشعب ، عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي ، وإن مات ذلك اليوم مات

__________________

(١). الأعراف : ١٨٠.

٢٤٨

شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة». قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) قال : السرّ والعلانية. وفي قوله : (الْمُؤْمِنُ) قال : المؤمّن خلقه من أن يظلمهم ، وفي قوله : (الْمُهَيْمِنُ) قال : الشاهد.

* * *

٢٤٩

سورة الممتحنة

وهي مدنية ، قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الممتحنة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. والممتحنة ، بكسر الحاء ، اسم فاعل أضيف الفعل إليها مجازا ؛ كما سميت سورة براءة الفاضحة ؛ لكشفها عن عيوب المنافقين ، وقيل : الممتحنة بفتح الحاء اسم مفعول أضافه إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، لقوله سبحانه : (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) (١).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

قال المفسرون : نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) في حاطب بن أبي بلتعة ؛ حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، وسيأتي ذكر القصة آخر البحث إن شاء الله ، وقوله : (عَدُوِّي) هو المفعول الأوّل (وَعَدُوَّكُمْ) معطوف عليه ، والمفعول الثاني «أولياء» ، وأضاف سبحانه العدوّ إلى نفسه تعظيما لجرمهم ، والعدوّ مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة ، والآية تدلّ على النهي عن موالاة الكفار بوجه من الوجوه. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي : توصلون إليهم المودّة ، على أن الباء زائدة ، أو هي سببية. والمعنى : تلقون إليهم أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب المودّة التي بينكم وبينهم. قال الزجاج : تلقون إليهم أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسرّه بالمودّة التي بينكم وبينهم ، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير «تتخذوا» ، ويجوز أن تكون مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته أو لتفسير موالاتهم إياهم ، ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء ، وجملة : (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) في محل نصب على الحال من فاعل تلقون ، أو من فاعل «لا تتخذوا» ، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار. قرأ الجمهور : (بِما جاءَكُمْ) بالباء الموحدة. وقرأ الجحدري وعاصم في رواية عنه : لما جاءكم باللام ، أي : لأجل

__________________

(١). الممتحنة : ١٠.

٢٥٠

ما جاءكم من الحق على حذف المكفور به ، أي : كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق ، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سببا للكفر توبيخا لهم (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) الجملة مستأنفة لبيان كفرهم ، أو في محل نصب على الحال ، وقوله : (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) تعليل للإخراج ، أي : يخرجونكم لأجل إيمانكم ، أو كراهة أن تؤمنوا (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) جواب الشرط محذوف : إن كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودّة ، أو إن كنتم كذلك فلا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء ، وانتصاب جهادا وابتغاء على العلة : أي إن كنتم خرجتم لأجل الجهاد في سبيلي ولأجل ابتغاء مرضاتي ، وجملة : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) مستأنفة للتقريع والتوبيخ ، أي : تسرّون إليهم الأخبار بسبب المودّة ، وقيل : هي بدل من قوله : «تلقون». ثم أخبر بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، فقال : (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) والجملة في محل نصب على الحال ، أي : بما أضمرتم وما أظهرتم ، والباء في «بما» زائدة. يقال : علمت كذا وعلمت بكذا ، هذا على أن «أعلم» مضارع ، وقيل : هو أفعل تفضيل ، أي : أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : من يفعل ذلك الاتّخاذ لعدوّي وعدوّكم أولياء ، ويلقي إليهم بالمودّة ، فقد أخطأ طريق الحق والصواب ، وضلّ عن قصد السبيل (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي : إن يلقوكم ويصادفوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة ، ومنه المثاقفة : وهي طلب مصادفة الغرّة في المسايفة ، وقيل : المعنى : إن يظفروا بكم ويتمكّنوا منكم ، والمعنيان متقاربان (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي : يبسطوا إليكم أيديهم بالضرب ونحوه ، وألسنتهم بالشتم ونحوه (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) هذا معطوف على جواب الشرط ، أو على جملة الشرط والجزاء ، ورجّح هذا أبو حيان. والمعنى : أنهم تمنّوا ارتدادهم وودّوا رجوعهم إلى الكفر (١) (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) أي : لا تنفعكم القرابات على عمومها ولا الأولاد ، وخصّهم بالذّكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنوّ عليهم ، والمعنى : أن هؤلاء لا ينفعونكم حين توالوا الكفار لأجلهم ؛ كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، بل الّذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم. وجملة (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم ، ومعنى (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يفرّق بينكم ، فيدخل أهل طاعته الجنة ، وأهل معصيته النار. وقيل : المراد بالفصل بينهم أنه يفرّ كلّ منهم من الآخر من شدّة الهول ، كما في قوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٢) الآية. قيل : ويجوز أن يتعلق يوم القيامة بما قبله ، أي : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة فيوقف عليه ، ويبتدأ بقوله : (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) والأولى أن يتعلق بما بعده كما ذكرنا (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم ، فهو مجازيكم على ذلك. قرأ الجمهور : (يَفْصِلُ) بضم الياء وتخفيف الفاء وفتح الصاد مبنيا للمفعول ، واختار هذه القراءة أبو عبيد.

__________________

(١). المقصود أن الكافرين تمنوا ارتداد المؤمنين عن الحق ورجوعهم إلى الكفر.

(٢). عبس : ٣٤.

٢٥١

وقرأ عاصم بفتح الياء وكسر الصاد مبنيا للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشدّدة. وقرأ علقمة بالنون. وقرأ قتادة وأبو حيوة بضم الياء وكسر الصاد مخففة.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغير هما عن عليّ بن أبي طالب قال : «بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (١) فإن بها ظعينة (٢) معها كتاب فخذوه منها فأتوني به ، فخرجنا حتى أتينا الرّوضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي من كتاب ، فقلنا : لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هذا يا حاطب؟ قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق ، فقال عمر : دعني أضرب عنقه ، فقال : إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة متضمّنة لبيان هذه القصة ، وأن هذه الآيات إلى قوله : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) (٣) نازلة في ذلك.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

لما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين ، والذمّ لمن وقع منه ذلك ، ضرب لهم إبراهيم مثلا حين

__________________

(١). «روضة خاخ» : موضع بين مكة والمدينة ، على اثني عشر ميلا من المدينة.

(٢). «الظعينة» : هي المرأة في الهودج.

(٣). الممتحنة : ٤.

٢٥٢

تبرّأ من قومه ، فقال : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، أي : خصلة حميدة تقتدون بها ، يقال : لي به أسوة في هذا الأمر ، أي : اقتداء ، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء به في ذلك إلا في استغفاره لأبيه. قرأ الجمهور إسوة بكسر الهمزة ، وقرأ عاصم بضمها وهما لغتان ، وأصل الأسوة بالضم والكسر : القدوة ، ويقال : هو أسوتك ، أي : مثلك وأنت مثله ، وقوله : «في إبراهيم والذين معه» متعلّق بأسوة ، أو بحسنة ، أو هو نعت لأسوة ، أو حال من الضمير المستتر في «حسنة» ، أو خبر كان ، «ولكم» للبيان ، «والذين معه» هم أصحابه المؤمنون. وقال ابن زيد : هم الأنبياء. قال الفرّاء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم ، فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه؟! والظرف في قوله : (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) هو خبر كان ، أو متعلّق به ، أي : وقت قولهم لقومهم الكفار (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) جمع بريء ، مثل : شركاء وشريك ، وظرفاء وظريف. قرأ الجمهور : (بُرَآؤُا) بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ، ككرماء في كريم. وقرأ عيسى ابن عمر وابن أبي إسحاق بكسر الباء وهمزة واحدة بعد ألف ، ككرام في جمع كريم. وقرأ أبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وهي الأصنام (كَفَرْنا بِكُمْ) أي : بما آمنتم به من الأوثان ، أو بدينكم ، أو بأفعالكم (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) أي : هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك ، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) هو استثناء متصل من قوله (فِي إِبْراهِيمَ) بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء ، أي : قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم إلا قوله لأبيه ، أو من (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، وصحّ ذلك لأن القول من جملة الأسوة ، كأنه قيل : قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله إلا قوله لأبيه ، أو من التبري والقطيعة التي ذكرت ، أي : لم يواصله إلا قوله ، ذكر هذا ابن عطية ، أو هو منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك ، فلا تأتسوا به ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه ، أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظنّ أنه قد أسلم ، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة براءة (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا من تمام القول المستثنى ، يعني ما أغني عنك ، وما أدفع عنك ، من عذاب الله شيئا ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل (لَأَسْتَغْفِرَنَّ) ، فالاستثناء متوجّه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد ، فإنه إظهار للعجز وتفويض للأمر إلى الله ، وذلك من خصال الخير. (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه وممّا فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها ، وقيل : هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول ، والتوكل : هو تفويض الأمور إلى الله ، والإنابة : الرجوع ، والمصير : المرجع ، وتقديم الجارّ والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال الزجاج : لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنهم على حقّ ؛ فيفتنوا بذلك. وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على حقّ ما أصابهم هذا (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي : الغالب الّذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة البالغة (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي : لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة ،

٢٥٣

وكرّر هذا للمبالغة والتأكيد ، وقيل : إن هذا نزل بعد الأوّل بمدّة (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) بدل من قوله «لكم» بدل بعض من كلّ ، والمعنى : أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة ، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي : يعرض عن ذلك ، فإن الله هو الغنيّ عن خلقه ، الحميد إلى أوليائه (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة ، وحسن إسلامهم ، ووقعت بينهم وبين من تقدّمهم في الإسلام مودّة ، وجاهدوا ، وفعلوا الأفعال المقرّبة إلى الله ، وقيل : المراد بالمودّة هنا تزويج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمّ حبيبة بنت أبي سفيان. ولا وجه لهذا التخصيص ، وإن كان من جملة ما صار سببا إلى المودّة ، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنها لم تحصل المودّة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده ، (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي : بليغ القدرة كثيرها ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : بليغهما ، كثيرهما. ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادّتهم فصّل القول فيمن يجوز برّه منهم ومن لا يجوز ، فقال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي : لا ينهاكم عن هؤلاء (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) هذا بدل من الموصول بدل اشتمال ، وكذا قوله : (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) يقال : أقسطت إلى الرجل ؛ إذا عاملته بالعدل. قال الزجاج : المعنى : وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : العادلين ؛ ومعنى الآية : أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال ، وعلى أن لا يظاهروا الكفّار عليهم ، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل. قال ابن زيد : كان هذا في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ. قال قتادة : نسختها : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) وقيل : هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش ، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل : هي خاصة في حلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بينه وبينه عهد ، قاله الحسن. وقال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث ابن عبد مناف. وقال مجاهد : هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وقيل : هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة. ثم بيّن سبحانه من لا يحلّ برّه ولا العدل في معاملته فقال : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) وهم صناديد الكفر من قريش (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي : عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك ، وهم سائر أهل مكة من دخل معهم في عهدهم ، وقوله : (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل اشتمال من الموصول كما سلف (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : الكاملون في الظلم ؛ لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوّا لله ولرسوله ولكتابه ، وجعلوهم أولياء لهم.

وقد أخرج ابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) قال : نهوا أن يتأسوا

__________________

(١). التوبة : ٥.

٢٥٤

باستغفار إبراهيم لأبيه ، وقوله : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولون : لو كان هؤلاء على الحقّ ما أصابهم هذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عنه (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قال : في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه ، وهو مشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال : لا تسلّطهم علينا فيفتنونا. وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة قال : أوّل من قاتل أهل الردّة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب ، وفيه نزلت هذه الآية : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً). وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدّا ، فكان أوّل من قاتل في الردّة وجاهد عن الدّين. قال : وهو فيمن قال الله فيه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً). وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عديّ وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال : كانت المودة التي جعل بينهم تزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فصارت أمّ المؤمنين ، فصار معاوية خال المؤمنين. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال : «يا رسول الله ثلاث أعطنيهن ، قال : نعم ، قال : تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ، قال : نعم ، قال : ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك ، قال : نعم ، قال : وعندي أحسن العرب وأجمله أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أزوّجكها» الحديث. وأخرج الطيالسي وأحمد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : ضباب وأقط (١) وسمن وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، أو تدخلها بيتها ؛ حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته ، فأنزل الله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها. وزاد ابن أبي حاتم : في المدّة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر قالت : «أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أأصلها؟ فأنزل الله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ) الآية : فقال : نعم صلي أمك».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

__________________

(١). «ضباب» : جمع ضبّة ، وهي جلد الضّبّ يدبغ ليوضع فيه السّمن.

«أقط» : لبن مجفف يابس متحجّر يطبخ به.

٢٥٥

(١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

لما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البرّ والإقساط للفريق الأوّل دون الفريق الثاني ؛ ذكر حكم من يظهر الإيمان ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) من بين الكفار ، وذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين ، فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين ، وأمر بامتحانهنّ فقال : (فَامْتَحِنُوهُنَ) أي : فاختبروهنّ. وقد اختلف فيما كان يمتحنّ به ، فقيل : كنّ يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا لالتماس دنيا ، بل حبا لله ولرسوله ورغبة في دينه ، فإذا حلفت كذلك أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردّها إليه. وقيل : الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وقيل : ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية ، وهي : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) إلى آخرها.

واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا؟ على قولين ، فعلى القول بالدخول : تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد ، وبه قال الأكثر. وعلى القول بعدمه : لا نسخ ولا تخصيص ، (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) هذه الجملة معترضة لبيان أن حقيقة حالهنّ لا يعلمها إلا الله سبحانه ، ولم يتعبّدكم بذلك ، وإنما تعبّدكم بامتحانهنّ حتى يظهر لكم ما يدلّ على صدق دعواهنّ في الرغوب في الإسلام (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أي : علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الّذي أمرتم به (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي : إلى أزواجهنّ الكافرين ، وجملة (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) تعليل للنهي عن إرجاعهنّ. وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحلّ لكافر ، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها ، لا مجرّد هجرتها ، والتكرير لتأكيد الحرمة ، أو الأوّل : لبيان زوال النكاح ، والثاني : لامتناع النكاح الجديد (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي : وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرون وأسلمن مثل ما أنفقوا عليهنّ من المهور. قال الشافعي : وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) لأنهنّ قد صرن من أهل دينكم (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ ، وذلك بعد انقضاء عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب العدة ، (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) قرأ الجمهور (تُمْسِكُوا) بالتخفيف من الإمساك ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، لقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (١) وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد من التمسّك ،

__________________

(١). البقرة : ٢٣١ والطلاق : ٢.

٢٥٦

والعصم : جمع عصمة ، وهي ما يعتصم به ، والمراد هنا عصمة عقد النكاح ، والمعنى أنّ من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدّين. قال النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ، وكان الكفار يتزوجون المسلمات ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، وهذا خاصّ بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب. وقيل : عامة في جميع الكوافر مخصّصة بإخراج الكتابيات منها. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثنّي أو كتابيّ لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدّة. وقال بعض أهل العلم : يفرق بينهما بمجرّد إسلام الزوج ، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولا بها ، وأما إذا كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام إذ لا عدة عليها (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي : اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدّة إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت : ردّوا مهرها على زوجها الكافر (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) أي : ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين حكم الله ، وقوله : (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) في محل نصب على الحال. أو مستأنفة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي : بليغ العلم لا تخفى عليه خافية ، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله. قال القرطبي : وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصّة بإجماع المسلمين (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) لما نزلت الآية المتقدّمة قال المسلمون : رضينا بحكم الله وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا ، فنزل قوله : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) مما دفعتم إليهم من مهور النساء المسلمات ، وقيل : المعنى : وإن انفلت منكم أحد من نساءكم إلى الكفار بأن ارتدت المسلمة (فَعاقَبْتُمْ) قال الواحدي : قال المفسرون : فعاقبتم فغنمتم. قال الزجاج : تأويله : وكانت العقبى لكم ، أي : كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) من مهر المهاجرة التي تزوّجوها ودفعوه إلى الكفار ، ولا تؤتوه زوجها الكافر. قال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد الفتح. وحاصل معناها أن (مِنْ أَزْواجِكُمْ) يجوز أن يتعلّق بفاتكم ، أي : من جهة أزواجكم ، ويراد بالشيء المهر الّذي غرمه الزوج ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء. ثم يجوز في شيء أن يراد به المهر ، ولكن لا بدّ على هذا من مضاف محذوف ، أي : من مهر أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته ، ويجوز أن يراد بشيء النساء : أيّ نوع وصنف منهنّ ، وهو ظاهر قوله : (مِنْ أَزْواجِكُمْ) وقوله : (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) والمعنى : أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت ، ولم يردّ عليه المشركون مهرها ، كما حكم الله مثل ذلك المهر الّذي أنفقه عليها من الغنيمة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي : احذروا أن تتعرّضوا لشيء ممّا يوجب العقوبة عليكم ، فإن الإيمان الّذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه ذلك (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) أي : قاصدات لمبايعتك على الإسلام ، و (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأشياء كائنا ما كان ، هذا كان يوم فتح مكة ، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايعنه ، فأمره الله

٢٥٧

أن يأخذ عليهنّ أن لا يشركن (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) أي : لا يلحقن بأزواجهنّ ولدا ليس منهم. قال الفراء : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ وأرجلهنّ ، وذلك أن الولد إذا وضعته الأمّ سقط بين يديها ورجليها ، وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها من الزنا إلى زوجها ، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أي : في كل أمر هو طاعة لله. قال عطاء : في كل برّ وتقوى ، وقال المقاتلان : عنى بالمعروف النهي عن النوح ، وتمزيق الثياب ، وجزّ الشعر ، وشقّ الجيب ، وخمش الوجوه ، والدعاء بالويل ، وكذا قال قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد ابن السائب وزيد بن أسلم ، ومعنى القرآن أوسع مما قالوه. قيل : ووجه التقييد بالمعروف ، مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر إلا به التنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق (فَبايِعْهُنَ) هذا جواب إذا ، والمعنى : إذا بايعنك على هذه الأمور فبايعهنّ ، ولم يذكر في بيعتهن الصلاة والزكاة والصيام والحج ؛ لوضوح كون هذه الأمور ونحوها من أركان الدين وشعائر الإسلام. وإنما خصّ الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) أي : اطلب من الله المغفرة لهنّ بعد هذه المبايعة لهنّ منك (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : بليغ المغفرة والرحمة لعباده (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هم جميع طوائف الكفر ، وقيل : اليهود خاصة ، وقيل : المنافقون خاصة. وقال الحسن : اليهود والنصارى. والأوّل أولى ؛ لأن جميع طوائف الكفر تتّصف بأن الله سبحانه غضب عليها (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) «من» لابتداء الغاية ، أي : إنهم لا يوقنون بالآخرة البتة بسبب كفرهم (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي : كيأسهم من بعث موتاهم لاعتقادهم عدم البعث ، وقيل : كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من الآخرة ؛ لأنهم قد وقفوا على الحقيقة ، وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، فتكون (مِنَ) على الوجه الأوّل ابتدائية ، وعلى الثاني بيانية ، والأوّل أولى.

وقد أخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) حتى بلغ : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فطلّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. وأخرجه أيضا من حديثهما بأطول من هذا ، وفيه وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممّن خرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي عاتق (١) ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ) قال : كان امتحانهنّ أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا علموا أن ذلك حقا منهنّ لم يرجعن إلى الكفار ، وأعطى بعلها في الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صداقها الّذي أصدقها وأحلهنّ للمؤمنين إذا آتوهنّ أجورهنّ. وأخرج ابن مردويه

__________________

(١). «العاتق» : الشابة أول ما تدرك (النهاية ٣ / ١٧٨)

٢٥٨

عنه قال : نزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح ، فكان من أسلم من نسائهم ، فسئلت : ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت فرارا من زوجها ورغبة عنه ردت ، وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسك وردّ على زوجها مثل ما أنفق. وأخرج ابن أبي أسامة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، وابن مردويه ، بسند حسن كما قال السيوطي ، عن ابن عباس في قوله : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) قال : كان إذا جاءت المرأة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ، وبالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله. وأخرج ابن منيع من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أسلم عمر بن الخطاب وتأخرت امرأته في المشركين ، فأنزل الله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ). وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد بايعتك ـ كلاما ـ ، والله ما مسّت يده يد امرأة قط من المبايعات ما بايعهنّ إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أميمة بنت رقيقة قالت : «أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا حتى بلغ : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فقال : فيما استطعتن وأطقتن ، فقلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال : إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» وفي الباب أحاديث. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، وقرأ آية النساء ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له». وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريح عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ) قال : كانت الحرة تولد لها الجارية فتجعل مكانها غلاما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية. قال لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد ابن حميد ، والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم سلمة الأنصارية قالت : قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الّذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال : «لا تنحن ، قلت : يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي لا بدّ لي من قضائهن. فأبى علي فعاودته مرارا فأذن لي في قضائهنّ ، فلم أنح بعد ، ولم يبق من النسوة امرأة إلا وقد ناحت غيري». وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أمّ عطية قالت : «بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئا ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة منا يدها فقالت : يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها ، فلم يقل لها شيئا. فذهبت

٢٥٩

ثم رجعت فقالت : ما وفت منا امرأة إلا أمّ سليم وأمّ العلاء وبنت أبي سبرة امرأة معاذ أو بنت أبي سبرة وامرأة معاذ». وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمرو وزيد بن الحارث يودّان رجلا من اليهود ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) الآية. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله : (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) قال : فلا يؤمنون بها ولا يرجونها كما يئس الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : هم الكفار أصحاب القبور الذين يئسوا من الآخرة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم ، أو يبعثهم الله.

* * *

٢٦٠