فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

ملتفة بحذف الزوائد. قال الفراء : الجنة : ما فيه النخيل ، والفردوس : ما فيه الكرم (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي : وقتا ومجمعا وميعادا للأوّلين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا به من الثواب والعقاب ، وسمّي يوم الفصل ؛ لأنّ الله يفصل فيه بين خلقه ، وهذا شروع في بيان ما يتساءلون عنه من البعث ، وقيل : معنى ميقاتا ؛ أنه حدّ توقت به الدنيا وتنتهي عنده ، وقيل : حدّ للخلائق ينتهون إليه (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي : يوم ينفخ في الصور ، وهو القرن الّذي ينفخ فيه إسرافيل ، والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث (فَتَأْتُونَ) أي : إلى موضع العرض (أَفْواجاً) أي : زمرا زمرا ، وجماعات جماعات ، وهي جمع فوج ، وانتصاب (يَوْمَ يُنْفَخُ) على أنه بدل من يوم الفصل ، أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله وإن كان الفصل متأخرا عن النفخ ، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني ، وانتصاب أفواجا على الحال من فاعل «تأتون» ، والفاء في «فتأتون» فصيحة تدلّ على محذوف ، أي : فتأتون إلى موضع العرض عقيب ذلك أفواجا (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) معطوف على «ينفخ» ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي فتحت لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) كما في قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (١) وقيل : معنى فتحت قطعت فصارت قطعا كالأبواب ، وقيل : أبوابها : طرقها ، وقيل : تنحلّ وتتناثر حتى تصير فيها أبواب ، وقيل : إن لكل عبد بابين في السماء ؛ باب لرزقه وباب لعمله ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب ، وظاهر قوله : (فَكانَتْ أَبْواباً) أنها صارت كلها أبوابا ، وليس المراد ذلك ، بل المراد أنها صارت ذات أبواب كثيرة. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فتحت» مخففا. وقرأ الباقون بالتشديد (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي : سيرت عن أماكنها في الهواء ، وقلعت عن مقارّها ، فكانت هباء منبثا يظنّ الناظر أنها سراب ، والمعنى : أن الجبال صارت كلا شيء ؛ كما أن السراب يظنّ الناظر أنه ماء ، وليس بماء ، وقيل : معنى سيرت : أنها نسفت من أصولها ، ومثل هذا قوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٢) وقد ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة ، ولكن الجمع بينها أن نقول : أوّل أحوالها الاندكاك ، وهو قوله : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٣) وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش كما في قوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٤) وثالث أحوالها أن تصير كالهباء ، وهو قوله : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ـ فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٥) ورابع أحوالها : أن تنسف وتحملها الرياح كما في قوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وخامس أحوالها أن تصير سرابا ، أي : لا شيء كما في هذه الآية.

ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) قال الأزهري : المرصاد : المكان الّذي يرصد الراصد فيه العدوّ. قال المبرد : مرصادا يرصدون به ، أي : هو معدّ لهم يرصد به خزنتها الكفار. قال الحسن : إن على الباب رصدا لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم ، فمن جاء بجواز

__________________

(١). الفرقان : ٢٥.

(٢). النمل : ٨٨.

(٣). الحاقة : ١٤.

(٤). القارعة : ٥.

(٥). الواقعة : ٥ ـ ٦.

٤٤١

جاز ، ومن لم يجيء بجواز حبس. وقال مقاتل : محبسا ، وقيل : طريقا وممرّا ، قال في الصحاح : الراصد للشيء الراقب له ، يقال : رصده يرصده رصدا ، والترصّد : الترقّب ، والمرصد : موضع الرّصد. قال الأصمعي : رصدته أرصده : ترقبته ، ومعنى الآية : إن جهنم كانت في حكم الله وقضائه موضع رصد ؛ يرصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها ، أو هي في نفسها متطلعة لمن يأتي إليها من الكفار كما يتطلع الرصد لمن يمرّ به ويأتي إليهم ، والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار ، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار. ثم ذكر من هي مرصد له فقال : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) أي : مرجعا يرجعون إليه ، والمآب : المرجع ، يقال : آب يؤوب ؛ إذا رجع ، والطاغي : هو من طغى بالكفر ، و «للطاغين» نعت «لمرصادا» متعلق بمحذوف ، و «مآبا» بدل من «مرصادا» ، ويجوز أن يكون للطاغين في محل نصب على الحال من «مآبا» قدّمت عليه لكونه نكرة ، وانتصاب (لابِثِينَ فِيها) على الحال المقدّرة من الضمير المستكنّ في الطاغين. قرأ الجمهور : (لابِثِينَ) بالألف. وقرأ حمزة والكسائي : «لبثين» بدون ألف ، وانتصاب (أَحْقاباً) على الظرفية ، أي : ماكثين في النار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، وكلما مضى حقب جاء حقب ، وهي جمع حقب بضمتين ، وهو الدهر ، والأحقاب : الدهور ، والحقب بضم الحاء وسكون القاف : قيل : هو ثمانون سنة ، وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة ، السنة ثلاثمائة وستون يوما ، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل : الأحقاب : وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب ، وقال السدّي : الحقب سبعون سنة. وقال بشير بن كعب : ثلاثمائة سنة. وقال ابن عمر : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون ألف سنة. قال الحسن : الأحقاب لا يدري أحدكم هي ، ولكن ذكروا أنها مائة حقب ، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة ، اليوم منها كألف سنة. وقيل : الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار ، والأولى ما ذكرناه أوّلا من أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد. وحكى الواحدي : عن الحسن أنه قال : والله ما هي إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ، ثم كذلك إلى الأبد ، وجملة (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً ـ إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) مستأنفة لبيان ما اشتملت عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا ينفعهم من حرّها ولا شرابا ينفعهم من عطشها إلا حميما ، وهو الماء الحارّ ، وغساقا وهو صديد أهل النار. ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير الطاغين ، أو صفة للأحقاب ، والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم ، ويجوز أن يكون متصلا من قوله : (شَراباً) وقال مجاهد والسدّي وأبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي : البرد المذكور في هذه الآية هو النوم ، ومنه قول الكندي :

بردت مراشفها عليّ فصدّني

عنها وعن تقبيلها البرد

أي : النوم. قال الزجاج : أي : لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم ، فجعل البرد يشمل هذه الأمور. وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا ، أي : روحا وراحة. قرأ الجمهور : (غَسَّاقاً) بالتخفيف. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين ، وقد تقدّم تفسيره وتفسير الحميم والخلاف فيهما في سورة ص (جَزاءً وِفاقاً) أي : موافقا لأعمالهم ، وجزاء منتصب على المصدر ، ووفاقا نعت له. قال الفرّاء والأخفش : جازيناهم جزاء

٤٤٢

وافق أعمالهم ، قال الزجاج : جوزوا جزاء وافق أعمالهم. قال الفرّاء : الوفاق : جمع الوفق ، والوفق والموافق (١) واحد. قال مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة ، فأتاهم الله بما يسوءهم (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي : لا يرجون ثواب حساب. قال الزجاج : كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم ، والجملة تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي : كذّبوا بالآيات القرآنية ، أو كذّبوا بما هو أعم منها تكذيبا شديدا ، وفعال من مصادر التفعل. قال الفرّاء : هي لغة فصيحة يمانية ، تقول : كذبت كذابا ، وخرقت القميص خراقا. قال في الصحاح : وكذبوا بآياتنا كذابا هو أحد مصادر المشدّد ؛ لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم ، وعلى فعّال مثل كذّاب ، وعلى تفعلة مثل توصية ، وعلى مفعّل مثل (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) قرأ الجمهور : (كِذَّاباً) بالتشديد. وقرأ عليّ بن أبي طالب بالتخفيف. وقال أبو عليّ الفارسي التخفيف والتشديد جميعا مصدر المكاذبة. وقرأ ابن عمر «كذّابا» بضم الكاف والتشديد ، جمع كاذب. قال أبو حاتم ونصبه على الحال. قال الزمخشري : وقد يكون يعني على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، تقول : رجل كذّاب كقولك حسّان وبخّال (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) قرأ الجمهور : (وَكُلَ) بالنصب على الاشتغال ، أي : وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السّمّال برفعه على الابتداء ، وما بعده خبره ، وهذه الجملة معترضة بين السبب والمسبب ، وانتصاب «كتابا» على المصدرية لأحصيناه ؛ لأن أحصيناه في معنى كتبناه ، وقيل : هو منتصب على الحال ، أي : مكتوبا ، قيل : المراد كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة ، وقيل : أراد ما كتبه الحفظة على العباد من أعمالهم ، وقيل : المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان ، والأوّل أولى لقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٢) (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) هذه الجملة مسببة عن كفرهم وتكذيبهم بالآيات. قال الرّازي : هذه الفاء للجزاء ، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدّم شرحه من قبائح أفعالهم ؛ ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلودا غيرها. وكلما خبت النار زادهم الله سعيرا.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) قال : القرآن : وهذا مرويّ عن جماعة من التابعين ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) قال : مضيئا (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) قال : السحاب (ماءً ثَجَّاجاً) قال : منصبّا. وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (ثَجَّاجاً) قال : منصبّا. وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) قال : يبعث الله الريح ، فتحمل الماء فيمرّ به السحاب ، فتدرّ كما تدرّ اللقحة ، والثجاج ينزل من السماء أمثال

__________________

(١). في تفسير القرطبي (١٩ / ١٨١) : اللفق.

(٢). يس : ١٢.

٤٤٣

العزالى (١) فتصرّفه الرياح فينزل متفرّقا. وأخرج ابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن قتادة قال : في قراءة ابن عباس (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) بالرياح. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) قال : ملتفة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : يقول : التفّ بعضها ببعض. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) قال : سراب الشمس : الآل (٢). وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) قال : سنين. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن سالم بن أبي الجعد قال : سأل عليّ بن أبي طالب هلال الهجري : ما تجدون الحقب في كتاب الله؟ قال : نجده ثمانين سنة ، كل سنة منها اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة. وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود في الآية قال : الحقب الواحد ثمانون سنة. وأخرج البزار عن أبي هريرة رفعه قال : «الحقب ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم كألف سنة مما تعدّون». وأخرج عبد بن حميد عنه قال : الحقب ثمانون عاما اليوم منها كسدس الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ـ قال السيوطي : بسند ضعيف ـ عن أبي أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) قال : الحقب ألف شهر ، والشهر ثلاثون يوما ، والسنة اثنا عشر شهرا ثلاثمائة وستون يوما كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة. وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا ، والحقب بضع وثمانون سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم ألف سنة مما تعدّون». قال ابن عمر : فلا يتكلنّ أحد أنه يخرج من النار. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال : الحقب الواحد ثمانون سنة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحقب أربعون سنة». وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان في قوله : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) وقوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب ؛ لأن الله يقول : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً). وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً) قال : قد انتهى حرّه (وَغَسَّاقاً) قد انتهى برده ، وإن الرجل إذا أدني الإناء من فيه سقط فروة وجهه ، حتى يبقى عظاما تقعقع». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (جَزاءً وِفاقاً) قال : وافق أعمالهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله ابن عمرو قال : ما أنزلت على أهل النار آية قط أشدّ منها (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) فهم في مزيد من عذاب الله أبدا.

__________________

(١). العزالى : جمع عزلاء ، وهي مصب الماء من الراوية ونحوها.

(٢). في لسان العرب : الآل : هو الّذي يكون ضحى كالماء بين السماء والأرض.

٤٤٤

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) هذا شروع في بيان حال المؤمنين ، وما أعدّ الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين وما أعدّ الله لهم من الشرّ ، والمفاز مصدر ؛ بمعنى الفوز والظفر بالنعمة والمطلوب والنجاة من النار ، ومنه قيل : للفلاة مفازة تفاؤلا بالخلاص منها. ثم فسّر سبحانه هذا المفاز فقال : (حَدائِقَ وَأَعْناباً) وانتصابهما على أنهما بدل من «مفازا» بدل اشتمال ، أو بدل كلّ من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة ، ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني ، وإذا كان مفازا بمعنى الفوز ، فيقدر مضاف محذوف ، أي : فوز حدائق ، وهي جمع حديقة ، وهي البستان المحوّط عليه ، والأعناب : جمع عنب ، أي : كروم أعناب (وَكَواعِبَ أَتْراباً) الكواعب : جمع كاعبة ، وهي الناهدة ، يقال : كعبت الجارية تكعب تكعيبا وكعوبا ، ونهدت تنهد نهودا ، والمراد أنهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت ، أي : صارت ثديهنّ كالكعب في صدورهنّ. قال الضحاك : الكواعب : العذارى. قال قيس بن عاصم :

وكم من حصان قد حوينا كريمة

ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر

وقال عمر بن أبي ربيعة :

وكان مجني دون ما كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

والأتراب : الأقران في السنّ ، وقد تقدّم تحقيقه في سورة البقرة (وَكَأْساً دِهاقاً) أي : ممتلئة. قال الحسن وقتادة وابن زيد : أي مترعة مملوءة ، يقال : أدهقت الكأس ، أي : ملأتها ، ومنه قول الشاعر :

ألا فاسقني صرفا سقاني السّاقي

من مائها بكأسك الدّهاق

وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد : (دِهاقاً) متتابعة يتبع بعضها بعضا. وقال زيد بن أسلم : (دِهاقاً) صافية ، والمراد بالكأس الإناء المعروف ، ولا يقال له الكأس إلا إذا كان فيه الشراب (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) أي : لا يسمعون في الجنة (لَغْواً) وهو الباطل من الكلام ، (وَلا كِذَّاباً) أي : ولا يكذب بعضهم بعضا. قرأ الجمهور : (كِذَّاباً) بالتشديد ، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف ، ووافق الجماعة على التشديد في قوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك ، وقد قدّمنا الخلاف في كذابا هل هو من مصادر التفعيل أو من مصادر المفاعلة. (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي : جازاهم بما تقدّم ذكره جزاء. قال الزجاج : المعنى جزاهم جزاء ، وكذا (عَطاءً) أي : وأعطاهم عطاء (حِساباً) قال أبو عبيدة : كافيا. وقال ابن قتيبة : كثيرا ، يقال : أحسبت فلانا ، أي :

٤٤٥

أكثرت له العطاء ، ومنه قول الشاعر (١) :

ونقفي (٢) وليد الحيّ إن كان جائعا

ونحسبه إن كان ليس بجائع

قال ابن قتيبة : أي : نعطيه حتى يقول حسبي. قال الزجاج : (حِساباً) أي : ما يكفيهم. قال الأخفش : يقال : أحسبني كذا ، أي : كفاني. قال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. وقال مجاهد : حسابا لما عملوه ، فالحساب بمعنى القدر ، أي : يقدّر ما وجب له في وعد الربّ سبحانه ، فإنه وعد للحسنة عشرا ، ووعد لقوم سبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣) وقرأ أبو هاشم «حسّابا» بفتح الحاء وتشديد السين ، أي : كفافا. قال الأصمعي : تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد ؛ إذا أكرمته ، ومنه قول الشاعر :

إذا أتاه ضيفه يحسّبه

وقرأ ابن عباس : «حسانا» بالنون. (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ). قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب والمفضل عن عاصم برفع رب والرحمن على أن ربّ مبتدأ والرّحمن خبره ، أو على أن ربّ خبر مبتدأ مقدّر : أي : هو ربّ ، والرّحمن صفته ، و (لا يَمْلِكُونَ) خبر ربّ ، أو على أن ربّ مبتدأ ، والرّحمن مبتدأ ثان ، ولا يملكون خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. وقرأ يعقوب في رواية عنه وابن عامر وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن ربّ بدل من ربك ، والرّحمن صفة له. وقرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بخفض الأوّل على البدل ، ورفع الثاني على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الرّحمن ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال هذه القراءة أعدلها ، فخفض ربّ لقربه من ربك ، فيكون نعتا له ورفع الرّحمن لبعده منه على الاستئناف ، وخبره : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي : لا يملكون أن يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي : لا يملكون منه خطابا بالشفاعة إلا بإذنه ، وقيل : الخطاب الكلام ، أي : لا يملكون أن يخاطبوا الربّ سبحانه إلا بإذنه ، دليله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٤). وقيل : أراد الكفار ، وأما المؤمنون فيشفعون. ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدّم بيانه ، ويجوز أن تكون مستأنفة مقرّرة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) الظرف منتصب بلا يتكلمون ، أو بلا يملكون ، و «صفا» منتصب على الحال ، أي : مصطفين ، أو على المصدرية ، أي : يصفون صفا ، وقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ) في محل نصب على الحال ، أو مستأنف لتقرير ما قبله.

__________________

(١). القائل : امرأة من بني قشير.

(٢). «نقفيه» : أي نؤثره بالتقفية ، وهي ما يؤثر به الضيف والصبي.

(٣). الزمر : ١٠.

(٤). هود : ١٠٥.

٤٤٦

واختلف في الروح ؛ فقيل : إنه ملك من الملائكة أعظم من السماوات السبع ومن الأرضين السبع ومن الجبال ، وقيل : هو جبريل ، قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وقيل : الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة ، قاله أبو صالح ومجاهد ، وقيل : هم أشراف الملائكة ، قاله مقاتل بن حيان. وقيل : هم حفظة على الملائكة ، قاله ابن أبي نجيح. وقيل : هم بنو آدم ، قاله الحسن وقتادة. وقيل : هم أرواح بني آدم تقوم صفا وتقوم الملائكة صفا ، وذلك بين النفختين قبل أن تردّ إلى الأجسام ، قاله عطية العوفي. وقيل : إنه القرآن ، قاله زيد بن أسلم. وقوله : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) يجوز أن يكون بدلا من ضمير يتكلمون ، وأن يكون منصوبا على أصل الاستثناء ، والمعنى : لا يشفعون لأحد إلا من أذن له الرّحمن بالشفاعة ، أو لا يتكلّمون إلا في حقّ من أذن له الرّحمن (وَ) كان ذلك الشخص ممّن (قالَ صَواباً) قال الضحاك ومجاهد : (صَواباً) يعني حقا. وقال أبو صالح : لا إله إلا الله. وأصل الصواب السداد من القول والفعل. قيل : (لا يَتَكَلَّمُونَ) يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا هيبة وإجلالا إلا من أذن له الرّحمن منهم في الشفاعة ، وهم قد قالوا صوابا. قال الحسن : إن الروح يقول يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة ، ولا النار إلا بالعمل. قال الواحدي : فهم (لا يَتَكَلَّمُونَ) يعني الخلق كلهم إلا من أذن له الرّحمن وهم المؤمنون والملائكة ، (وَقالَ) في الدنيا (صَواباً) أي : شهد بالتوحيد ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى يوم قيامهم على تلك الصفة ، وهو مبتدأ وخبره (الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الكائن الواقع المتحقق (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي : مرجعا يرجع إليه بالعمل الصالح ؛ لأنه إذا عمل خيرا قرّبه إلى الله ، وإذا عمل شرّا باعده منه ، ومعنى (إِلى رَبِّهِ) إلى ثواب ربه ، قال قتادة : (مَآباً) : سبيلا. ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني العذاب في الآخرة ، وكلّ ما هو آت فهو قريب ، ومثله قوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (١) كذا قال الكلبي وغيره. وقال قتادة : هو عذاب الدنيا لأنه أقرب العذابين. قال مقاتل : هو قتل قريش ببدر ، والأوّل أولى لقوله : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) فإن الظرف إما بدل من عذاب ، أو ظرف لمضمر هو صفة له ، أي : عذابا كائنا (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) أي : يشاهد ما قدّمه من خير أو شرّ ، و «ما» موصولة أو استفهامية. قال الحسن : والمرء هنا هو المؤمن ، أي : يجد لنفسه عملا ، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا فيتمنى أن يكون ترابا ، وقيل : المراد به الكافر على العموم ، وقيل : أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط ، والأوّل أولى لقوله : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) فإن الكافر واقع في مقابلة المرء ، والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون ترابا لما يشاهده مما قد أعدّه الله له من أنواع العذاب ، والمعنى : أنه يتمنى أنه كان ترابا في الدنيا فلم يخلق ، أو ترابا يوم القيامة. وقيل : المراد بالكافر أبو جهل ، وقيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وقيل : إبليس ، والأوّل أولى اعتبارا بعموم اللفظ ، ولا ينافيه خصوص السبب كما تقدّم غير مرّة.

__________________

(١). النازعات : ٤٦.

٤٤٧

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) قال : منتزها (وَكَواعِبَ) قال : نواهد (أَتْراباً) قال : مستويات (وَكَأْساً دِهاقاً) قال : ممتلئا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس في قوله : (وَكَأْساً دِهاقاً) قال : هي الممتلئة المترعة المتتابعة ، وربما سمعت العباس يقول : يا غلام اسقنا وادهق لنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه : (دِهاقاً) قال : دراكا. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال : إذا كان فيها خمر فهي كأس ، وإذا لم يكن فيها خمر فليس بكأس. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عنه أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الروح جند من جنود الله ، ليسوا بملائكة ، لهم رؤوس وأيد وأرجل» ثم قرأ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال : هو ملك من أعظم الملائكة خلقا. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : «الروح في السماء الرابعة ، وهو أعظم من السموات والجبال ومن الملائكة ، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفا وحده». وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : «إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله ، يقول : سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك ، ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب ، أما سمعت قول الله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا)». وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال : يعني حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الأرواح إلى الأجساد.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عنه أيضا (وَقالَ صَواباً) قال : لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن أبي هريرة قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكلّ شيء ، فيبلغ من عدل الله أن يؤخذ للجمّاء (١) من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا ، فذلك حين يقول الكافر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

* * *

__________________

(١). «الجماء» : التي لا قرون لها.

٤٤٨

سورة النّازعات

وتسمى سورة الساهرة ، هي خمس وأربعون آية ، وقيل : ست وأربعون آية وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة النازعات بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها ، وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم ؛ كما ينزع النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدّ ، وكذا المراد بالناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات ، يعني : الملائكة ، والعطف مع اتحاد الكلّ لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي ، كما في قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال السدّي : (النَّازِعاتِ) هي النفوس حين تغرق في الصدور. وقال مجاهد : هي الموت ينزع النفس. وقال قتادة : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق ، من قولهم : نزع إليهم إذا ذهب ، أو من قولهم نزعت بالحبل ، أي : إنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر. وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان. وقال عطاء وعكرمة : النازعات : القسي تنزع بالسهام ، وإغراق النازع في القوس أن يمدّه غاية المدّ حتى ينتهي به إلى النصب. وقال يحيى بن سلام : تنزع من الكلأ وتنفر ، وقيل : أراد بالنّازعات : الغزاة الرّماة ، وانتصاب (غَرْقاً) على أنه مصدر بحذف الزوائد ، أي : إغراقا ، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى ، أي : إغراقا في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجسام ، أو على الحال ، أي : ذوات إغراق ، يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه ؛ إذا أوغل فيه وبلغ غايته (وَ) معنى (النَّاشِطاتِ) أنها تنشط النفوس ، أي : تخرجها من الأجساد كما ينشط العقال من يد البعير ؛ إذا

٤٤٩

حلّ عنه ، ونشط الرجل الدلو من البئر ؛ إذا أخرجها ، والنّشط : الجذب بسرعة ، ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلّها. قال أبو زيد : نشطت الحبل أنشطه عقدته ، وأنشطته ، أي : حللته ، وأنشطت الحبل ، أي : مددته. قال الفراء : أنشط العقال ، أي : حلّ ، ونشط ، أي : ربط الحبل في يديه. قال الأصمعي : بئر أنشاط ، أي : قريبة القعر ، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة ، وبئر نشوط ، وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيرا. وقال مجاهد : هي الموت ينشط نفس الإنسان. وقال السدّي : هي النفوس حين تنشط من القدمين. وقال عكرمة وعطاء : هي الأوهاق (١) التي تنشط السهام ، وقال قتادة والحسن والأخفش : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي : تذهب. قال في الصحاح : (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) يعني النجوم من برج إلى برج ؛ كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها. وقال أبو عبيدة وقتادة : هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد. وقيل : الناشطات لأرواح المؤمنين ، والنازعات لأرواح الكافرين ؛ لأنها تجذب روح المؤمن برفق وتجذب روح الكافر بعنف ، وقوله : (نَشْطاً) مصدر ، وكذا سبحا وسبقا. (وَالسَّابِحاتِ) الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح كما يسبح الغوّاص في البحر لإخراج شيء منه. وقال مجاهد وأبو صالح : هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله ، كما يقال للفرس الجواد سابح ؛ إذا أسرع في جريه. وقال مجاهد أيضا : السّابحات : الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل : هي الخيل السابحة في الغزو ، ومنه قول عنترة :

والخيل تعلم حين تس

بح في حياض الموت سبحا

وقال قتادة والحسن : هي النجوم تسبح في أفلاكها ، كما في قوله : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢) وقال عطاء : هي السفن تسبح في الماء ، وقيل : هي أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى الله (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) هم الملائكة على قول الجمهور كما سلف. قال مسروق ومجاهد : تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء. وقال أبو روق : هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح ، وروي نحوه عن مجاهد. وقال مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. وقال الربيع : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقا إلى الله. وقال مجاهد أيضا : هو الموت يسبق الإنسان. وقال قتادة والحسن ومعمر : هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضا. وقال عطاء : هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل : هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار. قال الجرجاني : عطف السابقات بالفاء ؛ لأنها مسببة من التي قبلها ، أي : واللاتي يسبحن فيسبقن ، تقول : قام فذهب ، فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب ، ولو قلت قام وذهب بالواو لم يكن القيام سببا للذهاب. قال الواحدي : وهذا غير مطرد في قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) لأنه يبعد أن يجعل السبق سببا للتدبّر ، قال الرازي : ويمكن الجواب عما قاله الواحدي : بأنها لما أمرت سبحت فسبقت

__________________

(١). «الأوهاق» : جمع وهق ، الحبل تشدّ به الإبل والخيل لئلا تندّ.

(٢). يس : ٤٠.

٤٥٠

فدبرت ما أمرت بتدبيره ، فتكون هذه أفعالا يتصل بعضها ببعض ، كقوله : قام زيد فذهب. ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم ففوّض إليهم التدبير. ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سببا للتدبير كسببية السبح للسبق والقيام للذهاب ، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية. والأولى أن يقال العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء ، ولا يحتاج إلى نكتة كما احتاج إليها ما قبله لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) قال القشيري : أجمعوا على أن المراد هنا الملائكة. وقال الماوردي : فيه قولان : أحدهما : الملائكة وهو قول الجمهور ، والثاني : أنها الكواكب السبع ، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان : أحدهما : تدبّر طلوعها وأفولها. الثاني : تدبّر ما قضاه الله فيها من الأحوال. ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما والفاعل للتدبير في الحقيقة وإن كان هو الله عزوجل ، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به. وقيل : إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها : مدبرات. قال عبد الرّحمن ابن ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل فمو كل بالقطر والنبات ، وأما عزرائيل فمو كل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم ، وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف ، أي : والنازعات ، وكذا وكذا لتبعثنّ. قال الفرّاء : وحذف لمعرفة السامعين به ، ويدل عليه قوله : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (١) وقيل : إن جواب القسم قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢) أي : إن في يوم القيامة ذكر وموسى وفرعون لعبرة لمن يخشى. قال ابن الأنباري : وهذا قبيح ؛ لأن الكلام قد طال بينهما ، وقيل : جواب القسم (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٣) لأن المعنى : قد أتاك ، وهذا ضعيف جدا. وقيل : الجواب (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) على تقدير : ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة. وقال السجستاني : يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير ، كأنه قال : فإذا هم بالساهرة والنازعات. قال ابن الأنباري : وهذا خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام ، والأوّل أولى (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدّر للقسم ، أو بإضمار : اذكر ، والراجفة : المضطربة ، يقال : رجف يرجف ؛ إذا اضطرب ، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردّد واضطراب كالرعد ، وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق ، والرادفة : النفخة الثانية التي تكون عند البعث ، وسميت رادفة لأنها ردفت النفخة الأولى ، كذا قال جمهور المفسرين. وقال ابن زيد : الراجفة : الأرض ، والرادفة : الساعة. وقال مجاهد : الرادفة : الزلزلة تتبعها الرادفة الصيحة ، وقيل : الراجفة : اضطراب الأرض ، والرادفة : الزلزلة ، وأصل الرجفة : الحركة ، وليس المراد التحرك هنا فقط ؛ بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم : رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا ؛ إذا ظهر صوته ، ومنه سميت الأراجيف ؛ لاضطراب الأصوات بها وظهور الأصوات فيها ، ومنه قول الشاعر (٤) :

__________________

(١). النازعات : ١١.

(٢). النازعات : ٢٦.

(٣). طه : ٩.

(٤). هو منازل بن ربيعة المنقري.

٤٥١

أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني

وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا

ومحل (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) النصب على الحال من الراجفة ، والمعنى : لتبعثنّ يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) قلوب مبتدأ ، ويومئذ منصوب بواجفة ، وواجفة صفة قلوب ، وجملة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) خبر قلوب ، والواجفة : المضطربة القلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة. قال جمهور المفسرين : أي خائفة وجلة. وقال السدّي : زائلة عن أماكنها ، نظيره (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) (١) وقال المؤرج : قلقة مستوفزة. وقال المبرد : مضطربة ، يقال : وجف القلب يجف وجيفا ؛ إذا خفق ، كما يقال : وجب يجب وجيبا ، والإيجاف : السير السريع ، فأصل الوجيف اضطراب القلب ، ومنه قول قيس بن الخطيم :

إنّ بني جحجبى وقومهم

أكبادنا من ورائهم تجف

(أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي : أبصار أصحابها ، فحذف المضاف ، والخاشعة : الذليلة ، والمراد أنها تظهر عليهم الذلة والخضوع عند معاينة أهوال يوم القيامة ؛ كقوله : (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) (٢) قال عطاء : يريد أبصار من مات على غير الإسلام ، ويدلّ على هذا أن السياق في منكري البعث (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) هذا حكاية لما يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم إنكم تبعثون ، أي : أنردّ إلى أوّل حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء بعد موتنا ، يقال : رجع فلان في حافرته ، أي : رجع من حيث جاء ، والحافرة عند العرب اسم لأوّل الشيء وابتداء الأمر ، ومنه قولهم : رجع فلان على حافرته ، أي : على الطريق الّذي جاء منه ، ويقال : اقتتل القوم عند الحافرة ، أي : عند أوّل ما التقوا ؛ وسمّيت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة ، ومن هذا قول الشاعر :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعار

أي : أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل بعد الشيب والصلع. وقيل : الحافرة : العاجلة ، والمعنى : إنّا لمردودون إلى الدنيا ، وقيل : الحافرة : الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، ومنه قول الشاعر :

آليت لا أنساكم فاعلموا

حتّى يردّ النّاس في الحافرة

والمعنى : إنا لمردودون في قبورنا أحياء ، كذا قال الخليل والفراء ، وبه قال مجاهد. وقال ابن زيد : الحافرة :

النار ، واستدلّ بقوله : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ). قرأ الجمهور : (فِي الْحافِرَةِ) وقرأ أبو حيوة «في الحفرة». (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي : بالية متفتتة. يقال : نخر العظم بالكسر ؛ إذا بلي ، وهذا تأكيد لإنكار البعث ، أي : كيف نردّ أحياء ونبعث إذا كنا عظاما نخرة ، والعامل في «إذا» مضمر يدلّ عليه مردودون ، أي : أإذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة. قرأ الجمهور : (نَخِرَةً)

__________________

(١). غافر : ١٨.

(٢). الشورى : ٤٥.

٤٥٢

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر «ناخرة» واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ، واختار القراءة الثانية الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي. قال أبو عمرو بن العلاء : الناخرة التي لم تنخر بعد ، أي : لم تبل ولا بدّ أن تنخر. وقيل : هما بمعنى ، تقول العرب : نخر الشيء فهو ناخر ونخر ، وطمع فهو طامع وطمع ونحو ذلك. قال الأخفش : هما جميعا لغتان أيهما قرأت فحسن. قال الشاعر :

يظلّ بها الشيخ الّذي كان بادنا

يدبّ على عوج له نخرات

يعني على قوائم عوج ، وقيل : الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها ، والنخرة : التي فسدت كلّها. وقال مجاهد (نَخِرَةً) أي : مرفوتة ، كما في قوله : (رُفاتاً) (١) ، وقرئ (إِذا كُنَّا) و (أَإِذا كُنَّا) بالاستفهام وبعدمه. ثم ذكر سبحانه عنهم قولا آخر قالوه فقال : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي : رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران ، والمعنى : أنهم قالوا : إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد. وقيل : معنى خاسرة كاذبة ، أي : ليست بكائنة ، كذا قال الحسن وغيره. وقال الربيع بن أنس : خاسرة على من كذب بها. وقال قتادة ومحمد بن كعب : أي لئن رجعنا بعد الموت لنخسرنّ بالنار ، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار ، والكرّة : الرجعة ، والجمع كرّات. وقوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) تعليل لما يدل عليه ما تقدّم من استبعادهم لبعث العظام النخرة وإحياء الأموات ، والمعنى : لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة ، وكان ذلك الإحياء والبعث ، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها. وقيل : إن الضمير في قوله : (فَإِنَّما هِيَ) راجع إلى الرادفة المتقدّم ذكرها (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي : فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض ، قال الواحدي : المراد بالساهرة وجه الأرض ، وظاهرها في قول الجميع. قال الفرّاء : سمّيت بهذا الاسم لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم ، وقيل : لأن يسهر في فلاتها خوفا منها ، فسميت بذلك ، ومنه قول أبي كبير الهذليّ :

يرتدن ساهرة كأنّ جميمها

وعميمها أسداف ليل مظلم (٢)

وقول أمية بن أبي الصّلت :

وفيها لحم ساهرة وبحر

وما فاهوا به لهم مقيم

يريد لحم حيوان أرض ساهرة. قال في الصحاح : الساهرة : وجه الأرض ، ومنه قوله : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ). وقال : الساهرة : أرض بيضاء ، وقيل : أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها ، وقيل : الساهرة : الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق. وقال سفيان الثوري : الساهرة : أرض

__________________

(١). الإسراء : ٤٩.

(٢). «الجميم» : النبت الّذي قد نبت وارتفع قليلا ولم يتم كل التمام. «العميم» : المكتمل التام من النبت. «الأسداف» : جمع سدف ، وهو ظلمة الليل.

٤٥٣

الشام. وقال قتادة : هي جهنم ، أي : فإذا هؤلاء الكفار في جهنم ، وإنما قيل : لها ساهرة لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم. وجملة (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب قومه ، وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممّن هو أقوى منهم ، ومعنى (هَلْ أَتاكَ) : قد جاءك وبلغك ، هذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما ، وعلى تقدير أن هذا ما نزل عليه في شأنهما ؛ فيكون المعنى على الاستفهام ، أي : هل أتاك حديثه أنا أخبرك به (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) الظرف متعلق بحديث لا بأتاك لاختلاف وقتيهما ، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية ، وقد تقدّم الاختلاف بين القرّاء في طوى في سورة طه. والواد المقدّس : المبارك المطهر. قال الفراء : طوى واد بين المدينة ومصر. قال : وهو معدول من طاو ، كما عدل عمر من عامر. قال : والصرف أحبّ إذ لم أجد في المعدول نظيرا له. وقيل : طوى معناه يا رجل بالعبرانية ، فكأنه قيل يا رجل اذهب ، وقيل : المعنى : إن الوادي المقدّس بورك فيه مرتين ، والأوّل أولى. وقد مضى تحقيق القول فيه (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) قيل : هو على تقدير القول ، وقيل : هو تفسير للنداء ، أي : ناداه نداء هو قوله : اذهب. وقيل : هو على حذف أن المفسرة ، ويؤيده قراءة ابن مسعود أن اذهب ؛ لأن في النداء معنى القول ، وجملة (إِنَّهُ طَغى) تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال ، أي : جاوز الحدّ في العصيان والتكبر والكفر بالله (فَقُلْ) له (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي : قل له بعد وصولك إليه : هل لك رغبة إلى التزكي؟ وهو التطهر من الشرك ، وأصله تتزكى فحذفت إحدى التاءين. قرأ الجمهور : (تَزَكَّى) بالتخفيف. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي. قال أبو عمرو بن العلاء : معنى قراءة التخفيف تكون زكيا مؤمنا ، ومعنى قراءة التشديد الصدقة ، وفي الكلام مبتدأ مقدّر يتعلق به إلى ، والتقدير : هل لك رغبة أو هل بك توجه أو هل لك سبيل إلى التزكي ، ومثل هذا قولهم : هل لك في الخير؟ يريدون : هل لك رغبة في الخير ، ومن هذا قول الشاعر (١) :

فهل لكم فيها إليّ فإنّني

طبيب بما أعيا النطاسيّ حذيما (٢)

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي : أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه ، والفاء لترتيب الخشية على الهداية ؛ لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف ، يعني : فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع ، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها) (٣) فعند ذلك أراه الآية الكبرى.

واختلف في الآية الكبرى ما هي؟ فقيل : يده ، وقيل : فلق البحر ، وقيل : هي جميع ما جاء به من الآيات التسع (فَكَذَّبَ وَعَصى) أي : فلما أراه الآية الكبرى كذّب بموسى وبما جاء به ، وعصى الله عزّ

__________________

(١). هو أوس بن أوس.

(٢). أي : ابن حذيم.

(٣). الأعراف : ١٠٦.

٤٥٤

وجلّ فلم يطعه (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي : تولّى وأعرض عن الإيمان (يَسْعى) أي : يعمل بالفساد في الأرض ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى ، وقيل : أدبر هاربا من الحية يسعى خوفا منها. وقال الرازي : معنى (أَدْبَرَ يَسْعى) أقبل يسعى ، كما يقال : أقبل يفعل كذا ، أي : أنشأ يفعل كذا ، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال. (فَحَشَرَ) أي : فجمع جنوده للقتال والمحاربة ، أو جمع السحرة للمعارضة ؛ أو جمع الناس للحضور ليشاهدوا ما يقع ، أو جمعهم ليمنعوه من الحية (فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي : قال لهم بصوت عال ، أو أمر من ينادي بهذا القول. ومعنى (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أنه لا ربّ فوقي. قال عطاء : كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها وقال : أنا ربّ أصنامكم ، وقيل : أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم. والأوّل أولى لقوله في آية أخرى : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (١) (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) النكال نعت مصدر محذوف ، أي : أخذه أخذ نكال ، أو هو مصدر لفعل محذوف ، أي : أخذه الله فنكله نكال الآخرة والأولى ، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، والمراد بنكال الآخرة عذاب النار ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق. وقال مجاهد : عذاب أوّل عمره وآخره ، وقال قتادة : الآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) والأولى تكذيبه لموسى. وقيل : الآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) والأولى قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وكان بين الكلمتين أربعون سنة ، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له ، أي : أخذه الله لأجل نكال ، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض ، أي : بنكال. ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد ، قال : لأن معنى أخذه الله : نكل الله به ، فأخرج من معناه لا من لفظه. وقال الفرّاء : أي أخذه الله أخذا نكالا : أي : للنكال ، والنكال : اسم لما جعل نكالا للغير ، أي : عقوبة له ، يقال : نكل فلان بفلان : إذا عاقبه ، وأصل الكلمة من الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل القيد (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي : فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه ، ويخاف عقوبته ويحاذر غضبه.

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) قال : هي الملائكة تنزع روح الكفار (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) قال : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) هي الملائكة يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) قال : هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار. وأخرج الحاكم وصححه عنه (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ـ وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) قال : الموت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) قال : الملائكة الذين يلون أنفس الكفار

__________________

(١). القصص : ٣٨.

٤٥٥

إلى قوله : (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قال : الملائكة.

وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمزّق الناس فتمزقك كلاب النار ، قال الله : (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) أتدري ما هو؟ قلت : يا نبيّ الله ما هو؟ قال : كلاب في النار تنشط اللحم والعظم». وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) قال : هي الملائكة يدبرون ذكر الرّحمن وأمره. وأخرج ابن أبي الدنيا في «ذكر الموت» عن ابن عباس قال : المدبرات أمرا ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم ، فمنهم من يعرج بالروح ، ومنهم من يؤمّن على الدّعاء ، ومنهم من يستغفر للميت حتى يصلى عليه ويدلى في حفرته.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) قال : النفخة الأولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قال : النفخة الثانية (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) قال : خائفة (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) قال : الحياة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وحسّنه ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبيّ بن كعب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال : «أيها الناس اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه». وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ترجف الأرض رجفا ، وتزلزل بأهلها ، وهي التي يقول الله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ـ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يقول : مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائه». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) قال : وجلة متحركة. وأخرج عبد ابن حميد عنه (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) قال : خلقا جديدا. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن الأنباري في الوقف والابتداء ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه سئل عن قوله : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فقال : الساهرة وجه الأرض ، وفي لفظ قال : الأرض كلها ساهرة ، ألا ترى قول الشاعر :

صيد بحر وصيد ساهرة

وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) قال : هل لك أن تقول : لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ) قال : قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَالْأُولى) قال : قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي). وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبد الله ابن عمرو قال : كان بين كلمتيه أربعون سنة.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ

٤٥٦

مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) أي : أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشدّ عندكم وفي تقديركم أم خلق السماء ، والخطاب لكفار مكة ، والمقصود به التوبيخ لهم والتبكيت ؛ لأن من قدر على خلق السماء التي لها هذا الجرم العظيم وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أوّل مرّة؟ ومثل هذا قوله سبحانه : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (١) وقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٢) ثم بين سبحانه كيفية خلق السماء فقال : (بَناها ـ رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) أي : جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض ، ورفع سمكها ، أي : أعلاه في الهواء ، فقوله : (رَفَعَ سَمْكَها) بيان للبناء ، يقال سمكت الشيء ، أي : رفعته في الهواء ، وسمك الشيء سموكا : ارتفع. قال الفرّاء : كل شيء حمل شيئا من البناء أو غيره فهو سمك ، وبناء مسموك ، وسنام سامك ، أي : عال ، والمسموكات : السماوات : ومنه قول الفرزدق :

إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

قال البغوي : (رَفَعَ سَمْكَها) أي : سقفها. قال الكسائي والفراء والزجاج : تمّ الكلام عند قوله : (أَمِ السَّماءُ بَناها) لأنه من صلة السماء ، والتقدير : أم السماء التي بناها ، فحذف التي ، ومثل هذا الحذف جائز. ومعنى (فَسَوَّاها) فجعلها مستوية الخلق معدّلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور ولا شقوق (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) الغطش : الظلمة ، أي : جعله مظلما ، يقال : غطش الليل وأغطشه الله ، كما يقال : أظلم الليل وأظلمه الله ، ورجل أغطش وامرأة غطشى لا يهتديان. قال الراغب : وأصله من الأغطش ، وهو الّذي في عينه عمش ، ومنه فلاة غطشى لا يهتدى فيها (٣) ، والتغاطش : التعامي. قال الأعشى :

ويهماء باللّيل غطشى الفلا

ة يؤنسني صوت فيادها (٤)

وقوله :

وغامرهم مدلهمّ غطش (٥)

يعني : غمرهم سواد الليل ، وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس والشمس مضافة إلى السماء (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي : أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس ، وعبّر عن النهار بالضحى ؛ لأنه

__________________

(١). غافر : ٥٧.

(٢). يس : ٨١.

(٣). في تفسير القرطبي : لها.

(٤). «الفياد» : ذكر البوم.

(٥). وصدر البيت : عقرت لهم موهنا ناقتي.

٤٥٧

أشرف أوقاته وأطيبها ، وأضافه إلى السماء لأنه يظهر بظهور الشمس ، وهي منسوبة إلى السماء (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي : بعد خلق السماء ، ومعنى دحاها : بسطها ، وهذا يدلّ على أن خلق الأرض بعد خلق السماء ، ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدّم في سورة فصلت من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (١) بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أوّلا غير مدحوّة ثم خلق السماء ثم دحا الأرض ، وقد قدّمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك ، وقدّمنا أيضا بحثا في هذا في أوّل سورة البقرة عند قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢) وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع كما في قوله : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (٣) ؛ وقيل : بعد بمعنى قبل كقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) (٤) أي : من قبل الذكر. والجمع الّذي ذكرناه أولى ، وهو قول ابن عباس وغير واحد ، واختاره ابن جرير. يقال : دحوت الشيء أدحوه ؛ إذا بسطته ، ويقال لعشّ النعامة : أدحي ، لأنه مبسوط على الأرض ، وأنشد المبرد :

دحاها فلمّا رآها استوت

على الماء أرسى عليها الجبالا

وقال أمية بن أبي الصّلت :

وبثّ الخلق فيها إذ دحاها

فهم قطّانها حتّى التّنادي

وقال زيد بن عمرو بن نفيل :

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلمّا استوت شدّها

بأيد وأرسى عليها الجبالا

قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال ، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السّمّال وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي : فجّر من الأرض الأنهار والبحار والعيون (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ـ وَمَرْعاها) أي : النبات الّذي يرعى ، ومرعاها مصدر ميميّ ، أي : رعيها ، وهو في الأصل موضع الرعي ، والجملة إما بيان وتفسير لدحاها ؛ لأنّ السّكنى لا تتأتى بمجرّد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب. وإما في محل نصب على الحال (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي : أثبتها في الأرض وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقرّ وأن لا تميد بأهلها. قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وأبو حيوة وأبو السّمّال وعمرو بن عبيد ونصر ابن عاصم بالرفع على الابتداء ، قيل : ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي : منفعة لكم ولأنعامكم من البقر والإبل والغنم ، وانتصاب «متاعا» على المصدرية ، أي : متعكم بذلك متاعا ، أو هو مصدر من غير لفظه ، لأن قوله : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) بمعنى متع بذلك ، أو على أنه مفعول له ، أي : فعل ذلك لأجل

__________________

(١). فصلت : ١١.

(٢). البقرة : ٢٩.

(٣). القلم : ١٣.

(٤). الأنبياء : ١٠٥.

٤٥٨

التمتيع ، وإنما قال : (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) لأن فائدة ما ذكر من الدحوّ وإخراج الماء والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم ، والمرعى : يعمّ ما يأكله الناس والدواب (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي : الداهية العظمى التي تطمّ على سائر الطامات. قال الحسن وغيره : وهي النفخة الثانية. وقال الضحاك وغيره : هي القيامة سميت بذلك لأنها تطمّ على كل شيء لعظم هولها. قال المبرد : الطامة عند العرب : الداهية التي لا تستطاع ، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم : طمّ الفرس طميما ؛ إذا استفرغ جهده في الجري ، وطمّ الماء ؛ إذا ملأ النهر كله. وقال غيره : هو من طمّ السّيل الرّكية (١) ، أي : دفنها ، والطمّ : الدفن. قال مجاهد وغيره : الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها ، وجواب «إذا» قيل هو قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) ، وقيل : محذوف ، أي : فإن الأمر كذلك ، أو عاينوا ، أو علموا ، أو أدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقال أبو البقاء : العامل فيها جوابها ، وهو معنى (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) فإنه منصوب بفعل مضمر ، أي : أعني يوم يتذكر ، أو يوم يتذكر يكون كيت وكيت. وقيل : إن الظرف بدل من إذا ، وقيل : هو بدل من الطامة الكبرى ؛ ومعنى (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أنه يتذكر ما عمله من خير أو شر ؛ لأنه يشاهده مدوّنا في صحائف عمله ، و «ما» مصدرية ، أو موصولة (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) معطوف على جاءت ، ومعنى برزت : أظهرت إظهارا لا يخفى على أحد. قال مقاتل : يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق ، وقيل : (لِمَنْ يَرى) من الكفار ، لا من المؤمنين ؛ والظاهر أن تبرز لكلّ راء ، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها ، وأما الكافر فيزداد غمّا إلى غمّه ، وحسرة إلى حسرته. قرأ الجمهور : (لِمَنْ يَرى) بالتحتية ، وقرأت عائشة ومالك ابن دينار وعكرمة وزيد بن عليّ بالفوقية ، أو : لمن تراه الجحيم ، أو لمن تراه أنت يا محمد. وقرأ ابن مسعود : «لمن رأى» على صيغة الفعل الماضي (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي : جاوز الحد في الكفر والمعاصي (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : قدّمها عن الآخرة ولم يستعدّ لها ولا عمل عملها (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي : مأواه ، والألف واللام عوض عن المضاف إليه ، والمعنى : أنها منزله الّذي ينزله ، ومأواه الّذي يأوي إليه ؛ لا غيرها. ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة. قال الربيع : مقامه يوم الحساب. قال قتادة : يقول : إن الله عزوجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد : هو خوفه في الدنيا من الله عزوجل عند مواقعة الذنب فيقلع عنه ، نظيره قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٢) والأوّل أولى (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي : زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها. قال مقاتل : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي : المنزل الّذي ينزله والمكان الّذي يأوي إليه لا غيرها (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي : متى وقوعها وقيامها؟ قال الفراء : أي : منتهى قيامها كرسوّ السفينة. قال أبو عبيدة : ومرسى السفينة

__________________

(١). أي البئر ؛ أي جرى سيل الوادي.

(٢). الرّحمن : ٥٦.

٤٥٩

حين تنتهي ، والمعنى : يسألونك عن الساعة متى يقيمها الله ، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي : في أيّ شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها ، والمعنى : لست في شيء من علمها وذكراها إنما يعلمها الله سبحانه ، وهو إنكار وردّ لسؤال المشركين عنها ، أي : فيم أنت من ذلك حتى يسألونك عنه ولست تعلمه (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي : منتهى علمها ، فلا يوجد علمها عند غيره ، وهذا كقوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) (١) وقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٢) فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي : مخوّف لمن يخشى قيام الساعة ، وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر الله بعلمه ، وخصّ الإنذار بمن يخشى ؛ لأنهم المنتفعون بالإنذار وإن كان منذرا لكلّ مكلّف من مسلم وكافر. قرأ الجمهور بإضافة (مُنْذِرُ) إلى ما بعده. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن وشيبة والأعرج وحميد بالتنوين ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. قال الفراء : والتنوين وتركه في منذر صواب ، كقوله : (بالِغُ أَمْرِهِ) (٣) و (مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (٤). قال أبو عليّ الفارسي : يجوز أن تكون الإضافة للماضي ، نحو ضارب زيد أمس (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي : إلا قدر آخر نهار أو أوّله ، أو قدر الضحى الّذي يلي تلك العشية ، والمراد تقليل مدّة الدنيا ، كما قال : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (٥) وقيل : لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها. قال الفراء والزّجّاج : المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب ، يقولون : آتيك الغداة أو عشيتها ، وآتيك العشية أو غداتها فتكون العشية في معنى آخر النهار ، والغداة في معنى أوّل النهار. ومنه قول الشاعر :

نحن صبحنا عامرا في دارها

جردا تعادى طرفي نهارها

عشية الهلال أو سرارها

والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (رَفَعَ سَمْكَها) قال : بناها (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) قال : أظلم ليلها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) قال : وأظلم ليلها (وَأَخْرَجَ ضُحاها) قال : أخرج نهارها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) قال : مع ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا أن رجلا قال له : آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى ، فقال : إنما أتيت من قبل رأيك ، قال : اقرأ : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) حتى بلغ : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (٦) وقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ

__________________

(١). الأعراف : ١٨٧.

(٢). لقمان : ٣٤.

(٣). الطلاق : ٣.

(٤). الأنفال : ١٨.

(٥). الأحقاف : ٣٥.

(٦). فصلت : ٩ ـ ١١.

٤٦٠