فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

الْآخِرَةَ) يعني عذاب الآخرة ؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات ، وقيل : كلّا بمعنى حقا. ثم كرّر الردع والزجر لهم فقال : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) يعني القرآن ؛ أو حقا إنه تذكرة ، والمعنى : أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي : فمن شاء أن يتعظ به اتعظ ، ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) قرأ الجمهور : (يَذْكُرُونَ) بالياء التحتية. وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية ، واتفقوا على التخفيف ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال. قال مقاتل : إلا أن يشاء الله لهم الهدى (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) أي : هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي : هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب ، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) قال : مأخوذة بعملها. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) قال : هم المسلمون. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن عليّ بن أبي طالب (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) قال : هم أطفال المسلمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) قال : الموت. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن أبي موسى الأشعري في قوله : (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال : هم الرماة رجال القسيّ. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : القسورة : الرجال الرماة رجال القنص. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي حمزة قال : قلت لابن عباس : القسورة الأسد؟ فقال : ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد! هم عصبة الرجال. وأخرج سفيان ابن عيينة وعبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس (مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال : هو ركز الناس ، يعني أصواتهم. وأخرج أحمد والدارمي ، والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن ماجة والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدّي وصححه ، وابن مردويه عن أنس «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) فقال : قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له». وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا نحوه.

* * *

٤٠١

سورة القيمة

وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة القيامة ، وفي لفظ : سورة لا أقسم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : أنزلت سورة لا أقسم بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال أبو عبيدة وجماعة من المفسرين : إنّ لا زائدة ، والتقدير : أقسم. قال السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى لا أقسم : أقسم ، واختلفوا في تفسير لا ، فقال بعضهم : هي زائدة ، وزيادتها جارية في كلام العرب كما في قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (١) يعني أن تسجد ، و (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) ومن هذا قول الشاعر :

تذكّرت ليلى فاعترتني صبابة

فكاد صميم القلب لا يتقطّع

وقال بعضهم : هي ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث ؛ كأنه قال : ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة ، وهذا قول الفرّاء وكثير من النحويين ، كقول القائل : لا ، والله ، ف : لا : ردّ لكلام قد تقدّمها ، ومنه قول الشاعر (٢) :

فلا وأبيك ابنة العامريّ (م) (٣)

لا يدّعي القوم أنّي أفرّ

__________________

(١). الأعراف : ١٢.

(٢). هو امرؤ القيس.

(٣). يشير هذا الحرف إلى أن البيت مدور ، يعني : أن آخر الصدر وأول العجز مشتركان في الحرف المشدد.

٤٠٢

وقيل : هي للنفي ، لكن لا لنفي الإقسام ، بل لنفي ما ينبئ عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه ، كأن معنى لا أقسم بكذا : لا أعظمه بإقسامي به حقّ إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من ذلك وقيل : إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر ، وقد تقدّم الكلام على هذا في تفسير قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (١) وقرأ الحسن وابن كثير في رواية عنه والزهري وابن هرمز لأقسم بدون ألف على أن اللام لام الابتداء ، والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وقد اعترض عليه الرازي بما لا يقدح في قوته ولا يفتّ في عضد رجحانه ، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه ، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوّامة كما أقسم بيوم القيامة ، فيكون الكلام في «لا» هذه كالكلام في الأولى ، وهذا قول الجمهور. وقال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوّامة. قال الثعلبي : والصحيح أنه أقسم بهما جميعا ، ومعنى النفس اللوّامة : النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره ، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها. قال الحسن : هي والله نفس المؤمن ، لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكذا؟ ما أردت بكذا؟ والفاجر لا يعاتب نفسه. قال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشرّ لم تعمله؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ قال الفرّاء : ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيرا قالت : هلا ازددت! وإن كانت عملت سوءا قالت : ليتني لم أفعل. وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس ، فيكون الإقسام بها حسنا سائغا. وقيل : اللوّامة هي الملومة المذمومة ، فهي صفة ذمّ ، وبهذا احتج من نفى أن يكون قسما ، إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم له. قال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسر في الآخرة على ما فرّط في جنب الله ، والأوّل أولى.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) المراد بالإنسان الجنس ، وقيل : الإنسان الكافر ، والهمزة للإنكار ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، والمعنى : أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامه بعد أن صارت رفاتا ، فنعيدها خلقا جديدا ، وذلك حسبان باطل ، فإنا نجمعها ، وما يدلّ عليه هذا الكلام هو جواب القسم. قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة ليجمعنّ العظام للبعث ، فهذا جواب القسم. وقال النحاس : جواب القسم محذوف ، أي : ليبعثنّ ، والمعنى : أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان ، وإنما خصّ العظام لأنها قالب الخلق (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) بلى إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام ، والوقف على هذا اللفظ وقف حسن ، ثم يبتدئ الكلام بقوله : (قادِرِينَ) وانتصاب قادرين على الحال ، أي : بلى نجمعها قادرين ، فالحال من ضمير الفعل المقدّر ، وقيل : المعنى : بلى نجمعها نقدر قادرين. قال الفراء : أي نقدر ، ونقوى ، قادرين على أكثر من ذلك. وقال أيضا : إنه يصلح نصبه على التكرير ، أي : بلى فليحسبنا قادرين ، وقيل : التقدير : بلى كنا قادرين. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السّميقع (بَلى قادِرِينَ) على تقدير مبتدأ ، أي : بلى نحن قادرون ، ومعنى (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ

__________________

(١). الواقعة : ٧٥.

٤٠٣

بَنانَهُ) على أن نجمع بعضها إلى بعض ، فنردّها كما كانت مع لطافتها وصغرها ، فكيف بكبار الأعضاء ، فنبّه سبحانه بالبنان ، وهي الأصابع على بقية الأعضاء ، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق ، فهذا وجه تخصيصها بالذكر ، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة. وقال جمهور المفسرين : إن معنى الآية أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا ، كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها ، فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال كالكتابة والخياطة ونحوهما ، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها. وقيل : المعنى : بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كانت عليها ، والأوّل أولى ، ومنه قول عنترة :

وأنّ الموت طوع يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندواني

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) هو عطف على أيحسب ، إما على أنه استفهام مثله ، وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا ، أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام. والمعنى : بل يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات ، وما يستقبله من الزمان ، فيقدم الذنب ويؤخّر التوبة. قال ابن الأنباري : يريد أن يفجر ما امتدّ عمره ، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه. قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدّي وسعيد بن جبير : يقول سوف أتوب ولا يتوب حتى يأتيه الموت. وهو على أشرّ أحواله. قال الضحاك : هو الأمل ، يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ، ولا يذكر الموت. والفجور : أصله الميل عن الحقّ ، فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل ، ومنه قول الشاعر :

أقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسّها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهمّ إن كان فجر

وجملة (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) مستأنفة لبيان معنى يفجر ، والمعنى : يسأل متى يوم القيامة سؤال استبعاد واستهزاء (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي : فزع وتحير ، من برق الرجل ؛ إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. قرأ الجمهور : (بَرِقَ) بكسر الراء. قال أبو عمرو بن العلاء والزجاج وغيرهما : المعنى تحيّر فلم يطرف ، ومنه قول ذي الرّمّة :

ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت

لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق

وقال الخليل والفراء : برق بالكسر : فزع وبهت وتحيّر ، والعرب تقول للإنسان المبهوت : قد برق فهو برق ، وأنشد الفرّاء :

فنفسك فانع ولا تنعني

وداو الكلوم ولا تبرق (١)

أي : لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقرأ نافع وأبان عن عاصم (بَرِقَ) بفتح الراء ، أي : لمع

__________________

(١). البيت لطرفة.

٤٠٤

بصره من شدة شخوصه للموت. قال مجاهد وغيره : هذا عند الموت ، وقيل : برق يبرق : شق عينيه وفتحهما. وقال أبو عبيدة : فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى. (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) قرأ الجمهور : (خَسَفَ) بفتح الخاء والسين مبنيا للفاعل. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة بضم الخاء وكسر السين مبنيا للمفعول ، ومعنى خسف القمر : ذهب ضؤوه ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا ، ويقال : خسف ؛ إذا ذهب جميع ضوئه ، وكسف : إذا ذهب بعض ضوئه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي : ذهب ضوؤهما جميعا ، ولم يقل جمعت لأن التأنيث مجازيّ ، قاله المبرد. وقال أبو عبيدة : هو لتغليب المذكر على المؤنث. وقال الكسائي : حمل على معنى جمع النّيران. وقال الزجاج والفراء : ولم يقل جمعت لأن المعنى جمع بينهما في ذهاب نورهما ، وقيل : جمع بينهما في طلوعهما من الغرب أسودين مكوّرين مظلمين. قال عطاء : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى. وقيل : تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار. وقرأ ابن مسعود : «وجمع بين الشمس والقمر». (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي : يقول عند وقوع هذه الأمور أين المفرّ؟ أي : الفرار ، والمفرّ : مصدر بمعنى الفرار. قال الفراء : يجوز أن يكون موضع الفرار ، ومنه قول الشاعر :

أين المفرّ والكباش تنتطح

وكلّ كبش فرّ منها يفتضح

قال الماوردي : يحتمل وجهين : أحدهما : أين المفرّ من الله سبحانه استحياء منه. والثاني : أين المفرّ من جهنم حذرا منها. قرأ الجمهور : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) بفتح الميم والفاء مصدرا كما تقدّم. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بفتح الميم وكسر الفاء على أنه اسم مكان : أي : أين مكان الفرار؟ وقال الكسائي : هما لغتان مثل مدب ومدب ومصح ومصح ، وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار ، ومنه قول امرئ القيس :

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

أي : جيد الفرّ والكرّ. (كَلَّا لا وَزَرَ) أي : لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله. وقال ابن جبير : لا محيص ولا منعة. والوزر في اللغة : ما يلجأ إليه الإنسان من حصن ، أو جبل أو غيرهما ، ومنه قول طرفة :

ولقد تعلم بكر أنّنا

فاضلو الرّأي وفي الرّوع وزر

وقال آخر :

لعمري ما للفتى من وزر

من الموت يدركه والكبر

قال السدّي : كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال ، فقال لهم الله : ولا وزر يعصمكم مني يومئذ ، وكلّا : للردع ، أو لنفي ما قبلها ، أو بمعنى حقا (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي : المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره ، وقيل : إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره ، وقيل : المستقر : الاستقرار حيث يقرّه الله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي : يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشرّ. وقال قتادة : بما عمل من طاعة ،

٤٠٥

وما أخّر من طاعة فلم يعمل بها. وقال زيد بن أسلم : بما قدّم من أمواله وما خلف للورثة. وقال مجاهد : بأوّل عمله وآخره. وقال الضحاك : بما قدّم من فرض وأخّر من فرض. قال القشيري : هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال ، ويجوز أن يكون عند الموت. قال القرطبي : والأوّل أظهر (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ارتفاع بصيرة على أنها خبر الإنسان ، «على نفسه» متعلق ببصيرة. قال الأخفش : جعله هو البصيرة كما تقول للرجل : أنت حجة على نفسك ، وقيل المعنى : إن جوارحه تشهد عليه بما عمل ، كما في قوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١) ، وأنشد الفرّاء :

كأنّ على ذي العقل عينا بصيرة

بمقعده أو منظر هو ناظره

فيكون المعنى : بل جوارح الإنسان عليه شاهدة. قال أبو عبيدة والقتبي : إن هذه الهاء في بصيرة هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة ، كما في قولهم : علامة. وقيل : المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير وشرّ ، والتاء على هذا للتأنيث. وقال الحسن : أي بصير بعيوب نفسه (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي : ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك. يقال : معذرة ومعاذير. قال الفرّاء : أي : وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره (٢). وقال الزجاج : المعاذير : الستور ، والواحد معذار ، أي : وإن أرخى الستور يريد أن يخفي نفسه فنفسه شاهدة عليه ، كذا قال الضحاك والسدّي : والستر بلغة اليمن يقال له معذار. كذا قال المبرد. ومنه قول الشاعر :

ولكنّها ضنّت بمنزل ساعة

علينا وأطّت يومها بالمعاذر

والأوّل أولى ، وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية ومقاتل ، ومثله قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) (٣) وقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٤) وقول الشاعر :

فما حسن أن يعذر المرء نفسه

وليس له من سائر النّاس عاذر

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرّك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصا على أن يحفظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، أي : لا تحرّك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلّت منك ، ومثل هذا قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٥) الآية. (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء (وَقُرْآنَهُ) أي : إثبات قراءته في لسانك. قال الفرّاء : القراءة والقرآن مصدران. وقال قتادة (فَاتَّبِعْ

__________________

(١). النور : ٢٤.

(٢). في القرطبي [١٩ / ١٠٠] : أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه.

(٣). غافر : ٥٢.

(٤). المرسلات : ٣٦.

(٥). طه : ١١٤.

٤٠٦

قُرْآنَهُ) أي : شرائعه وأحكامه (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي : أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي : قراءته (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي : تفسير ما فيه من الحلال والحرام ، وبيان ما أشكل منه. قال الزجاج : المعنى علينا أن ننزله عليك قرآنا عربيا فيه بيان للناس. وقيل : المعنى : إن علينا أن نبينه بلسانك (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) كلا للردع عن العجلة والترغيب في الأناة ، وقيل : هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بيّنا من الكفار. قال عطاء : أي : لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه. قرأ أهل المدينة والكوفيون : (بَلْ تُحِبُّونَ وَتَذَرُونَ) بالفوقية في الفعلين جميعا. وقرأ الباقون بالتحتية فيهما ، فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب لهم تقريعا وتوبيخا ، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام عائدا إلى الإنسان لأنه بمعنى الناس ، والمعنى : تحبون الدنيا وتتركون (الْآخِرَةَ) فلا تعملون لها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي : ناعمة غضّة حسنة ، يقال : شجر ناضر وروض ناضر ، أي : حسن ناعم ، ونضارة العيش : حسنه وبهجته. قال الواحدي والمفسرون : يقولون مضيئة مسفرة مشرقة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) هذا من النظر ، أي : إلى خالقها ومالك أمرها (ناظِرَةٌ) أي : تنظر إليه ، هكذا قال جمهور أهل العلم ، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير : وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام. وقال مجاهد : أن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب ، وروي نحوه عن عكرمة ، وقيل : لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده. قال الأزهري : وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى الانتظار. وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، إذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته ، كما في قول الشاعر :

فإنّكما إن تنظراني ساعة

من الدّهر تنفعني لدى أمّ جندب

فإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه ، كما قال الشاعر (١) :

نظرت إليها والنّجوم كأنّها

مصابيح رهبان تشبّ لقفّال (٢)

وقول الآخر :

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

أي : أنظر إليك نظر ذلّ كما ينظر الفقير إلى الغنيّ. وأشعار العرب وكلماتهم في هذه كثيرة جدّا. و «وجوه» مبتدأ ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة ، لأن المقام مقام تفصيل ، و «ناضرة» صفة لوجوه ، و «يومئذ» ظرف لناضرة ، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله : (ناضِرَةٌ) مسوّغا للابتداء بها ، ولكن مقام التفصيل بمجرده مسوّغ للابتداء بالنكرة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي : كالحة

__________________

(١). هو امرؤ القيس.

(٢). «تشب» : توقد. «القفال» : جمع قافل ، وهو الراجع من السفر.

٤٠٧

عابسة كئيبة. قال في الصحاح : بسر الرجل وجهه بسورا ، أي : كلح. قال السديّ : (باسِرَةٌ) أي : متغيرة ، وقيل : مصفرّة ، والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) الفاقرة : الداهية العظيمة ، يقال : فقرته الفاقرة ، أي : كسرت فقار ظهره. قال قتادة : الفاقرة : الشرّ ، وقال السدّي : الهلاك ، وقال ابن زيد : دخول النار. وأصل الفاقرة : الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم ، كذا قال الأصمعي ، ومن هذا قولهم : قد عمل به الفاقرة. قال النابغة :

أبى لي قبر لا يزال مقابلي

وضربة فأس فوق رأسي فاقره

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال : يقسم ربك بما شاء من خلقه ، قلت : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : النفس اللؤوم (١) ، قلت : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ـ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) قال : لو شاء لجعله خفا أو حافرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (اللَّوَّامَةِ) قال : المذمومة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا قال : التي تلوم على الخير والشرّ ، تقول : لو فعلت كذا وكذا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : تندم على ما فات وتلوم عليه. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) قال : يمضي قدما. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو الكافر الّذي يكذب بالحساب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : يعني الأمل ، يقول : أعمل ثم أتوب. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الأمل ، والبيهقي في الشعب ، عنه أيضا في الآية قال : يقدّم الذنب ويؤخّر التوبة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عنه أيضا (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) يقول : سوف أتوب (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) قال : يقول متى يوم القيامة ، قال : فبين له (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ). وأخرج ابن جرير عنه قال : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) يعني الموت.

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : (لا وَزَرَ) قال : لا حصن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (لا وَزَرَ) قال : لا حصن ولا ملجأ ، وفي لفظ : لا حرز ، وفي لفظ : لا جبل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) قال : بما قدّم من عمل ، وأخر من سنّة عمل بها من بعده من خير أو شرّ. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : بما قدّم من المعصية وأخّر من الطاعة فينبأ بذلك. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه في قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال : شهد على نفسه وحده (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) قال : ولو اعتذر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي

__________________

(١). في الدر المنثور (٨ / ٣٤٢) : الملومة.

٤٠٨

حاتم عنه (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال : سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) قال : ولو تجرّد من ثيابه.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة ، فكان يحرّك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه يريد أن يحفظه ، فأنزل الله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال : يقول إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه (فَإِذا قَرَأْناهُ) يقول : إذا أنزلناه عليك (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فاستمع له وأنصت (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أن نبيّه بلسانك ، وفي لفظ : علينا أن نقرأه ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق. وفي لفظ : استمع ، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (فَإِذا قَرَأْناهُ) قال : بيناه (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) يقول : اعمل به. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، عن ابن مسعود في قوله : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) قال : عجلت لهم الدنيا شرّها وخيرها ، وغيبت الآخرة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : ناعمة. وأخرج ابن المنذر ، والآجري في الشريعة ، واللالكائي في السنة ، والبيهقي في الرؤية ، عنه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : يعني حسنها (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : نظرت إلى الخالق. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنظر إلى وجه ربّها. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ـ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حدّ محدود ولا صفة معلومة». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال الناس : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال : «هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فهل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه. وقد قدّمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها ، وهي تأتي في مصنف مستقلّ ، ولم يتمسك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنّة رسوله.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والطبراني والدار قطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ـ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)». وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ : «إن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرّتين». وأخرج النسائي ، والدار قطني وصححه ، وأبو نعيم عن أبي هريرة قال : «قلنا : يا رسول الله هل نرى ربنا ، قال : هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه ، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها؟ قلنا : نعم ، قال : فإنكم سترون ربكم عزوجل ، حتى إن أحدكم

٤٠٩

ليحاضره ربّه محاضرة ، فيقول : عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : ألم تغفر لي؟ فيقول : بمغفرتي صرت إلى هذا».

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

قوله : (كَلَّا) ردع وزجر ، أي : بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ، ثم استأنف ، فقال : (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي : بلغت النفس أو الروح التراقي ، وهي جمع ترقوة ، وهي عظم بين نقرة النحر والعاتق ، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت ، ومثله قوله : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (١) وقيل : معنى (كَلَّا) حقا ، أي : حقا أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي ، والمقصود تذكيرهم شدّة الحال عند نزول الموت. قال دريد بن الصّمّة :

وربّ كريهة دافعت عنهم

وقد بلغت نفوسهم التراقي

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي : قال من حضر صاحبها : من يرقيه ويشتفي برقيته؟ .. قال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا ، وبه قال أبو قلابة ، ومنه قول الشاعر :

هل للفتى من بنات الدّهر من واق

أم هل له من حمام الموت من راق

وقال أبو الجوزاء : هو من رقي يرقى ؛ إذا صعد ، والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل : إنه يقول ذلك ملك الموت ، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي : وأيقن الّذي بلغت روحه التراقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي : التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به. وقال جمهور المفسرين : المعنى تتابعت عليه الشدائد. وقال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت ، وقيل : ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه ، وقد كان جوّالا عليهما. وقال الضحاك : اجتمع عليه أمران شديدان : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه. وبه قال ابن زيد. والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار ، والمحن العظام ، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساق. وقيل : الساق الأوّل تعذيب روحه عند خروج نفسه ، والساق الآخر شدّة البعث وما بعده (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي : إلى خالقك يوم القيامة المرجع ، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) أي : لم يصدّق بالرسالة

__________________

(١). الواقعة : ٨٣.

٤١٠

ولا بالقرآن ، ولا صلّى لربه ، والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور في أوّل هذه السورة. قال قتادة : فلا صدّق بكتاب الله ولا صلّى لله ، وقيل : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي لا بمعنى لم ، وكذا قال الأخفش : والعرب تقول : لا ذهب ، أي : لم يذهب ، وهذا مستفيض في كلام العرب ، ومنه :

إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا

(وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي : كذّب بالرسول وبما جاء به ، وتولّى عن الطاعة والإيمان (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي : يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك. وقيل : هو مأخوذ من المطي وهو الظهر ، والمعنى : يلوي مطاه. وقيل : أصله يتمطط ، وهو التمدّد والتثاقل ، أي : يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ـ ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي : وليك الويل ، وأصله أولاك الله ما تكرهه ، واللام مزيدة كما في (رَدِفَ لَكُمْ) (١) وهذا تهديد شديد ، والتكرير للتأكيد ، أي : يتكرر عليك ذلك مرة بعد مرة. قال الواحدي : قال المفسرون : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد أبي جهل ، ثم قال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فقال أبو جهل : بأيّ شيء تهدّدني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي ، فنزلت هذه الآية. وقيل : معناه : الويل لك ، ومنه قول الخنساء :

هممت بنفسي كل الهموم

فأولى لنفسي أولى لها

وعلى القول بأنه الويل ، قيل : هو من المقلوب كأنه قيل : أويل لك ، ثم أخّر الحرف المعتل. قيل : ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات ، والويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار. وقيل : المعنى : إن الذمّ لك أولى لك من تركه. وقيل : المعنى : أنت أولى وأجدر بهذا العذاب قاله ثعلب. وقال الأصمعي : أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك. قال المبرّد : كأنه يقول : قد وليت الهلاك وقد دانيته ، وأصله من الولي ، وهو القرب ، وأنشد الفراء :

فأولى أن يكون لك الولاء (٢)

أي : قارب أن يكون لك ، وأنشد أيضا :

أولى لمن هاجت له أن يكمدا

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي : هملا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يحاسب ولا يعاقب ، وقال السدي : معناه المهمل ، ومنه إبل سدى ، أي : ترعى بلا راع ، وقيل : المعنى : أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وجملة (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) مستأنفة ، أي : ألم يك ذلك الإنسان قطرة من منّي يراق في الرحم ، وسمّي المنيّ منيا لإراقته ، والنطفة : الماء القليل ، يقال : نطف الماء ؛ إذا قطر.

__________________

(١). النمل : ٧٢.

(٢). في القرطبي قاله الأصمعي هكذا : وأولى أن يكون له الولاء.

٤١١

قرأ الجمهور (أَلَمْ يَكُ) بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان. وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخا له. وقرأ الجمهور أيضا : تمنى بالفوقية على أن الضمير للنطفة. وقرأ حفص وابن محيصن ومجاهد ويعقوب بالتحتية على أن الضمير للمني ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، واختارها أبو حاتم (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) أي : كان بعد النطفة علقة ، أي : دما (فَخَلَقَ) أي : فقدّر بأن جعلها مضغة مخلّقة (فَسَوَّى) أي : فعدّله وكمل نشأته ونفخ فيه الروح (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي : حصل من الإنسان ، وقيل : من المنيّ (الزَّوْجَيْنِ) أي : الصنفين من نوع الإنسان. ثم بين ذلك فقال : (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي : الرجل والمرأة (أَلَيْسَ ذلِكَ) أي : أليس ذلك الّذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي : يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا ؛ فإن الإعادة أهون من الابتداء ، وأيسر مؤنة منه. قرأ الجمهور : (بِقادِرٍ) وقرأ زيد بن عليّ : يقدر فعلا مضارعا ، وقرأ الجمهور : (يُحْيِيَ) بنصبه بأن. وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفا ، أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مرّ في مواضع.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) قال : تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه ، قيل : من يرقى بروحه ؛ ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال : التفت عليه الدنيا والآخرة وملائكة العذاب أيهم يرقى به. وأخرج عبد ابن حميد عنه (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) قال : من راق يرقي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) يقول : آخر يوم من أيام الدنيا وأوّل يوم من أيام الآخرة ، فتلتقي الشدّة بالشدّة إلا من رحم الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (يَتَمَطَّى) قال : يختال.

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أشيء قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي جهل من قبل نفسه ، أم أمره الله به؟ قال : بل قاله من قبل نفسه ، ثم أنزله الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) قال : هملا. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ هذه الآية (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال : سبحانك اللهم وبلى». وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحانك ربي وبلى». وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية : «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين». وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر ، والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها» : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (١) فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فانتهى

__________________

(١). التين : ٨.

٤١٢

إلى قوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) فليقل : بلى ، ومن قرأ : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١) فليقل : آمنا بالله» وفي إسناده رجل مجهول. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأت : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فبلغت (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) فقل : بلى».

* * *

__________________

(١). سورة المرسلات بتمامها.

٤١٣

سورة الإنسان

قال الجمهور : هي مدنية. وقال مقاتل والكلبي : هي مكية. وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وقيل : فيها مكي من قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (١) إلى آخر السورة ، وما قبله مدنيّ. وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل واستفهم» ، فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوّة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به ؛ أني كائن معك في الجنة؟ قال : «نعم والّذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام ، ثم قال : من قال : لا إله إلا الله كان له عهد عند الله. ومن قال : سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» ونزلت هذه السورة : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) إلى قوله : (مُلْكاً كَبِيراً) فقال الحبشيّ : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال : «نعم» ، فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدليه في حفرته بيده.

وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال : حدّثني الثقة : أن رجلا أسود كان يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التسبيح والتهليل ، فقال له عمر بن الخطاب : أكثرت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : مه يا عمر. وأنزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مات شوقا إلى الجنة».

وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعا مرسلا. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن منيع ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، والضّياء عن أبي ذرّ قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) حتى ختمها ، ثم قال : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عزوجل».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ

__________________

(١). الإنسان : ٢٣.

٤١٤

وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

حكى الواحدي عن المفسرين وأهل المعاني أن (هَلْ) هنا بمعنى قد ، وليس باستفهام ، وقد قال بهذا سيبويه والكسائي والفراء وأبو عبيدة. قال الفراء : «هل» تكون جحدا ، وتكون خبرا ، فهذا من الخبر ، لأنك تقول : هل أعطيتك؟ تقرّره بأنك أعطيته ، والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل : هي وإن كانت بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام ، والأصل : أهل أتى ، فالمعنى : أقد أتى ، والاستفهام للتقرير والتقريب ، والمراد بالإنسان هنا آدم ، قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدّي وغيرهم (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) قيل : أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح ، وقيل : إنه خلق من طين أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وقيل : الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره ، وقيل : المراد بالإنسان بنو آدم ، والحين مدّة الحمل ، وجملة : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في محل نصب على الحال من الإنسان ، أو في محل رفع صفة لحين. قال الفراء وقطرب وثعلب : المعنى أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. وقال يحيى بن سلام : لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا ، وقيل : ليس المراد بالذكر هنا الإخبار ، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم ، بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف ، كما في قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (١). قال القشيري : ما كان مذكورا للخلق وإن كان مذكورا لله سبحانه. قال الفراء : كان شيئا ولم يكن مذكورا. فجعل النفي متوجها إلى القيد. وقيل : المعنى : قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق بعده حيوان (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) المراد بالإنسان هنا ابن آدم. قال القرطبي : من غير خلاف ، والنطفة : الماء الّذي يقطر ، وهو المنيّ ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، وجمعها نطف ، و (أَمْشاجٍ) صفة لنطفة ، وهي جمع مشج ، أو مشيج ، وهي الأخلاط ، والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما. يقال : مشج هذا بهذا فهو ممشوج ، أي : خلط هذا بهذا فهو مخلوط. قال المبرد : مشج يمشج إذا اختلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم. قال رؤبة بن العجاج :

يطرحن كلّ معجل نشّاج

لم يكس جلدا في دم أمشاج

__________________

(١). الزخرف : ٤٤.

٤١٥

قال الفراء : أمشاج : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة ، ويقال : مشج هذا ؛ إذا خلط ، وقيل : الأمشاج : الحمرة في البياض والبياض في الحمرة. قال القرطبي : وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة. قال الهذلي :

كأنّ الرّيش والفوقين منه

خلاف النّصل سيط به (١) مشيج

وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فيخلق منهما الولد. قال ابن السّكّيت : الأمشاج : الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها ذا طباع مختلفة. وقيل : الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار ، ويؤيد هذا وقوعه نعتا لنطفة ، وجملة : (نَبْتَلِيهِ) في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا ، أي : مريدين ابتلاءه ، ويجوز أن يكون حالا من الإنسان ، والمعنى : نبتليه بالخير والشرّ وبالتكاليف. قال الفراء : معناه والله أعلم : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لنبتليه وهي مقدّمة معناها التأخير ؛ لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، وعلى هذا تكون هذه الحال مقدّرة ، وقيل : مقارنة. وقيل : معنى الابتلاء : نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة ، والأوّل أولى. ثم ذكر سبحانه أنه أعطاه ما يصحّ معه الابتلاء فقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي : بينّا له ، وعرّفناه طريق الهدى والضّلال والخير والشّرّ ؛ كما في قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢) قال مجاهد : أي بينا السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك والسدّي وأبو صالح : السبيل هنا خروجه من الرحم ، وقيل : منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله ، وانتصاب شاكرا وكفورا على الحال من مفعول (هَدَيْناهُ) أي : مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعا ، وقيل : على الحال من سبيل على المجاز ، أي : عرّفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا. وحكى مكّي عن الكوفيين أن قوله : إما : هي إن شرطية زيدت بعدها ما ، أي : بينّا له الطريق إن شكر وإن كفر. واختار هذا الفرّاء ، ولا يجيزه البصريون لأن إن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل ، ولا يصح هنا إضمار الفعل لأنه كان يلزم رفع شاكرا وكفورا. ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكرا وكفورا ، وتقديره : إن خلقناه شاكرا فشكور وإن خلقناه كافرا فكفور ، وهذا على قراءة الجمهور : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) بكسر همزة إما. وقرأ ابن السّمّال وأبو العجاج بفتحها ، وهي على الفتح إما العاطفة في لغة بعض العرب ، أو هي التفصيلية وجوابها مقدّر ، وقيل : انتصب شاكرا وكفورا بإضمار كان ، والتقدير : سواء كان شاكرا أو كان كفورا. ثم بيّن سبحانه ما أعدّ للكافرين فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) قرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر سلاسلا بالتنوين ، ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف ، والباقون وقفوا بالألف. ووجه من قرأ بالتنوين في سلاسل مع كون فيه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب لأن ما قبله وهو : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، وما بعده وهو (أَغْلالاً وَسَعِيراً)

__________________

(١). «سيط به» : أي خرج شيء من الريش مختلط من الدم والماء.

(٢). البلد : ١٠.

٤١٦

منوّن ؛ أو على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف كما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين عن بعض العرب. قال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف ، لأن الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. قال الفراء : هو على لغة من يجرّ الأسماء كلها إلا قولهم : هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه ، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم :

كأنّ سيوفنا فينا وفيهم

مخاريق بأيدي لاعبينا

ومن ذلك قول الشاعر :

وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم

خضع الرّقاب نواكس الأبصار

بكسر السين من نواكس ، وقول لبيد :

وجزور أستار دعوت لحتفها

بمغالق متشابه أعلاقها

وقوله أيضا :

فضلا وذو كرم يعين على النّدى

سمح كسوب رغائب غنّامها

وقيل : إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف ، وقيل : إن هذا التنوين بدل من حرف الإطلاق ، ويجري الوصل مجرى الوقف ، والسلاسل قد تقدّم تفسيرها ، والخلاف فيها هل هي القيود ، أو ما يجعل في الأعناق ، كما في قول الشاعر :

 ... ولكن

أحاطت بالرّقاب السلاسل والأغلال

جمع غلّ تغل به الأيدي إلى الأعناق ، والسعير : الوقود الشديد ، وقد تقدّم تفسير السعير.

ثم ذكر سبحانه ما أعدّه للشاكرين فقال : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) الأبرار : أهل الطاعة والإخلاص والصدق ، جمع برّ أو : بارّ. قال في الصحاح : جمع البرّ الأبرار ، وجمع البارّ البررة ، وفلان يبرّ خالقه ويبرره ، أي : يطيعه. وقال الحسن : البرّ الّذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. والكأس في اللغة هو الإناء الّذي فيه الشراب ، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسمّ كأسا ، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة ، بل يكون من الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك ، وقد كانت كاسات العرب من أجناس مختلفة ، وقد يطلق الكأس على نفس الخمر كما في قول الشاعر :

وكأس شربت على لذّة

وأخرى تداويت منها بها

(كانَ مِزاجُها كافُوراً) أي : يخالطها وتمزج به ، يقال مزجه يمزجه مزجا ، أي : خلطه يخلطه خلطا ، ومنه قول الشاعر (١) :

__________________

(١). هو حسان.

٤١٧

كأنّ سبيئة من بيت رأس

كان مزاجها عسل وماء

وقول عمرو بن كلثوم :

صددت الكأس عنّا أمّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

معتّقة (١) كأنّ الحصّ (٢) فيها

إذا ما الماء خالطها سخينا

ومنه مزاج البدن ، وهو ما يمازجه من الأخلاط ، و (كافُوراً) قيل : هو اسم عين في الجنة يقال لها الكافور تمزج خمر الجنة بماء هذه العين. وقال قتادة ومجاهد : تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. وقال عكرمة : مزاجها طعمها ، وقيل : إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل : إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ، لأن الكافور لا يشرب كما في قوله : (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) (٣) أي ك : نار. وقال ابن كيسان : طيبها المسك والكافور والزنجبيل. وقال مقاتل : ليس هو كافور الدنيا ، وإنما سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب ، والجملة في محل جرّ صفة لكأس. وقيل : إن كان هنا زائدة ، أي : من كأس مزاجها كافورا (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) انتصاب عينا على أنها بدل من (كافُوراً) ، لأن ماءها في بياض الكافور. وقال مكي : إنها بدل من محل (مِنْ كَأْسٍ) على حذف مضاف ، كأنه قيل : يشربون خمرا خمر عين ، وقيل : إنها منتصبة على أنها مفعول يشربون ، أي : عينا من كأس ، وقيل : هي منتصبة على الاختصاص ، قاله الأخفش ، وقيل : منتصبة بإضمار فعل يفسره ما بعده ، أي : يشربون عينا يشرب بها عباد الله ، والأوّل أولى ، وتكون وجملة (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) صفة لعينا. وقيل : إن الباء في (يَشْرَبُ بِها) زائدة ، وقيل : بمعنى من ، قاله الزجاج ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة «يشربها عباد الله». وقيل : إن يشرب مضمن معنى يلتذّ ، وقيل : هي متعلقة بيشرب ، والضمير يعود إلى الكأس. وقال الفراء : يشربها ويشرب بها سواء في المعنى ، وكأنّ يشرب بها يروى بها وينتفع بها ، وأنشد قول الهذلي :

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت (٤)

قال : ومثله تكلم بكلام حسن ، وتكلم كلاما حسنا (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي : يجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون بها كما يشاءون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يريدون وصوله إليه ، فهم يشقّونها شقّا كما يشقّ النهر ويفجر إلى هنا وهنا. قال مجاهد : يقودونها حيث شاؤوا ، وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم ، والجملة صفة أخرى لعينا ، وجملة (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر. وكذا ما عطف عليها ، ومعنى النذر في اللغة الإيجاب ، والمعنى : يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات. قال قتادة ومجاهد : ويوفون بطاعة الله

__________________

(١). في شرح المعلقات السبع : مشعشعة.

(٢). «الحص» : الورس ، وهو نبت له نوار أحمر ؛ يشبه الزعفران.

(٣). الكهف : ٩٦.

(٤). وعجز البيت : متى لجج خضر لهنّ نئيج. و «نئيج» : أي : مرّ سريع مع صوت.

٤١٨

من الصلاة والحج ونحوهما. وقال عكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه ، والنذر في الشرع : ما أوجبه المكلف على نفسه ، فالمعنى : يوفون بما أوجبوه على أنفسهم. قال الفراء : في الكلام إضمار ، أي : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. وقال الكلبي : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي : يتممون العهد. والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير تخصيص. (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) المراد يوم القيامة ، ومعنى استطارة شرّه : فشوّه وانتشاره ، يقال : استطار يستطير استطارة فهو مستطير ، وهو استفعل من الطيران ، ومنه قول الأعشى :

فبانت وقد أسأرت في الفؤا

د صدعا على نأيها مستطيرا

والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة ؛ إذا امتدّ ، ويقال : استطار الحرق ؛ إذا انتشر. قال الفرّاء : المستطير : المستطيل. قال قتادة : استطار شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض. قال مقاتل : كان شرّه فاشيا في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة ، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه. (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي : يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام على حبّه لديهم وقلّته عندهم. قال مجاهد : على قلّته وحبهم إياه وشهوتهم له ؛ فقوله (عَلى حُبِّهِ) في محل نصب على الحال ، أي : كائنين على حبه ، ومثله قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١) وقيل : على حبّ الإطعام لرغبتهم في الخير. قال الفضيل بن عياض : على حبّ إطعام الطعام. وقيل : الضمير في حبه يرجع إلى الله ، أي : يطعمون الطعام على حبّ الله ، أي : يطعمون إطعاما كائنا على حبّ الله ، ويؤيد هذا قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) والمسكين : ذو المسكنة ، وهو الفقير ، أو من هو أفقر من الفقير ، والمراد باليتيم يتامى المسلمين ، والأسير : الّذي يؤسر فيحبس. قال قتادة ومجاهد : الأسير : المحبوس. وقال عكرمة : الأسير : العبد. وقال أبو حمزة الثّمالي : الأسير : المرأة. قال سعيد بن جبير : نسخ هذا الإطعام آية الصدقات وآية السيف في حق الأسير الكافر. وقال غيره : بل هي محكمة ، وإطعام المسكين واليتيم على التطوّع ، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلّا أن يتخير فيه الإمام ، وجملة (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) في محل نصب على الحال بتقدير القول ، أي : يقولون إنما نطعمكم ، أو قائلين : إنما نطعمكم ، يعني : أنهم لا يتوقعون المكافأة ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك. قال الواحدي : قال المفسرون : لم يستكملوا بهذا ، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ، وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي : لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام ولا نريد منكم الشكر لنا ، بل هو خالص لوجه الله ، وهذه الجملة مقررة لما قبلها ، لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ولا يطلب الشكر له ممّن أطعمه (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي : نخاف عذاب يوم متّصف بهاتين الصفتين. ومعنى عبوسا : أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، فالمعنى : أنه ذو عبوس. قال الفراء وأبو عبيدة والمبرد : يوم قمطرير

__________________

(١). آل عمران : ٩٢.

٤١٩

وقماطر ؛ إذا كان صعبا شديدا ، وأنشد الفراء :

بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا

عليكم إذا ما كان يوم قماطر

قال الأخفش : القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ، ومنه قول الشاعر :

ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها

ولجّ بها اليوم العبوس القماطر

قال الكسائي : اقمطرّ اليوم وازمهرّ ؛ إذا كان صعبا شديدا ، ومنه قول الشاعر (١) :

بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة

ومن يلق منّا ذلك اليوم يهرب

وقال مجاهد : إن العبوس بالشفتين ، والقمطرير بالجبهة والحاجبين ، فجعلهما من صفات المتغيّر في ذلك اليوم لما يراه من الشدائد ، وأنشد ابن الأعرابي :

يغدو على الصّيد يعود منكسر

ويقمطرّ ساعة ويكفهر

قال أبو عبيدة : يقال قمطرير ، أي : متقبض ما بين العينين والحاجبين. قال الزجاج : يقال اقمطرّت الناقة ؛ إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمّت بأنفها ، فاشتقّه من القطر ، وجعل الميم مزيدة. (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي : دفع عنهم شرّه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي : أعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب. قال الضحاك : والنضرة : البياض والنقاء في وجوههم. وقال سعيد بن جبير : الحسن والبهاء ، وقيل : النضرة أثر النعمة. (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أي : بسبب صبرهم على التكاليف ، وقيل : على الفقر ، وقيل : على الجوع ، وقيل : على الصوم. والأولى حمل الآية على الصبر على كل شيء يكون الصبر عليه طاعة لله سبحانه ، و «ما» مصدرية ، والتقدير : بصبرهم (جَنَّةً وَحَرِيراً) أي : أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير ، وهو لباس أهل الجنة عوضا عن تركه في الدنيا امتثالا لما ورد في الشرع من تحريمه ، وظاهر هذه الآيات العموم في كلّ من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه ، والسبب وإن كان خاصا كما سيأتي فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويدخل سبب التنزيل تحت عمومها دخولا أوليا.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) قال : كل إنسان. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (أَمْشاجٍ) قال : أمشاجها : عروقها. وأخرج سعيد ابن منصور وابن أبي حاتم (أَمْشاجٍ) قال : العروق. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) قال : ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : (أَمْشاجٍ) ألوان ؛ نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وحمراء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه

__________________

(١). حذيفة بن أنس الهذلي.

٤٢٠