فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

قال : فليصم شهرين متتابعين ، قلت : والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام ، قال : فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر ، قلت : والله ما ذاك عنده ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأنا سأعينه بعرق من تمر ، فقلت : وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر ، فقال : قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا ، قالت : ففعلت» وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال : هو الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فإذا قال ذلك فليس يحلّ له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر بعتق رقبة (فَمَنْ) فإن (لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) والمسّ النكاح (فَمَنْ) فإن (لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) وإن هو قال لها : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث ، فإن حنث فلا يقربها حتى يكفّر ، ولا يقع في الظهار طلاق. وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال : ثلاث فيه مدّ : كفارة اليمين ، وكفارة الظهار ، وكفارة الصيام. وأخرج البزار والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : «أتى رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني ظاهرت من امرأتي ، فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر ، فوقعت عليها قبل أن أكفّر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم يقل الله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) قال : قد فعلت يا رسول الله ، قال : أمسك عنها حتى تكفر». وأخرج عبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن ابن عباس «أن رجلا قال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفّر ، فقال : وما حملك على ذلك؟ قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر ، قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود ، والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة والطبراني والبغوي في معجمه ، والحاكم وصحّحه ، عن سلمة بن صخر الأنصاري قال : كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح ، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري ، فقلت : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بأمري ، فقالوا : لا ، والله لا نفعل نتخوّف أن ينزل فينا القرآن ، أو يقول فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك ، قال : فخرجت فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته خبري ، فقال : أنت بذاك (١)؟ قلت : أنا بذاك ، قال : أنت بذاك؟ قلت : أنا بذاك ، قال : أنت بذاك؟ قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فامض في حكم الله فإني صابر لذلك ، قال : أعتق رقبة ، فضربت عنقي بيدي فقلت : لا والّذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : فصم شهرين متتابعين ، فقلت : هل أصابني إلا في الصيام؟ قال : فأطعم ستين مسكينا ، قلت : والّذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشين (٢) ما لنا عشاء ، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق ، فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا ، ثم استعن بسائرها عليك وعلى

__________________

(١). «أنت بذاك» : أي أنت متلبّس بذلك الفعل؟

(٢). «وحشين» : رجل وحش ، أي جائع لا طعام له.

٢٢١

عيالك. فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السعة والبركة ، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي ، فدفعوها إليه».

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) لما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين ، والمحادة : المشاقة والمعاداة والمخالفة ، ومثله قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال الزجّاج : المحادة : أن تكون في حدّ يخالف صاحبك ، وأصلها الممانعة ، ومنه الحديد ، ومنه الحدّاد للبوّاب (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : أذلوا وأخزوا ، يقال : كبت الله فلانا إذا أذله ، والمردود بالذل يقال له مكبوت. قال المقاتلان : أخزوا كما أخزي الّذي من قبلهم من أهل الشرك ، وكذا قال قتادة. وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا. وقال ابن زيد ، عذبوا. وقال السدي : لعنوا. وقال الفراء : أغيظوا ، والمراد بمن قبلهم : كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله ، وعبّر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقّق وقوعه ، وقيل : المعنى : على المضي ، وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر ، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر ، وجملة (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) في محل نصب على الحال من الواو في كبتوا ، أي : والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ الله ورسله من الأمم المتقدمة ، وقيل : المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه ، وقيل : هي المعجزات (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي : للكافرين بكل ما يجب الإيمان به ، فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولا أوّليا ، والعذاب المهين : الّذي يهين صاحبه ويذلّه ويذهب بعزّه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) الظرف منتصب بإضمار اذكر ، أو بمهين ، أو بما تعلّق به اللام من الاستقرار ، أو بأحصاه المذكور بعده ، وانتصاب جميعا على الحال ، أي : مجتمعين في حالة واحدة ، أو يبعثهم كلهم لا يبقى منهم أحد غير مبعوث (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي : يخبرهم بما عملوه في الدنيا من الأعمال القبيحة توبيخا لهم وتبكيتا ولتكميل الحجّة عليهم ، وجملة (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : كيف ينبئهم بذلك على كثرته

٢٢٢

واختلاف أنواعه ، فقيل : أحصاه الله جميعا ولم يفته منه شيء ، والحال أنهم قد نسوه ولم يحفظوه ، بل وجدوه حاضرا مكتوبا في صحائفهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل هو مطّلع وناظر. ثم أكّد سبحانه بيان كونه عالما بكل شيء ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما ، وجملة (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) إلخ مستأنفة لتقرير شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات. قرأ الجمهور «يكون» بالتحتية. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة بالفوقية ، و «كان» على القراءتين تامة ، و «من» مزيدة للتأكيد ، و «نجوى» فاعل كان ، والنجوى : السرار ، يقال : قوم نجوى ، أي : ذوو نجوى ، وهي مصدر. والمعنى : ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى ، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين ؛ فعلى الوجه الأول انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه ، وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى أو الصفة لها. قال الفراء : ثلاثة نعت للنجوى فانخفضت ، وإن شئت أضفت نجوى إليها ، ولو نصبت على إضمار فعل جاز ، وهي قراءة ابن أبي عبلة ، ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وكذا قوله : (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة ، وكذا سادسهم جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى (وَلا خَمْسَةٍ) أي : ولا نجوى خمسة ، وتخصيص العددين بالذكر ؛ لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة ؛ أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع. قال الفراء : العدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر يعلم السر والجهر ، لا تخفى عليه خافية (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) أي : ولا أقلّ من العدد المذكور : كالواحد ، والاثنين ، ولا أكثر منه : كالستة والسبعة ؛ إلا هو يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه من شيء ، قرأ الجمهور : «ولا أكثر» بالجرّ بالفتحة عطفا على لفظ نجوى. وقرأ الحسن والأعمش وابن إسحاق وأبو حيوة ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بن عمر وسلام بالرفع عطفا على محل نجوى. وقرأ الجمهور : «ولا أكثر» بالمثلثة. وقرأ الزهري وعكرمة بالموحدة. قال الواحدي : قال المفسرون : إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم ، فيحزنون لذلك ، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله هذه الآيات ، ومعنى (أَيْنَ ما كانُوا) إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم في أي مكان من الأمكنة (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي : يخبرهم (بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) توبيخا وتبكيتا وإلزاما للحجة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء كائنا ما كان (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) هؤلاء الذين نهوا ، ثم عادوا لما نهوا عنه هم من تقدم ذكره من المنافقين واليهود. قال مقاتل : كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود مواعدة ، فإذا مرّ بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرّا فنهاهم الله فلم ينتهوا ، فنزلت. وقال ابن

٢٢٣

زيد : كان الرجل يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب ، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهمّ ؛ فيفزعون لذلك (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) قرأ الجمهور : «يتناجون» بوزن يتفاعلون ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله فيما بعد : (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا) وقرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب «وينتجون» بوزن يفتعلون ، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه ، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد ، نحو : تخاصموا واختصموا ، وتقاتلوا واقتتلوا ، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم ، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين ومعصية الرسول مخالفته. قرأ الجمهور : «ومعصية» بالإفراد. وقرأ الضحاك وحميد ومجاهد «ومعصيات» بالجمع. (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال القرطبي : إن المراد بها اليهود ، كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : السام عليك ، يريدون ذلك السلام ظاهرا ، وهم يعنون الموت باطنا ، فيقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم». وفي رواية أخرى : «وعليكم». (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : فيما بينهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي : هلّا يعذّبنا بذلك ، ولو كان محمد نبيا لعذبنا بما يتضمّنه قولنا من الاستخفاف به ، وقيل : المعنى : لو كان نبيا لاستجيب له فينا حيث يقول : وعليكم ، ووقع علينا الموت عند ذلك. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا (يَصْلَوْنَها) يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : المرجع ، وهو جهنم ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى ؛ أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان ومعصية لرسول الله كما يفعله اليهود والمنافقون. ثم بيّن لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم ، فقال : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي : بالطاعة وترك المعصية ، وقيل : الخطاب للمنافقين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى ، والأول أولى ، ثم خوّفهم سبحانه فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيجزيكم بأعمالكم. ثم بيّن سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان ، فقال : (إِنَّمَا النَّجْوى) يعني بالإثم والعدوان ومعصية الرسول (مِنَ الشَّيْطانِ) لا من غيره ، أي : من تزيينه وتسويله (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) أو : وليس الشيطان أو التناجي الّذي يزيّنه الشيطان بضار المؤمنين شيئا من الضرر (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بمشيئته ، وقيل : بعلمه (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : يكلون أمرهم إليه ، ويفوّضونه في جميع شؤونهم ، ويستعيذون بالله من الشيطان ، ولا يبالون بما يزيّنه من النّجوى.

وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، قال السيوطي : بسند جيد ، عن ابن عمر : إن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السام عليك ، يريدون بذلك شتمه ، ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذّبنا الله بما نقول ، فنزلت هذه الآية : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ). وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ، والترمذي وصحّحه ، عن أنس : «أن يهوديا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فقال : السام عليكم ، فردّ عليه القوم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تدرون ما قال

٢٢٤

هذا؟ قالوا : الله أعلم ، سلّم يا نبي الله ، قال : لا ، ولكنه قال كذا وكذا ، ردّوه عليّ ، فردّوه ، قال : قلت السام عليكم؟ قال : نعم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك : إذا سلّم عليكم أحد من أهل الكتاب ، فقولوا : عليك ، قال : عليك ما قلت. قال : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)». وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن عائشة قالت : «دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود ، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم؟ فقالت عائشة : عليكم السام واللعنة ، فقال : يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المفتحش ، قلت : ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو ما سمعتني أقول وعليكم؟ فأنزل الله : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)». وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حيّوه : سام عليك ، فنزلت. وأخرج ابن مردويه عنه قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فأنغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ويقولون : قتل القوم ، وإذا رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناجوا وأظهروا الحزن ، فبلغ ذلك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن المسلمين ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الآية». وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث ، فإن ذلك يحزنه». وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : كنا نتناوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يطرقه أمر ، أو يأمر بشيء ، فكثر أهل النّوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أندية نتحدّث ، فخرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟ قلنا : يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقا منه ، فقال : ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل». قال ابن كثير : هذا إسناد غريب ، وفيه بعض الضعفاء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) يقال : فسح له يفسح فسحا ، أي : وسع له ، ومنه قولهم : بلد فسيح. أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضا بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه. قال قتادة ومجاهد والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحّون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال لتحصيل الشهادة (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي : فوسّعوا

٢٢٥

يوسّع الله لكم في الجنة ، أو في كلّ ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغير هما ، قرأ الجمهور : «تفسّحوا في المجلس» وقرأ السلمي وزرّ بن حبيش وعاصم (فِي الْمَجالِسِ) على الجمع ؛ لأنّ لكلّ واحد منهم مجلسا ، وقرأ قتادة والحسن وداود بن أبي هند وعيسى بن عمر «تفاسحوا». قال الواحدي : والوجه التوحيد في المجلس ، لأنه يعني به مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ؛ سواء كان مجلس حرب ، أو ذكر ، أو يوم الجمعة ، فإن كل واحد أحق بمكانه الّذي سبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه ، ويؤيد هذا : حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم وغير هما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه» ، [وعنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر] (١) ولكن تفسّحوا وتوسّعوا». (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قرأ الجمهور بكسر الشين فيها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضمّها فيهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز ، أي : ارتفع ، ينشز وينشز ، كعكف يعكف ويعكف ، والمعنى : إذا قيل لكم انهضوا فانهضوا. قال جمهور المفسرين : أي : انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير. وقال مجاهد والضحاك وعكرمة : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة ، فقيل لهم : إذا نودي للصلاة فانهضوا. وقال الحسن : انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد : هذا في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَانْشُزُوا) فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، والظاهر حمل الآية على العموم ؛ والمعنى : إذا قيل لكم : انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصا ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق ، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجا أوّليا ، وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجا أوّليا ، وقد قدّمنا أن معنى نشر ارتفع ، وهكذا يقال نشز ينشز ؛ إذا تنحى عن موضعه ، ومنه امرأة ناشز ، أي : متنحية عن زوجها ، وأصله مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكر معناه النحاس (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي : ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة ، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات ، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات ، وقيل : المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك الذين أوتوا العلم ، وقيل : المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن. والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملّة ، ولا دليل يدلّ على تخصيص الآية بالبعض دون البعض ، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله ، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

__________________

(١). من تفسير القرطبي (١٧ / ٢٩٨)

٢٢٦

لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشرّ ، فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرّا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) المناجاة : المساررة ، والمعنى : إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم فقدّموا بين يدي مساررتكم له صدقة. قال الحسن : نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى ، فشقّ عليهم ذلك ، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى لتقطعهم عن استخلائه. وقال زيد بن أسلم : نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : إنه أذن يسمع كل ما قيل له ، وكان لا يمنع أحدا من مناجاته ، وكان ذلك يشقّ على المسلمين ؛ لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) (١) فلم ينتهوا ، فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى ، لضعف كثير منهم عن الصدقة فخّفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، وهو مبتدأ وخبره (خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) لما فيه من طاعة الله ، وتقييد الأمر يكون امتثاله خيرا لهم من عدم الامتثال وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى ، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي : أخفتم الفقر والعيلة لأن تقدموا ذلك ، والإشفاق : الخوف من المكروه والاستفهام للتقرير. وقيل المعنى : أبخلتم ، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين. قال مقاتل بن حيان : إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي : ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال قتادة : ما كان إلا ساعة من النهار (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل ، وأما من لم يجد فقد تقدم الترخيص له بقوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن رخص لكم في الترك ، «وإذ» على بابها في الدلالة على المضي ، وقيل : هي بمعنى إن ، وتاب معطوف على لم تفعلوا ، أي : وإذا لم تفعلوا وإذ تاب عليكم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) والمعنى : إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله ؛ فيما تؤمرون به وتنهون عنه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لا يخفى عليه من ذلك شيء فهو مجازيكم ، وليس في الآية ما يدلّ على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر ، أما الفقراء منهم فالأمر واضح ، وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلّفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة ، فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصرا في امتثال الأمر بالصدقة ، على أن في الآية ما يدل على أن الأمر للندب كما قدمنا. وقد استدل بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل ، وليس هذا

__________________

(١). المجادلة : ٩.

٢٢٧

الاستدلال بصحيح ، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل ، وأيضا قد فعل ذلك البعض ، فتصدّق بين يدي نجواه كما سيأتي.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : أنزلت هذه الآية (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) يوم جمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ في الصفّة ، وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، ثم سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم ، فشقّ ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام من أهل بدر ، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : ذلك في مجلس القتال (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) قال : إلى الخير والصلاة. وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في المدخل ، عن ابن عباس في قوله : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) قال : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال : يرفع الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات. وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما خصّ الله العلماء في شيء من القرآن ما خصّهم في هذه الآية ، فضّل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) الآية قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقّوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك ضنّ كثير من الناس وكفوا عن المسألة ؛ فأنزل الله بعد هذا (أَأَشْفَقْتُمْ) الآية ، فوسع الله عليهم ولم يضيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والترمذي وحسّنه ، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والنحاس وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى دينارا؟ قلت : لا يطيقونه. قال : فنصف دينار؟ قلت لا يطيقونه ، قال : فكم؟ قلت : شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، قال : فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية ، فبي خفّف الله عن هذه الأمة» والمراد بالشعيرة هنا وزن شعيرة من ذهب ، وليس المراد واحدة من حب الشعير. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وما كانت إلا ساعة : يعني آية النجوى. وأخرج سعيد ابن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت :

٢٢٨

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية. وأخرج الطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند ضعيف ، عن سعد بن أبي وقاص قال : «نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فقدمت شعيرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لزهيد» ، فنزلت الآية الأخرى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ)».

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً) أي : والوهم. قال قتادة : هم المنافقون تولوا اليهود. وقال السدي ومقاتل : هم اليهود تولوا المنافقين ، ويدل على الأول قوله : (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) فإن المغضوب عليهم هم اليهود ، ويدلّ على الثاني قوله : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) فإن هذه صفة المنافقين ، كما قال الله فيهم : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) (١) وجملة (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) في محل نصب على الحال ، أو هي مستأنفة (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي : يحلفون أنهم مسلمون ، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود ، والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجب من فعلهم ، وجملة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه ، وأنه كذب لا حقيقة له (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) بسبب هذا التولّي والحلف على الباطل (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الأعمال القبيحة (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) قرأ الجمهور : «أيمانهم» بفتح الهمزة ، جمع يمين ، وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقّيا من القتل ، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم ، كما يجعل المقاتل الجنّة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم. وقرأ الحسن وأبو العالية : «إيمانهم» بكسر الهمزة ، أي : جعلوا تصديقهم جنّة من القتل ، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ولم تؤمن قلوبهم (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التّثبيط ، وتهوين أمر المسلمين ، وتضعيف

__________________

(١). النساء ١٤٣.

٢٢٩

شوكتهم ، وقيل : المعنى : فصدّوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي : يهينهم ويخزيهم ، قيل : هو تكرير لقوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) للتأكيد ، وقيل : الأول عذاب القبر ، وهذا عذاب الآخرة ، ولا وجه للقول بالتكرار ، فإن العذاب الموصوف بالشدة غير العذاب الموصوف بالإهانة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لن تغني عنهم من عذابه شيئا من الإغناء. قال مقاتل : قال المنافقون : إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة ؛ لقد شقينا إذا! فو الله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة ، فنزلت الآية (أُولئِكَ) الموصوف بما ذكر (أَصْحابُ النَّارِ) لا يفارقونها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) الظرف منصوب بقوله : مهين ، أو بمقدر ، أي : اذكر (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي : يحلفون الله يوم القيامة على الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا ، وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم ، فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة ، فكيف يجترءون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ، ويحلفون على الكذب (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي : يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعا ، أو يدفع ضررا ، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي : الكاملون في الكذب ، المتهالكون عليه ، البالغون فيه إلى حدّ لم يبلغ غيرهم إليه ؛ بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرّحمن (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي : غلب عليهم واستعلى واستولى. قال المبرّد : استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به ، وقيل : قوي عليهم ، وقيل : جمعهم ، يقال : أحوذ الشيء ، أي : جمعه وضمّ بعضه إلى بعض ، والمعاني متقاربة ؛ لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى وأحاط بهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) أي : أوامره والعمل بطاعته ، فلم يذكروا شيئا من ذلك. وقيل : زواجره في النهي عن معاصيه ، وقيل : لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات ، وهو مبتدأ وخبره (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي : جنوده وأتباعه ورهطه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : الكاملون في الخسران ، حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران ؛ لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة ، وكذبوا على الله وعلى نبيه ، وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة. (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) تقدم معنى المحادّة لله ولرسوله في أول هذه السورة ، والجملة تعليل لما قبلها (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي : أولئك المحادّون لله ورسوله ، المتّصفون بتلك الصفات المتقدمة ، من جملة من أذلّه الله من الأمم السابقة واللاحقة ؛ لأنهم لما حادّوا الله ورسوله صاروا من الذلّ بهذا المكان. قال عطاء : يريد الذلّ في الدنيا والخزي في الآخرة (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين ، أي : كتب في اللوح المحفوظ ، وقضى في سابق علمه : لأغلبن أنا ورسلي بالحجّة والسيف. قال الزجّاج : معنى غلبة الرسل على نوعين : من بعث منهم بالحرب فهو غالب في الحرب ، ومن بعث منهم بغير الحرب فهو غالب بالحجة. قال الفراء : كتب بمعنى قال ، وقوله : «أنا» توكيد ، ثم ذكر مثل قول الزجاج. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فهو قوي على نصر أوليائه ، غالب لأعدائه ، لا يغلبه أحد

٢٣٠

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يصلح له ، أي : يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقّهما ، وجملة «يوادون» في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعديا إلى مفعولين ، أو في محل نصب على الحال إن كان متعديا إلى مفعول واحد ، أو صفة أخرى ل «قوما» ، أي : جامعون بين الإيمان والموادة لمن حادّ الله ورسوله (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي : ولو كان المحادّون لله ورسوله آباء الموادّين إلخ ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ويمنع منه ، ورعايته أقوى من رعاية الأبوّة والبنوّة والأخوّة والعشيرة (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) يعني الّذي لا يوادون من حاد الله ورسوله ، ومعنى (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) خلقه ، وقيل : أثبته ، وقيل : جعله ، وقيل : جمعه ، والمعاني متقاربة (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي : قوّاهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا ، وسمّي نصره لهم روحا لأن به يحيا أمرهم ، وقيل : هو نور القلب. وقال الربيع بن أنس : بالقرآن والحجة ، وقيل : بجبريل ، وقيل : بالإيمان ، وقيل : برحمة. قرأ الجمهور «كتب» مبنيا للفاعل ونصب الإيمان على المفعولية. وقرأ زرّ بن حبيش والمفضّل عن عاصم على البناء للمفعول ورفع الإيمان على النيابة. وقرأ زرّ بن حبيش : «عشيراتهم» بالجمع ، ورويت هذه القراءة عن عاصم (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) على الأبد (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي : قبل أعمالهم ، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة (وَرَضُوا عَنْهُ) أي : فرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي : جنده الذين يمتثلون أوامره ويقاتلون أعداءه وينصرون أولياءه ، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة ، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل ، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم ك : لا فلاح.

وقد أخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره ، وعنده نفر من المسلمين ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين شيطان ، فإذا جاءكم فلا تكلّموه ، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق ، فقال حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال : ذرني آتيك بهم ، فحلفوا واعتذروا ، فأنزل الله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) الآية والتي بعدها». وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في سننه ، عن عبد الله بن شوذب قال : جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتقصّاه ، لأبي عبيدة ، يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله ، فنزلت : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية.

* * *

٢٣١

سورة الحشر

وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحشر بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر ، قال : سورة النضير ؛ يعني أنها نزلت في بني النضير كما صرّح بذلك في بعض الروايات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قد تقدّم تفسير هذا في سورة الحديد (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) هم بنو النضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون ، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا منهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغدروا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن عاهدوه ، وصاروا عليه مع المشركين ، فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رضوا بالجلاء. قال الكلبي : كانوا أوّل من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب ، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب ، فكان جلاؤهم أوّل حشر من المدينة ، وآخر حشر إجلاء عمر لهم. وقيل : إن أوّل الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر ، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام. وقيل : آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر ، وهي الشام. قال عكرمة : من شكّ أن المحشر يوم القيامة في الشام فليقرأ هذه الآية ، وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : اخرجوا ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر. قال ابن العربي : الحشر أوّل وأوسط

٢٣٢

وآخر ، فالأوّل إجلاء بني النضير ، والأوسط إجلاء أهل خيبر ، والآخر يوم القيامة.

وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير ، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري فقال : هم بنو قريظة ، وهو غلط. فإن بني قريظة ما حشروا ، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه ، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتغنم أموالهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. واللام في «لأوّل الحشر» متعلقة ب «أخرج» ، وهي لام التوقيت ، كقوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) هذا خطاب للمسلمين ، أي : ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم لعزّتهم ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة وعقار ونخيل واسعة ، وأهل عدد وعدّة (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي : وظنّ بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ، وقوله «ما نعتهم» خبر مقدّم ، و «حصونهم» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «أنهم» ، ويجوز أن يكون «ما نعتهم» خبر «أنهم» ، و «حصونهم» فاعل «ما نعتهم». ورجّح الثاني أبو حيان ، والأوّل أولى (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي : أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة ، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، وقيل : هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله ابن جريج والسدّي وأبو صالح ، فإنّ قتله أضعف شوكتهم. وقيل : إن الضمير في «أتاهم» و «لم يحتسبوا» للمؤمنين ، أي : فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، والأوّل أولى ؛ لقوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير ، لا في قلوب المسلمين. قال أهل اللغة : الرعب : الخوف الّذي يرعب الصدر ، أي : يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه. وقيل : كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به ، بل المراد بالرعب الّذي قذفه الله في قلوبهم هو الّذي ثبت في الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرّعب مسيرة شهر». (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم ، فجعلوا يخربونها من داخل ، والمسلمون من خارج. قال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرّب من حصنهم. قال الزجاج : معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرّضوها لذلك. قرأ الجمهور : (يُخْرِبُونَ) بالتخفيف ، وقرأ الحسن والسلمي ونصر بن عاصم وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد. قال أبو عمرو : إنما اخترت القراءة بالتشديد ، لأن الإخراب ترك الشيء خرابا ، وإنما خربوها بالهدم. وليس ما قاله بمسلّم ، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد. قال سيبويه : إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان ، نحو : أخبرته وخبّرته ، وأفرحته وفرّحته ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم. قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير : لما صالحهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لهم ما أقلّت الإبل ؛ كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود فيهدمون بيوتهم ، ويحملون ذلك على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها. وقال الزهري أيضا : يخربون بيوتهم بنقض المعاهدة ، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة. وقال أبو عمرو : بأيديهم في تركهم لها ، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها ، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه ، أو في محل نصب على الحال (فَاعْتَبِرُوا يا

٢٣٣

أُولِي الْأَبْصارِ) أي : اتّعظوا وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر. قال الواحدي : ومعنى الاعتبار : النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) أي : لو لا أن كتب الله عليهم الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه وقضى به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا كما فعل ببني قريظة. والجلاء : مفارقة الوطن ، يقال : جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج ، وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا ، من جهتين : إحداهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لجماعة ولواحد ، كذا قال الماوردي. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) هذه الجملة مستأنفة ، غير متعلّقة بجواب لولا ، متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب ؛ وإن نجوا من عذاب الدنيا ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله ؛ بعدم الطاعة ، والميل مع الكفار ، ونقض العهد (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) اقتصرها هنا على مشاقة الله ، لأن مشاقته مشاقة لرسوله. قرأ الجمهور : (يُشَاقِ) بالإدغام ، وقرأ طلحة بن مصرّف ومحمد بن السّميقع يشاقق بالفكّ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) قال مجاهد : إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل فنهاهم بعضهم ، وقالوا : إنما هي مغانم للمسلمين ، وقال الذين قطعوا : بل هو غيظ للعدوّ ، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل وتحليل من قطعه من الإثم ، فقال : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) قال قتادة والضحاك : إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق : قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة ، فقال بنو النضير وهم أهل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبيّ تريد الصلاح ، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية ، ومعنى الآية : أيّ شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله ، والضمير في (تَرَكْتُمُوها) عائد إلى (ما) لتفسيرها باللينة ، وكذا في قوله : (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) ومعنى على أصولها : أنها باقية على ما هي عليه.

واختلف المفسرون في تفسير اللينة ، فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل : إنها النخل كله إلا العجوة. وقال مجاهد : إنها النخل كله ، ولم يستثن عجوة ولا غيرها. وقال الثوري : هي كرام النخل. وقال أبو عبيدة : إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد : إنها العجوة خاصة ، وقيل : هي ضرب من النخل ، يقال لتمره : اللّون ، تمره أجود التمر. وقال الأصمعي : هي الدّقل ، وأصل اللينة لونة ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وجمع اللينة : لين ، وقيل : ليان. وقرأ ابن مسعود «ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوما على أصولها» أي : قائمة على سوقها ، وقرئ : «على أصلها» وقرئ : «قائما على أصوله». (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي : ليذلّ الخارجين عن الطاعة ، وهم اليهود ، ويغيظهم في قطعها وتركها ؛ لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاؤوا من القطع والترك ازدادوا غيظا. قال الزجاج :

٢٣٤

وليخزي الفاسقين بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك ، والتقدير : وليخزي الفاسقين أذن في ذلك ، يدل على المحذوف قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) وقد استدلّ بهذه الآية على جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين ، والبحث مستوفى في كتب الأصول (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي : ما ردّه عليه من أموال الكفار ، يقال : فاء يفيء إذا رجع ، والضمير في «منهم» عائد إلى بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجفا : وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه : إذا حمله على السير السريع ، ومنه قول تميم بن مقبل :

مذاويد بالبيض الحديث صقالها

عن الرّكب أحيانا إذا الرّكب أوجفوا

وقال نصيب :

ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم

إليك ولو لا أنت لم يوجف الرّكب

وما في (فَما أَوْجَفْتُمْ) نافية ، والفاء جواب الشرط إن كانت (ما) في قوله : (ما أَفاءَ اللهُ) شرطية ، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة. و (مِنْ) في قوله : (مِنْ خَيْلٍ) زائدة للتأكيد ، والركاب : ما يركب من الإبل خاصة ، والمعنى : أن ما ردّ الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا ، ولا تجشّمتم لها شقة ، ولا لقيتم بها حربا ولا مشقّة ، وإنما كانت من المدينة على ميلين ، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لهذا السبب ، فإنه افتتحها صلحا وأخذ أموالها ، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من أعدائه ، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أصحابه ؛ لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، بل مشوا إليها مشيا ، ولم يقاسوا فيها شيئا من شدائد الحروب (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يسلّط من يشاء على من أراد ، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) و (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد ، ووضع أهل القرى موضع قوله : منهم أي : من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختصّ ببني النضير وحدهم ، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلحا ، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. قيل : والمراد بالقرى : بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر. وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها؟ هل معناهما متفق أو مختلف ، فقيل : معناهما متفق كما ذكرنا ، وقيل : مختلف ، وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل. قال ابن العربي : لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات. أما الآية الأولى ، وهي قوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) فهي خاصّة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصة له ، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها. وأما الآية الثانية ، وهي قوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول ، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت

__________________

(١). الأنبياء : ٢٣.

٢٣٥

شيئا أفاءه الله على رسوله ، واقتضت الآية أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية الأنفال ، وهي الآية الثالثة ، أنه حاصل بقتال ، وعريت الآية الثانية ، وهي قوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال ، فنشأ الخلاف من ها هنا ؛ فطائفة قالت : هي ملحقة بالأولى ، وهي مال الصلح ، وطائفة قالت : هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال. والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة ، هذا معنى حاصل كلامه. وقال مالك : إن الآية الأولى من هذه السورة خاصّة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآية الثانية هي في بني قريظة ، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال. ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة ، وأن أربعة أخماسه كانت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي بعده لمصالح المسلمين (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) المراد بقوله : لله أنه يحكم فيه بما يشاء (وَلِلرَّسُولِ) يكون ملكا له (وَلِذِي الْقُرْبى) وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، لأنهم قد منعوا من الصدقة ، فجعل لهم حقا في الفيء. قيل : تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخمسه يقسم أخماسا : للرسول خمس ، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس ، وقيل : يقسم أسداسا. السادس : سهم الله سبحانه ، ويصرف إلى وجوه القرب ؛ كعمارة المساجد ونحو ذلك (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي : كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء ، والدولة : اسم للشيء يتداوله القوم بينهم ، يكون لهذا مرّة ، ولهذا مرّة. قال مقاتل : المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم. قرأ الجمهور : (يَكُونَ) بالتحتية دولة بالنصب ، أي : كيلا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام وأبو حيوة تكون بالفوقية دولة بالرفع ، أي : كيلا تقع أو توجد دولة ، وكان تامة. وقرأ الجمهور (دُولَةً) بضم الدال. وقرأ أبو حيوة والسّلمي بفتحها. قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي : هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء : الدّولة بالفتح الّذي يتداول من الأموال ، وبالضم الفعل. وكذا قال أبو عبيدة. ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي : ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه ، وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه ولا تأخذوه. قال الحسن والسدّي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج : ما آتاكم من طاعتي فافعلوا ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. والحقّ أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر أو نهي أو قول أو فعل ، وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا ، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرّسول ، وترك ما نهاهم عنه ، أمرهم بتقواه ، وخوفهم شدّة عقوبته ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فهو معاقب من لم يأخذ ما آتاه الرّسول ولم يترك ما نهاه عنه.

وقد أخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن عائشة قالت : كانت غزوة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود ، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة.

٢٣٦

فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلوا على الجلاء ، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة ، يعني السلاح ، فأنزل الله فيهم : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) فقاتلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صالحهم على الإجلاء وجلاهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا ، وكان الله قد كتب عليهم ذلك ، ولو لا ذلك لعذّبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، وأمّا قوله : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فكان إجلاؤهم ذلك أوّل حشر في الدنيا إلى الشام. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس قال : «من شكّ أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ :

«اخرجوا ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر». وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم ، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم ، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء. وفي البخاري ومسلم وغير هما عن ابن عمر : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرق نخل بني النضير وقطع ، وهي البويرة (١) ، ولها يقول حسان :

فهان على سراة بني لؤيّ

حريق بالبويرة مستطير

فأنزل الله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).

وأخرج الترمذي وحسّنه ، والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : اللينة النخلة (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) قال : استنزلوهم من حصونهم ، وأمروا بقطع النخل ، فحكّ في صدورهم (٢) ، فقال المسلمون : قد قطعنا بعضا وتركنا بعضا ، فلنسألنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) الآية ، وفي الباب أحاديث ، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير. وأخرج البخاريّ ومسلم وغير هما عن عمر بن الخطاب قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ، وممّا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، وكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) فجعل ما أصاب رسوله الله يحكم فيه ما أراد ، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال : والإيجاف : أن يوضعوا السير ، وهي لرسول الله ، فكان من ذلك خيبر وفدك وقرى عرينة (٣). وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعمد لينبع ،

__________________

(١). هي مكان بين المدينة وتيماء ، من جهة مسجد قباء إلى جهة الغرب.

(٢). حكّ الشيء في النفس : إذا لم يكن الإنسان منشرح الصّدر به ، وكان في قلبه منه شيء من الشك والريب ، وأوهم أنه ذنب وخطيئة.

(٣). في الدر المنثور (٨ / ١٠٠) : عربية.

٢٣٧

فأتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتواها كلها ، فقال ناس : هلّا قسمها الله ، فأنزل الله عذره فقال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) الآية. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله ، والنصف الآخر للمسلمين ، فكان الّذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة والوطيح وسلالم ووخدة ، وكان الّذي للمسلمين الشقّ ، والشقّ ثلاثة عشر سهما ، ونطاة (١) خمسة أسهم ، ولم يقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية. ولم يأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأحد من المسلمين تخلّف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ. وأخرج أبو داود وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفايا (٢) في النضير وخيبر وفدك ؛ فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكانت لابن السبيل ، وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء : قسم منها جزءين بين المسلمين ، وحبس جزءا لنفسه ولنفقة أهله ، فما فضل عن نفقة أهله ردها على فقراء المهاجرين. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة ، وابن زنجويه في الأموال ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال : ما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حقّ إلا ما ملكت أيمانكم. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن مسعود قال : «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أمّ يعقوب ، فجاءت ابن مسعود ، فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، قال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله؟ قالت : لقد قرأت الدّفتين فما وجدت فيه شيئا من هذا ، قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته ، أما قرأت (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه».

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

قوله : (لِلْفُقَراءِ) قيل : هو بدل من (لِذِي الْقُرْبى) وما عطف عليه ، ولا يصحّ أن يكون بدلا من الرسول وما بعده ؛ لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، وقيل : التقدير (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) ولكن يكون للفقراء ، وقيل : التقدير : اعجبوا للفقراء ، وقيل : التقدير : والله شديد العقاب للفقراء ، أي :

__________________

(١). «النّطاة» : علم لخيبر ، أو حصن بها.

(٢). «الصفايا» : جمع صفي ، وهو ما يصطفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عرض الغنيمة من شيء قبل أن يخمس : عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها ـ وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا بذلك مع الخمس الّذي كان له خاصة.

٢٣٨

شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء ، وقيل : هو عطف على ما مضى بتقدير الواو ، كما تقول : المال لزيد لعمرو لبكر ، والمراد ب (الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغبة في الدين ونصرة له. قال قتادة : هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين ، ومعنى (أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أن كفار مكة أخرجوهم منها واضطروهم إلى الخروج ، وكانوا مائة رجل (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي : يطلبون منه أن يتفضّل عليهم بالرزق في الدنيا ، وبالرضوان في الآخرة (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بالجهاد للكفار ، وهذه الجملة معطوفة على «يبتغون» ، ومحل الجملتين النصب على الحال ، الأولى مقارنة ، والثانية مقدّرة ، أي : ناوين لذلك ، ويجوز أن تكون حالا مقارنة لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات ، وهو مبتدأ وخبره (هُمُ الصَّادِقُونَ) أي : الكاملون في الصدق ، الراسخون فيه. ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) المراد بالدار المدينة ، وهي دار الهجرة ، ومعنى تبوّئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة ، أي : تمكّنوا منهما تمكّنا شديدا ، والتبوّء في الأصل إنما يكون للمكان ، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلا للحال منزلة المحل ، وقيل : إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور ، والتقدير : واعتقدوا الإيمان ، أو وأخلصوا الإيمان ، كذا قال أبو علي الفارسي. ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : تبوّءوا مضمّنا لمعنى لزموا ، والتقدير : لزموا الدار والإيمان. ومعنى «من قبلهم» : من قبل هجرة المهاجرين ، فلا بدّ من تقدير مضاف ؛ لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين ، والموصول مبتدأ وخبره (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي : لا يجد الأنصار في صدورهم حسدا وغيظا وحزازة (مِمَّا أُوتُوا) أي : ممّا أوتي المهاجرون دونهم من الفيء ، بل طابت أنفسهم بذلك ، وفي الكلام مضاف محذوف ، أي : لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة أو أثر حاجة ، وكلّ ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم ، ثم قال : «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين» وكان المهاجرون على ما هم عليه من السّكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم ، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين وطابت أنفسهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الإيثار : تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به ، والمعنى : ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي : حاجة وفقر ، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت ، وهي الفرج التي تكون فيه ، وجملة «ولو كان بهم خصاصة» في محل نصب على الحال ؛ وقيل : إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة : الانفراد بالحاجة ، ومنه قول الشاعر :

أمّا الرّبيع إذا تكون خصاصة

عاش السقيم به وأثرى المقتر

٢٣٩

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قرأ الجمهور : (يُوقَ) بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف. وقرأ الجمهور : (شُحَّ نَفْسِهِ) بضم الشين. وقرأ ابن عمر وابن أبي عبلة بكسرها. والشحّ : البخل مع حرص ، كذا في الصحاح ، وقيل : الشحّ أشدّ من البخل. قال مقاتل : شحّ نفسه : حرص نفسه. قال سعيد بن جبير : شحّ النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة. قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه ، فقد وقي شحّ نفسه. قال طاوس : البخيل : أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشحّ : أن يشحّ بما في أيدي الناس ، يحبّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام ، لا يقنع. وقال ابن عيينة : الشحّ : الظلم. وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شحّ النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشحّ بها شرعا من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك ، كما تفيده إضافة الشحّ إلى النفس. والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى (مِنْ) باعتبار معناها ، وهو مبتدأ وخبره (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والفلاح : الفوز والظفر بكل مطلوب. ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار ، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم ، فقال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ، وقيل : هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام ، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوّة ، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوّة إلى يوم القيامة ؛ لأنه يصدق على الكلّ أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأوّلين والأنصار ، والموصول مبتدأ وخبره : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ويجوز أن يكون الموصول معطوفا على قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) ، فيكون «يقولون» في محل نصب على الحال ، أو مستأنف لا محل له ، والمراد بالأخوة هنا أخوة الدّين ، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ولمن تقدّمهم من المهاجرين والأنصار (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : غشّا وبغضا وحسدا. أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغلّ للذين آمنوا على الإطلاق ، فيدخل في ذلك الصحابة دخولا أوّليا لكونهم أشرف المؤمنين ، ولكون السياق فيهم ، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية ، فإن وجد في قلبه غلا لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان ، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله ؛ بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم ؛ إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه والاستغاثة به ؛ بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغلّ لخير القرون وأشرف هذه الأمة ، فإن جاوز ما يجده من الغلّ إلى شتم أحد منهم ، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه ، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلّم من الرافضة ، أو صاحب من أعداء خير الأمة ؛ الذين تلاعب بهم الشيطان ، وزيّن لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة ، وصرفهم عن كتاب الله الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وعن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور ، فاشتروا الضلالة بالهدى ، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر ، وما

٢٤٠