فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود ، ووعد خير لمن عذّبوه على دينه من أولئك المؤمنين. ثم بيّن سبحانه ما أعدّ لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي : حرقوهم بالنار ، والعرب تقول : فتنت الشيء ، أي : أحرقته ، وفتنت الدرهم والدينار ؛ إذا أدخلته النار لتنظر جودته. ويقال : دينار مفتون ، ويسمّى الصائغ : الفتان ، ومنه قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١) أي : يحرقون ، وقيل : معنى فتنوا المؤمنين : محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه ، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم وفتنتهم ، فلهم عذاب جهنم ، أي : لهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم ، والجملة في محل رفع على أنها خبر إن ؛ أو الخبر : لهم ، وعذاب جهنم مرتفع به على الفاعلية ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، ولا يضرّ نسخه بأنّ ، خلافا للأخفش ، (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) ي : ولهم عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم ، وهو عذاب الحريق الّذي وقع منهم للمؤمنين ، وقيل : إن الحريق اسم من أسماء النار ك السعير ، وقيل : إنهم يعذبون في جهنم بالزمهرير ثم يعذبون بعذاب الحريق ؛ فالأوّل : عذاب ببردها ، والثاني : عذاب بحرّها. وقال الربيع بن أنس : إن عذاب الحريق أصيبوا به في الدنيا ، وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم ، وبه قال الكلبي. ثم ذكر سبحانه ما أعدّ للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وظاهر الآية العموم ، فيدخل في ذلك المحرقون في الأخدود بسبب إيمانهم دخولا أوّليا ، والمعنى : أن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح جنات متصفة بهذه الصفة. وقد تقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات في غير موضع ، وأوضحنا أنه إن أريد بالجنات الأشجار فجرى الأنهار من تحتها واضح ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر وهو الشجر لأنها ساترة لساحتها ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره مما أعدّه الله لهم ، أي : ذلك المذكور (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الّذي : لا يعدله فوز ولا يقاربه ولا يدانيه ، والفوز : الظفر بالمطلوب ، وجملة (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) مستأنفة لخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبينة لما عند الله سبحانه من الجزاء لمن عصاه ، والمغفرة لمن أطاعه ، أي : أخذه للجبابرة والظلمة شديد ، والبطش : الأخذ بعنف ، ووصفه بالشدّة يدل على أنه قد تضاعف وتفاقم ، ومثل هذه قوله : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (٢) (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي : يخلق الخلق أوّلا في الدنيا ويعيدهم أحياء بعد الموت. كذا قال الجمهور ، وقيل : يبدئ للكفار عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده لهم في الآخرة ، واختار هذا ابن جرير ، والأوّل أولى (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) أي : بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها ، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه. قال مجاهد : الوادّ لأوليائه ، فهو فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد : معنى الودود الرّحيم. وحكى المبرد عن إسماعيل القاضي أن الودود هو الّذي لا ولد له ، وأنشد :

__________________

(١). الذاريات : ١٣.

(٢). هود : ١٠٢.

٥٠١

وأركب في الرّوع عريانة

ذلول الجناح لقاحا ودودا

أي : لا ولد لها تحنّ إليه. وقيل : الودود بمعنى المودود ، أي : يودّه عباده الصالحون ويحبونه ، كذا قال الأزهري. قال : ويجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل ، أي : يكون محبا لهم. قال : وكلتا الصفتين مدح ، لأنه جلّ ذكره إن أحبّ عباده المطيعين فهو فضل منه ، وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرّر عندهم من كريم إحسانه. قرأ الجمهور (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) برفع المجيد على أنه نعت لذو ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل ، والل سبحانه هو المنعوت بذلك. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بالجر على أنه نعت للعرش. وقد وصف سبحانه عرشه بالكرم كما في آخر سورة المؤمنون. وقيل : هو نعت لربك ، ولا يضرّ الفصل بينهما لأنها صفات لله سبحانه. وقال مكي : هو خبر بعد خبر ، والأوّل أولى. ومعنى ذو العرش : ذو الملك والسلطان كما يقال : فلان على سرير ملكه ، ومنه قول الشاعر :

رأوا عرشي تثلّم جانباه

فلمّا أن تثلّم أفردوني

وقول الآخر :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

وقيل : المراد خالق العرش (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي : من الإبداء والإعادة. قال عطاء : لا يعجز عن شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه ، وارتفاع «فعال» على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الفراء : هو رفع على التكرير والاستئناف ، لأنه نكرة محضة ، قال ابن جرير : رفع «فعال» ، وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود ، وإنما قال : فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) والجملة مستأنفة مقرّرة لما تقدّم بطشه سبحانه وكونه فعالا لما يريده ، وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم المتجندة عليها. ثم بينهم فقال : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) وهو بدل من الجنود ، والمراد بفرعون هو وقومه ، والمراد بثمود القوم المعروفون ، والمراد بحديثهم ما وقع منهم من الكفر والعناد وما وقع عليهم من العذاب ، وقصتهم مشهورة قد تكرّر في الكتاب العزيز ذكرها في غير موضع ، واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب وعند مشركي العرب ودلّ بهما على أمثالهما. ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء الكفار الموجودين في عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن تقدّم ذكره ، وبين أنهم أشدّ منهم في الكفر والتكذيب فقال : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي بل هؤلاء المشركون من العرب في تكذيب شديد لك ، ولما جئت به ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي : يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك ، والإحاطة بالشيء : الحصر له من جميع جوانبه ، فهو تمثيل لعدم نجاتهم بعدم فوت المحاط به على المحيط. ثم ردّ سبحانه تكذيبهم بالقرآن فقال (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي : متناه في الشرف والكرم والبركة لكونه بيانا لما شرعه الله لعباده من أحكام الدّين والدنيا ، وليس هو كما يقولون إنه شعر وكهانة وسحر (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي : مكتوب في لوح ، وهو أمّ الكتاب

٥٠٢

محفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه. قرأ الجمهور محفوظ بالجرّ على أنه نعت للوح وقرأ نافع برفعه على أنه نعت للقرآن ، أي : بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. واتفق القراء على فتح اللام من لوح إلا يحيى بن يعمر وابن السّميقع فإنهما قرءا بضمها. قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش. قيل : والمراد باللوح بضم اللام : الهواء الّذي فوق السماء السابعة. قال أبو الفضل : اللوح بضم اللام : الهواء ، وكذا قال ابن خالويه. قال في الصحاح : اللوح بالضم : الهواء بين السماء والأرض.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : (الْبُرُوجِ) قصور في السماء. وأخرج ابن مردويه عن جابر ابن عبد الله أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن (السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) فقال : الكواكب ، وسئل عن قوله : (الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) (١) قال : الكواكب ، وعن قوله : (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٢) قال : القصور. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ـ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : اليوم الموعود : يوم القيامة ، والشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، وهو الحج الأكبر ، فيوم الجمعة جعله الله عيدا لمحمد وأمته ، وفضّله بها على الخلق أجمعين ، وهو سيد الأيام عند الله ، وأحبّ الأعمال فيه إلى الله ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أبي هريرة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليوم الموعود يوم القيامة ، واليوم المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه ، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه». وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة رفعه : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : «الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة ، والمشهود هو الموعود يوم القيامة». وأخرج عبد ابن حميد وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : اليوم الموعود : يوم القيامة ، والمشهود : يوم النحر ، والشاهد : يوم الجمعة. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليوم الموعود : يوم القيامة ، والشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة». وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية : «الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة». وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وأبي هريرة مثله موقوفا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد ، والمشهود : يوم عرفة» وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب. وأخرج ابن ماجة والطبراني وابن جرير عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة ؛ فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة». وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في الآية قال : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود :

__________________

(١). الفرقان : ٦١.

(٢). النساء : ٧٨.

٥٠٣

يوم عرفة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن عليّ أن رجلا سأله عن قوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : هل سألت أحدا قبلي؟ قال : نعم سألت ابن عمرو وابن الزبير فقالا : يوم الذبح ويوم الجمعة. قال : لا ، ولكن الشاهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قرأ : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) والمشهود : يوم القيامة ، ثم قرأ : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٢). وأخرج عبد بن حميد ، والطبراني في الأوسط والصغير ، وابن مردويه عن الحسين بن عليّ في الآية قال : الشاهد : جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهود : يوم القيامة ، ثم تلا : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) (٣) (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٤). وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي الدنيا والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : اليوم الموعود : يوم القيامة ، والشاهد : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهود : يوم القيامة ، ثم تلا : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ). وأخرج ابن جرير عنه قال : الشاهد : الله ، والمشهود : يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الشاهد : الله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الشاهد : الله ، والمشهود : يوم القيامة.

قلت : وهذه التفاسير عن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفت كما ترى ، وكذلك اختلفت تفاسير التابعين بعدهم ، واستدلّ من استدلّ منهم بآيات ذكر الله فيها أن ذلك الشيء شاهد أو مشهود ، فجعله دليلا على أنه المراد بالشاهد والمشهود في هذه الآية المطلقة ، وليس ذلك بدليل يستدل به على أن الشاهد والمشهود المذكورين في هذا المقام هو ذلك الشاهد والمشهود الّذي ذكر في آية أخرى ، وإلّا لزم أن يكون قوله هنا : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) هو جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة أنه يشهد أو أنه مشهود ، وليس بعض ما استدلوا به مع اختلافه بأولى من بعض ، ولم يقل قائل بذلك. فإن قلت : هل في المرفوع الّذي ذكرته من حديثي أبي هريرة ، وحديث أبي مالك ، وحديث جبير بن مطعم ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود ، والشاهد والمشهود؟ قلت : أما اليوم الموعود فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها ، بل اتفقت على أنه يوم القيامة ، وأما الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأوّل أنه يوم الجمعة ، وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ويوم الجمعة ، وفي حديث أبي مالك أنه يوم الجمعة ، وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة ، وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة ، فاتفقت هذه الأحاديث عليه ، ولا تضرّ زيادة يوم عرفة في حديث أبي هريرة الثاني ؛ وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة الأوّل أنه يوم عرفة ، وفي حديثه الثاني أنه يوم القيامة ، وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة ، وفي حديث جبير بن مطعم أنه يوم عرفة ، وكذا في حديث سعيد فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة ، وهي أرجح من تلك الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة ، فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ، وأما اليوم الموعود فقد قدّمنا أنه وقع الإجماع على أنه يوم القيامة.

__________________

(١). النساء : ٤١.

(٢). هود : ١٠٣.

(٣). الأحزاب : ٤٥.

(٤). هود : ١٠٣.

٥٠٤

وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني عن صهيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم ، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن : انظروا لي غلاما فهما ، أو قال فطنا لقنا فأعلمه علمي ، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه ، قال : فنظروا له على ما وصف ، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه ، فجعل الغلام يختلف إليه ، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة ، فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مرّ به ، فلم يزل به حتى أخبره فقال : إنما أعبد الله ، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ويبطئ على الكاهن ، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني ، فأخبر الغلام الراهب بذلك ، فقال له الراهب : إذا قال لك أين كنت؟ فقل عند أهلي ، وإذا قال لك أهلك أين كنت؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن ، فبينما الغلام على ذلك إذ مرّ بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة ، يقال : إنها كانت أسدا ، فأخذ الغلام حجرا فقال : اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة ، وإن كان ما يقول الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ، ثم رمى فقتل الدابة ، فقال الناس : من قتلها؟ فقالوا : الغلام ، ففزع الناس وقالوا : قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد ، فسمع أعمى فجاءه فقال له : إن أنت رددت عليّ بصري فلك كذا وكذا ، فقال الغلام : لا أريد منك هذا ، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي ردّه عليك؟ قال : نعم ، فدعا الله فردّ عليه بصره فآمن الأعمى ، فبلغ الملك أمرهم فبعث إليه فأتى بهم فقال : لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه ، فأمر بالراهب والرجل الّذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله ، وقتل الآخر بقتلة أخرى ، ثم أمر بالغلام فقال : انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه ، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل ، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الّذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويترددون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه ، فانطلقوا به إلى البحر ، فغرّق الله الذين كانوا معه وأنجاه ، فقال الغلام للملك : إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني : بسم الله رب الغلام ، فأمر به فصلب ثم رماه وقال : بسم الله رب الغلام ، فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ثم مات ، فقال الناس : لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد ، فإنا نؤمن بربّ هذا الغلام ، فقيل للملك : أجزعت أن خالفك ثلاثة؟ فهذا العالم كلهم قد خالفوك ، قال : فخدّ أخدودا ثم ألقي فيه الحطب والنار ، ثم جمع الناس فقال : من رجع عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار ، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود : فقال : يقول الله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ـ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) حتى بلغ (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)».

فأما الغلام فإنه دفن ، ثم أخرج ، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل. ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف. وقد رواها مسلم في أواخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن صهيب. وأخرجها أحمد من طريق عفان عن

٥٠٥

حماد به. وأخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن حماد بن سلمة به. وأخرجها الترمذي عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قال : هم الحبشة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدودا في الأرض أوقدوا فيها نارا ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء ، فعرضوا عليها. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) إلى قوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : هذا قسم على (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) إلى آخرها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) قال : يبدئ العذاب ويعيده. وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (الْوَدُودُ) قال : الحبيب ، وفي قوله : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قال : الكريم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) قال : أخبرت أنه لوح الذكر لوح واحد فيه الذكر. وإن ذلك اللوح من نور ، وإنه مسيرة ثلاثمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن أنس قال : إن اللوح المحفوظ الّذي ذكره الله في قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ـ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) في جبهة إسرافيل. وأخرج أبو الشيخ ـ قال السيوطي : بسند جيد ـ عن ابن عباس قال : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام ، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق : اكتب علمي في خلقي ، فجرى ما هو كائن إلى يوم القيامة. ا ه.

* * *

٥٠٦

سورة الطّارق

هي سبع عشرة آية ، وهي مكية بلا خلاف ، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت والسماء والطارق بمكة ، وأخرج أحمد ، والبخاري في تاريخه ، والطبراني وابن مردويه عن خالد العدواني : «أنه أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي النصر عندهم ، فسمعه يقرأ : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها ، قال : فوعيتها في الجاهلية ، ثم قرأتها في الإسلام ، قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل ، فقرأتها ، فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا ، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

أقسم سبحانه بالسماء والطارق ، وهو النجم الثاقب كما صرح به التنزيل قال الواحدي : قال المفسرون : أقسم الله بالسماء والطارق ، يعني الكواكب تطرق بالليل وتخفى بالنهار. قال الفرّاء : الطارق : النجم لأنه يطلع بالليل ، وما أتاك ليلا فهو طارق. وكذا قال الزجاج والمبرد : ومنه قول امرئ القيس :

ومثلك حبلى قد طرقت ومرضعا

فألهيتها عن ذي تمائم محول (١)

وقوله أيضا :

ألم ترياني كلّما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب

وقد اختلف في الطارق هل هو نجم معين أو جنس النجم؟ فقيل : هو زحل ، وقيل : الثريا ، وقيل : هو الّذي ترمى به الشياطين. وقيل : هو جنس النجم. قال في الصحاح : والطارق : النجم الّذي يقال له كوكب الصبح ، ومنه قول هند بنت عتبة :

نحن بنات طارق

نمشي على النّمارق

__________________

(١). «التمائم» : التعاويذ التي تعلق في عنق الصبي. وذو التمائم : هو الصبي. «المحول» : الّذي أتى عليه الحول.

٥٠٧

أي : إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء ، وأصل الطروق : الدقّ ، فسمّي قاصد الليل طارقا لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم : إن الطروق قد يكون نهارا ، والعرب تقول : أتيتك اليوم طرقتين ، أي : مرتين ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير». ثم بيّن سبحانه ما هو الطارق ، تفخيما لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ـ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) الثاقب : المضيء ، ومنه يقال : ثقب النجم ثقوبا وثقابة ؛ إذا أضاء ، وثقوبه : ضوءه ، ومنه قول الشاعر :

أذاع به في النّاس حتّى كأنّه

بعلياء نار أوقدت بثقوب

قال الواحدي : الطارق يقع على كل ما طرق ليلا ، ولم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدري ما المراد به لو لم يبينه بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال مجاهد : الثاقب : المتوهّج. قال سفيان : كل ما في القرآن (وَما أَدْراكَ) فقد أخبره [به] (١) ، وكل شيء قال : (وَما يُدْرِيكَ) لم يخبره به ، وارتفاع قوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر نشأ مما قبله ، كأنه قيل : ما هو؟ فقيل : هو النجم الثاقب (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) هذا جواب القسم ، وما بينهما اعتراض ، وقد تقدّم في سورة هود اختلاف القرّاء في (لَمَّا) فمن قرأ بتخفيفها كانت إن هنا هي المخففة من الثقيلة فيها ضمير الشأن المقدّر ، وهو اسمها ، واللام هي الفارقة ، و «ما» مزيدة ، أي : إن الشأن كل نفس لعليها حافظ ، ومن قرأ بالتشديد فإن نافية ، ولما بمعنى إلا ، أي : ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وقد قرأ هنا بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف. قيل : والحافظ : هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها ، ويحصون ما تكسب من خير وشرّ ، وقيل : الحافظ هو الله عزوجل ، وقيل : هو العقل يرشدهم إلى المصالح ، ويكفّهم عن المفاسد. والأوّل أولى لقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (٢) وقوله : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٣) وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ) (٤) والحافظ على الحقيقة هو الله عزوجل كما في قوله : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) (٥) وحفظ الملائكة من حفظه لأنهم بأمره (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) الفاء للدلالة على أن كون على كل نفس حافظ يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدأ خلقه ؛ ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث. قال مقاتل : يعني المكذّب بالبعث (مِمَّ خُلِقَ) من أي شيء خلقه الله ، والمعنى : فلينظر نظر التفكر والاستدلال حتى يعرف أن الّذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته. ثم بين سبحانه ذلك فقال : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والماء : هو المني ، والدفق : الصبّ ، يقال : دفقت الماء ، أي : صببته ، يقال : ماء دافق ، أي : مدفوق ، مثل : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٦) أي : مرضية. قال الفرّاء والأخفش : ماء دافق. أي مصبوب في الرحم. قال الفرّاء : وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم ، كقولهم : سرّ كاتم ، أي : مكتوم ، وهمّ ناصب ،

__________________

(١). من تفسير القرطبي (٢٠ / ٣)

(٢). الانفطار : ١٠.

(٣). الأنعام : ٦١.

(٤). الرعد : ١١.

(٥). يوسف : ٦٤.

(٦). القارعة : ٧.

٥٠٨

أي : منصوب ، وليل نائم ونحو ذلك. قال الزجاج : من ماء ذي اندفاق ، يقال : دارع وقايس ونابل ، أي : ذو درع وقوس ونبل ، وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة ؛ لأن الإنسان مخلوق منهما ، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما ، ثم وصف هذا الماء فقال : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي : صلب الرجل ، وترائب المرأة ، والترائب : جمع تريبة ، وهي موضع القلادة من الصدر ، والولد لا يكون إلا من الماءين. قرأ الجمهور : (يَخْرُجُ) مبنيا للفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم مبنيا للمفعول. وفي الصلب ، وهو الظهر ، لغات. قرأ الجمهور بضم الصاد وسكون اللام ، وقرأ أهل مكة بضم الصاد واللام. وقرأ اليماني بفتحهما ، ويقال : صالب على وزن قالب. ومنه قول العباس بن عبد المطلب :

تنقل من صالب إلى رحم (١)

في أبياته المشهورة في مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تقدّم كلام في هذا عند تفسير قوله : (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (٢) وقيل : الترائب : ما بين الثديين. وقال الضحاك : ترائب المرأة : اليدين والرجلين والعينين. وقال سعيد بن جبير : هي الجيد. وقال مجاهد : هي ما بين المنكبين والصدر. وروى عنه أيضا أنه قال : هي الصدر ، وروى عنه أيضا أنه قال : هي التراقي. وحكى الزجاج : أن الترائب عصارة القلب ، ومنه يكون الولد ، والمشهور في اللغة أنها عظام الصّدر والنّحر ، ومنه قول دريد بن الصّمة :

فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم

وإن تقبلوا نأخذكم في التّرائب

قال عكرمة : الترائب : الصدر ، وأنشد :

نظام درّ على ترائبها

قال في الصّحاح : التريبة : واحدة الترائب ، وهي عظام الصدر. قال أبو عبيدة : جمع التريبة تريب ، ومنه قول المثقّب العبدي :

ومن ذهب يلوح على تريب

كلون العاج ليس بذي غضون

وقول امرئ القيس :

ترائبها مصقولة كالسّجنجل (٣)

ومحكي الزجاج : أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر ، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. قال قتادة والحسن : المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفرّاء أن مثل هذا يأتي عن العرب يكون

__________________

(١). وتمام البيت : إذا مضى عالم بدا طبق.

(٢). النساء : ٢٣.

(٣). وصدر البيت : مهفهفة بيضاء غير مفاضة.

٥٠٩

معنى من بين الصلب ، ومن الصلب ، وقيل : إن ماء الرجل ينزل من الدماغ ، ولا يخالف هذا ما في الآية لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب ، وقيل : إن المعنى : يخرج من جميع أجزاء البدن ، ولا يخالف هذا ما في الآية ، لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب والترائب وما يجاورها وما فوقها مما يكون تنزله منها (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) الضمير في إنه يرجع إلى الله سبحانه لدلالة قوله : (خُلِقَ) عليه ، فإن الّذي خلقه هو الله سبحانه ، والضمير في رجعه عائد إلى الإنسان ، والمعنى : أن الله سبحانه قادر على رجع الإنسان ، أي : إعادته بالبعث بعد الموت (لَقادِرٌ) هكذا قال جماعة من المفسرين. وقال مجاهد : على أن يردّ الماء في الإحليل. وقال عكرمة والضحاك : على أن يردّ الماء في الصلب. وقال مقاتل بن حيان يقول : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر ، والأوّل أظهر ، ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) العامل في الظرف على التفسير الأوّل ، هو «رجعه» ، وقيل : «لقادر». واعترض عليه بأنه يلزم تخصيص القدرة بهذا اليوم ، وقيل : العامل فيه مقدّر ، أي : يرجعه يوم تبلى السرائر ، وقيل : العامل فيه مقدّر ، وهو اذكر ، فيكون مفعولا به ؛ وأما على قول من قال : إن المراد رجع الماء ، فالعامل في الظرف مقدّر ، وهو اذكر ، ومعنى تبلى السرائر : تختبر وتعرف ، ومنه قول الراجز :

قد كنت قبل اليوم تزدريني

فاليوم أبلوك وتبتليني

أي : أختبرك وتختبرني ، وأمتحنك وتمتحنني ، والسرائر : ما يسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ، والمراد هنا عرض الأعمال ونشر الصحف ، فعند ذلك يتميز الحسن منها من القبيح ، والغثّ من السمين (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) أي : فما للإنسان من قوّة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله ، ولا ناصر ينصره ممّا نزل به. قال عكرمة : هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوّة ولا ناصر. قال سفيان : القوة : العشيرة ، والناصر : الحليف ، والأوّل أولى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) الرجع : المطر. قال الزجاج : الرجع : المطر ؛ لأنه يجيء ويرجع ويتكرر. قال الخليل : الرجع : المطر نفسه ، والرجع : نبات الربيع. قال أهل اللغة : الرجع : المطر. قال المتنخّل يصف سيفا له :

أبيض كالرّجع رسوب إذا

ما ثاخ في محتفل يختلي (١)

قال الواحدي : الرجع : المطر في قول جميع المفسرين ، وفي هذا الّذي حكاه عن جميع المفسرين نظر ، فإن ابن زيد قال : الرجع الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء من ناحية وتغيب في أخرى. وقال بعض المفسرين : ذات الرجع ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وقال بعضهم : معنى «ذات الرجع» : ذات النفع ، ووجه تسمية المطر رجعا ما قاله القفّال إنه مأخوذ من ترجيع الصوت وهو إعادته ، وكذا المطر لكونه يعود مرّة بعد أخرى سمّي رجعا. وقيل : إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار

__________________

(١). «ثاخ» خاض. «المحتفل» : أعظم موضع في الجسد. «يختلي» : يقطع.

٥١٠

الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض ، وقيل : سمّته العرب رجعا لأجل التفاؤل ليرجع عليهم ، وقيل : لأن الله يرجعه وقتا بعد وقت (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات والثمار والشجر ، والصدع : الشقّ ؛ لأنه يصدع الأرض فتنصدع له. قال أبو عبيدة والفرّاء : تتصدّع بالنبات. قال مجاهد : والأرض ذات الطّرق التي تصدعها المياه ، وقيل : ذات الحرث لأنه يصدعها ، وقيل : ذات الأموات لانصداعها عنهم عند البعث.

والحاصل أن الصدع إن كان اسما للنبات فكأنه قال : والأرض ذات النبات ؛ وإن كان المراد به الشق فكأنه قال : والأرض ذات الشق الّذي يخرج منه النبات ونحوه ، وجواب القسم قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أي : إن القرآن لقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي : لم ينزل باللعب ، فهو جدّ ليس بالهزل ، والهزل ضد الجدّ. قال الكميت :

يجدّ بنا في كلّ يوم ونهزل (١)

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي : يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدّين الحقّ. قال الزّجّاج : يخاتلون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهرون ما هم على خلافه (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي : أستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأجازيهم جزاء كيدهم ، قيل : هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي : أخّرهم ، ولا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم ، وارض بما يدبّره لك في أمورهم ، وقوله : (أَمْهِلْهُمْ) بدل من مهّل. ومهّل وأمهل بمعنى ، مثل : نزّل وأنزل ، والإمهال : الإنظار ، وتمهّل في الأمر اتّأد ، وانتصاب (رُوَيْداً) على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور أو نعت لمصدر محذوف ، أي : أمهلهم إمهالا رويدا ، أي : قريبا أو قليلا. قال أبو عبيدة : والرّويد في كلام العرب تصغير الرّود ، وأنشد :

كأنّها ثمل يمشي على رود (٢)

أي : على مهل ، وقيل : تصغير إرواد مصدر أرود تصغير الترخيم ، ويأتي اسم فعل نحو : رويد زيدا ، أي : أمهله ، ويأتي حالا نحو سار القوم رويدا ، أي : متمهلين ، ذكر معنى هذا الجوهري ، والبحث مستوفى في علم النحو.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) قال : أقسم ربك بالطارق ، وكل شيء طرقك بالليل فهو طارق. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) قال : كل نفس عليها حفظة من الملائكة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس في قوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال : النّجم المضيء (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها

__________________

(١). وصدر البيت : أرانا على حب الحياة وطولها.

(٢). وصدر البيت : تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها.

٥١١

حافِظٌ) قال : إلا عليها حافظ. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) قال : ما بين الجيد والنحر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : تريبة المرأة ، وهي موضع القلادة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال : الترائب : بين ثديي المرأة. وأخرج الحاكم وصحّحه عنه أيضا قال : الترائب أربعة أضلاع من كلّ جانب من أسفل الأضلاع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) قال : على أن يجعل الشيخ شابا والشابّ شيخا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) قال : المطر بعد المطر (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قال : صدعها عن النبات. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) تصدّع الأودية. وأخرج ابن مندة والديلمي عن معاذ بن أنس مرفوعا (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قال : «تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات». وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) قال : حقّ (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) قال : بالباطل ، وفي قوله : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) قال : قريبا.

* * *

٥١٢

سورة الأعلى

ويقال : سورة سبّح ، وهي تسع عشرة آية وهي مكية في قول الجمهور. وقال الضحاك : هي مدنيّة. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله. وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال : «أوّل من قدم علينا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير وابن أمّ مكتوم ، فجعلا يقرئاننا القرآن ، ثم جاء عمار وبلال وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ، ثم جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء ، فما جاء حتى قرأت : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) في سور مثلها». وأخرج أحمد والبزار وابن مردويه عن عليّ قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّ هذه السورة : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). وأخرجه أحمد عن وكيع عن إسرائيل عن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن عليّ. وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، وهل أتاك حديث الغاشية ، وإن وافق يوم جمعة قرأهما جميعا» وفي لفظ «وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما» وفي الباب أحاديث.

وأخرج مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى». وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة والدار قطني والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد». وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي عن عائشة قالت : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بسبح ، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون ، وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوّذتين». وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

٥١٣

قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي : نزّهه عن كلّ ما لا يليق به. قال السدي : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي : عظمه ، قيل : والاسم هنا مقحم لقصد التعظيم ، كما في قول لبيد :

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والمعنى : سبح ربك الأعلى. قال ابن جرير : المعنى نزّه اسم ربك أن يسمّى به أحد سواه ، فلا تكون على هذا مقحمة. وقيل : المعنى : نزّه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظّم ، ولذكره محترم. وقال الحسن : معنى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) : صلّ له. وقيل : المعنى : صلّ بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل المعنى : ارفع صوتك بذكر ربك ، ومنه قول جرير :

قبّح الإله وجوه تغلب كلّما

سبّح الحجيج وكبّروا تكبيرا

والأعلى صفة للربّ ، وقيل : للاسم ، والأوّل أولى ، وقوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) صفة أخرى للربّ. قال الزجاج : خلق الإنسان مستويا ، ومعنى سوّى : عدّل قامته. قال الضحاك : خلقه فسوّى خلقه ، وقيل : خلق الأجساد فسوّى الأفهام ، وقيل : خلق الإنسان وهيأه للتكليف (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) صفة أخرى للربّ ، أو معطوف على الموصول الّذي قبله. قرأ عليّ بن أبي طالب والكسائي والسلمي (قَدَّرَ) مخففا ، وقرأ الباقون بالتشديد. قال الواحدي : قال المفسرون : (قَدَّرَ) : خلق الذكر والأنثى من الدواب فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها. وقال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ ، والسعادة والشقاوة. وروي عنه أيضا أنه قال في معنى الآية : قدّر السعادة والشقاوة ، وهدى للرشد والضلالة ، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل : قدّر أرزاقهم وأقواتهم ، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسا ، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقال السديّ : قدّر مدّة الجنين في الرحم تسعة أشهر وأقلّ وأكثر ، ثم هداه للخروج من الرحم. قال الفراء : أي : قدّر فهدى وأضلّ ، فاكتفى بأحدهما ، وفي تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا. والأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه قدّر وهدى إلا بدليل يدلّ عليه ، ومع عدم الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلين ، إما على البدل أو على الشمول ، والمعنى : قدّر أجناس الأشياء وأنواعها وصفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها ، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له ، ويسّره لما خلق له ، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه. (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) صفة أخرى للربّ ، أي : أنبت العشب وما ترعاه النعم من النبات الأخضر (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي : فجعله بعد أن كان أخضر غثاء ، أي : هشيما جافا كالغثاء الّذي يكون فوق السيل ، أحوى : أي : أسود بعد اخضراره ، وذلك أن الكلأ إذا يبس اسودّ. قال قتادة : الغثاء : الشيء اليابس ، ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس : غثاء وهشيم. قال امرؤ القيس :

كأنّ ذرا رأس المجيمر غدوة

من السّيل والأغثاء فلكة مغزل (١)

__________________

(١). «المجيمر» : أرض لبني فزارة.

٥١٤

وانتصاب غثاء على أنه المفعول الثاني ، أو على الحال ، وأحوى صفة له. وقال الكسائي : هو حال من المرعى ، أي : أخرجه أحوى من شدّة الخضرة والريّ (فَجَعَلَهُ غُثاءً) بعد ذلك ، والأحوى مأخوذ من الحوّة ، وهي سواد يضرب إلى الخضرة. قال في الصحاح : والحوّة : سمرة الشفة ، ومنه قول ذي الرّمّة :

لمياء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللّثات وفي أنيابها شنب (١)

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي : سنجعلك قارئا بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه ، والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخاصة به بعد بيان الهداية العامة ، وهي هدايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفظ القرآن. قال مجاهد والكلبي : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوّلها مخافة أن ينساها ، فنزلت : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) وقوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرغ من أعمّ المفاعيل ، أي : لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه. قال الفرّاء : وهو لم يشأ سبحانه أن ينسى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا كقوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (٢) وقيل : إلا ما شاء الله أن تنسى ثم تذكر بعد ذلك ، فإذن قد نسي ولكنه يتذكر ولا ينسى شيئا نسيانا كليا. وقيل بمعنى النسخ : أي إلّا ما شاء الله أن ينسخه مما نسخ تلاوته. وقيل : معنى فلا تنسى : فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه. وقيل : المعنى : إلا ما شاء الله أن يؤخّر إنزاله. وقيل : «لا» في قوله : (فَلا تَنْسى) للنهي. والألف مزيدة لرعاية الفاصلة ، كما في قوله : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٣) يعني فلا تغفل قراءته وتذكره (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) الجملة تعليل لما قبلها ، أي : يعلم ما ظهر وما بطن والإعلان والإسرار ، وظاهره العموم فيندرج تحته ما قيل إن الجهر ما حفظه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن ، وما يخفى هو ما نسخ من صدره ، ويدخل تحته أيضا ما قيل من أن الجهر : هو إعلان الصدقة ، وما يخفى ، هو إخفاؤها ، ويدخل تحته أيضا ما قيل : إن الجهر جهره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن مع قراءة جبريل مخافة أن يتفلت عليه ، وما يخفى ما في نفسه مما يدعوه إلى الجهر (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) معطوف على «سنقرئك» ، وما بينهما اعتراض. قال مقاتل : أي نهوّن عليك عمل الجنة ، وقيل : نوفّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، وقيل : للشريعة اليسرى ، وهي الحنيفية السهلة ، وقيل : نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل له ، والأولى حمل الآية على العموم ، أي : نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا في كلّ أمر من أمورهما التي تتوجه إليك (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي : عظ يا محمد الناس بما أوحينا إليك وأرشدهم إلى سبل الخير واهدهم إلى شرائع الدين. قال الحسن : تذكرة للمؤمن وحجّة على الكافر. قال الواحدي : إن نفعت أو لم تنفع ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مبلّغا للإعذار والإنذار ، فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع ، ولم يذكر الحالة الثانية كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٤) الآية. قال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع ، فالمعنى : إن نفعت

__________________

(١). «اللمياء» : الشفة اللطيفة القليلة الدم. «اللعس» : لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا وذلك يستملح. «الشنب» : برودة وعذوبة في الفم ، ورقّه في الأسنان.

(٢). هود : ١٠٧.

(٣). الأحزاب : ٦٧.

(٤). النحل : ٨١.

٥١٥

الذكرى أو لم تنفع. وقيل : إنه مخصوص في قوم بأعيانهم ، وقيل : إن بمعنى «ما» ، أي : فذكر ما نفعت الذكرى ؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال ، وقيل : إنها بمعنى قد ، وقيل : إنها بمعنى إذ. وما قاله الواحدي والجرجاني أولى ، وقد سبقهما إلى القول به الفراء والنحاس. قال الرازي : إنّ قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) للتنبيه على أشرف الحالين وهو وجود النفع الّذي لأجله شرعت الذكرى ، والمعلق بإن على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ويدل عليه آيات : منها هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١) ومنها قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) (٢) فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه ، ومنها قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (٣) والمراجعة جائزة بدون هذا الظنّ ، فهذا الشرط فيه فوائد : منها ما تقدّم ، ومنها البعث على الانتفاع بالذكرى ، كما يقول الرجل لمن يرشده : قد أوضحت لك إن كنت تعقل ، وهو تنبيه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنها لا تنفعهم الذكرى ، أو يكون هذا في تكرير الدعوة ، فأما الدعاء الأوّل فعامّ انتهى.

ثم بيّن سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ومن لا تنفعه فقال : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي : سيتّعظ بوعظك من يخشى الله فيزداد بالتّذكير خشية وصلاحا (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) أي : ويتجنّب الذكرى ويبعد عنها الأشقى من الكفار ؛ لإصراره على الكفر بالله وانهما كه في معاصيه. ثم وصف الأشقى فقال : (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي : العظيمة الفظيعة ؛ لأنها أشدّ حرّا من غيرها. قال الحسن : النار الكبرى : نار جهنم ، والنار الصغرى : نار الدنيا. وقال الزجاج : هي السفلى من أطباق النار. (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي : لا يموت فيها فيستريح مما هو فيه من العذاب ، ولا يحيا حياة ينتفع بها ، ومنه قول الشاعر :

ألا ما لنفس لا تموت فينقضي

عناها ولا تحيا حياة لها طعم

و «ثم» للتراخي في مراتب الشدّة ؛ لأن التردّد بين الموت والحياة أفظع من صلي النار الكبرى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي : من تطهّر من الشرك فآمن بالله ووحده وعمل بشرائعه. قال عطاء والربيع : من كان عمله زاكيا ناميا. وقال قتادة : تزكّى بعمل صالح. قال قتادة وعطاء وأبو العالية : نزلت في صدقة الفطر. قال عكرمة : كان الرجل يقول : أقدّم زكاتي بين يدي صلاتي. وأصل الزكاة في اللغة : النماء. وقيل : المراد بالآية زكاة الأموال كلها ، وقيل : المراد بها زكاة الأعمال لا زكاة الأموال ، لأن الأكثر أن يقال في الأموال زكى لا تزكى (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قيل : المعنى : ذكر اسم ربّه بالخوف فعبده وصلّى له ، وقيل : ذكر اسم ربه بلسانه فصلى ، أي : فأقام الصلوات الخمس ، وقيل : ذكر موقفه ومعاده فعبده ، وهو كالقول الأوّل.

وقيل : ذكر اسم ربه بالتكبير في أوّل الصلاة لأنها لا تنعقد إلا بذكره ، وهو قوله : الله أكبر. وقيل : ذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى ، وقيل : هو أن يتطوّع بصلاة بعد زكاة ، وقيل : المراد بالصلاة هنا صلاة العيد ، كما أن المراد بالتزكي في الآية زكاة الفطر ، ولا يخفى بعد هذا القول لأن السورة مكية ، ولم

__________________

(١). البقرة : ١٧٢.

(٢). النساء : ١٠١.

(٣). البقرة : ٢٣٠.

٥١٦

تفرض زكاة الفطر وصلاة العيد إلا بالمدينة (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) هذا إضراب عن كلام مقدّر يدل عليه السياق ، أي : لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا ، قرأ الجمهور (تُؤْثِرُونَ) بالفوقية على الخطاب ، ويؤيدها قراءة أبيّ «بل أنتم تؤثرون» ، وقرأ أبو عمرو بالتحتية على الغيبة. قيل : والمراد بالآية الكفرة ، والمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا بها والاطمئنان إليها والإعراض عن الآخرة بالكلية ، وقيل : المراد بها جميع الناس من مؤمن وكافر ، والمراد بإيثارها ما هو أعمّ من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة ، والتوجّه إلى تحصيل منافعها والاهتمام بها اهتماما زائدا على اهتمامه بالطاعات. وجملة (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) في محل نصب على الحال من فاعل تؤثرون ، أي : والحال أن الدار الآخرة التي هي الجنة أفضل وأدوم من الدنيا. قال مالك بن دينار : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ؛ لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى ، فكيف والآخرة من ذهب يبقى ، والدنيا من خزف يفنى؟. والإشارة بقوله : (إِنَّ هذا) إلى ما تقدّم من فلاح من تزكى وما بعده ، وقيل إنه إشارة إلى جميع السورة ، ومعنى (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي : ثابت فيها ، وقوله : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) بدل من الصحف الأولى. قال قتادة وابن زيد : يريد بقوله : (إِنَّ هذا) : والآخرة خير وأبقى. وقالا : تتابعت كتب الله عزوجل أنّ الآخرة خير وأبقى من الدنيا. وقال الحسن : تتابعت كتب الله جلّ ثناؤه إن هذا لفي الصحف الأولى ، وهو قوله : (قَدْ أَفْلَحَ) إلى آخر السورة. قرأ الجمهور : (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ) بضم الحاء في الموضعين ، وقرأ الأعمش وهارون وأبو عمرو في رواية عنه بسكونها فيهما ، وقرأ الجمهور : (إِبْراهِيمَ) بالألف بعد الراء وبالياء بعد الهاء. وقرأ أبو رجاء بحذفهما وفتح الهاء ، وقرأ أبو موسى وابن الزبير «إبراهام» بألفين.

وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة بن عامر الجهني قال : «لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم ، فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم» ولا مطعن في إسناده. وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال : سبحان ربي الأعلى» : قال أبو داود : خولف فيه وكيع ، فرواه شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد عن ابن عباس موقوفا. وأخرجه موقوفا أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال : سبحان ربي الأعلى وفي لفظ لعبد بن حميد عنه قال : «إذا قرأت سبح اسم ربك الأعلى فقل : سبحان ربي الأعلى». وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن الأنباري في «المصاحف» عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ : سبح اسم ربك الأعلى ، فقال : سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة ، فقيل له : أتزيد في القرآن؟ قال : لا ، إنما أمرنا بشيء فقلته. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي موسى الأشعري أنه قرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى فقال : سبحان ربي الأعلى. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم

٥١٧

وصحّحه ، عن سعيد بن جبير قال : سمعت ابن عمر يقرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال : سبحان ربي الأعلى ، وكذلك هي في قراءة أبيّ بن كعب. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر أنه قال : إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال : سبحان ربي الأعلى. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عبد الله بن الزبير أنه قرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال : سبحان ربي الأعلى ، وهو في الصلاة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَجَعَلَهُ غُثاءً) قال : هشيما (أَحْوى) قال : متغيرا. وأخرج ابن مردويه عنه قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينسى ، فقيل له : قد كفيناك ذلك ، ونزلت : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)». وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يقول : إلا ما شئت أنا فأنسيك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) قال : للخير. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) قال : الجنة.

وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : «من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : هي الصلوات الخمس ، والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها». قال البزار : لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : من الشرك (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) قال : وحّد الله (فَصَلَّى) قال : الصلوات الخمس. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : من قال لا إله إلا الله. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ، ويتلو هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ـ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)». وفي لفظ قال : «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن زكاة الفطر ، فقال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : هي زكاة الفطر» وكثير بن عبد الله ضعيف جدّا ، قال فيه أبو داود : هو ركن من أركان الكذب ، وقد صحّح الترمذي حديثا من طريقه ، وخطىء في ذلك ، ولكنه يشهد له ما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ـ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر» وليس في هذين الحديثين ما يدل على أن ذلك سبب النزول ، بل فيهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا الآية. وقوله : هي زكاة الفطر ، يمكن أن يراد به أنها مما يصدق عليه التزكي ، وقد قدّمنا أن السورة مكية ، ولم تكن في مكة صلاة عيد ولا فطرة.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : أعطى صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى العيد (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : خرج إلى العيد وصلى. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال : «إنما أنزلت هذه الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ـ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)». وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : قلت لابن عباس : أرأيت قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) للفطر؟ قال : لم أسمع بذلك ، ولكن للزكاة كلها. ثم عاودته فقال لي : والصدقات

٥١٨

كلها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن عرفجة الثقفي قال : استقرأت ابن مسعود : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فلما بلغ : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه فقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل ، وقال : بل يؤثرون الحياة الدّنيا بالياء. وأخرج البزار وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ـ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي كلها في صحف إبراهيم وموسى». وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال : نسخت هذا السورة من صحف إبراهيم وموسى ، وفي لفظ : هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذرّ قال : «قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب» الحديث.

* * *

٥١٩

سورة الغاشية

هي ست وعشرون آية ، وهي مكية بلا خلاف ، أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الغاشية بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وقد تقدّم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يقرأ سبح اسم ربك الأعلى ، والغاشية في صلاة العيد ، ويوم الجمعة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) قال جماعة من المفسرين : هل هنا بمعنى قد ، وبه قال قطرب ، أي : قد جاءك يا محمد حديث الغاشية ، وهي القيامة لأنها تغشى الخلائق بأهوالها. وقيل : إن بقاء هل هنا على معناها الاستفهامي المتضمّن للتعجيب مما في خبره ، والتشويق إلى استماعه أولى. وقد ذهب إلى أن المراد بالغاشية هنا القيامة أكثر المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب : الغاشية : النار تغشى وجوه الكفار كما في قوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (١). وقيل : الغاشية أهل النار لأنهم يغشونها ويقتحمونها والأوّل أولى. قال الكلبي : المعنى إن لم يكن أتاك حديث الغاشية ، فقد أتاك ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ما هو؟ أو مستأنفة استئنافا نحويّا لبيان ما تضمنته من كون ثم وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة ، ووجوه مرتفع على الابتداء وإن كانت نكرة لوقوعه في مقام التفصيل ، وقد تقدّم مثل هذا في سورة القيامة ، وفي سورة النازعات. والتنوين في يومئذ عوض عن المضاف إليه ، أي : يوم غشيان الغاشية ، والخاشعة : الذليلة الخاضعة ، وكل متضائل ساكن يقال له خاشع ، يقال : خشع الصوت ؛ إذا خفي ، وخشع في صلاته ؛ إذا تذلل ونكس رأسه. والمراد بالوجوه هنا أصحابها.

__________________

(١). إبراهيم : ٥٠.

٥٢٠