فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

أي : بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : بالإيمان (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم ، كما قالوا : أساطير الأوّلين ، والعامل في «إذ» مقدّر ، أي : ظهر عنادهم ، ولا يجوز أن يعمل فيه «فسيقولون» لتضادّ الزمانين ، أعني المضي والاستقبال ولأجل الفاء أيضا ، وقيل : إن العامل فيه فعل مقدّر من جنس المذكور ، أي : لم يهتدوا به ، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون. (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) قرأ الجمهور بكسر الميم من «من» على أنها حرف جرّ ، وهي مع مجرورها خبر مقدّم ، وكتاب موسى مبتدأ مؤخّر ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو هي مستأنفة ، والكلام مسوق لردّ قولهم : (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) فإن كونه قد تقدّم القرآن كتاب موسى ، وهو التوراة ، وتوافقا في أصول الشرائع ، يدلّ على أنه حقّ وأنه من عند الله ، ويقتضي بطلان قولهم. وقرئ بفتح ميم «من» على أنها موصولة ونصب كتاب ، أي : وآتينا من قبله كتاب موسى ، ورويت هذه القراءة عن الكلبي (إِماماً وَرَحْمَةً) أي : يقتدى به في الدّين ورحمة من الله لمن آمن به ، وهما منتصبان على الحال. قاله الزجّاج وغيره. وقال الأخفش على القطع ، وقال أبو عبيدة : أي : جعلناه إماما ورحمة (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) يعني القرآن ، فإنه مصدّق لكتاب موسى الّذي هو إمام ورحمة ولغيره من كتب الله ، وقيل : مصدّق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانتصاب (لِساناً عَرَبِيًّا) على الحال الموطئة وصاحبها الضمير في «مصدق» العائد إلى «كتاب» ، وجوّز أبو البقاء أن يكون مفعولا لمصدّق ، والأوّل أولى ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : ذا لسان عربيّ ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) قرأ الجمهور : «لينذر» بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب ، أي : لينذر الكتاب الذين ظلموا ، وقيل : الضمير راجع إلى الله ، وقيل : إلى الرسول ، والأوّل أولى. وقرأ نافع وابن عامر والبزّي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. وقوله : (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) في محل نصب عطفا على محل «لينذر». وقال الزجّاج : الأجود أن يكون في محل رفع ، أي : وهو بشرى ، وقيل : على المصدرية لفعل محذوف ، أي : وتبشر بشرى ، وقوله : «للمحسنين» متعلّق ببشرى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي : جمعوا بين التوحيد والاستقامة على الشريعة ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة السجدة (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) الفاء زائدة في الخبر الموصول لما فيه من معنى الشرط (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المعنى : أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم ، ولا يحزنون من فوات محبوب ، وأن ذلك مستمر دائم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي : أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم ، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام والاستقرار في الجنة على الأبد مما لا تطلب الأنفس سواه ، ولا تتشوّف إلى ما عداه (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله وترك معاصيه ووصينا الإنسان بوالديه حسنا قرأ الجمهور حسنا بضم الحاء وسكون السين. وقرأ عليّ والسلمي بفتحهما. وقرأ ابن عباس والكوفيون (إِحْساناً) وقد تقدم في سورة العنكبوت (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) من غير اختلاف بين القراء ، وتقدّم في سورة الأنعام وسورة بني إسرائيل (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فلعل هذا هو

٢١

وجه اختلاف القراء في هذه الآية ، وعلى جميع هذه القراءات فانتصابه على المصدرية ، أي : وصّيناه أن يحسن إليهما حسنا ، أو إحسانا ، وقيل : على أنه مفعول به بتضمين وصينا معنى ألزمنا ، وقيل : على أنه مفعول له (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) قرأ الجمهور «كرها» في الموضعين بضم الكاف. وقرأ أبو عمرو وأهل الحجاز بفتحهما. قال الكسائي : وهما لغتان بمعنى واحد. قال أبو حاتم : الكره بالفتح لا يحسن لأنه الغضب والغلبة ، واختار أبو عبيدة قراءة الفتح قال : لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلا التي في سورة البقرة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (١) وقيل : إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره. وإنما ذكر سبحانه حمل الأمّ ووضعها تأكيدا لوجوب الإحسان إليها الّذي وصّى الله به ، والمعنى : أنها حملته ذات كره ووضعته ذات كره. ثم بيّن سبحانه مدّة حمله وفصاله فقال : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي : مدتهما هذه المدّة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع ، أي : يفطم عنه ، وقد استدلّ بهذه الآية على أن أقلّ الحمل ستة أشهر ؛ لأنّ مدة الرضاع سنتان ، أي : مدّة الرضاع الكامل ، كما في قوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (٢) فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدّة الحمل ، وأكثر مدّة الرضاع. وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ حقّ الأم آكد من حقّ الأب لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة ، وأرضعته هذه المدّة بتعب ونصب ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك. قرأ الجمهور «وفصاله» بالألف ، وقرأ الحسن ويعقوب وقتادة والجحدري «وفصله» بفتح الفاء وسكون الصاد بغير ألف ، والفصل والفصال بمعنى ؛ كالفطم والفطام والقطف والقطاف (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي : بلغ استحكام قوّته وعقله ، وقد مضى تحقيق الأشدّ مستوفى. ولا بدّ من تقدير جملة تكون حتى غاية لها أي : عاش واستمرت حياته حتى بلغ أشدّه ، قيل : بلغ عمره ثماني عشرة سنة ، وقيل : الأشدّ : الحلم ، قاله الشعبي وابن زيد. وقال الحسن : هو بلوغ الأربعين ، والأوّل أولى لقوله : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد. قال المفسرون : لم يبعث الله نبيا قط إلا بعد أربعين سنة (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي : ألهمني. قال الجوهري : استوزعت الله فأوزعني ؛ أي : استلهمته فألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أي : ألهمني شكر ما أنعمت به عليّ من الهداية ، وعلى والديّ من التحنن عليّ منهما حين ربياني صغيرا. وقيل : أنعمت عليّ بالصحة والعافية ، وعلى والديّ بالغنى والثروة ، والأولى عدم تقييد النعمة عليه وعلى أبويه بنعمة مخصوصة (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي : وألهمني أن أعمل عملا صالحا ترضاه مني (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي : اجعل ذريتي صالحين راسخين في الصلاح متمكّنين منه. وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات ، وقد روي أنها نزلت في أبي بكر كما سيأتي في آخر البحث (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من ذنوبي (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الإنسان المذكور ، والجمع لأنه

__________________

(١). البقرة : ٢١٦.

(٢). البقرة : ٢٣٣.

٢٢

يراد به الجنس وهو مبتدأ ، وخبره : (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من أعمال الخير في الدنيا ، والمراد بالأحسن الحسن ، كقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (١) وقيل : إن اسم التفضيل على معناه ، ويراد به ما يثاب العبد عليه من الأعمال ، لا ما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن وليس بأحسن (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فلا نعاقبهم عليها. قرأ الجمهور : «يتقبل ويتجاوز» على بناء الفعلين للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه ، والتجاوز : الغفران ، وأصله من جزت الشيء ؛ إذا لم تقف عليه ، ومعنى (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم ، فالجارّ والمجرور في محل النصب على الحال ، كقولك : أكرمني الأمير في أصحابه ، أي : كائنا في جملتهم ، وقيل : إن في بمعنى مع ، أي : مع أصحاب الجنة ، وقيل : إنهما خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم في أصحاب الجنة (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) وعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، لأن قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) إلخ في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز ، ويجوز أن يكون مصدرا لفعل محذوف ، أي : وعدهم الله وعد الصدق الّذي كانوا يوعدون به على ألسن الرسل في الدنيا.

وقد أخرج أبو يعلى وابن جرير والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم ، فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحطّ الله تعالى عن كل يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الّذي عليه ، فسكتوا ؛ فما أجابه منهم أحد ، ثم ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا ، فقال : أبيتم فو الله لأنا الحاشر ، وأنا العاقب ، وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم» ، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج ، فإذا رجل من خلفه فقال : كما أنت يا محمد فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أيّ رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود ، فقالوا : والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك ، قال : فإني أشهد بالله أنه النبيّ الّذي تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ، قالوا : كذبت ، ثم ردّوا عليه وقالوا شرا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبتم لن يقبل منكم قولكم» ، فخرجنا ونحن ثلاثة ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا وابن سلام ، فأنزل الله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) إلى قوله : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). وصحّحه السيوطي. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن سعد بن أبي وقاص قال : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ). وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : نزل في آيات من كتاب الله نزلت فيّ : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ونزل فيّ : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال : عبد الله بن سلام ، وقد روي نحو هذا عن جماعة

__________________

(١). الزمر : ٥٥.

(٢). الرعد : ٤٣.

٢٣

من التابعين. وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية فيخصّص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلّها مكية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : قال ناس من المشركين نحن أعزّ ونحن ونحن ، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان ، فنزل (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ).

وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال : كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله : يقال لها زنّيرة ، وكان عمر يضربها على الإسلام ، وكان كفار قريش يقولون : لو كان خيرا ما سبقنا إليه زنيرة ، فأنزل الله في شأنها (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة ، يقولون لو كان خيرا ما جعلهم الله أوّل الناس فيه». وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزل قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) الآية إلى قوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في أبي بكر الصديق. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال : إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر التي وضعت لستة أشهر ، فأنكر الناس ذلك. فقلت لعمر : لم تظلم؟ قال : كيف؟ قلت : اقرأ : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (١) كم الحول؟ قال : سنة ، قلت : كم السنة؟ قال : اثنا عشر شهرا ، قلت : فأربعة وعشرون شهرا حولان كاملان ، ويؤخّر الله من الحمل ما شاء ويقدّم ما شاء ، فاستراح عمر إلى قولي. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول : إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا ، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا ، وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان ؛ لأن الله يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) الآية ، فاستجاب الله له ، فأسلم والده جميعا وإخوته وولده كلّهم ، ونزلت فيه أيضا : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) (٢) إلى آخر السورة.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه وعلى والديه ذكر من قال لهما قولا يدلّ على التضجر

__________________

(١). البقرة : ٢٣٣.

(٢). الليل : ٥.

٢٤

منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان ، فقال : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ، ولهذا أخبر عنه بالجمع ، و «أفّ» كلمة تصدر عن قائلها عند تضجّره من شيء يرد عليه. قرأ نافع وحفص (أُفٍ) بكسر الفاء مع التنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن بفتحها من غير تنوين ، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين ، وهي لغات ، وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل ، واللام في قوله : (لَكُما) لبيان التأفيف ، أي : التأفيف لكما ، كما في قوله : (هَيْتَ لَكَ) (١) قرأ الجمهور : (أَتَعِدانِنِي) بنونين مخففتين ، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة وأسكنها الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى ، ورويت هذه القراءة عن نافع. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى ، كأنهم فرّوا من توالي مثلين مكسورين. وقرأ الجمهور : (أَنْ أُخْرَجَ) بضم الهمزة وفتح الراء مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبنيا للفاعل. والمعنى : أتعدانني أن أبعث بعد الموت ، وجملة : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا ولم يبعث منهم أحد ، وهكذا جملة : (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنهما يستغيثان الله له ، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان ، واستغاث يتعدّى بنفسه وبالباء ، يقال : استغاث الله واستغاث به. وقال الرازي : معناه يستغيثان بالله من كفره ، فلما حذف الجار وصل الفعل ، وقيل : الاستغاثة الدعاء ، فلا حاجة إلى الباء. قال الفرّاء : يقال أجاب الله دعاءه وغواثه ، وقوله : (وَيْلَكَ) هو بتقدير القول ، أي : يقولان له ويلك ، وليس المراد به الدعاء فيه ، بل الحثّ له على الإيمان ، ولهذا قالا له : (آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : آمن بالبعث إن وعد الله حقّ لا خلف فيه (فَيَقُولُ) عند ذلك مكذّبا لما قالاه : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما هذا الّذي تقولانه من البعث إلا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم التي سطّروها في الكتاب. قرأ الجمهور : «إن وعد الله» بكسر إن على الاستئناف أو التعليل ، وقرأ عمر بن فائد والأعرج بفتحها على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء. أي : آمن بأن وعد الله بالبعث حقّ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حقّ عليهم القول ، أي : وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) كما يفيده قوله : (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ، وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢) تعليل لما قبله ، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرّحمن بن أبي بكر ، وأنه الّذي قال لوالديه ما قال ، فإنه من أفاضل المؤمنين ، وليس ممّن حقّت عليه كلمة العذاب ، وسيأتي بيان سبب النزول في آخر البحث إن شاء الله (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي : لكلّ فريق من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجنّ والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد : درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلا ، ودرجات أهل الجنة تذهب علوّا (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي : جزاء أعمالهم. قرأ

__________________

(١). يوسف : ٢٣.

(٢). ص : ٨٥.

٢٥

الجمهور : لنوفيهم بالنون ، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء التحتية. واختار أبو عبيد القراءة الأولى ، واختار الثانية أبو حاتم (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : لا يزاد مسيء ولا ينقص محسن ، بل يوفّى كل فريق ما يستحقّه من خير وشرّ ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، أو مستأنفة مقررة لما قبلها (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) الظرف متعلّق بمحذوف ، أي : اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء فينظرون إلى النار ويقربون منها ، وقيل : معنى يعرضون يعذبون ، من قولهم : عرضه على السيف ، وقيل : في الكلام قلب. والمعنى : تعرض النار عليهم. (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أي : يقال لهم ذلك ، وقيل : وهذا المقدر هو الناصب للظرف ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور : (أَذْهَبْتُمْ) بهمزة واحدة ، وقرأ الحسن ونصر أبو العالية ويعقوب وابن كثير بهمزتين مخففتين ، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ. قال الفراء والزجّاج : العرب توبّخ بالاستفهام وبغيره ، فالتوبيخ كائن على القراءتين. قال الكلبي : المراد بالطيبات اللذات وما كانوا فيه من المعايش (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي : بالطيبات ، والمعنى : أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه ، ولم يبالوا بالذنب تكذيبا منهم لما جاءت به الرّسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي : العذاب الّذي فيه ذلّ لكم وخزي عليكم. قال مجاهد وقتادة : الهون الهوان بلغة قريش (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : بسبب تكبّركم عن عبادة الله والإيمان به وتوحيده (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي : تخرجون عن طاعة الله وتعملون بمعاصيه ، فجعل السبب في عذابهم أمرين : التكبّر عن اتّباع الحقّ ، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى ، وهذا شأن الكفرة فإنهم قد جمعوا بينهما.

وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال عبد الرّحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه ، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا أنزل فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) فقالت عائشة : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ؛ إلا أن الله أنزل عذري.

وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه ، قال مروان : سنّة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرّحمن : سنّة هرقل وقيصر ، فقال مروان : هذا الّذي قال الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الآية ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمّي الّذي نزلت فيه لسمّيته ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، فمروان من لعنه الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هذا ابن لأبي بكر. وأخرج نحوه أبو حاتم عن السدّي ، ولا يصحّ هذا كما قدّمنا.

٢٦

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

قوله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) أي : واذكر يا محمد لقومك أخا عاد ، وهو هود بن عبد الله بن رباح ، كان أخاهم في النسب ، لا في الدّين ، وقوله : (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) بدل اشتمال منه ، أي : وقت إنذاره إياهم (بِالْأَحْقافِ) وهي ديار عاد ، جمع حقف ، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج ، قاله الخليل وغيره ، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوّتهم. والمعنى أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا ، وقيل : أمره بأن يتذكر في نفسه قصّتهم مع هود ليقتدي به ، ويهون عليه تكذيب قومه. قال عطاء : الأحقاف : رمال بلاد الشّحر. وقال مقاتل : هي باليمن في حضر موت. وقال ابن زيد : هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال ، ولم تبلغ أن تكون جبالا (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي : وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده ، كذا قال الفراء وغيره. وفي قراءة ابن مسعود «من بين يديه ومن بعده». والجملة في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود وبين قوله لقومه : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) والأوّل أولى. والمعنى : أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره ، ثم رجع إلى كلام هود لقومه ، فقال حاكيا عنه : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وقيل : إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام وأوفق بالمعنى (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) أي : لتصرفنا عن عبادتها ، وقيل : لتزيلنا ، وقيل : لتمنعنا ، والمعنى متقارب ، ومنه قول عروة بن أذينة :

إن تلك عن أحسن الصنيعة (١) مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

يقول : إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب العظيم (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك لنا به (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي : إنما العلم بوقت مجيئه عند

__________________

(١). الّذي في اللسان : المروءة.

٢٧

الله لا عندي (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من ربّكم من الإنذار والإعذار ، فأما العلم بوقت مجيء العذاب فما أوحاه إليّ (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث بقيتم مصرّين على كفركم ، ولم تهتدوا بما جئتكم به ، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) الضمير يرجع إلى «ما» في قوله «بما تعدنا». وقال المبّرد والزّجّاج : الضمير في (رَأَوْهُ) يعود إلى غير مذكور ، وبيّنه قوله : (عارِضاً) ، فالضمير يعود إلى السحاب ، أي : فلما رأوا السحاب عارضا ، فعارضا نصب على التكرير ، يعني التفسير ، وسمّي السحاب عارضا لأنه يبدو في عرض السماء. قال الجوهري : العارض : السحاب يعترض في الأفق ، ومنه قوله : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) وانتصاب عارضا على الحال أو التمييز (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي : متوجّها نحو أوديتهم. قال المفسرون : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء ، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له : المعتب ، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا ، و (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي : غيم فيه مطر ، وقوله : (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) صفة لعارض لأن إضافته لفظية لا معنوية ، فصحّ وصف النكرة به ، وهكذا ممطرنا ، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود ، فقال : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) يعني من العذاب حيث قالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) وقوله : (رِيحٌ) بدل من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وجملة (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) صفة لريح ، والريح التي عذّبوا بها نشأت من ذلك السحاب الّذي رأوه (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) هذه الجملة صفة ثانية لريح ، أي : تهلك كل شيء مرّت به من نفوس عاد وأموالها ، والتدمير : الإهلاك ، وكذا الدمار ، وقرئ يدمر بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ورفع كلّ على الفاعلية من دمر دمارا. ومعنى (بِأَمْرِ رَبِّها) أن ذلك بقضائه وقدره فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم أي : لا ترى أنت يا محمد أو كل من يصلح للرؤية إلا مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم. قرأ الجمهور (لا تَرى) بالفوقية على الخطاب ، ونصب مساكنهم. وقرأ حمزة وعاصم بالتحتية مضمومة مبنيا للمفعول ورفع «مساكنهم». قال سيبويه : معناه لا يرى أشخاصهم إلا مساكنهم ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الثانية. قال الكسائي والزجاج : معناها لا يرى شيء إلا مساكنهم فهي محمولة على المعنى ، كما تقول : ما قام إلا هند ، والمعنى : ما قام أحد إلا هند ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء ، وقد مرّ بيان هذه القصة في سورة الأعراف (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) قال المبرّد : «ما» في قوله فيما بمنزلة الّذي وإن بمنزلة ما : يعني النافية ، وتقديره : ولقد مكنّاهم في الّذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر وقوّة الأبدان ، وقيل : (إِنْ) زائدة ، وتقديره : ولقد مكناهم فيما مكناهم فيه ، وبه قال القتبي ، ومثله قول الشاعر (١) :

فما إن طبّنا (٢) جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

__________________

(١). هو فروة بن مسيك المرادي.

(٢). «الطب» : الشأن والعادة والشهوة والإرادة.

٢٨

والأوّل أولى ، لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي : إنهم أعرضوا عن قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواس التي تدرك بها الأدلة ، ولهذا قال : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصّلوا به إلى التوحيد وصحّة الوعد والوعيد ، وقد قدّمنا من الكلام على وجه إفراد السمع وجمع البصر ما يغني عن الإعادة ، و «من» في (مِنْ شَيْءٍ) زائدة ، والتقدير : فما أغنى عنهم شيئا من الإغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) الظرف متعلّق بأغنى ، وفيها معنى التعليل ، أي : لأنهم كانوا يجحدون (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : أحاط بهم العذاب الّذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا). (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) الخطاب لأهل مكة ، والمراد بما حولهم من القرى قرى ثمود ، وقرى لوط ، ونحو هما مما كان مجاورا لبلاد الحجاز ، وكانت أخبارهم متواترة عندهم (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : بيّنّا الحجج ونوّعناها لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا. ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أي : فهلّا نصرهم آلهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم ، حيث قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي : القربان : كلّ ما يتقرّب به إلى الله من طاعة ونسيكة ، والجمع قرابين ، كالرّهبان والرّهابين ، وأحد مفعولي «اتخذوا» ضمير راجع إلى الموصول ، والثاني آلهة ، وقربانا حال ، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا ، وآلهة بدلا منه لفساد المعنى ، وقيل : يصحّ ذلك ولا يفسد المعنى ، ورجّحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيّان ، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي : غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم ، وقيل : بل هلكوا ، وقيل : الضمير في «ضلوا» راجع إلى الكفار ، أي : تركوا الأصنام وتبرّؤوا منها ، والأوّل أولى ، والإشارة بقوله : (وَذلِكَ) إلى ضلال آلهتهم. والمعنى : وذلك الضلال والضياع أثر (إِفْكُهُمْ) الّذي هو اتخاذهم إياها آلهة وزعمهم أنها تقرّبهم إلى الله. قرأ الجمهور : (إِفْكُهُمْ) بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكا ، أي : كذبهم. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل ، أي : ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء ، أي : صيّرهم آفكين. قال أبو حاتم : يعني قلبهم عمّا كانوا عليه من النعيم ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمدّ وكسر الفاء ، بمعنى صارفهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) معطوف على إفكهم ، أي : وأثر افترائهم أو أثر الّذي كانوا يفترونه. والمعنى : وذلك إفكهم ، أي : كذبهم الّذي كانوا يقولون إنها تقرّبهم إلى الله وتشفع لهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يكذبون أنها آلهة.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأحقاف : جبل بالشام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه في قوله : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) قال : هو السحاب. وأخرج البخاريّ ومسلم وغير هما عن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان

٢٩

يتبسّم ، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، قلت : يا رسول الله ، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ، قال : يا عائشة : وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالرّيح وقد رأى قوم العذاب ، فقالوا : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)». وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عصفت الريح قال : «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به ، فإذا تخيّلت السماء تغيّر لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سرّي عنه ، فسألته فقال : لا أدري ، لعله كما قال قوم عاد (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)». وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «السحاب» ، وأبو الشيخ في «العظمة» ، عن ابن عباس في قوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) قالوا : غيم فيه مطر ، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من رجالهم ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما لهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر ، فهو قوله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس قال : ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) يقول : لم نمكّنكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : عاد مكّنوا في الأرض أفضل ممّا مكّنت فيه هذه الأمة ، وكانوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

لمّا بيّن سبحانه أنّ في الإنس من آمن ، وفيهم من كفر ، بيّن أيضا أن في الجنّ كذلك ، فقال : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) العامل في الظرف مقدّر ، أي : واذكر إذ صرفنا ، أي : وجّهنا إليك نفرا من الجنّ وبعثناهم إليك ، وقوله : (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) في محل نصب صفة ثانية لنفرا أو حال لأن النكرة قد تخصّصت بالصفة الأولى (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي : حضروا القرآن عند تلاوته ، وقيل : حضروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٣٠

ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والأول أولى (قالُوا أَنْصِتُوا) أي : قال بعضهم لبعض اسكتوا ، أمروا بعضهم بعضا بذلك لأجل أن يسمعوا (فَلَمَّا قُضِيَ) قرأ الجمهور (قُضِيَ) مبنيا للمفعول ؛ أي : فرغ من تلاوته. وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ولا حق بن حميد وأبو مجلز على البناء للفاعل ، أي : فرغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلاوته ، والقراءة الأولى تؤيد أن الضمير في (حَضَرُوهُ) للقرآن ، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي : انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ومحذرين لهم ، وانتصاب (مُنْذِرِينَ) على الحال المقدّرة ، أي : مقدّرين الإنذار ، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك. (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) يعنون القرآن ؛ وفي الكلام حذف ، والتقدير : فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا. قال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : لما قبله من الكتب المنزّلة (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي : إلى الدّين الحقّ (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : إلى طريق الله القويم. قال مقاتل : لم يبعث الله نبيا إلى الجنّ والإنس قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : بعضها ، وهو ما عدا حقّ العباد ، وقيل : إن من هنا لابتداء الغاية. والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى ، وقيل : هي زائدة (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وهو عذاب النار ، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجنّ حكم الإنس في الثّواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي. وقال الحسن : ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار ، وبه قال أبو حنيفة. والأوّل أولى ، وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى. وعلى القول الأوّل ، فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا ترابا ، كما يقال للبهائم ، والثاني أرجح. وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجنّ والإنس : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ـ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) فامتنّ سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم ، وممّا يؤيّد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل ، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل ، وممّا يؤيّد هذا أيضا ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة ، وجزاء من عمل الصالحات الجنة ؛ وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة ، وغير ذلك ممّا هو كثير في الكتاب والسّنّة.

وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم أم لا ، وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط كما في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (٢). وقال : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (٣) وقال سبحانه في إبراهيم الخليل : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) (٤) ، فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم هو من ذرّيته ، وأما قوله تعالى في سورة

__________________

(١). الرّحمن : ٤٦ و ٤٧.

(٢). يوسف : ١٠٩.

(٣). الفرقان : ٢٠.

(٤). العنكبوت : ٢٧.

٣١

الأنعام : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (١) فقيل : المراد من مجموع الجنسين وصدق على أحدهما ، وهم الإنس ، كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢) أي : من أحدهما (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي : لا يفوت الله ، ولا يسبقه ، ولا يقدر على الهرب منه ؛ لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها ، وفي هذا ترهيب شديد (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي : أنصار يمنعونه من عذاب الله. بيّن سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى من لا يجب داعي الله ، وأخبر أنهم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ظاهر واضح. ثم ذكر سبحانه دليلا على البعث ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، أي : ألم يتفكّروا ولم يعلموا أن الّذي خلق هذه الأجرام العظام من السّموات والأرض ابتداء (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي : لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه ، يقال : عيّ بالأمر وعيي ؛ إذا لم يهتد لوجهه ، ومنه قول الشاعر (٣) :

عيّوا بأمرهم كما

عيّت ببيضتها الحمامه

قرأ الجمهور : (وَلَمْ يَعْيَ) بسكون العين وفتح الياء مضارع عيي. وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء. (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد ، كما في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤). قال الكسائي والفراء والزجاج : العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام ، فتقول : ما أظنّك بقائم ، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن ، وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب وزيد بن عليّ «يقدر» على صيغة المضارع ، واختار أبو عبيد القراءة الأولى ، واختار أبو حاتم القراءة الثانية ، قال : لأن دخول الباء في خبر أنّ قبيح. (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) الظرف متعلق بقول مقدّر ، أي : يقال ذلك اليوم للذين كفروا (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) وهذه الجملة هي المحكية بالقول ، والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار ، وفي الاكتفاء بمجرّد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى ، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدلّ عليه (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف ، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم ؛ لأنّ المشاهدة هي حقّ اليقين الّذي لا يمكن جحده ولا إنكاره (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي : بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له ، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكّم عظيم. لما قرّر سبحانه الأدلة على النبوّة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر ، فقال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) والفاء جواب شرط محذوف ، أي : إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجع في الكافرين فاصبر كما صبر أولو العزم ، أي : أرباب الثبات والحزم فإنك منهم. قال مجاهد : أولو

__________________

(١). الأنعام : ١٣٠.

(٢). الرّحمن : ٢٢.

(٣). هو عبيد بن الأبرص.

(٤). النساء : ٧٩.

٣٢

العزم من الرسل خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم أصحاب الشرائع ، وقال أبو العالية : هم نوح وهود وإبراهيم ، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم. وقال السدّي : هم ستة إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى. وقال ابن جريج : إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس. وقال الشعبي والكلبي : هم الذين أمروا بالقتال ، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة ، وقيل : هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام ، وهم ثمانية عشر : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط. واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١) وقيل : إن الرسل كلهم أولو عزم ، وقيل : هم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى نبي إسرائيل. وقال الحسن : هم أربعة : إبراهيم وموسى وداود وعيسى (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي : لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار. لما أمره سبحانه بالصبر ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي : كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام ؛ لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم. قرأ الجمهور (بَلاغٌ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا الّذي وعظتهم به بلاغ ، أو تلك الساعة بلاغ ، أو هذا القرآن بلاغ ، أو هو مبتدأ ، والخبر لهم الواقع بعد قوله : «ولا تستعجل» أي : لهم بلاغ ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وزيد بن عليّ بلاغا بالنصب على المصدر ، أي : بلغ بلاغا ، وقرأ أبو مجلز بلغ بصيغة الأمر. وقرئ بلغ بصيغة الماضي (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) قرأ الجمهور (فَهَلْ يُهْلَكُ) على البناء للمفعول. وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل ، والمعنى : أنه لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله. قال قتادة : لا يهلك على الله إلا هالك مشرك. قيل : وهذه الآية أقوى آية في الرجاء. قال الزجّاج : تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن منيع ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي كلا هما في الدلائل عن ابن مسعود قال : هبطوا : يعني الجن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا ، قالوا : صه ، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة ، فأنزل الله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) إلى قوله : (ضَلالٍ مُبِينٍ). وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه عن الزبير : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) قال : بنخلة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي العشاء الآخرة (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً). وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي : الآية ، قال : كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا إلى قومهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم عنه نحوه قال : أتوه ببطن نخلة. وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عنه أيضا قال :

__________________

(١). الأنعام : ٩٠.

٣٣

صرفت الجنّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّتين ، وكانوا أشراف الجنّ بنصيبين. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن مسروق قال : سألت ابن مسعود من آذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال : آذنته بهم شجرة. وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منكم أحد ليلة الجنّ؟ قال : ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة ، فقلنا : اغتيل ، استطير (١) ما فعل؟ قال : فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فأخبرناه ، فقال : «إنه أتاني داعي الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن» فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ. وقد روي نحو هذا من طرق. والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الجنّ حضر إحداهما ابن مسعود ولم يحضر في الأخرى. وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجنّ بعد هذا وفدت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّة بعد مرّة وأخذوا عنه الشرائع. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : (أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى. وأخرج ابن مردويه عنه قال : هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك : نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن عائشة قالت : ظلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائما ثم طوى ، ثم ظلّ صائما ثم طوى ، ثم ظل صائما قال : يا عائشة إن الدّين لا ينبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلّفهم ، فقال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي ، ولا قوّة إلا بالله».

* * *

__________________

(١). «استطير» : طارت به الجن.

٣٤

سورة محمّد

وتسمّى سورة القتال ، وسورة الذين كفروا. وهي تسع وثلاثون آية ، وقيل : ثمان وثلاثون.

وهي مدنية. قال الماوردي : في قول الجميع ، إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا : إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه ، فنزل قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) وقال الثعلبي : إنها مكية. وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير ، وهو غلط من القول ، فالسورة مدنية كما لا يخفى. وقد أخرج ابن الضّريس عن ابن عباس قال : نزلت سورة القتال بالمدينة. وأخرج النحاس وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل» عنه قال : نزلت سورة محمد بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بهم في المغرب : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))

قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هم كفّار قريش كفروا بالله وصدّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، وهو دين الإسلام ، بنهيهم عن الدخول فيه ، كذا قال مجاهد والسدّي. وقال الضحاك. معنى «عن سبيل الله» : عن بيت الله ؛ بمنع قاصديه. وقيل : هم أهل الكتاب ، والموصول مبتدأ وخبره (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي : أبطلها وجعلها ضائعة. قال الضحاك : معنى (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل الدائرة عليهم في كفرهم. وقيل : أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمّونه مكارم

٣٥

أخلاق ؛ من صلة الأرحام وفكّ الأسارى ، وقرى الأضياف ، وهذه وإن كانت باطلة من أصلها ، لكن المعنى أنه سبحانه حكم ببطلانها. ولما ذكر فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) ظاهر هذا العموم ، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها ؛ فقد قيل : إنها نزلت في الأنصار ، وقيل : في ناس من قريش ، وقيل : في مؤمني أهل الكتاب ، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وخصّ سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله ؛ تنبيها على شرفه وعلوّ مكانه. وجملة (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) معترضة بين المبتدأ ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ، وبين خبره وهو قوله : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ). ومعنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله ، وقوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) في محل نصب على الحال ، ومعنى (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ، أي : السيئات التي عملوها فيما مضى ، فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي : شأنهم وحالهم. قال مجاهد : شأنهم ، وقال قتادة : حالهم ، وقيل : أمرهم ، والمعاني متقاربة. قال المبرّد : البال : الحال ها هنا. قيل : والمعنى : أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم ، وأرشدهم إلى أعمال الخير ، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال ، ونحو ذلك. وقال النقاش : إن المعنى أصلح نياتهم ، ومنه قول الشاعر :

فإنّ تقبلي بالودّ أقبل بمثله

وإن تدبري أذهب إلى حال باليا

والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى ما مرّ مما أوعد به الكفار ووعد به المؤمنين ، وهو مبتدأ خبره ما بعده ، وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك بسبب أن (الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) فالباطل : الشرك ، والحق : التوحيد والإيمان ، والمعنى : أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه ، وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم بسبب اتباعهم للحقّ الّذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي : مثل ذلك الضرب يبين للناس أمثالهم ، أي : أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة. قال الزّجّاج : «كذلك يضرب» يبيّن الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين ، يعني أن من كان كافرا أضلّ الله عمله ، ومن كان مؤمنا كفّر الله سيئاته. (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) لمّا بيّن سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار ، والمراد بالذين كفروا المشركين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب ، وانتصاب «ضرب» على أنه مصدر لفعل محذوف. قال الزّجّاج : أي : فاضربوا الرقاب ضربا ، وخصّ الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها ، وقيل : هو منصوب على الإغراء. قال أبو عبيدة : هو كقولهم : يا نفس صبرا ، وقيل : التقدير : اقصدوا ضرب الرقاب. وقيل : إنما خصّ ضرب الرقاب لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدّة ما ليس في نفس القتل ، وهي حزّ العنق وإطارة العضو الّذي هو رأس البدن وعلوّة وأحسن أعضائه (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي : بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب ، لا لبيان غاية القتل ، وهو مأخوذ من الشيء الثخين ، أي :

٣٦

الغليظ ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) الوثاق بالفتح ويجيء بالكسر : اسم الشيء الّذي يوثق به كالرباط. قال الجوهري : وأوثقه في الوثاق ، أي : شدّه ، قال : والوثاق بكسر الواو لغة فيه. قرأ الجمهور (فَشُدُّوا) بضم الشين ، وقرأ السّلمي بكسرها ، وإنما أمر سبحانه بشدّ الوثاق لئلا ينفلتو ، والمعنى : إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي : فإما أن تمنّوا عليهم بعد الأسر منا ، أو تفدوا فداء ، والمنّ : الإطلاق بغير عوض ، والفداء : ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر ، ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدّم. قرأ الجمهور : (فِداءً) بالمد. وقرأ ابن كثير فدى بالقصر ، وإنما قدّم المنّ على الفداء ، لأنه من مكارم الأخلاق ، ولهذا كانت العرب تفتخر به ، كما قال شاعرهم :

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك قال : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أوزار الحرب : التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع ، أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز ، والمعنى : أنّ المسلمين مخيّرون بين تلك الأمور إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار ، قال مجاهد : المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام ؛ وبه قال الحسن والكلبي. قال الكسائي : حتى يسلم الخلق. قال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقيل : المعنى : حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم ، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا : في الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها ، فإذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق.

وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل : إنها منسوخة في أهل الأوثان ، وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمنّ عليهم ، والناسخ لها قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) وقوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) (٢) وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (٣) وبهذا قال قتادة والضحاك والسدّي وابن جريج وكثير من الكوفيين : قالوا : والمائدة آخر ما نزل ، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن تؤخذ منه الجزية ، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة. وقيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) روي ذلك عن عطاء وغيره. وقال كثير من العلماء : إن الآية محكمة ، والإمام مخيّر بين القتل والأسر ، وبعد الأسر مخيّر بين المنّ والفداء. وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم. وهذا هو الراجح ؛ لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك. وقال سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف ؛ لقوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (٤) فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) محل «ذلك» الرفع على أنه خبر مبتدأ

__________________

(١). التوبة : ٥.

(٢). الأنفال : ٥٧.

(٣). التوبة : ٣٦.

(٤). الأنفال : ٦٧.

٣٧

محذوف ، أي : الأمر ذلك ، وقيل : في محل نصب على المفعولية بتقدير فعل ، أي : افعلوا ذلك ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف يدلّ عليه ما تقدّم ، أي : ذلك حكم الكفار ، ومعنى «لو يشاء الله لانتصر منهم» أي : قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب (وَلكِنْ) أمركم بحربهم (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي : ليختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين في سبيله والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم ويعذب الكفار بأيديهم (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قرأ الجمهور «قاتلوا» مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو عمرو وحفص (قُتِلُوا) مبنيا للمفعول ، وقرأ الحسن بالتشديد مبنيا للمفعول أيضا. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة «قتلوا» على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف ، والمعنى على القراءة الأولى. والرابعة : أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع ، وعلى القراءة الثانية والثالثة : أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم. قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد. ثم ذكر سبحانه ما لهم عنده من جزيل الثواب فقال : (سَيَهْدِيهِمْ) أي : سيهديهم الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا ، ويعطيهم الثواب في الآخرة (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي : حالهم وشأنهم وأمرهم. قال أبو العالية : قد ترد الهداية ، والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطريق المفضية إليها ، وقال ابن زياد : يهديهم إلى محاجّة منكر ونكير (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي : بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال ، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرّقوا إلى منازلهم. قال الواحدي : هذا قول عامة المفسرين. وقال الحسن : وصف الله لهم الجنة في الدنيا ، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل : فيه حذف ، أي : عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها. وقيل : هذا التعريف بدليل يدلّهم عليها ، وهو الملك الموكل بالعبد يسير بين يديه حتى يدخله منزله ، كذا قال مقاتل. وقيل : معنى «عرفها لهم» : طيبها بأنواع الملاذّ ، مأخوذ من العرف ، وهو الرائحة. ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) أي : إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار ويفتح لكم ، ومثله قوله : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (١) قال قطرب : إن تنصروا نبيّ الله ينصركم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي : عند القتال. وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب ، وقيل : على الإسلام ، وقيل : على الصراط (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ ، وخبره محذوف تقديره فتعسوا بدليل ما بعده ، ودخلت الفاء تشبيها للمبتدأ بالشرط ، وانتصاب تعسا على المصدر للفعل المقدّر خبرا. قال الفراء : مثل سقيا لهم ورعيا ، وأصل التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السّكّيت : التعس : أن يجرّ على وجهه ، والنكس : أن يجر على رأسه ، قال : والتعس أيضا الهلاك. قال الجوهري : وأصله الكبّ وهو ضد الانتعاش ، ومنه قول مجمّع بن هلال :

تقول وقد أفردتها من خليلها

تعست كما أتعستني يا مجمّع

قال المبّرد : أي : فمكروها لهم ، وقال ابن جريج : بعدا لهم ، وقال السدّي : خزيا لهم. وقال ابن زيد :

__________________

(١). الحج : ٤٠.

٣٨

شقاء لهم. وقال الحسن : شتما لهم. وقال ثعلب : هلاكا لهم ، وقال الضحاك : خيبة لهم. وقيل : قبحا لهم ، حكاه النقاش. وقال الضحاك : رغما لهم. وقال ثعلب أيضا : شرّا لهم. وقال أبو العالية : شقوة لهم. واللام في «لهم» للبيان كما في قوله : (هَيْتَ لَكَ) (١). وقوله : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) معطوف على ما قبله ، داخل معه في خبرية الموصول ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ممّا ذكره الله من التعس والإضلال ، أي : الأمر ذلك ، أو ذلك الأمر (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على رسوله من القرآن ، أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث (فَأَحْبَطَ) الله (أَعْمالَهُمْ) بذلك السبب ، والمراد بالأعمال ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة وإن كانت باطلة من الأصل ؛ لأنّ عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه. ثم خوّف سبحانه الكفار وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم ، فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : ألم يسيروا في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : آخر أمر (٢) الكافرين قبلهم ، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية. ثم بيّن سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والتدمير : الإهلاك ، أي : أهلكهم واستأصلهم ، يقال : دمّره ودمر عليه بمعنى. ثم توعّد مشركي مكة فقال : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي : لهؤلاء أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة. قال الزجاج وابن جرير : الضمير في (أَمْثالُها) يرجع إلى (عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وإنما جمع لأن العواقب متعددة بحسب تعدّد الأمم المعذّبة ، وقيل : أمثال العقوبة ، وقيل : الهلكة ، وقيل : التدمير ، والأوّل أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما ذكر من أن للكافرين أمثالها (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بسبب أنّ الله ناصرهم (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي : لا ناصر يدفع عنهم. وقرأ ابن مسعود : ذلك بأن الله وليّ الذين آمنوا قال قتادة : نزلت يوم أحد (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد تقدّم تفسير الآية في غير موضع ، وتقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات ، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي : يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم ، ساهون عن العاقبة ، لاهون بما هم فيه (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي : مقام يقيمون به ، ومنزل ينزلونه ويستقرّون فيه ، والجملة في محل نصب على الحال أو مستأنفة.

وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : هم أهل مكة قريش نزلت فيهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال : هم أهل المدينة الأنصار (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) قال : أمرهم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) قال : كانت لهم أعمال فاضلة ، ولا يقبل الله مع الكفر

__________________

(١). يوسف : ٢٣.

(٢). من تفسير القرطبي (١٦ / ٢٣٥)

٣٩

عملا. وأخرج النحّاس عنه أيضا في قوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) قال : فجعل الله النبيّ والمؤمنين بالخيار في الأسارى ، إن شاؤوا قتلوهم ، وإن شاؤوا استعبدوهم ، وإن شاؤوا فادوهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : هذا منسوخ ، نسختها : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١). وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن قال : أتى الحجاج بأسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله ، فقال ابن عمر : ليس بهذا أمرنا ، إنما قال الله (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً). وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر وابن مردويه عن ليث قال : قلت لمجاهد : بلغني أن ابن عباس قال : لا يحلّ قتل الأسارى ؛ لأن الله قال : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فقال مجاهد : لا تعبأ بهذا شيئا ، أدركت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلهم ينكر هذا ، ويقول : هذه منسوخة ، إنما كانت في الهدنة التي كانت بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين ، فأما اليوم فلا ، يقول الله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢) ويقول : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شيء منهم إلا الإسلام ، فإن لم يسلموا فالقتل ، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استحيوهم ، وإن شاؤوا فادوهم إذا لم يتحوّلوا عن دينهم ، فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا. ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل الصغير والمرأة والشيخ الفاني. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماما مهديا وحكما عادلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، وتوضع الجزية ، وتضع الحرب أوزارها». وأخرج ابن سعد وأحمد والنسائي والبغوي والطبراني وابن مردويه عن سلمة بن نفيل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث قال : «لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) قال : لكفار قومك يا محمد [مثل] (٣) ما دمرت به القرى فأهلكوا بالسيف.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

__________________

(١). التوبة : ٥.

(٢). التوبة : ٥.

(٣). من الدر المنثور (٧ / ٤٦٣)

٤٠