فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

العرب من أعطي مائة من البقر فقد أعطي القنى ، ومن أعطي مائة من الضأن فقد أعطي الغنى ، ومن أعطي مائة من الإبل فقد أعطى المنى. قال الأخفش وابن كيسان : أقنى : أفقر ، وهو يؤيد القول الأوّل (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) هي كوكب خلف الجوزاء كانت خزاعة تعبدها ، والمراد بها الشّعرى التي يقال لها العبور ، وهي أشدّ ضياء من الشعرى التي يقال لها الغميصاء. وإنما ذكر سبحانه أنه ربّ الشعرى مع كونه ربا لكلّ الأشياء للردّ على من كان يعبدها ، وأوّل من عبدها أبو كبشة ، وكان من أشراف العرب ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبي كبشة تشبيها له به لمخالفته دينهم كما خالفهم أبو كبشة ، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم الفتح : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وصف عادا بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود. قال ابن زيد : قيل لها عادا الأولى ، لأنهم أوّل أمة أهلكت بعد نوح. وقال ابن إسحاق : هما عادان ، فالأولى أهلكت بالصّرصر ، والأخرى أهلكت بالصيحة. وقيل : عاد الأولى قوم هود وعاد الأخرى إرم. قرأ الجمهور : (عاداً الْأُولى) بالتنوين والهمز ، وقرأ نافع وابن كثير وابن محيصن بنقل حركة الهمزة على اللام وإدغام التنوين فيها (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي : وأهلك ثمودا كما أهلك عادا ، فما أبقى من الفريقين ، وثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة ، وقد تقدّم الكلام على عاد وثمود في غير موضع (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي : وأهلك قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي : أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم ، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية ، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب ، وإنما كانوا كذلك لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم ، كما في قوله : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (١) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) الائتفاك : الانقلاب ، والمؤتفكة : مدائن قوم لوط ، وسميت المؤتفكة. لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها ، تقول : أفكته إذا قلبته ، ومعنى أهوى : أسقط ، أي : أهواها جبريل بعد أن رفعها. قال المبرد : جعلها تهوي (فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي : ألبسها ما ألبسها من الحجارة التي وقعت عليها ، كما في قوله : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٢) وفي هذه العبارة تهويل للأمر الّذي غشّاها به وتعظيم له ، وقيل : إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة ، أي : فغشّاها من العذاب ما غشّى على اختلاف أنواعه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) هذا خطاب للإنسان المكذب ، أي : فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكّك وتمتري ، وقيل : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعريضا لغيره ، وقيل : لكلّ من يصلح له ، وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدّده بحسب تعدد متعلقه ، وسمّى هذه الأمور المذكورة آلاء ، أي : نعما مع كون بعضها نقما لا نعما ، لأنها مشتملة على العبر والمواعظ ، ولكون فيها انتقام من العصاة ، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين. قرأ الجمهور : (تَتَمارى) من غير إدغام ، وقرأ يعقوب وابن محيصن بإدغام إحدى التاءين في الأخرى (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي : هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدّمين قبله فإنه أنذركم كما أنذروا قومهم ، كذا قال ابن جريج ومحمد بن كعب وغير هما. وقال

__________________

(١). العنكبوت : ١٤.

(٢). الحجر : ٧٤.

١٤١

قتادة : يريد القرآن ، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى ، وقيل : هذا الّذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ، كذا قال أبو مالك. وقال أبو صالح : إن الإشارة بقوله : (هذا) إلى ما في صحف موسى وإبراهيم ، والأوّل أولى (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي : قربت الساعة ودنت ، سمّاها آزفة لقرب قيامها ، وقيل : لدنوّها من الناس ، كما في قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (١) أخبرهم بذلك ليستعدّوا لها. قال في الصحاح : أزفت الآزفة : يعني القيامة ، وأزف الرجل عجل ، ومنه قول الشاعر :

أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد

(ولَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي : ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلا الله سبحانه ، وقيل : كاشفة بمعنى انكشاف ، والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية ، وقيل : كاشفة بمعنى كاشف ، والهاء للمبالغة كرواية ، والأوّل أولى ، وكاشفة صفة لموصوف محذوف كما ذكرنا ، والمعنى : أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها وأهوالها أحد غير الله ، كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وغيرهم. ثم وبّخهم سبحانه فقال : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) المراد بالحديث القرآن ، أي : كيف تعجبون منه تكذيبا (وَتَضْحَكُونَ) منه استهزاء مع كونه غير محلّ للتكذيب ولا موضع للاستهزاء (وَلا تَبْكُونَ) خوفا وانزجارا لما فيه من الوعيد الشديد ، وجملة : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها ، والسمود : الغفلة والسهو عن الشيء. وقال في الصّحاح : سمد سمودا رفع رأسه تكبّرا ، فهو سامد ، قال الشاعر (٢) :

سوامد اللّيل خفاف الأزواد

وقال ابن الأعرابي : السّمود : اللهو ، والسّامد : اللاهي ، يقال للقينة : أسمدينا ، أي : ألهينا بالغناء ، وقال المبرد : سامدون : خامدون. قال الشاعر :

رمى الحدثان نسوة آل عمرو

بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) لمّا وبّخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن والضحك منه والسخرية به وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره ؛ أمر عباده المؤمنين بالسّجود لله والعبادة له ، والفاء جواب شرط محذوف ، أي : إذا كان الأمر من الكفار كذلك ، فاسجدوا لله واعبدوا ، فإنه المستحقّ لذلك منكم ، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية ، وسجد معه الكفار ، فيكون المراد بها سجود التلاوة ، وقيل : سجود الفرض.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) قال : أعطى

__________________

(١). القمر : ١.

(٢). هو رؤبة بن العجاج.

١٤٢

وأرضى. وأخرج ابن جرير عنه (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) قال : هو الكوكب الّذي يدعى الشعرى. وأخرج الفاكهي عنه أيضا قال : نزلت هذه الآية في خزاعة ، وكانوا يعبدون الشّعرى ، وهو الكوكب الّذي يتبع الجوزاء. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) قال : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الآزفة من أسماء القيامة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال : لما نزلت هذه الآية (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ـ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) فما ضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم. ولفظ عبد بن حميد : فما رؤي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاحكا ولا متبسّما حتى ذهب من الدنيا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (سامِدُونَ) قال : لاهون معرضون عنه. وأخرج الفريابي ، وأبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عنه : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) قال : الغناء باليمانية ، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنّوا ولعبوا. وأخرج الفريابي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله : (سامِدُونَ) قال : كانوا يمرّون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شامخين ، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال : خرج عليّ بن أبي طالب علينا وقد أقيمت الصلاة ونحن قيام ننتظره ليتقدّم ، فقال : مالكم سامدون؟ لا أنتم في صلاة ، ولا أنتم في جلوس تنتظرون؟

* * *

١٤٣

سورة القمر

ويقال سورة اقتربت ، وهي خمس وخمسون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إلى قوله : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) قال القرطبي : ولا يصحّ. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والنحاس ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس : أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : «اقتربت» تدعى في التوراة المبيضة ؛ تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه. قال البيهقي : منكر. وأخرج ابن الضريس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، رفعه : «من قرأ اقتربت السّاعة في كلّ ليلتين بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر». وأخرج ابن الضريس نحوه عن ليث بن معن عن شيخ من همدان رفعه ، وقد تقدم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي : قربت ولا شك أنها قد صارت ، فاعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوّة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة. ويمكن أن يقال : إنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة ، فكلّ آت قريب (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي : وقد انشقّ القمر ، وكذا قرأ حذيفة بزيادة قد ، والمراد : الانشقاق الواقع في أيام النبوّة معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف. قال الواحدي : وجماعة المفسرين على هذا إلا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال : المعنى سينشقّ القمر ، والعلماء كلهم على خلافه. قال : وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر ؛ لأن انشقاقه من علامات نبوّة محمد

١٤٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوّته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة. قال ابن كيسان : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : انشقّ القمر واقتربت الساعة. وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء : أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة. وقيل : معنى وانشقّ القمر : وضح الأمر وظهر ، والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح. وقيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه ، وطلوعه في أثنائها ، كما يسمّى الصبح فلقا لانفلاق الظلمة عنه. قال ابن كثير : قد كان الانشقاق في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. قال : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. قال الزجّاج ، زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله : أن القمر ينشقّ يوم القيامة ، والأمر بيّن في اللفظ وإجماع أهل العلم ، لأن قوله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يدلّ على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة. انتهى. ولم يأت من خالف الجمهور وقال : إن الانشقاق سيكون يوم القيامة ؛ إلا بمجرد استبعاد ، فقال : لأنه لو انشق في زمن النبوّة لم يبق أحد إلا رآه لأنه آية ، والناس في الآيات سواء. ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلا ولا شرعا ولا عادة ، ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر ، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ويضرب به في وجه قائله.

والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله ، فقد أخبرنا بأنه انشقّ ، ولم يخبرنا بأنه سينشق ، وإن نظرنا إلى سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوّة ، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا ، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذّ ، واستبعاد من استبعد ، وسيأتي ذكر بعض ما ورد في ذلك إن شاء الله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال الواحدي : قال المفسرون : لما انشقّ القمر قال المشركون : سحرنا محمد ، فقال الله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) يعني انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق والإيمان بها ، ويقولوا : سحر قويّ شديد يعلو كل سحر ، من قولهم : استمرّ الشيء ؛ إذا قوي واستحكم ، وقد قال بأن معنى مستمرّ : قوي شديد ؛ جماعة من أهل العلم. قال الأخفش : هو مأخوذ من إمرار الحبل ، وهو شدّة فتله ، وبه قال أبو العالية والضحاك ، واختاره النحّاس ، ومنه قول لقيط :

حتّى استمرّت على شزر مريرته

صدق العزيمة لا رتّا ولا ضرعا (١)

وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي : ذاهب ، من قولهم : مرّ الشيء واستمر ؛ إذا ذهب ، وبه قال قتادة ومجاهد وغير هما ، واختاره النحاس. وقيل : معنى مستمرّ : دائم مطرد ، ومنه قول الشاعر (٢) :

ألا إنّما الدّنيا ليال وأعصر

وليس على شيء قويم بمستمر

__________________

(١). «الرتة» : ردّة قبيحة في اللسان من العيب. «الضّرع» اللين الذليل.

(٢). هو امرؤ القيس.

١٤٥

أي : بدائم باق ، وقيل : مستمرّ : باطل ، روي هذا عن أبي عبيدة أيضا. وقيل : يشبه بعضه بعضا ، وقيل : قد مرّ من الأرض إلى السماء ، وقيل : هو من المرارة ، يقال : مرّ الشيء صار مرّا ، أي : مستبشع عندهم. وفي هذه الآية أعظم دليل على أن الانشقاق قد كان كما قرّرناه سابقا. ثم ذكر سبحانه تكذيبهم فقال : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي : وكذبوا رسول الله ، وما عاينوا من قدرة الله ، واتبعوا أهواءهم وما زيّنه لهم الشيطان الرجيم ، وجملة (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) مستأنفة لتقرير بطلان ما قالوه من التكذيب واتباع الأهواء ، أي : وكلّ أمر من الأمور منته إلى غاية ، فالخير يستقرّ بأهل الخير ، والشرّ يستقر بأهل الشرّ. قال الفراء : يقول : يستقرّ قرار تكذيبهم وقرار قول المصدّقين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب. قال الكلبي : المعنى لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر ، وما كان منه في الآخرة فسيعرف. قرأ الجمهور : (مُسْتَقِرٌّ) بكسر القاف ، وهو مرتفع على أنه خبر المبتدأ وهو «كلّ». وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بجرّ مستقر على أنه صفة لأمر ، وقرأ شيبة بفتح القاف ، ورويت هذه القراءة عن نافع. قال أبو حاتم : ولا وجه لها ، وقيل : لها وجه بتقدير مضاف محذوف ، أي : وكلّ أمر ذو استقرار ، أو زمان استقرار ، أو مكان استقرار ، على أنه مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي : ولقد جاء كفار مكة ، أو الكفار على العموم من الأنباء ، وهي أخبار الأمم المكذّبة المقصوصة علينا في القرآن (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي : ازدجار على أنه مصدر ميميّ ، يقال : زجرته ؛ إذا نهيته عن السوء ووعظته ، ويجوز أن يكون اسم مكان ، والمعنى : جاءهم ما فيه موضع ازدجار ، أي : إنه في نفسه موضع لذلك ، وأصله مزتجر ، وتاء الافتعال تقلب دالا مع الزاي والدال والذال كما تقرّر في موضعه ، وقرأ زيد بن عليّ مزّجر بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي في الزاي ، و «من» في قوله : (مِنَ الْأَنْباءِ) للتبعيض ، وهي وما دخلت عليه في محل نصب على الحال ، وارتفاع (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من «ما» ، بدل كل من كل ، أو بدل اشتمال ، والمعنى : إن القرآن حكمة قد بلغت الغاية ، ليس فيها نقص ولا خلل ، وقرئ بالنصب على أنها حال من «ما» ، أي : حال كون ما فيه مزدجر حكمة بالغة (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) «ما» يجوز أن تكون استفهامية وأن تكون نافية ، أي : أيّ شيء تغني النذر؟ أو : لم تغن النذر شيئا ، والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة ، والنذر جمع نذير بمعنى المنذر ، أو بمعنى الإنذار على أنه مصدر. ثم أمره الله سبحانه بالإعراض عنهم فقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي : أعرض عنهم حيث لم يؤثر فيهم الإنذار ، وهي منسوخة بآية السيف (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) انتصاب الظرف إما بفعل مقدّر ، أي : اذكر ، وإما بيخرجون المذكور بعده ، وإما بقوله : (فَما تُغْنِ) ويكون قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) اعتراض ، أو بقوله : (يَقُولُ الْكافِرُونَ) أو بقوله : (خُشَّعاً) وسقطت الواو من يدع اتباعا للفظ ، وقد وقعت في الرسم هكذا وحذفت الياء من الداع للتخفيف واكتفاء بالكسرة ، والداع هو إسرافيل ، والشيء النكر : الأمر الفظيع الّذي ينكرونه استعظاما له لعدم تقدّم العهد لهم بمثله. قرأ الجمهور بضم الكاف. وقرأ ابن كثير بسكونها تخفيفا. وقرأ مجاهد وقتادة بكسر الكاف وفتح الراء على صيغة الفعل المجهول (خُشَّعاً

١٤٦

أَبْصارُهُمْ) قرأ الجمهور : (خُشَّعاً) جمع خاشع. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو خاشعا على الإفراد ، ومنه قول الشاعر (١) :

وشباب حسن أوجههم من

إياد بن نزار بن معدّ

وقرأ ابن مسعود خاشعة قال الفراء : الصفة إذا تقدّمت على الجماعة جاز فيها التذكير والتأنيث والجمع ، يعني جمع التكسير لا جمع السلامة ؛ لأنه يكون من الجمع بين فاعلين ، ومثل قراءة الجمهور قول امرئ القيس (٢) :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلّد

وانتصاب «خشّعا» على الحال من فاعل «يخرجون» ، أو من الضمير في «عنهم» ، والخشوع في البصر الخضوع والذلة ، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن العزّ والذلّ يتبيّن فيها (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي : يخرجون من القبور ، وواحد الأجداث : جدث ، وهو القبر ، كأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض جراد منتشر ، أي : منبثّ في الأقطار ، مختلط بعضه ببعض (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) الإهطاع : الإسراع ، أي : قال كونهم مسرعين إلى الداعي ، وهو إسرافيل ، ومنه قول الشاعر :

بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السّماع

أي : مسرعين إليه. وقال الضحاك : مقبلين. وقال قتادة : عامدين. وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت ، والأوّل أولى ، وبه قال أبو عبيدة وغيره ، وجملة (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) في محل نصب على الحال من ضمير «مهطعين» ، والرابط مقدر أو مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا يكون حينئذ؟ والعسر : الصعب الشديد ، وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين. ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدّم من الأنباء المجملة فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي : كذّبوا نبيّهم ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) تفسير لما قبله من التكذيب المبهم ، وفيه مزيد تقرير وتأكيد ، أي : فكذّبوا عبدنا نوحا ، وقيل : المعنى : كذّبت قوم نوح الرسل ، فكذبوا عبدنا نوحا بتكذيبهم للرسل ؛ فإنه منهم. ثم بيّن سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرّد التكذيب فقال : (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي : نسبوا نوحا إلى الجنون ، وقوله : (وَازْدُجِرَ) معطوف على قالوا ، أي : وزجر عن دعوى النبوّة وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر ، والدال بدل من تاء الافتعال كما تقدّم قريبا ، وقيل : إنه معطوف على مجنون ، أي : وقالوا إنه ازدجر ، أي : ازدجرته الجنّ وذهبت بلبّه ، والأوّل أولى. قال مجاهد : هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسبّ وأنواع الأذى. قال الرازي : وهذا أصح ؛ لأن المقصود

__________________

(١). هو الحرث بن دوس الإيادي ، ويروى لأبي دؤاد الإيادي.

(٢). البيت لطرفة بن العبد. انظر : شرح المعلقات السبع للزوزني ص (٨٨)

١٤٧

تقوية قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر من تقدّمه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي : دعا نوح ربّه على قومه بأني مغلوب من جهة قومي لتمرّدهم عن الطاعة وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة ، فانتصر لي ، أي : انتقم لي منهم. طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم لمّا أيس من إجابتهم ، وعلم تمرّدهم وعتوّهم وإصرارهم على ضلالتهم. قرأ الجمهور (أَنِّي) بفتح الهمزة ، أي : بأني. وقرأ ابن أبي إسحاق والأعمش بكسر الهمزة ، ورويت هذه القراءة عن عاصم على تقدير إضمار القول ، أي : فقال. ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي : منصبّ انصبابا شديدا ، والهمر : الصبّ بكثرة ؛ يقال : همر الماء والدمع يهمر همرا وهمورا ؛ إذا كثر ، ومنه قول الشاعر :

أعينيّ جودا بالدّموع الهوامر

على خير باد من معدّ وحاضر

ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا :

راح تمريه الصّبا ثم انتحى

فيه شؤبوب جنوب منهمر (١)

قرأ الجمهور : (فَفَتَحْنا) مخففا. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي : جعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة ، والأصل : فجرنا عيون الأرض. قرأ الجمهور : (فَجَّرْنَا) بالتشديد ، وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالتخفيف. قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجّرت بالعيون (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي : التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم ، أي : كائنا على حال قدّرها الله وقضى بها. وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ، بل كان ماء السماء وماء الأرض على سواء. قال قتادة : قدّر لهم إذ كفروا أن يغرقوا. وقرأ الجحدري : فالتقى الماءان وقرأ الحسن فالتقى الماوان ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب ومحمد بن كعب. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي : وحملنا نوحا على سفينة ذات ألواح ، وهي الأخشاب العريضة (وَدُسُرٍ) قال الزجاج : هي المسامير التي تشدّ بها الألواح ، واحدها دسار ، وكل شيء أدخل في شيء يشدّه فهو الدسر ، وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب وابن زيد وسعيد بن جبير وغيرهم. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : الدسر : ظهر السفينة التي يضربها الموج ، سمّيت بذلك لأنها تدسر الماء ، أي : تدفعه ، والدّسر : الدفع ، وقال الليث : الدّسار : خيط تشدّ به ألواح السفينة. قال في الصحاح : الدّسار واحد الدسر ، وهي خيوط تشدّ بها ألواح السفينة ، ويقال : هي المسامير (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي : بمنظر ومرأى منا وحفظ لها ، كما في قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) (٢) وقيل : بأمرنا ، وقيل : بوحينا ، وقيل : بالأعين النابعة من الأرض ، وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) قال الفراء : فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به وجحد أمره ، وهو نوح عليه‌السلام ،

__________________

(١). «راح» عاد في الرواح. «تمريه» : تستدرّه. «الشؤبوب» الدفعة من المطر.

(٢). هود : ٣٧.

١٤٨

فإنه كان لهم نعمة كفروها ، فانتصاب «جزاء» على العلّة ، وقيل : على المصدرية بفعل مقدّر ، أي : جازيناهم جزاء. قرأ الجمهور : (كُفِرَ) مبنيا للمفعول ، والمراد به نوح. وقيل : هو الله سبحانه ، فإنهم كفروا به وجحدوا نعمته. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد وعيسى «كفر» بفتح الكاف والفاء مبنيا للفاعل ، أي : جزاء وعقابا لمن كفر بالله (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي : السفينة تركها الله عبرة للمعتبرين ، وقيل : المعنى : ولقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وموعظة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أصله مذتكر ، فأبدلت التاء دالا مهملة ، ثم أبدلت المعجمة مهملة لتقاربهما ، وأدغمت الدال في الذال والمعنى : هل من متّعظ ومعتبر يتّعظ بهذه الآية ويعتبر بها (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي : إنذاري. قال الفراء : الإنذار والنذر مصدران ، والاستفهام للتهويل والتعجيب ، أي : كانا على كيفية هائلة عجيبة لا يحيط بها الوصف ، وقيل : نذر جمع نذير ، ونذير بمعنى الإنذار ، كنكير بمعنى الإنكار (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي : سهّلناه للحفظ ، وأعنّا عليه من أراد حفظه ، وقيل : هيّأناه للتذكّر والاتعاظ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي : متّعظ بمواعظه ومعتبر بعبره. وفي الآية الحث على درس القرآن ، والاستكثار من تلاوته ، والمسارعة في تعلمه. ومدكر أصله مذتكر كما تقدّم قريبا.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أنس : «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما». وروي عنه من طريق أخرى عند مسلم والترمذي وغيرهم قال : فنزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن مسعود قال : «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين ، فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشهدوا» وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم ، وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عنه قال : رأيت القمر منشقا شقتين مرّتين ، مرّة بمكة قبل أن يخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ شقة على أبي قبيس ، وشقة على السويداء ... وذكر أن هذا سبب نزول الآية. وأخرج أحمد وعبد بن حميد ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه وأبو نعيم عنه أيضا قال : رأيت القمر وقد انشقّ ، وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر. وله طرق عنه. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن عباس قال : انشقّ القمر في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وله طرق عنه. وأخرج مسلم والترمذي وغير هما عن ابن عمر في قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال : كان ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انشقّ فرقتين : فرقة من دون الجبل ، وفرقة خلفه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اللهم أشد ، وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم عن أبيه في قوله : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال : انشقّ القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صار فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل ، فقال الناس : سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرّحمن السلمي قال : «خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : اقتربت الساعة وانشقّ القمر ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشقّ على عهد رسول

١٤٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، اليوم المضمار وغدا السباق» وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مُهْطِعِينَ) قال : ناظرين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) قال : كثير ، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب ، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم ، فالتقى الماءان. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) قال : الألواح : ألواح السفينة ، والدسر : معاريضها التي تشد بها السفينة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله : (وَدُسُرٍ) قال : المسامير. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : الدسر : كلكل السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا في قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) قال : لولا أن الله يسّره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلّموا بكلام الله. وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال : هل من متذكّر.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

قوله : (كَذَّبَتْ عادٌ) هم قوم عاد (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي : فاسمعوا كيف كان عذابي لهم وإنذاري إياهم ، و «نذر» مصدر بمعنى إنذار كما تقدم تحقيقه ، والاستفهام للتهويل والتعظيم (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) هذه الجملة مبينة لما أجمله سابقا من العذاب ، والصرصر : شدة البرد ، أي : ريح شديدة البرد ، وقيل : الصرصر : شدّة الصوت ، وقد تقدّم بيانه في سورة حم السجدة (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي : دائم الشؤم استمرّ عليهم بنحوسه ، وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. قال الزجاج : قيل : في يوم الأربعاء في آخر الشهر. قرأ الجمهور : «في يوم نحس» بإضافة يوم إلى نحس مع سكون الحاء ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أو على تقدير مضاف ، أي : في يوم عذاب نحس. وقرأ الحسن بتنوين يوم على أن نحس صفة له. وقرأ هارون بكسر الحاء. قال الضحاك : كان ذلك اليوم مرّا عليهم. وكذا

١٥٠

حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا : هو من المرارة ، وقيل : هو من المرّة بمعنى القوّة ، أي : في يوم قويّ الشؤم مستحكمه ؛ كالشيء المحكم الفتل الّذي لا يطاق نقضه ، والظاهر أنه من الاستمرار ، لا من المرارة ولا من المرّة ، أي : دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم ، وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم ، وجملة (تَنْزِعُ النَّاسَ) في محل نصب على أنها صفة لريحا أو حال منها ويجوز أن يكون استئنافا ، أي : تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النّخلة من أصلها. قال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رؤوسهم ، فتدقّ أعناقهم ، وتبين رؤوسهم من أجسادهم ، وقيل : الناس من البيوت ، وقيل : من قبورهم ؛ لأنّهم حفروا حفائر ودخلوها (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) الأعجاز : جمع عجز ، وهو مؤخر الشيء ، والمنقعر : المنقطع المنقلع من أصله ، يقال : قعرت النخلة ؛ إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط. شبّههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس ، وذلك أن الرّيح قلعت رؤوسهم أولا ، ثم كبّتهم على وجوههم. وتذكير منقعر مع كونه صفة لأعجاز نخل وهي مؤنثة اعتبارا باللفظ ، ويجوز تأنيثه اعتبارا بالمعنى كما قال : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (١) قال المبرد : كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا ، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل : إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) قد تقدّم تفسيره قريبا ، وكذلك قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). ثم لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه بتكذيب ثمود فقال : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) يجوز أن يكون جمع نذير ، أي : كذبت بالرّسل المرسلين إليهم ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإنذار ، أي : كذبت بالإنذار الّذي أنذروا به ، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيبا للرسل ؛ لأن من كذّب واحدا من الأنبياء فقد كذب سائرهم لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) الاستفهام للإنكار ، أي : كيف نتبع بشرا كائنا من جنسنا منفردا وحده لا متابع له على ما يدعو إليه؟ قرأ الجمهور بنصب «بشرا» على الاشتغال ، أي : أنتبع بشرا واحدا؟ وقرأ أبو السّمّال أنه قرأ برفع : «بشرا» ونصب بالرفع على الابتداء ، وواحدا صفته ، ونتبعه خبره. وروي عن أبي السّمّال أنه قرأ برفع : «بشرا» ونصب «واحدا» على الحال. (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ) أي : إنّا إذا اتبعناه لفي خطأ وذهاب عن الحق (وَسُعُرٍ) أي : عذاب وعناء وشدّة ، كذا قال الفراء وغيره. وقال أبو عبيدة : هو جمع سعير ، وهو لهب النار ، والسّعر : الجنون يذهب كذا وكذا لما يلتهب به من الحدّة. وقال مجاهد : «وسعر» وبعد عن الحق. وقال السدي : في احتراق ، وقيل : المراد به هنا الجنون ، من قولهم : ناقة مسعورة ، أي : كأنها من شدّة نشاطها مجنونة ، ومنه قول الشاعر يصف ناقة :

تخال بها سعرا إذ السّفر هزّها

ذميل وإيقاع من السّير متعب

ثم كرّروا الإنكار والاستبعاد ، فقالوا : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي : كيف خصّ من بيننا بالوحي

__________________

(١). الحاقة : ٧.

١٥١

والنبوّة ، وفينا من هو أحقّ بذلك منه؟ ثم أضربوا عن الاستنكار وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذابا أشرا ، فقالوا : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) والأشر : المرح والنشاط ، أو البطر والتكبّر ، وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام ، ومنه قول الشاعر :

أشرتم بلبس الخزّ لمّا لبستم

ومن قبل لا تدرون من فتح القرى

قرأ الجمهور «أشر» كفرح. وقرأ أبو قلابة وأبو جعفر بفتح الشين وتشديد الرّاء على أنه أفعل تفضيل. ونقل الكسائي عن مجاهد أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة. ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) والمراد بقوله : «غدا» وقت نزول العذاب بهم في الدنيا ، أو في يوم القيامة جريا على عادة الناس في التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر وإن بعد ، كما في قولهم : إن مع اليوم غدا ، وكما في قول الحطيئة :

للموت فيها سهام غير مخطئة

من لم يكن ميّتا في اليوم مات غدا

ومنه قول الطّرمّاح :

ألا علّلاني قبل نوح النّوائح

وقبل اضطراب النّفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي على غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

قرأ الجمهور : «سيعلمون» بالتحتية ، إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه ، وجملة : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مستأنفة لبيان ما تقدّم إجماله من الوعيد ، أي : إنّا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه (فِتْنَةً لَهُمْ) أي : ابتلاء وامتحانا ، وانتصاب فتنة على العلّة (فَارْتَقِبْهُمْ) أي : انتظر ما يصنعون (وَاصْطَبِرْ) على ما يصيبك من الأذى منهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي : بين ثمود وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، كما في قوله : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١) وقال : (نَبِّئْهُمْ) بضمير العقلاء تغليبا (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) الشّرب : بكسر الشين : الحظ من الماء. ومعنى محتضر : أنه يحضره من هو له ، فالناقة تحضره يوما وهم يحضرونه يوما. قال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم ، فيشربون ، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. قرأ الجمهور : «قسمة» بكسر القاف بمعنى مقسوم ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) أي : نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضّونه على عقرها (فَتَعاطى فَعَقَرَ) أي : تناول الناقة بالعقر فعقرها ، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر. قال محمد بن إسحاق : كمن لها في أصل شجرة على طريقها ، فرماها بسهم فانتظم به ساقها ، ثم شدّ عليها بالسيف فكسر عرقوبها ثم نحرها ، والتعاطي : تناول الشيء بتكلّف (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) قد تقدّم

__________________

(١). الشعراء : ١٥٥.

١٥٢

تفسيره في هذه السورة. ثم بيّن ما أجمله من العذاب فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) قال عطاء : يريد صيحة جبريل ، وقد مضى بيان هذا في سورة هود وفي الأعراف (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قرأ الجمهور بكسر الظاء ، والهشيم : حطام الشجر ويابسه ، والمحتظر : صاحب الحظيرة ، وهو الّذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الرّيح ، يقال : احتظر على غنمه ؛ إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض. قال في الصحاح : والمحتظر : الّذي يعمل الحظيرة. وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية بفتح الظاء ، أي : كهشيم الحظيرة ، فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار ، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة ، وهي فعلية بمعنى مفعولة ، ومعنى الآية أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة وداسته الغنم بعد سقوطه ، ومنه قول الشاعر :

أثرن عجاجة كدخان نار

تشبّ بغرقد بال هشيم

وقال قتادة : هو العظام النّخرة المحترقة. وقال سعيد بن جبير : هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري : هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصي. قال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما ومنه قول الشاعر :

ترى جيف المطيّ بجانبيه

كأنّ عظامها خشب الهشيم

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قد تقدّم تفسير هذا في هذه السورة. ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله كما كذبهم غيرهم فقال : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) وقد تقدّم تفسير النذر قريبا. ثم بيّن سبحانه ما عذّبهم به فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أي : ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى. قال أبو عبيدة والنّضر بن شميل : الحاصب : الحجارة في الريح. قال في الصحاح : الحاصب : الريح الشديدة التي تثير الحصباء ، ومنه قول الفرزدق :

مستقبلين شمال الشّام يضربها

بحاصب كنديف القطن منثور

(إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) يعني لوطا ومن تبعه ، والسحر : آخر الليل ، وقيل : هو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أوّل النهار ، وانصرف سحر لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة ولو قصد معينا لامتنع. كذا قال الزجاج والأخفش وغير هما ، وانتصاب (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) على العلّة ، أو على المصدرية ، أي : إنعاما منا على لوط ومن تبعه (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي : مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) أي : أنذر لوط قومه بطشة الله بهم ، وهي عذابه الشديد وعقوبته البالغة (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي : شكّوا في الإنذار ولم يصدّقوه ، وهو تفاعل من المرية ، وهي الشك (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي : أرادوا منه تمكينهم ممّن أتاه من الملائكة ليفجروا بهم كما هو دأبهم ، يقال : راودته عن كذا مراودة وروادا ، أي : أردته ، وراد الكلام يروده رودا : أي طلبه ، وقد تقدّم تفسير المراودة مستوفى في سورة هود (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أي : صيرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شقّ ، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل : أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها. قال

١٥٣

الضّحاك : طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل فرجعوا (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) قد تقدّم تفسيره في هذه السورة (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي : أتاهم صباحا عذاب مستقرّ بهم نازل عليهم لا يفارقهم ولا ينفكّ عنهم. قال مقاتل : استقرّ بهم العذاب بكرة ، وانصراف بكرة لكونه لم يرد بها وقتا بعينه كما سبق في «بسحر» (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ـ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قد تقدّم تفسير هذا في هذه السورة ، ولعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الإشعار بأنه منّة عظيمة ، لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) قال : باردة (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) قال : أيام شداد. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوم الأربعاء يوم نحس مستمر». وأخرجه عنه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا. وأخرجه ابن مردويه عن عليّ مرفوعا. وأخرج ابن مردويه أيضا عن أنس مرفوعا ، وفيه «قيل : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال : أغرق الله فيه فرعون وقومه ، وأهلك فيه عادا وثمودا». وأخرج ابن مردويه والخطيب بسند ، قال السيوطي : ضعيف ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر». وأخرج ابن المنذر عنه (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) قال : أصول النخل (مُنْقَعِرٍ) قال : منقلع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : أعجاز سواد النخل. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (وَسُعُرٍ) قال : شقاء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال : (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قال : كحظائر من الشجر محترقة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : كالعظام المحترقة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : كالحشيش تأكله الغنم.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

(النُّذُرُ) يجوز أن يكون جمع نذير ، ويجوز أن يكون مصدرا كما تقدّم ، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى ، وهذا أولى لقوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) فإنه بيان لذلك ، والمراد بها الآيات التسع التي تقدم ذكرها (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي : أخذناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه ، قادر على إهلاكهم ، لا يعجزه شيء. ثم خوّف سبحانه كفار مكة فقال : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) والاستفهام للإنكار ،

١٥٤

والمعنى النفي ، أي : ليس كفاركم يا أهل مكة ، أو يا معشر العرب ، خير من كفار من تقدّمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب وأنتم شرّ منهم. ثم أضرب سبحانه عن ذلك وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأول ، فقال : (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) والزبر : هي الكتب المنزّلة على الأنبياء ، والمعنى : إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء. ثم أضرب عن هذا التبكيت ، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر ، فقال : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي : جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوتنا ، أو أمرنا مجتمع لا نغلب ، وأفرد منتصرا اعتبارا بلفظ «جميع». قال الكلبي : المعنى : نحن جميع أمرنا ، ننتصر من أعدائنا ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي : جمع كفار مكة ، أو كفار العرب على العموم. قرأ الجمهور «سيهزم» بالتحتية مبنيا للمفعول. وقرأ ورش عن يعقوب «سنهزم» بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتحتية مبنيا للفاعل ، وقرئ بالفوقية مبنيا للفاعل (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قرأ الجمهور : «يولون» بالتحتية ، وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب ، والمراد بالدبر : الجنس ، وهو في معنى الإدبار ، وقد هزمهم الله يوم بدر وولّوا الأدبار ، وقتل رؤساء الشرك وأساطين الكفر ، فلله الحمد (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي : موعد عذابهم الأخرويّ ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب ، وإنما هو مقدّمة من مقدماته ، وطليعة من طلائعه ، ولهذا قال : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي : وعذاب الساعة أعظم في الضرّ وأفظع ، مأخوذ من الدهاء ، وهو النكر والفظاعة ، ومعنى أمرّ : أشد مرارة من عذاب الدنيا ، يقال : دهاه أمر كذا ، أي : أصابه دهوا ودهيا (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي : في ذهاب عن الحق وبعد عنه ، وقد تقدّم في هذه السورة تفسير «وسعر» فلا نعيده (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) والظرف منتصب بما قبله ، أي : كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون ، أو بقول مقدّر بعده ، أي : يوم يسحبون يقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي : قاسوا حرّها وشدّة عذابها ، وسقر : علم لجهنم. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين «مس» في سين «سقر» (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) قرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال. وقرأ أبو السّمال بالرفع ، والمعنى : أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبسا بقدر قدّره وقضاء قضاه سبق في علمه ، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه. والقدر : التقدير ، وقد قدّمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى. (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي : إلا مرة واحدة ، أو كلمة كلمح بالبصر في سرعته ، واللمح : النظر على العجلة والسرعة. وفي الصحاح : لمحه وألمحه ؛ إذا أبصره بنظر خفيف ، والاسم اللمحة. قال الكلبي : وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي : أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم ، وقيل : أتباعكم وأعوانكم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يتذكّر ويتّعظ بالمواعظ ويعلم أن ذلك حق ، فيخاف العقوبة وأن يحل به ما حلّ بالأمم السالفة (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي : جميع ما فعلته الأمم من خير أو شرّ مكتوب في اللوح المحفوظ ، وقيل : في كتب الحفظة (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ

١٥٥

مُسْتَطَرٌ) أي : كل شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ ، صغيره وكبيره ، وجليله وحقيره. يقال : سطر يسطر سطرا : كتب ، واستطر مثله. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء ذكر حال السعداء فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) أي : في بساتين مختلفة وجنان متنوعة وأنهار متدفقة. قرأ الجمهور «ونهر» بفتح الهاء على الإفراد ، وهو جنس يشمل أنهار الجنة وقرأ مجاهد والأعرج وأبو السمال بسكون الهاء وهما لغتان ، وقرأ أبو مجلز وأبو نهشل والأعرج وطلحة بن مصرّف وقتادة «نهر» بضم النون والهاء على الجمع (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي : في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم ، وهو الجنة (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي : قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء ، وعند هاهنا كناية عن الكرامة وشرف المنزلة ، وقرأ عثمان البتّي «في مقاعد صدق».

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) يقول : ليس كفاركم خير من قوم نوح وقوم لوط. وأخرج ابن أبي شيبة وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه في قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال : كان ذلك يوم بدر قالوا : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) فنزلت هذه الآية. وفي البخاري وغيره عنه أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو في قبّة له يوم بدر : «أنشدك عهدك ووعدك ، اللهمّ إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا ، فأخذ أبو بكر بيده وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك ، فخرج وهو يثب في الدرع ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ـ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ). وأخرج مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله : «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس». وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) قال : مسطور في الكتاب.

* * *

١٥٦

سورة الرّحمن

وهي مكية. قال القرطبي : كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر قال : قال ابن عباس : إلا آية منها ، وهي قوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدينة كلها ، والأوّل أصح ، ويدلّ عليه ما أخرجه النحّاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة الرّحمن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : أنزل بمكة سورة الرّحمن. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة (الرَّحْمنُ ـ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) بمكة. وأخرج أحمد وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند حسن ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ وهو يصلّي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). ويؤيد القول الثاني ما أخرجه ابن الضريس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : نزلت سورة الرّحمن بالمدينة ، ويمكن الجمع بين القولين بأنه نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة. وأخرج الترمذي وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقيّ في الدلائل ، عن جابر بن عبد الله قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه. فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا ، فقال : ما لي أراكم سكوتا لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كلما أتيت على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذّب ، فلك الحمد» قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. وحكي عن الإمام أحمد أنه كان يستنكر روايته عن زهير. وقال البزار : لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه. وأخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر ، والدار قطني في الأفراد ، وابن مردويه ، والخطيب في تاريخه ، من حديث ابن عمر ، وصحّح السيوطي إسناده ، وقال البزار : لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وأخرج البيهقي في الشعب ، عن عليّ ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لكل شيء عروس ، وعروس القرآن الرّحمن».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ

١٥٧

الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

قوله : (الرَّحْمنُ ـ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ارتفاع الرّحمن على أنه مبتدأ وما بعده من الأفعال أخبار له ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : الله الرّحمن. قال الزجّاج : معنى (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) يسّره. قال الكلبي : علّم القرآن محمدا وعلّمه محمد أمته ، وقيل : جعله علامة لما يعبد الناس به ، قيل : نزلت هذه الآية جوابا لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلمه بشر ، وقيل : جوابا لقولهم : وما الرّحمن؟ ولما كانت هذه السورة لتعداد نعمه التي أنعم بها على عباده قدّم النعمة التي هي أجلّها قدرا ، وأكثرها نفعا ، وأتمّها فائدة ، وأعظمها عائدة ، وهي نعمة تعليم القرآن ، فإنها مدار سعادة الدارين ، وقطب رحى الخيرين ، وعماد الأمرين. ثم امتنّ بعد هذه النعمة بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور ومرجع جميع الأشياء فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثم امتنّ ثالثا بتعليمه البيان الّذي يكون به التفاهم ، ويدور عليه التّخاطب ، وتتوقف عليه مصالح المعاش والمعاد ؛ لأنه لا يمكن إبراز ما في الضمائر ولا إظهار ما يدور في الخلد إلا به. قال قتادة والحسن : المراد بالإنسان آدم ، والمراد بالبيان أسماء كلّ شيء ، وقيل : المراد به اللغات. وقال ابن كيسان : المراد بالإنسان هاهنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالبيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلال ، وهو بعيد. وقال الضحاك : البيان : الخير والشرّ. وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه ممّا يضره ، وقيل : البيان : الكتابة بالقلم. والأولى حمل الإنسان على الجنس ، وحمل البيان على تعليم كلّ قوم لسانهم الّذي يتكلمون به (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي : يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها ، ويدلان بذلك على عدد الشهور والسنين. قال قتادة وأبو مالك : يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن كيسان : يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار ، ولو لا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب ؛ لأن الدهر يكون كله ليلا أو نهارا. وقال الضحاك : معنى بحسبان : بقدر. وقال مجاهد : بحسبان كحسبان الرحى ، يعني قطبهما الّذي يدوران عليه. قال الأخفش : الحسبان جماعة الحساب ، مثل شهب وشهبان. وأما الحسبان بالضمّ فهو العذاب ؛ كما مضى في سورة الكهف (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) النجم : ما لا ساق له من النبات ، والشجر : ما له ساق. قال الشاعر (١) :

لقد أنجم القاع الكبير عضاهه

وتمّ به حيّا تميم ووائل

وقال زهير :

مكلّل بأصول النّجم تنسجه

ريح الجنوب لضاحي مائه حبك

__________________

(١). هو صفوان بن أسد التميمي.

١٥٨

والمراد بسجودهما انقياد هما لله تعالى انقياد الساجدين من المكلفين. وقال الفراء : سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ، ثم يميلان معها حين ينكسر الفيء. وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما ، كما في قوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) (١) وقال الحسن ومجاهد : المراد بالنجم نجم السماء وسجوده طلوعه ، ورجّح هذا ابن جرير. وقيل : سجوده أفوله ، وسجود الشجر : تمكينها من الاجتناء لثمارها. قال النحاس : أصل السجود الاستسلام والانقياد لله ، وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران للرحمن ، وترك الرابط فيهما لظهوره ، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له (وَالسَّماءَ رَفَعَها) قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء ، والمعنى : أنه جعل السماء مرفوعة فوق الأرض (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) المراد بالميزان العدل ، أي : وضع في الأرض العدل الّذي أمر به ، كذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم. قال الزجاج : المعنى أنه أمرنا بالعدل ، ويدل عليه قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي : لا تجاوزوا العدل. وقال الحسن والضحاك : المراد به آلة الوزن ليتوصل بها إلى الإنصاف والانتصاف. وقيل : الميزان القرآن لأن فيه بيان ما يحتاج إليه ، وبه قال الحسين بن الفضل ، والأوّل أولى. ثم أمر سبحانه بإقامة العدل بعد إخباره للعباد بأنه وضعه لهم ، فقال : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي : قوّموا وزنكم بالعدل ، وقيل : المعنى : أقيموا لسان الميزان بالعدل ، وقيل : المعنى : أنه وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال ، و «أن» في قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا) مصدرية ، أي : لئلا تطغوا ، و «لا» نافية ، أي : وضع الميزان لئلا تطغوا ، وقيل : هي مفسرة ، لأن في الوضع معنى القول ، والطغيان : مجاوزة الحد ، فمن قال : الميزان العدل ، قال : طغيانه الجور ، ومن قال : الميزان الآلة التي يوزن بها ، قال : البخس (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي : لا تنقصوه ، أمر سبحانه أولا بالتسوية ، ثم نهى عن الطغيان الّذي هو المجاوزة للحد بالزيادة ، ثم نهى عن الخسران الّذي هو النقص والبخس. قرأ الجمهور : «تخسروا» بضم التاء وكسر السين من أخسر ، وقرأ بلال بن أبي بردة وأبان بن عثمان وزيد بن علي بفتح التاء والسين بن خسر ، وهما لغتان. يقال أخسرت الميزان وخسرته. ثم لما ذكر سبحانه أنه رفع السماء ذكر أنه وضع الأرض فقال : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي : بسطها على الماء لجميع الخلق ممّا له روح وحياة ، ولا وجه لتخصيص الأنام بالإنس والجنّ. قرأ الجمهور : بنصب الأرض على الاشتغال ، وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء ، وجملة (فِيها فاكِهَةٌ) في محل نصب على أنها حال من الأرض مقدّرة ، وقيل : مستأنفة لتقرير مضمون الجملة التي قبلها ، والمراد بها كلّ ما يتفكّه به من أنواع الثمار. ثم أفرد سبحانه النخل بالذكر لشرفه ومزيد فائدته على سائر الفواكه ، فقال : (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) الأكمام : جمع كمّ بالكسر ، وهو وعاء التمر. قال الجوهري : والكمّ بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النّور ، والجمع كمام وأكمّة وأكمام. قال الحسن : ذات الأكمام ، أي : ذات الليف ، فإن النخلة تكمّم بالليف وكمامها ليفها ، وقال ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة : ذات الأحمال. (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) الحبّ : هو جميع ما يقتات من الحبوب والعصف. قال السديّ والفراء : هو بقل الزرع ،

__________________

(١). النحل : ٤٧.

١٥٩

وهو أوّل ما ينبت به. قال ابن كيسان : يبدو أولا ورقا ، وهو العصف ، ثم يبدو له ساق ، ثم يحدث الله فيه أكماما ، ثم يحدث في الأكمام الحبّ. قال الفراء : والعرب تقول خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك ، وكذا قال الصحاح. وقال الحسن : العصف : التبن ، وقال مجاهد : هو ورق الشجر والزرع. وقيل : هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رأسه ويبس ، ومنه قوله : (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (١) ، وقيل : هو الزرع الكثير ، يقال : قد أعصف الزرع ، ومكان معصف ، أي : كثير الزرع ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :

إذا جمادى منعت قطرها

زان جنابي عطن معصّف

والريحان : الورق في قول الأكثر. وقال الحسن وقتادة والضحاك وابن زيد : إنه الريحان الّذي يشم. وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق. وقال الكلبي : إن العصف : هو الورق الّذي لا يؤكل ، والريحان : هو الحب المأكول. وقال الفراء أيضا : العصف : المأكول من الزرع ، والريحان : ما لا يؤكل ، وقيل : الريحان كل بقلة طيبة الريح. قال ابن الأعرابي : يقال شيء ريحاني وروحاني. وقال في الصحاح : الريحان نبت معروف ، والريحان : الرزق ، تقول : خرجت أبتغي ريحان الله. قال النّمر بن تولب :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر

وقيل : العصف : رزق البهائم ، والريحان : رزق الناس. قرأ الجمهور : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) برفع الثلاثة عطفا على فاكهة. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة بنصبهما عطفا على الأرض ، أو على إضمار فعل ، أي : وخلق الحبّ ذا العصف والريحان. وقرأ حمزة والكسائي والريحان بالجرّ عطفا على العصف. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الخطاب للجنّ والإنس ؛ لأن لفظ الأنام يعمّهما وغير هما ، ثم خصّص بهذا الخطاب من يعقل. وبهذا قال الجمهور من المفسرين ، ويدلّ عليه قوله فيما سيأتي : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) ويدلّ على هذا ما قدّمنا في فاتحة هذه السورة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها على الجنّ والإنس ، وقيل : الخطاب للإنس ، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية كما قدّمنا في قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) (٢) والآلاء : النعم. قال القرطبي : وهو قول جميع المفسرين ، واحدها إلى مثل معى وعصا. وقال ابن زيد : إنها القدرة ، أي : فبأيّ قدرة ربكما تكذّبان ، وبه قال الكلبي. وكرّر سبحانه هذه الآية في هذه السورة تقريرا للنعمة وتأكيدا للتذكير بها على عادة العرب في الاتساع. قال القتبي : إن الله عدّد في هذه السورة نعماءه ، وذكّر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كلّ خلّة وضعها بهذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كلّ نعمتين لينبههم على النعم ويقرّرهم بها كما تقول لمن تتابع له إحسانك ، وهو يكفره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلا فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا ، ومنه قول الشاعر :

لا تقتلي رجلا إن كنت مسلمة

إيّاك من دمه إيّاك إيّاك

قال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة ، وتأكيد للحجة. (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ

__________________

(١). الفيل : ٥.

(٢). ق : ٢٤.

١٦٠