فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته ، قلت : قد كانت قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فقال تعالى : يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالًّا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت : بلى يا ربّ». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «لما نزلت (وَالضُّحى) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمنّ عليّ ربي ، وأهل أن يمنّ ربي». وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) قال : وجدك بين الضّالّين فاستنقذك من ضلالتهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن عليّ في قوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قال : ما علمت من الخير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : إذا أصبت خيرا فحدّث إخوانك. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والبيهقي في الشعب ، والخطيب في المتفق ـ قال السيوطي : بسند ضعيف ـ عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر : «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدّث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ، والجماعة رحمة». وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسّنه ، وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر ابن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أبلى بلاء فذكره فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره». وأخرج البخاري في الأدب ، وأبو داود والضياء عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعطي عطاء فوجد فليجز به ، فإن لم يجد فليثن به ، فمن أثنى به فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره ، ومن تحلّى بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور». وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أولي معروفا فليكافئ به ، فإن لم يستطع فليذكره ، فإن من ذكره فقد شكره».

* * *

٥٦١

سورة الشرح

وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت ألم نشرح بمكة ، وزاد : بعد الضحى. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة ألم نشرح بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

معنى شرح الصدر : فتحه بإذهاب ما يصدّ عن الإدراك ، والاستفهام إذا دخل على النفي قرّره ، فصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك ، وإنما خصّ الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات ، والمراد الامتنان عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفتح صدره وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة ، وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوّة وحفظ الوحي ، وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (١). (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) معطوف على معنى ما تقدّم ، لا على لفظه : أي قد شرحنا لك صدرك ووضعنا إلخ ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أي : أنتم خير من ركب المطايا ، وأندى إلخ. قرأ الجمهور : (نَشْرَحْ) بسكون الحاء بالجزم ، وقرأ أبو جعفر المنصور العباسي بفتحها. قال الزمخشري : قالوا : لعله بيّن الحاء وأشبعها في مخرجها ، فظنّ السامع أنه فتحها. وقال ابن عطية : إن الأصل ألم نشرحن بالنون الخفيفة ، ثم إبدالها ألفا ، ثم حذفها تخفيفا كما أنشد أبو زيد :

من أيّ يوميّ من الموت أفرّ

أيوم لم يقدّر أم يوم قدر

بفتح الراء من لم يقدر ، ومثله قوله :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّيف قونس الفرس

بفتح الباء من اضرب ، وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم بلم ، وهو قليل جدا كقوله :

يحسبه الجاهل ما لم يعلما

شيخا على كرسيّه معمّما

__________________

(١). الزمر : ٢٢.

٥٦٢

فقد تركبت هذه القراءة من ثلاثة أصول كلها ضعيفة ، الأول : توكيد المجزوم بلم ، وهو ضعيف. الثاني : إبدالها ألفا ، وهو خاص بالوقف ، فإجراء الوصل مجرى الوقف ضعيف. والثالث : حذف الألف ، وهو ضعيف أيضا لأنه خلاف الأصل ، وخرّجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون بلم ويجزمون بلن ، ومنه قول الشاعر :

في كلّ ما همّ أمضى رأيه قدما

ولم يشاور في إقدامه أحدا

بنصب الراء من يشاور ، وهذه اللغة لبعض العرب ما أظنها تصح ، وإن صحت فليست من اللغات المعتبرة فإنها جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها. وعلى كل حال فقراءة هذا الرجل مع شدّة جوره ومزيد ظلمه وكثرة جبروته وقلة علمه ليست بحقيقة بالاشتغال بها. والوزر : الذنب ، أي : وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية. قال الحسن وقتادة والضحاك ومقاتل : المعنى حططنا عنك الّذي سلف منك في الجاهلية ، وهذا كقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١) ثم وصف هذا الوزر فقال : (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) قال المفسرون : أي أثقل ظهرك. قال الزجاج : أثقله حتى سمع له نقيض ، أي : صوت ، وهذا مثل معناه : أنه لو كان حملا يحمل لسمع نقيض ظهره ، وأهل اللغة يقولون : أنقض الحمل ظهر الناقة ؛ إذا سمع له صرير ، ومنه قول جميل :

وحتّى تداعت بالنّقيض حباله

وهمّت بواني زوره (٢) أن تحطّما

وقول العباس بن مرداس :

وأنقض ظهري ما تطويت منهم

وكنت عليهم مشفقا متحنّنا

قال قتادة : كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذنوب قد أثقلته فغفرها الله له ، وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوّة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له ، وكذا قال أبو عبيدة وغيره وقرأ ابن مسعود : «وحللنا عنك ووقرك».

ثم ذكر سبحانه منّته عليه وكرامته فقال : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) قال الحسن : وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلا ذكر معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله. قال مجاهد : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) يعني بالتأذين. وقيل المعنى : ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك ، وأمرناهم بالبشارة بك ، وقيل : رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وعند المؤمنين في الأرض. والظاهر أن هذا الرفع لذكره

__________________

(١). الفتح : ٢.

(٢). «بواني زوره» : أي أصول صدره.

٥٦٣

الّذي امتنّ الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور ، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر ، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه ، وإخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل أن من صلّى عليه واحدة صلّى عليه بها عشرا ، وأمر الله بطاعته كقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) وقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢) وقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣) وغير ذلك. وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل السّماوات والأرضين ، وجعل الله له من لسان الصدق والذكر الحسن والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤) اللهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى آله عدد ما صلّى عليه المصلّون بكل لسان في كل زمان ، وما أحسن قول حسان :

أغرّ عليه للنبوّة خاتم

من الله مشهود يلوح ويشهد

وضمّ الإله اسم النبيّ مع اسمه

إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمّد

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي : إن مع الضيقة سعة ، ومع الشدّة رخاء ، ومع الكرب فرج. وفي هذا وعد منه سبحانه بأن كل عسر يتيسر ، وكل شديد يهون ، وكل صعب يلين. ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريرا وتأكيدا ، فقال مكرّرا له بلفظ (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي : إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا آخر لما تقرّر من أنه إذا أعيد المعرّف يكون الثاني عين الأوّل ؛ سواء كان المراد به الجنس أو العهد ، بخلاف المنكّر إذا أعيد فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأوّل في الغالب ، ولهذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معنى هذه الآية : «لن يغلب عسر يسرين» قال الواحدي : وهذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد واليسر اثنان. قال الزجاج : ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره ، فصار المعنى : إن مع العسر يسرين. قيل : والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم ، وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرّر. قرأ الجمهور بسكون السين في العسر واليسر في الموضعين. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمها في الجميع (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي : إذا فرغت من صلاتك ، أو من التبليغ ، أو من الغزو فانصب ، أي : فاجتهد في الدعاء واطلب من الله حاجتك ، أو فانصب في العبادة ، والنصب : التعب ، يقال : نصب ينصب نصبا ، أي : تعب. قال قتادة والضحاك ومقاتل والكلبي : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء ، وارغب إليه في المسألة يعطك ، وكذا قال مجاهد. قال الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك ، وكذا قال الزهري. وقال الكلبي أيضا : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب : أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة : إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب لعبادة ربك. وقال مجاهد أيضا : إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك ، (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال الزجاج : أي اجعل رغبتك إلى الله وحده. قال عطاء : يريد أن يضرع إليه راهبا من النار ، راغبا في الجنة ، والمعنى : أنه يرغب إليه سبحانه

__________________

(١). النور : ٥٤.

(٢). الحشر : ٧.

(٣). آل عمران : ٢١.

(٤). الحديد : ٢١.

٥٦٤

لا إلى غيره كائنا من كان ، فلا يطلب حاجاته إلا منه ، ولا يعول في جميع أموره إلا عليه. قرأ الجمهور : (فَارْغَبْ) وقرأ زيد بن عليّ وابن أبي عبلة «فرغب» بتشديد الغين ، أي : فرغب الناس إلى الله وشوّقهم إلى ما عنده من الخير.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) قال : شرح الله صدره للإسلام. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني جبريل فقال : إن ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : إذا ذكرت ذكرت معي» وإسناد ابن جرير هكذا : حدّثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد. وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يونس بن عبد الأعلى به. وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) الآية قال : لا يذكر الله إلا ذكر معه. وأخرج البزار وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أنس قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا وحياله جحر ، فقال : «لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاءه اليسر فدخل عليه فأخرجه ، فأنزل الله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ـ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)». وأخرج ابن النجار عنه مرفوعا نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا مرفوعا نحوه ـ قال السيوطي : وسنده ضعيف ـ وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الصبر وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود مرفوعا : «لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه فيخرجه ، ولن يغلب عسر يسرين إن الله يقول : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ـ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح. قال فيه أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف ، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرّة عن رجل عن عبد الله بن مسعود. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول : «لن يغلب عسر يسرين ، إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا» وهذا مرسل. وروي نحوه مرفوعا مرسلا عن قتادة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) الآية ، قال : إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء واسأل الله وارغب إليه. وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال الله لرسوله : إذا فرغت من الصلاة وتشهدت فانصب إلى ربك واسأله حاجتك. وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن ابن مسعود : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) إلى الدعاء (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) في المسألة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.

* * *

٥٦٥

سورة التّين

وهي مكية في قول الجمهور ، وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية ، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : أنزلت سورة التين بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فصلى العشاء ، فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا ولا قراءة منه». وأخرج الخطيب عنه قال : «صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المغرب ، فقرأ بالتين والزيتون». وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد في مسنده ، والطبراني عن عبد الله بن يزيد «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في المغرب والتين والزيتون». وأخرج ابن قانع وابن السكن ، والشيرازي في الألقاب ، عن زرعة بن خليفة قال : «أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليمامة ، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ، فلما صلّينا الغداة قرأ بالتين والزيتون ، وإنا أنزلناه في ليلة القدر».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

قال أكثر المفسرين : هو التين الّذي يأكله الناس (وَالزَّيْتُونِ) الّذي يعصرون منه الزيت ، وإنما أقسم بالتين ؛ لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص ، وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيّأها لذلك ، وجعلها على مقدار اللقمة. قال كثير من أهل الطب : إن التين أنفع الفواكه وأكثرها غذاء ، وذكروا له فوائد كما في كتب المفردات والمركبات ، وأما الزيتون فإنه يعصر منه الزيت الّذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم ، ويدخل في كثير من الأدوية. وقال الضحاك : التين : المسجد الحرام ، والزيتون : المسجد الأقصى. وقال ابن زيد : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : مسجد بيت المقدس. وقال قتادة : التين : الجبل الّذي عليه دمشق ، والزيتون : الجبل الّذي عليه بيت المقدس. وقال عكرمة وكعب الأحبار : التين : دمشق ، والزيتون : بيت المقدس.

وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية ، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى ؛ المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل. وأعجب من هذا اختيار ابن

٥٦٦

جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية. قال الفراء : سمعت رجلا يقول : التين : جبال حلوان إلى همدان ، والزيتون : جبال الشام. هب أنك سمعت هذا الرجل ، فكان ماذا؟ فليس بمثل هذا تثبيت اللغة ، ولا هو نقل عن الشارع. وقال محمد بن كعب : التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد إيلياء ، وقيل : إنه على حذف مضاف ، أي : ومنابت التين والزيتون. قال النحّاس : لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوّز خلافه. (وَطُورِ سِينِينَ) هو الجبل الّذي كلّم الله عليه موسى اسمه الطور ، ومعنى سينين : المبارك الحسن بلغة الحبشة ، قاله قتادة. وقال مجاهد : هو المبارك بالسريانية. وقال مجاهد والكلبي : سينين : كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النّبط. قال الأخفش : طور : جبل ، وسينين : شجر ، واحدته سينينية. قال أبو علي الفارسي : سينين فعليل ، فكرّرت اللام التي هي نون فيه ، ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء لأنه جعل اسما للبقعة ، وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام ، وهي الأرض المقدسة كما في قوله : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) (١) وأعظم بركة حلّت به ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه. قرأ الجمهور : (سِينِينَ) بكسر السين ، وقرأ ابن إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء بفتحها ، وهي لغة بكر وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والحسن وطلحة (سَيْناءَ) بالكسر والمدّ. (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) يعني مكة ، سمّاه أمينا لأنه آمن كما قال : (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (٢) يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين. قال الفراء وغيره : الأمين بمعنى الآمن ، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول من أمنه ؛ لأنه مأمون الغوائل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا جواب القسم ، أي : خلقنا جنس الإنسان كائنا في أحسن تقويم وتعديل. قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله خلق كل ذي روح مكبّا على وجهه إلا الإنسان ، خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده ، ومعنى التقويم : التعديل ، يقال : قوّمته فاستقام. قال القرطبي : هو اعتداله واستواء شأنه ، كذا قال عامة المفسرين. قال ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيا عالما قادرا مريدا متكلّما سميعا بصيرا مدبّرا حكيما ، وهذه صفات الرب سبحانه ، وعليها جعل بعض العلماء قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم على صورته» يعني على صفاته التي تقدم ذكرها. قلت : وينبغي أن يضمّ إلى كلامه هذا قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) وقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٤) ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق وعجيب الصنع فلينظر في كتاب «العبر والاعتبار» للجاحظ ، وفي الكتاب الّذي عقده النيسابوري على قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥) وهو في مجلدين ضخمين. (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : رددناه إلى أرذل العمر ، وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوّة حتى يصير كالصبيّ فيخرف وينقص عقله ، كذا قال جماعة من المفسرين. قال الواحدي : والسافلون : هم الضعفاء والزمناء والأطفال ، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا.

__________________

(١). الإسراء : ١.

(٢). العنكبوت : ٦٧.

(٣). الشورى : ١١.

(٤). طه : ١١٠.

(٥). الذاريات : ٢١.

٥٦٧

وقال مجاهد وأبو العالية والحسن : المعنى : ثم رددنا الكافر إلى النار ، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض ، فالكافر يردّ إلى أسفل الدرجات السافلة ، ولا ينافي هذا قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (١) فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل ، وقوله : (أَسْفَلَ سافِلِينَ) إما حال من المفعول ، أي : رددناه حال كونه أسفل سافلين ، أو صفة لمقدر محذوف ، أي : مكانا أسفل سافلين (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) هذا الاستثناء على القول الأوّل منقطع ، أي : لكن الذين آمنوا ... إلخ ، ووجهه أن الهرم والردّ إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن كما يصاب به الكافر ، فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى. وعلى القول الثاني يكون الاستثناء متصلا من ضمير «رددناه» ، فإنه في معنى الجمع ، أي : رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ، أي : فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم ؛ فهذه الجملة على القول الأوّل مبنية لكيفية حال المؤمنين ، وعلى القول الثاني مقرّرة لما يفيده الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الردّ ، وقال : أسفل سافلين على الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى الجمع ، ولو قال أسفل سافل لجاز ؛ لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد. وقيل : معنى «رددناه أسفل سافلين» : رددناه إلى الضلال ، كما قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ـ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) أي : إلا هؤلاء ؛ فلا يردّون إلى ذلك (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) الخطاب للإنسان الكافر ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ وإلزام الحجة ، أي : إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردّك أسفل سافلين ، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ وقيل : الخطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : أيّ شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة ، فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين. قال الفراء والأخفش : المعنى : فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين ، كأنه قال : من يقدر على ذلك؟ أي : على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر ، واختار هذا ابن جرير. والدين : الجزاء ، ومنه قول الشاعر :

دنّا تميما كما كانت أوائلنا

دانت أوائلهم من سالف الزّمن

وقال الآخر :

ولمّا صرّح الشرّ

فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي : أليس الّذي فعل ما فعل مما ذكرنا بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا؟ حتى تتوهّم عدم الإعادة والجزاء ، وفيه وعيد شديد للكفار ، ومعنى أحكم الحاكمين : أتقن الحاكمين في كل ما يخلق ، وقيل : أحكم الحاكمين قضاء وعدلا. والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجابا كما تقدّم تفسير قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٣).

__________________

(١). النساء : ١٤٥.

(٢). العصر : ٢ ـ ٣.

(٣). الشرح : ١.

٥٦٨

وقد أخرج الخطيب وابن عساكر ـ قال السيوطي : بسند فيه مجهول ـ عن الزهري عن أنس قال : لما أنزلت سورة التين والزيتون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرح فرحا شديدا ؛ حتى تبين لنا شدّة فرحه ، فسألنا ابن عباس عن تفسيرها فقال : التين : بلاد الشام ، والزيتون : بلاد فلسطين ، وطور سيناء : الّذي كلّم الله عليه موسى ، وهذا البلد الأمين : مكة (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) محمدا (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) عبدة اللات والعزّى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ـ أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) إذ بعثك فيهم نبيا وجمعك على التقوى يا محمد ، ومثل هذا التفسير من ابن عباس لا تقوم به حجة لما تقدّم من كون في إسناده ذلك المجهول. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال : مسجد نوح الّذي بني على الجوديّ ، والزيتون قال : بيت المقدس (وَطُورِ سِينِينَ) قال : مسجد الطور (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) قال : مكة (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ـ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) يقول : يردّ إلى أرذل العمر كبر حتى ذهب عقله ، هم نفر كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سفهت عقولهم ، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الّذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) يقول : بحكم الله. وأخرج ابن مردويه عنه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضا (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال : الفاكهة التي يأكلها الناس (وَطُورِ سِينِينَ) قال : الطور : الجبل ، والسينين : المبارك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : سينين : هو الحسن. وأخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال : في أعدل خلق (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) يقول : إلى أرذل العمر (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعني : غير منقوص ، يقول : فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر وكان يعمل في شبابه عملا صالحا كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ولم يضرّه ما عمل في كبره ، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر. وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر ، وذلك قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ـ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال : لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) يقول : إلى الكبر وضعفه ، فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته. وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما». وأخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا : «من قرأ التين والزيتون ، فقرأ : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين». وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا : «إذا قرأت التين والزيتون فقرأت (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فقل : بلى». وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) قال : سبحانك اللهمّ فبلى.

٥٦٩

سورة العلق

ويقال سورة العلق ، وهي تسع عشرة آية ، وقيل : عشرون آية وهي مكية بلا خلاف ، وهي أوّل ما نزل من القرآن. وأخرج ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : أوّل ما نزل من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن أبي موسى الأشعري قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أوّل سورة أنزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي وصحّحه ، عن عائشة قالت : إن أوّل ما نزل من القرآن : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). ويدل على أن هذه السورة أول ما نزل : الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة ، وفيه : «فجاءه الحق وهو في غار حراء ، فقال له : اقرأ» الحديث ، وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

قرأ الجمهور : (اقْرَأْ) بسكون الهمزة أمرا من القراءة. وقرأ عاصم في رواية عنه بفتح الراء ، وكأنه قلب الهمزة ألفا ثم حذفها للأمر ، والأمر بالقراءة يقتضي مقروءا ، فالتقدير : اقرأ ما يوحى إليك ، أو ما نزل عليك ، أو ما أمرت بقراءته ، وقوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ) متعلق بمحذوف هو حال : أي : اقرأ متلبسا باسم ربك أو مبتدئا باسم ربك أو مفتتحا ، ويجوز أن تكون الباء زائدة ، والتقدير : اقرأ اسم ربك ، كقول الشاعر (١) :

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (٢)

__________________

(١). هو الراعي.

(٢). وصدر البيت : هنّ الحرائر لا ربّات أحمرة.

٥٧٠

قاله أبو عبيدة. وقال أيضا : الاسم صلة ، أي : اذكر ربك. وقيل : الباء بمعنى على ، أي : اقرأ على اسم ربك ، يقال : افعل كذا بسم الله ، وعلى اسم الله ، قاله الأخفش. وقيل : الباء للاستعانة ، أي : مستعينا باسم ربك ، ووصف الربّ بقوله : (الَّذِي خَلَقَ) لتذكير النعمة ؛ لأنّ الخلق هو أعظم النعم ، وعليه يترتّب سائر النعم. قال الكلبي : يعني الخلائق (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) يعني بني آدم ، والعلقة : الدم الجامد ، وإذا جرى فهو المسفوح. وقال : «من علق» بجمع علق لأن المراد بالإنسان الجنس ، والمعنى : خلق جنس الإنسان من جنس العلق ، وإذا كان المراد بقوله : «الّذي خلق» كلّ المخلوقات ، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفا له لما فيه من بديع الخلق وعجيب الصنع ، وإذا كان المراد بالذي خلق الّذي خلق الإنسان فيكون الثاني تفسيرا للأول. والنكتة ما في الإبهام ، ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أبهم أوّلا ثم فسّر ثانيا. ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير فقال : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي : افعل ما أمرت به من القراءة ، وجملة (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «ما أنا بقارئ» ، يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وهو أميّ ، فقيل له : اقرأ ، وربك الّذي أمرك بالقراءة هو الأكرم. قال الكلبي : يعني الحليم عن جهل العباد فلم يعجل بعقوبتهم ، وقيل : إنه أمره بالقراءة أوّلا لنفسه ، ثم أمره بالقراءة ثانيا للتبليغ ، فلا يكون من باب التأكيد ، والأوّل أولى (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي : علّم الإنسان الخط بالقلم ، فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب ، قال الزجاج : علم الإنسان الكتابة بالقلم. قال قتادة : القلم نعمة من الله عزوجل عظيمة ، لو لا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش ، فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبّه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دوّنت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولو لا هي ما استقامت أمور الدين ولا أمور الدنيا ، وسمّي قلما لأنه يقلم ، أي : يقطع ، (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) هذه الجملة بدل اشتمال من التي قبلها ، أي : علمه بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها ، قيل : المراد بالإنسان هنا آدم كما في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (١) وقيل : الإنسان هنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والأولى حمل الإنسان على العموم ، والمعنى : أن من علمه الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علمه ما لم يعلم ، وقوله : (كَلَّا) ردع وزجر لمن كفر نعم الله عليه بسبب طغيانه ، وإن لم يتقدم له ذكر ، ومعنى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) أنه يجاوز الحد ويستكبر على ربه. وقيل : المراد بالإنسان هنا أبو جهل ، وهو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة ، وأنه تأخّر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أوّل هذه السورة. وقيل «كلا» هنا بمعنى حقا ، قاله الجرجاني ، وعلّل ذلك بأنه ليس قبله ولا بعده شيء يكون كلا ردّا له ، وقوله : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) علّة ليطغى ، أي : ليطغى أن رأى نفسه مستغنيا ، أو لأن رأى نفسه مستغنيا ، والرؤية هنا بمعنى العلم ، ولو كانت البصرية لامتنع

__________________

(١). البقرة : ٣١.

٥٧١

الجمع بين الضميرين في فعلها لشيء واحد لأن ذلك من خواص باب علم ، ونحوه. قال الفراء : لم يقل رأى نفسه ، كما قيل : قتل نفسه ؛ لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا نحو الظنّ والحسبان ؛ فلا يقتصر فيه على مفعول واحد ، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول : رأيتني وحسبتني ، ومتى تراك خارجا ، ومتى تظنك خارجا ، قيل : والمراد هنا أنه استغنى بالعشيرة والأنصار والأموال. قرأ الجمهور : «أن رآه» بمد الهمزة. وقرأ قنبل عن ابن كثير بقصرها. قال مقاتل : كان أبو جهل إذا أصاب مالا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه ؛ فذلك طغيانه ، وكذا قال الكلبي. ثم هدّد سبحانه وخوّف ، فقال : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي : المرجع ، والرجعى والمرجع والرجوع : مصادر ، يقال : رجع إليه مرجعا ورجوعا ورجعي ، وتقدّم الجار والمجرور للقصر ، أي : الرجعى إليه سبحانه لا إلى غيره (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ـ عَبْداً إِذا صَلَّى) قال المفسرون : الّذي ينهى أبو جهل ، والمراد بالعبد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه تقبيح لصنعه وتشنيع لفعله ؛ حتى كأنه بحيث يراه كلّ من تتأتى منه الرؤية (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) يعني العبد المنهيّ إذا صلّى ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي : بالإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الّذي تتّقى به النار (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني أبا جهل ، كذّب بما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتولّى عن الإيمان ، وقوله : (أَرَأَيْتَ) في الثلاثة المواضع بمعنى : أخبرني ؛ لأن الرؤية لما كانت سببا للإخبار عن المرئي أجري الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلّقها ، والخطاب لكل من يصلح له. وقد ذكر هنا أرأيت ثلاث مرات ، وصرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها ، ومفعولها الأوّل محذوف ، وهو ضمير يعود على الّذي ينهي الواقع مفعولا أوّل لأرأيت الأولى ، ومفعول أرأيت الأولى الثاني محذوف ، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثانية ، وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أوّل ولا ثان ، حذف الأوّل لدلالة مفعول أرأيت الثالثة عليه فقد حذف الثاني من الأولى ، والأول من الثالثة ، والاثنان من الثانية ، وليس طلب كل من رأيت للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع لأنه يستدعي إضمارا ، والجمل لا تضمر ، إنما تضمر المفردات ، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة ، وأما جواب الشرط المذكورة مع أرأيت في الموضعين الآخرين. فهو محذوف تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني ، ومعنى (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) أي : يطلع على أحواله ، فيجازيه بها ، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وقيل : أرأيت الأولى مفعولها الأوّل الموصول ، ومفعولها الثاني الشرطية الأولى بجوابها المحذوف المدلول عليه بالمذكور ، وأ رأيت في الموضعين تكرير للتأكيد ، وقيل : كل واحدة من أرأيت بدل من الأولى ، و (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) الخبر. قوله : (كَلَّا) ردع للناهي ، واللام في قوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) هي الموطئة للقسم ، أي ، والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) السفع : الجذب الشديد ، والمعنى : لنأخذنّ بناصيته ولنجرّنه إلى النار ، وهذا كقوله : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (١) ويقال : سفعت الشيء ؛ إذا قبضته وجذبته ،

__________________

(١). الرّحمن : ٤١.

٥٧٢

ويقال : سفع بناصية فرسه. قال الراغب : السفع : الأخذ بسفعة الفرس ، أي : بسواد ناصيته ، وباعتبار السواد قيل : به سفعة غضب ؛ اعتبارا بما يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتدّ به الغضب ، وقيل للصقر : أسفع لما فيه من لمع السواد ، وامرأة سفعاء اللون. انتهى ، وقيل : هو مأخوذ من سفع النار والشمس ؛ إذا غيرت وجهه إلى سواد ، ومنه قول الشاعر (١) :

أثافيّ سفعا في معرّس مرجل (٢)

وقوله : (ناصِيَةٍ) بدل من الناصية ، وإنما أبدل النكرة من المعرفة لوصفها بقوله : (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) وهذا على مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا بشرط وصفها. وأما على مذهب البصريين ، فيجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا شرط ، وأنشدوا :

فلا وأبيك خير منك إنّي

ليؤذيني التّحمحم والصّهيل

قرأ الجمهور بجرّ «ناصية كاذبة خاطئة» والوجه ما ذكرنا. وقرأ الكسائي في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدأ ، أي : هي ناصية ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن عليّ بنصبها على الذمّ. قال مقاتل : أخبر عنه بأنه فاجر خاطئ ، فقال : «ناصية كاذبة خاطئة» ، وتأويلها : صاحبها كاذب خاطئ (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي : أهل ناديه ، والنادي : المجلس الّذي يجلس فيه القوم ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة ؛ والمعنى : ليدع عشيرته وأهله ليعينوه وينصروه ، ومنه قول الشاعر (٣) :

واستبّ بعدك يا كليب المجلس (٤)

أي : أهله. قيل : إن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتهددني وأنا أكثر الوادي ناديا؟ فنزلت : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ـ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي : الملائكة الغلاظ الشداد ، كذا قال الزجاج. قال الكسائي والأخفش وعيسى ابن عمر : واحدهم زابن ، وقال أبو عبيدة : زبنية ، وقيل : زبانيّ ، وقيل : هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه كعباديد وأبابيل. وقال قتادة : هم الشّرط في كلام العرب ، وأصل الزّبن الدّفع ، ومنه قول الشاعر :

ومستعجب ممّا يرى من أناتنا

ولو زبّنته الحرب لم يترمرم

والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتدّ بطشه ، ومنه قول الشاعر :

مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى

زبانية غلب (٥) عظام حلومها

قرأ الجمهور : «سندع» بالنون ، ولم ترسم الواو كما في قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) (٦) وقرأ ابن أبي

__________________

(١). هو زهير بن أبي سلمى.

(٢). وعجز البيت : ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلّم.

(٣). هو المهلهل.

(٤). وصدر البيت : نبئت أنّ النار بعدك أوقدت.

(٥). «غلب» : جمع أغلب ، وهو الغليظ الرقبة.

(٦). القمر : ٦.

٥٧٣

عبلة : «سيدعى» على البناء للمفعول ورفع الزبانية على النيابة. ثم كرّر الردع والزجر فقال : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) أي : لا تطعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة (وَاسْجُدْ) أي : صلّ لله غير مكترث به ، ولا مبال بنهيه (وَاقْتَرِبْ) أي : تقرّب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة. وقيل : المعنى : إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء. وقال زيد بن أسلم : واسجد أنت يا محمد ، واقترب أنت يا أبا جهل من النار ، والأوّل أولى. والسجود هذا الظاهر أن المراد به الصلاة ، وقيل : سجود التلاوة ، ويدلّ على هذا ما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السجود عند تلاوة هذه الآية ، كما سيأتي إن شاء الله.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن عبد الله بن شداد قال : «أتى جبريل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد اقرأ ، فقال : وما أقرأ؟ فضمه ثم قال : يا محمد اقرأ ، قال : وما أقرأ؟ قال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ (ما لَمْ يَعْلَمْ)». وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة : «فجاءه الملك ، فقال : اقرأ ، فقال : قلت : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ـ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ـ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ـ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)» الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلّي عند الكعبة لأطأنّ عنقه ، فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا». وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والترمذي وصحّحه ، وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عنه قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ، فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا؟ إنك لتعلم أن ما بها رجل أكثر ناديا مني ، فأنزل الله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ـ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ، فقيل : ما يمنعك؟ فقال : قد اسودّ ما بيني وبينه». قال ابن عباس : والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا نعم ، قال : واللات والعزّى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأنّ على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته ، قال : فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه ، فقيل له : ما لك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» قال : وأنزل الله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ـ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) إلى آخر السورة ، يعني أبا جهل (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) يعني قومه : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) يعني الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ـ عَبْداً إِذا صَلَّى) قال : أبو جهل بن هشام حين رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسّلى على ظهره وهو ساجد لله عزوجل. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (لَنَسْفَعاً) قال : لنأخذن. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) قال : ناصره ، وقد قدّمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسجد في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وفي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).

٥٧٤

سورة القدر

وهي مكية عند أكثر المفسرين. كذا قال الماوردي. وقال الثعلبي : هي مدنية في قول أكثر المفسرين ، وذكر الواقدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

الضمير في أنزلناه للقرآن ، وإن لم يتقدّم له ذكر ، أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ ، وكان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما على حسب الحاجة ، وكان بين نزول أوّله وآخره على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث وعشرون سنة ، وفي آية أخرى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (١) وهي ليلة القدر ، وفي آية أخرى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢) وليلة القدر في شهر رمضان. قال مجاهد : في ليلة القدر ليلة الحكم (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) ليلة الحكم ، قيل : سمّيت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدّر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة. وقيل : إنها سمّيت بذلك لعظيم قدرها وشرفها ، من قولهم : لفلان قدر ، أي : شرف ومنزلة ، كذا قال الزهري. وقيل : سمّيت بذلك ؛ لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقال الخليل : سمّيت ليلة القدر ؛ لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ، كقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (٣) أي : ضيق.

وقد اختلف في تعيين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولا ، قد ذكرناها بأدلتها وبيّنا الراجح منها في شرحنا للمنتقى (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) هذا الاستفهام فيه تفخيم لشأنها حتى كأنها خارجة عن دراية الخلق لا يدريها إلا الله سبحانه. قال سفيان : كلّ ما في القرآن من قوله : وما أدراك ؛ فقد أدراه ، وكلّ ما فيه : وما يدريك ؛ فلم يدره ، وكذا قال الفراء. والمعنى : أيّ شيء تجعله داريا بها؟ وقد قدّمنا الكلام في إعراب هذه الجملة في قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٤) ثم قال : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال كثير من المفسرين : أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، واختار هذا الفراء والزجاج ، وذلك أن الأوقات إنّما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع ، فلما جعل الله الخير الكثير في

__________________

(١). الدخان : ٣.

(٢). البقرة : ١٨٥.

(٣). الطلاق : ٧.

(٤). الحاقة : ٣.

٥٧٥

ليلة كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما في هذه الليلة. وقيل : أراد بقوله : ألف شهر جميع الدهر ؛ لأن العرب تذكر الألف في كثير من الأشياء على طريق المبالغة. وقيل : وجه ذكر الألف الشهر : أن العابد كان فيما مضى لا يسمّى عابدا حتى يعبد الله ألف شهر ، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، فجعل الله سبحانه لأمة محمد عبادة ليلة خيرا من عبادة ألف شهر كانوا يعبدونها. وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى أعمار أمته قصيرة ، فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم ، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته ، وجملة (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) مستأنفة مبينة لوجه فضلها ، موضّحة للعلّة التي صارت بها خيرا من ألف شهر ، وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) يتعلّق بتنزل أو بمحذوف هو حال ، أي : متلبسين بإذن ربهم ، والإذن : الأمر ، ومعنى «تنزل» : تهبط من السماوات إلى الأرض. والروح : هو جبريل عند جمهور المفسرين ، أي : تنزل الملائكة ومعهم جبريل. ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه. وقيل : الرّوح صنف من الملائكة هم أشرافهم ، وقيل : هم جند من جنود الله من غير الملائكة ، وقيل : الروح : الرحمة ، وقد تقدّم الخلاف في الروح عند قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) (١) قرأ الجمهور : «تنزل» بفتح التاء ، وقرأ طلحة بن مصرّف وابن السّميقع بضمّها على البناء للمفعول ، وقوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي : من أجل كلّ أمر من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة ، وقيل : إن «من» بمعنى اللام ، أي : لكلّ أمر ، وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بكلّ أمر ، قرأ الجمهور : «أمر» وهو واحد الأمور ، وقرأ عليّ وابن عباس وعكرمة والكلبي «امرئ» مذكر امرأة ، أي : من أجل كلّ إنسان ، وتأوّلها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة فيسلّمون على كلّ إنسان ، فمن على هذا بمعنى على ، والأوّل أولى. وقد تمّ الكلام عند قوله : من كلّ أمر ، ثم ابتدأ فقال : (سَلامٌ هِيَ) أي : ما هي إلا سلامة وخير كلها لا شرّ فيها ، وقيل : هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان من مؤمن أو مؤمنة. قال مجاهد : هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وقال الشعبي : هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر يمرّون على كلّ مؤمن ويقولون : السلام عليك أيها المؤمن ، وقيل : يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض. قال عطاء : يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي حتى وقت طلوعه. قرأ الجمهور : «مطلع» بفتح اللام. وقرأ الكسائي وابن محيصن بكسرها ، فقيل : هما لغتان في المصدر ، والفتح أكثر ؛ نحو : المخرج والمقتل ، وقيل : بالفتح اسم مكان ، وبالكسر المصدر ، وقيل : العكس ، و «حتى» متعلّقة بتنزل ؛ على أنها غاية لحكم التنزل ، أي : لمكثهم في محل تنزلهم ؛ بأن لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر ، وقيل : متعلقة بسلام بناء على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر.

وقد أخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي

__________________

(١). النبأ : ٣٨.

٥٧٦

في الدلائل ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال : أنزل القرآن في ليلة القدر حتى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا ، ثم جعل جبريل ينزل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم. وأخرج عبد بن حميد عن أنس قال : العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر. وأخرج الترمذي وضعّفه ، وابن جرير والطبراني والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك ، فنزلت : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١) يا محمد يعني : نهرا في الجنة ، ونزلت : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ـ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ـ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما ، والمراد بالقاسم هو القاسم بن الفضل المذكور في إسناده. قال الترمذي : إن يوسف هذا مجهول ، يعني : يوسف بن سعد الّذي رواه عن الحسن بن عليّ. قال ابن كثير : فيه نظر ، فإنه قد روى عنه جماعة : منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء ويونس بن عبيد. وقال فيه يحيى بن معين : هو مشهور. وفي رواية عن ابن معين قال : هو ثقة ، ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن. قال ابن كثير : ثمّ هذا الحديث على كلّ تقدير منكر جدا. قال المزي : هو حديث منكر ، وقول القاسم بن الفضل إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد ولا تنقص ليس بصحيح ، فإن جملة مدّتهم من عند أن استقل بالملك معاوية وهي سنة أربعين إلى أن سلبهم الملك بنو العباس ، وهي سنة اثنين وثلاثين ومائة مجموعها اثنتان وتسعون سنة. وأخرج الخطيب في تاريخه ؛ عن ابن عباس نحو ما روي عن الحسن بن عليّ. وأخرج الخطيب عن سعيد بن المسيب مرفوعا مرسلا نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (سَلامٌ) قال : في تلك الليلة تصفد مردة الشياطين ، وتغلّ عفاريت الجنّ ، وتفتح فيها أبوابها السماء كلها ، ويقبل الله فيها التوبة لكلّ تائب ، فلذا قال : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قال : وذلك من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر. والأحاديث في فضل ليلة القدر كثيرة ، وليس هذا موضع بسطها ، وكذلك الأحاديث في تعيينها والاختلاف في ذلك.

* * *

__________________

(١). الكوثر : ١.

٥٧٧

سورة البيّنة

وهي مدنية في قول الجمهور ، وقيل : مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة لم يكن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة لم يكن بمكة. وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني ، حدّثني فضل : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يستمع قراءة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقول : أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكننّ لك في الجنة حتى ترضى» قال ابن كثير : حديث غريب جدّا. وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني ، أو المدني بنحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيّ بن كعب : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : وسمّاني لك؟ قال : نعم ، فبكى». وأخرج أحمد ، وابن قانع في معجم الصحابة ، والطبراني وابن مردويه عن أبي حية البدري قال : «لما نزلت (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيّ : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة ، فقال أبيّ : وقد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال : نعم ، فبكى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى ، (وَ) المراد ب (الْمُشْرِكِينَ) مشركو العرب ، هم عبدة الأوثان ، و (مُنْفَكِّينَ) خبر كان ، يقال : فككت الشيء فانفك ، أي : انفصل ، والمعنى : أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين عنه (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) وقيل : الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية ، أي : لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة ، وقيل : منفكين : زائلين ، أي : لم تكن مدّتهم لتزول حتى تأتيهم البينة ، يقال : ما انفك فلان قائما ، أي : ما زال قائما ، وأصل الفكّ : الفتح ، ومنه فكّ الخلخال. وقيل : منفكين : بارحين ، أي : لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا

٥٧٨

الدنيا حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان : المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعث ، فلما بعث حسدوه وجحدوه ، وهو كقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١) وعلى هذا فيكون قوله : (وَالْمُشْرِكِينَ) أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمّونه الأمين ، فلما بعث عادوه وأساؤوا القول فيه. وقيل : (مُنْفَكِّينَ) هالكين ، من قولهم : انفكّ صلبه ، أي : انفصل فلم يلتئم فيهلك ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجّة عليهم. وقيل : إن المشركين هم أهل الكتاب ، فيكون وصفا لهم لأنهم قالوا : المسيح ابن الله وعزير ابن الله. قال الواحدي : ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن ، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان ، وهذا بيان عن النعمة والانقياد به من الجهل والضلالة والآية فيمن آمن من الفريقين. قال : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا ، وقد تخبّط فيها الكبار من العلماء ، وسلكوا في تفسيرها طرقا لا تفضي بهم إلى الصواب. والوجه ما أخبرتك ، فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال. قال : ويدلّ على أن البينة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسرها وأبدل منها فقال : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها ، وهو القرآن ، ويدلّ على ذلك أنه كان يتلو على ظهر قلبه ، لا عن كتاب. انتهى كلامه. وقيل : إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبي الموعود به ، فلما بعث تفرّقوا كما حكاه الله عنهم في هذه السورة. والبينة على ما قاله الجمهور هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سمّاه سراجا منيرا ، وقد فسر الله سبحانه هذه البينة المجملة بقوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) فاتّضح الأمر وتبين أنه المراد بالبينة. وقال قتادة وابن زيد : البينة هي القرآن كقوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (٢) وقال أبو مسلم : المراد بالبينة مطلق الرسل ، والمعنى : حتى تأتيهم رسل من الله ، وهم الملائكة يتلون عليهم صحفا مطهرة ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور : «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين» وقرأ ابن مسعود : «لم يكن المشركون وأهل الكتاب» قال ابن العربي : وهي قراءة في معرض البيان ، لا في معرض التلاوة ، وقرأ الأعمش والنخعي : والمشركون بالرفع عطفا على الموصول. وقرأ أبيّ «فلما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون» قرأ الجمهور : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) برفع رسول على أنه بدل كل من كلّ مبالغة ، أو بدل اشتمال. قال الزجاج : رسول رفع على البدل من البينة. وقال الفراء : رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي رسول أو هو رسول. وقرأ أبيّ وابن مسعود «رسولا» بالنصب على القطع ، وقوله : (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف هو صفة لرسول ، أي : كائن من الله ، ويجوز تعلّقه بنفس رسول ، وجوّز أبو البقاء أن يكون حالا من صحف ، والتقدير : يتلو صحفا مطهرة منزلة من الله ، وقوله : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) يجوز أن تكون صفة أخرى لرسول ، أن حالا من متعلق الجار والمجرور قبله. ومعنى يتلو : يقرأ ، يقال : تلا يتلو تلاوة ، والصحف :

__________________

(١). البقرة : ٨٩.

(٢). طه : ١٣٣.

٥٧٩

جمع صحيفة ، وهي ظرف المكتوب ، ومعنى مطهرة : أنها منزهة من الزور والضلال. قال قتادة : مطهرة من الباطل ، وقيل : مطهرة من الكذب والشبهات والكفر ، والمعنى واحد ؛ والمعنى : أنه يقرأ ما تتضمّنه الصحف من المكتوب فيها لأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب كما تقدّم ، وقوله : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) صفة لصحفا ، أو حال من ضميرها ، والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، والقيمة : المستقيمة المستوية المحكمة ، من قول العرب : قام الشيء ؛ إذا استوى وصحّ. وقال صاحب النظم : الكتب بمعنى الحكم كقوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١) أي : حكم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة العسيف «لأقضينّ بينكما بكتاب الله» ثم قضى بالرجم ، وليس الرجم في كتاب الله ، فالمعنى : لأقضين بينكما بحكم الله ، وبهذا يندفع ما قيل إن الصحف هي الكتب ، فكيف قال (صُحُفاً مُطَهَّرَةً ـ فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) وقال الحسن : يعني بالصحف المطهرة : التي في السماء ، يعني في اللوح المحفوظ كما في قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ـ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢). (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) هذه الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم ، وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر ، بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب.

قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله محمدا ، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ، فآمن به بعضهم وكفر آخرون. وخصّ أهل الكتاب ، وإن كان غيرهم مثلهم في التفرّق بعد مجيء البينة لأنهم كانوا أهل علم ، فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) مفرّغ من أعم الأوقات ، أي : وما تفرّقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجّة الواضحة ، وهي بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشريعة الغرّاء والمحجّة البيضاء. وقيل : البينة : البيان الّذي في كتبهم أنه نبيّ مرسل ، كقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) (٣) قال القرطبي : قال العلماء : من أوّل السورة إلى قوله : (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين ، وقوله : (وَما تَفَرَّقَ) إلخ فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج ، وجملة (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) في محل نصب على الحال مفيدة لتقريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرّق بعد مجيء البينة ، أي : والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحّدوه حال كونهم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : جاعلين دينهم خالصا له سبحانه أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين ، وقيل : إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن ، أي : ما أمروا إلا بأن يعبدوا كقوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (٤) أي : أن يبين ، و (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) (٥) أي : أن يطفئوا. قرأ الجمهور : «مخلصين» بكسر اللام ، وقرأ الحسن بفتحها. وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص من عمل القلب ،

__________________

(١). المجادلة : ٢١.

(٢). البروج : ٢١ ـ ٢٢.

(٣). آل عمران : ١٩.

(٤). النساء : ٢٦.

(٥). الصف : ٨.

٥٨٠