فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ؛ لأن الله تعالى قدّر ذلك عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل. قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال وهو الّذي عليه جمهور الأمة ، وقدّم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم.

ثم لما ذكر سبحانه خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : بالحكمة البالغة. وقيل : خلق ذلك خلقا يقينا لا ريب فيه ، وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي : خلق ذلك لإظهار الحق ، وهو أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) قيل : المراد آدم ، خلقه بيده كرامة له ، كذا قال مقاتل ، وقيل : المراد جميع الخلائق ، وهو الظاهر ، أي : أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم وأجمل شكل. والتصوير : التخطيط والتشكيل. قرأ الجمهور : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بضمّ الصاد ، وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وأبو زيد بكسرها. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) في الدار الآخرة ، لا إلى غيره. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا تخفى عليه من ذلك خافية (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي : ما تخفونه وما تظهرونه ، والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم ، وهي تذييلية (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود ، والخطاب لكفار العرب (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) بسبب كفرهم ، والوبال : الثقل والشدّة ، والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي ، وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وذلك في الآخرة وهو عذاب النار ؛ والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما ذكر من العذاب في الدارين ، وهو مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي : قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر ، متعجبين من ذلك ، وأراد بالبشر الجنس ، ولهذا قال يهدوننا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أي : كفروا بالرسل وبما جاءوا به ، وأعرضوا عنهم ، ولم يتدبروا فيما جاءوا به ، وقيل : كفروا بهذا القول الّذي قالوه للرسل (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم وعبادتهم. وقال مقاتل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان ، وأوضحه من المعجزات ، وقيل : استغنى بسلطانه عن طاعة عباده (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي : غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له ، محمود من كلّ مخلوقاته بلسان المقال والحال.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مكث المنيّ في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس ، فعرج به إلى الربّ فيقول : يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض ، فيقول : أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق ، وقرأ أبو ذرّ من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)». وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا ، والعبد يولد كافرا

٢٨١

ويعيش كافرا ويموت كافرا ، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت شقيا ، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا».

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

قوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) الزّعم : هو القول بالظن ، ويطلق على الكذب. قال شريح : لكل شيء كنية ، وكنية الكذب زعموا ، و (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) قائم مقام مفعول زعم ، و «أن» هي المخففة من الثقيلة لا المصدرية لئلا يدخل ناصب على ناصب ، والمراد بالكفار كفار العرب ؛ والمعنى : زعم كفار العرب أن الشأن لن يبعثوا أبدا. ثم أمر سبحانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يردّ عليهم ويبطل زعمهم فقال : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ) «بل» هي التي لإيجاب النفي ، فالمعنى : بل تبعثون. ثم أقسم على ذلك ، وجواب القسم لتبعثنّ ، أي : لتخرجن من قبوركم لتنبؤن (بِما عَمِلْتُمْ) أي : لتخبرنّ بذلك إقامة للحجّة عليكم ، ثم تجزون به (وَذلِكَ) البعث والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إذ الإعادة أيسر من الابتداء (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدّر ، أي : إذا كان الأمر هكذا فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن ؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم ، فهو مجازيكم على ذلك (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) العامل في الظرف «لتنبؤن» ، قاله النحاس. وقال غيره : العامل فيه خبير ، وقيل : العامل فيه محذوف هو اذكر. وقال أبو البقاء : العامل فيه ما دلّ عليه الكلام ، أي : تتفاوتون يوم يجمعكم. قرأ الجمهور (يَجْمَعُكُمْ) بفتح الياء وضم العين ، وروي عن أبي عمرو إسكانها ، ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا موضعا له ، كما قرئ في (وَما يُشْعِرُكُمْ) (١) بسكون الراء ، وكقول الشاعر :

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما (٢) من الله ولا واغل (٣)

__________________

(١). الأنعام : ١٠٩.

(٢). «استحقب الإثم» : ارتكبه.

(٣). «واغل» : وغل في الشيء : أمعن فيه وذهب وأبعد.

٢٨٢

بإسكان باء أشرب ، وقرأ زيد بن علي والشعبي ويعقوب ونصر وابن أبي إسحاق والجحدريّ : «نجمعكم» بالنون ، ومعنى (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ليوم القيامة ؛ فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء ، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله ، وبين كل نبيّ وأمته ، وبين كل مظلوم وظالمه (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) يعني أن يوم القيامة هو يوم التغابن ، وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضا ، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل ، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر ، وأهل الطاعة أهل المعصية ، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار ، فنزلوا منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار ، فكان أهل النار استبدلوا الخير بالشرّ ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب ، وأهل الجنة على العكس من ذلك. يقال : غبنت فلانا ؛ إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة ، كذا قال المفسرون ، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي : من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته ، قرأ الجمهور : («يُكَفِّرْ» «وَيُدْخِلْهُ») بالتحتية ، وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما ، وانتصاب (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) على أنها حال مقدرة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما ذكر من التكفير والإدخال ، وهو مبتدأ وخبره (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : الظفر الّذي لا يساويه ظفر. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المراد بالآيات إما التنزيلية أو ما هو أعمّ منها. ذكر سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء ها هنا لبيان ما تقدم من التّغابن ، وأنه سيكون بسبب التكفير وإدخال الجنة للطائفة الأولى ، وبسبب إدخال الطائفة الثانية النار وخلودهم فيها (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : ما أصاب كل أحد من مصيبة من المصائب إلا بإذن الله ، أي : بقضائه وقدره ، قال الفراء : إلا بإذن الله ، أي : بأمر الله ، وقيل : إلا بعلم الله. قيل : وسبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) أي : من يصدق ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدره الله عليه يهد قلبه للصبر والرضا بالقضاء. قال مقاتل بن حيان : يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه ويسترجع. وقال سعيد بن جبير : يهد قلبه عند المصيبة فيقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١) وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر. قرأ الجمهور : «يهد» بفتح الياء وكسر الدال ، أي : يهده الله ، وقرأ قتادة والسلمي والضحاك وأبو عبد الرّحمن بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول ، وقرأ طلحة بن مصرّف والأعرج وسعيد بن جبير وابن هرمز والأزرق «نهد» بالنون ، وقرأ مالك بن دينار وعمرو بن دينار وعكرمة «يهدأ» بهمزة ساكنة ، ورفع قلبه ، أي : يطمئن ويسكن (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي : بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي : هوّنوا على أنفسكم المصائب ، واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم عن الطاعة (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ليس عليه غير ذلك وقد فعل ، وجواب الشرط

__________________

(١). البقرة : ١٥٦.

٢٨٣

محذوف والتقدير فلا بأس على الرسول ، وجملة (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا) تعليل للجواب المحذوف ، ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : هو المستحق للعبودية دون غيره ، فوحّده ولا تشركوا به (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : يفوّضوا أمورهم إليه ويعتمدوا عليه ، لا على غيره.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قيل له : ما سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في زعموا؟ قال : سمعته يقول : «بئس مطية الرجل». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عنه : أنه كره زعموا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يوم التغابن من أسماء يوم القيامة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في قوله : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) قال : غبن أهل الجنة أهل النار. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود في قوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) قال : هي المصيبات تصيب الرجل ، فيعلم أنها من عند الله ، فيسلم لها ويرضى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (يَهْدِ قَلْبَهُ) قال : يعني يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يعني أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير ، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوّليا ، وهو أن رجالا من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا ، فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم ، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم فلا يطيعوهم في شيء ممّا يريدونه منهم ؛ مما فيه مخالفة لما يريده الله ، والضمير في (فَاحْذَرُوهُمْ) يعود إلى العدوّ ، أو إلى الأزواج والأولاد ، لكن لا على العموم ، بل إلى المتصفين بالعداوة منهم ، وإنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول ، لأن العدوّ يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. ثم أرشدهم الله إلى التجاوز فقال : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) أي : تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها ، وتتركوا التثريب عليها ، وتستروها (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم ، قيل : كان الرجل الّذي ثبطه أزواجه وأولاده عن الهجرة إذا رأى الناس قد سبقوه إليها ، وفقهوا في الدين ، همّ أن يعاقب أزواجه وأولاده ، فأنزل الله : (وَإِنْ تَعْفُوا) الآية ، والآية تعمّ وإن كان السبب خاصا كما عرّفناك غير مرة. قال مجاهد : والله ما عادوهم في الدنيا ، ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوهم إياه.

٢٨٤

ثم أخبر الله سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي : بلاء واختبار ومحنة ، يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله ، فلا تطيعوهم في معصية الله (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده. ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي : ما أطقتم ، وبلغ إليه جهدكم. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١) ومنهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد ، وقد أوضحنا الكلام في قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَ) (٢) ومعنى (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي : اسمعوا ما تؤمرون به ، وأطيعوا الأوامر. قال مقاتل : «اسمعوا» أي : اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا لرسوله فيما يأمركم وينهاكم. وقيل : معنى «اسمعوا» : اقبلوا ما تسمعون ؛ لأنه لا فائدة في مجرد السماع (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي : أنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ، ولا تبخلوا بها ، وقوله : (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) منتصب بفعل دلّ عليه أنفقوا ، كأنه قال : ائتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم ، أو قدّموا خيرا لها ، كذا قال سيبويه. وقال الكسائي والفراء : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : إنفاقا خيرا. وقال أبو عبيدة : هو خبر لكان المقدرة ، أي : يكن الإنفاق خيرا لكم. وقال الكوفيون : هو منتصب على الحال ، وقيل : هو مفعول به لأنفقوا ، أي : فأنفقوا ، أي : فأنفقوا خيرا. والظاهر في الآية الإنفاق مطلقا من غير تقييد بالزكاة الواجبة ، وقيل : المراد زكاة الفريضة ، وقيل : النافلة ، وقيل : النفقة في الجهاد (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : ومن يوق شحّ نفسه ، فيفعل ما أمر به من الإنفاق ، ولا يمنعه ذلك منه ، فأولئك هم الظافرون بكل خير ، الفائزون بكل مطلب ، وقد تقدم تفسير هذه الآية (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وقد تقدم تفسير هذه الآية واختلاف القراء في قراءتها في سورة البقرة وسورة الحديد (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي : يضمّ لكم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة ، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية ، وهو (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : الغالب القاهر ، ذو الحكمة الباهرة. وقال ابن الأنباري : الحكيم : هو المحكم لخلق الأشياء.

وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم ، فنزلت إلى قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ،

__________________

(١). آل عمران : ١٠٢.

(٢). آل عمران : ١٠٢.

٢٨٥

والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن بريدة قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشقّ وواحدا من ذا الشقّ ، ثم صعد المنبر فقال : «صدق الله : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما». وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصحّحه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله : استقرضت عبدي ، فأبى أن يقرضني ، وشتمني عبدي وهو لا يدري ، يقول : وا دهراه وا دهراه وأنا الدهر ، ثم تلا أبو هريرة : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ)».

* * *

٢٨٦

سورة الطّلاق

وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس وابن النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الطلاق بالمدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) نادى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا تشريفا له ، ثم خاطبه مع أمته ، أو الخطاب له خاصة ، والجمع للتعظيم ، وأمته أسوته في ذلك ، والمعنى : إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : مستقبلات لعدتهن ، أو في قبل عدتهن ، أو لقبل عدتهن. وقال الجرجاني : إن اللام في «لعدتهن» بمعنى في ، أي : في عدتهن. وقال أبو حيان : هو على حذف مضاف ، أي : لاستقبال عدتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : لقيته لليلة بقيت من شهر كذا. والمراد أن يطلقوهن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن ، فإذا طلقوهن هكذا فقد طلقوهنّ لعدتهنّ ، وسيأتي بيان هذا من السنة في آخر البحث إن شاء الله (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي : احفظوها ، واحفظوا الوقت الّذي وقع فيه الطلاق حتى تتم العدة ، وهي ثلاثة قروء ، والخطاب للأزواج ، وقيل : للزوجات ، وقيل : للمسلمين على العموم ، والأول أولى لأن الضمائر كلها لهم (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فلا تعصوه فيما أمركم ولا تضاروهن (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) أي : التي كنّ فيها عند الطلاق ما دمن في العدة ، وأضاف البيوت إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيد النهي ، وبيان

٢٨٧

كمال استحقاقهنّ للسكنى في مدّة العدّة ، ومثله قوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) (١) وقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) (٢) ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق وهنّ فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضا ، فقال : (وَلا يَخْرُجْنَ) أي : لا يخرجن من تلك البيوت ما دمن في العدّة ؛ إلا لأمر ضروري كما سيأتي بيان ذلك ، وقيل : المراد لا يخرجن من أنفسهن إلا إذا أذن لهنّ الأزواج فلا بأس ، والأول أولى (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) هذا الاستثناء هو من الجملة الأولى ، أي : لا تخرجوهن من بيوتهن ، لا من الجملة الثانية. قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا ، وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحدّ عليها. وقال الشافعي وغيره : هي البذاء في اللسان والاستطالة بها على من هو ساكن معها في ذلك البيت ، ويؤيد هذا ما قال عكرمة : إن في مصحف أبيّ «إلا أن يفحشن عليكم» وقيل : المعنى : إلا أن يخرجن تعديا ، فإنّ خروجهن على هذا الوجه فاحشة ، وهو بعيد ، والإشارة بقوله : (وَتِلْكَ) إلى ما ذكر من الأحكام ، وهو مبتدأ ، وخبره (حُدُودُ اللهِ) والمعنى : إن هذه الأحكام التي بيّنها لعباده هي حدوده التي حدّها لهم ، لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي : يتجاوزها إلى غيرها ، أو يخلّ بشيء منها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بإيرادها مورد الهلاك ، وأوقعها في مواقع الضرر بعقوبة الله له على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه ، وجملة : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها وتعليله. قال القرطبي : قال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ؛ والمعنى : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثا أضرّ بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع ، فلا يجد إلى المراجعة سبيلا. وقال مقاتل بعد ذلك : أي بعد طلقة أو طلقتين أمرا بالمراجعة. قال الواحدي : الأمر الّذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين. قال الزجاج : وإذا طلّقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى لقوله : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : قاربن انقضاء أجل العدة ، وشارفن آخرها (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي : راجعوهنّ بحسن معاشرة ورغبة فيهنّ من غير قصد إلى مضارة لهنّ (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي : اتركوهن حتى تنقضي عدتهنّ ، فيملكن نفوسهن مع إيفائهنّ بما هو لهنّ عليكم من الحقوق وترك المضارة لهنّ (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة ، وقيل : على الطلاق ، وقيل : عليهما قطعا للتنازع وحسما لمادة الخصومة ، والأمر للندب كما في قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وقيل : إنه للوجوب ، وإليه ذهب الشافعي ، قال : الإشهاد واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وفي قول للشافعي : إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقرّبا إلى الله ، وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة. وقيل : الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة ، أي : الشهود عند الرجعة ، فيكون قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أمرا بنفس الإشهاد ، ويكون قوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ) أمرا بأن تكون خالصة لله ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ)

__________________

(١). الأحزاب : ٣٣.

(٢). الأحزاب : ٣٤.

٢٨٨

إلى ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة لله ، وهو مبتدأ وخبره (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وخصّ المؤمن بالله واليوم الآخر ؛ لأنه المنتفع بذلك دون غيره (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) أي : من يتّق عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والوقوف على حدوده التي حدّها لعباده وعدم مجاوزتها يجعل له مخرجا مما وقع فيه من الشدائد والمحن (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي : من وجه لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه. قال الشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي : من طلّق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأنه يكون كأحد الخطّاب بعد العدة. وقال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة. وقال الحسن : مخرجا ممّا نهى الله عنه. وقال أبو العالية : مخرجا من كل شيء ضاق على الناس. وقال الحسين بن الفضل : ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجا من العقوبة ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب ، أي : يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجا من عقوبة أهل البدع ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب ، وقيل غير ذلك. وظاهر الآية العموم ، ولا وجه للتخصيص بنوع خاص ويدخل ما فيه السياق دخولا أوليا (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي : ومن وثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمّه (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) قرأ الجمهور : «بالغ أمره» بتنوين بالغ ونصب أمره ، وقرأ حفص بالإضافة ، وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند وأبو عمرو في رواية عنه بتنوين بالغ ورفع أمره على أنه فاعل بالغ ، أو على أن أمره مبتدأ مؤخر ، وبالغ خبر مقدم. قال الفراء في توجيه هذه القراءة : أي أمره بالغ ؛ والمعنى على القراءة الأولى والثانية : أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر ، لا يفوته شيء ، ولا يعجزه مطلوب ، وعلى القراءة الثالثة : أن الله نافذ أمره لا يردّه شيء. وقرأ المفضّل : «بالغا» بالنصب على الحال ، ويكون خبر إن قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي : تقديرا وتوقيتا ، أو مقدارا. فقد جعل سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه ، وللرخاء أجلا ينتهي إليه. وقال السدي : هو قدر الحيض والعدة (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) وهنّ الكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : شككتم وجهلتم كيف عدتهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض ، أي : فعدتهنّ ثلاثة أشهر ، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي : انتهاء عدتهن وضع الحمل ، وظاهر الآية أن عدة الحوامل بالوضع ، سواء كن مطلقات أو متوفّى عنهن ، وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة مستوفى ، وحقّقنا البحث في هذه الآية ، وفي الآية الأخرى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (١) وقيل : معنى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن تيقنتم ، ورجّح ابن جرير أنه بمعنى الشك وهو الظاهر. قال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممّن يحيض مثلها. وقال مجاهد : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) يعني لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم تحض فالعدة هذه. وقيل : المعنى : إن ارتبتم في الدم الّذي يظهر منها هل هو حيض أم لا بل استحاضة ؛ فالعدة ثلاثة أشهر (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي : من يتّقه في امتثال

__________________

(١). البقرة : ٢٣٤.

٢٨٩

أوامره واجتناب نواهيه يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة. وقال الضحاك : من يتّق الله فليطلق للسّنّة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. وقال مقاتل : من يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما ذكر من الأحكام ، أي : ذلك المذكور من الأحكام (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي : حكمه الّذي حكم به بين عباده وشرعه الّذي شرعه لهم ، ومعنى (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أنزله في كتابه على رسوله وبيّنه لكم وفصل أحكامه وأوضح حلاله وحرامه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بترك ما لا يرضاه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) التي اقترفها ، لأن التقوى من أسباب المغفرة للذنوب (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي : يعطه من الأجر في الآخرة أجرا عظيما وهو الجنة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال : طلّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة فأتت أهلها ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) فقيل له : راجعها فإنها صوّامة قوامة ، وهي من أزواجك في الجنة. وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلا. وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال : طلّق عبد يزيد أبو ركانة أمّ ركانة ، ثم نكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ما يغني عني إلا ما تغني عني هذه الشعرة ، لشعرة أخذتها من رأسها ، فأخذت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حميّة عند ذلك ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركانة وإخوته ، ثم قال لجلسائه : أترون كذا من كذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد يزيد : طلّقها ، ففعل ، فقال لأبي ركانة : ارتجعها ، فقال : يا رسول الله إني طلقتها ، قال : قد علمت ذلك فارتجعها ، فنزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) قال الذهبي : إسناده واه ، والخبر خطأ ، فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر : «أنه طلق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتغيّظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ، وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أيها النّبي إذا طلّقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن»». وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : «فطلّقوهن في قبل عدتهن». وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر أنه قرأ : «فطلّقوهن لقبل عدتهن». وأخرج ابن الأنباري وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد الرزاق ، وأبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : من أراد أن يطلق للسنة كما أمره الله ، فليطلقها طاهرا في غير جماع. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) قال : طاهرا من غير جماع. وفي الباب أحاديث. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) قال : الطلاق طاهرا في غير جماع. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله : (وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال : خروجها قبل انقضاء العدة من بيتها هي

٢٩٠

الفاحشة المبينة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال : الزنا. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال : الفاحشة المبينة أن تبذو (١) المرأة على أهل الرجل ، فإذا بذت عليهم بلسانها فقد حلّ لهم إخراجها. وأخرج ابن أبي حاتم عن فاطمة بنت قيس في قوله : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) قالت : هي الرجعة. وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين : أن رجلا طلق ولم يشهد ، وأرجع ولم يشهد. قال : بئس ما صنع ، طلق في بدعة ، وارتجع في غير سنّة ، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قال : مخرجه أن يعلم أنه قبل أمر الله ، وأن الله هو الّذي يعطيه وهو يمنعه ، وهو يبتليه وهو يعافيه ، وهو يدفع عنه ، وفي قوله : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : من حيث لا يدري. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قال : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وأخرج الحاكم وصحّحه ، وضعّفه الذهبي ، من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر قال : نزلت هذه الآية (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) في رجل من أشجع كان فقيرا ، خفيف ذات اليد ، كثير العيال ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : اتق الله واصبر ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم كان العدوّ أصابوه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله عنها وأخبره خبرها ، فقال : كلها ، فنزلت (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) الآية. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : «جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه ، فما تأمرني؟ قال : آمرك وإياها أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقالت المرأة : نعم ما أمرك ، فجعلا يكثران منها ، فتغفّل عنه العدو ، فاستاق غنمهم ، فجاء بها إلى أبيه ، فنزلت : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)» الآية. وفي الباب روايات تشهد لهذا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت : يكفيه همّ الدنيا وغمّها. وأخرج أحمد وصحّحه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، والبيهقي عن أبي ذرّ قال : «جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو هذه الآية : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) فجعل يردّدها حتى نعست ، ثم قال : يا أبا ذرّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال : ليس المتوكّل الّذي يقول : تقضى حاجتي ، وليس كل من يتوكل على الله كفاه ما أهمّه ، ودفع عنه ما يكره ، وقضى حاجته ، ولكن الله جعل فضل من توكل على من لم يتوكل أن يكفّر عنه سيئاته ، ويعظم له أجرا ، وفي قوله : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) قال : يقول قاضي أمره على من توكل وعلى من لم يتوكل ، ولكن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ، وفي قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) قال : يعني أجلا ومنتهى ينتهي إليه. وأخرج ابن المبارك والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد

__________________

(١). تبذو : تفحش في القول.

٢٩١

والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو يعلي والحاكم ، وصحّحه ، والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا». وأخرج إسحاق بن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبيّ بن كعب : أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عددا لم تذكر في القرآن : الصغار والكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وذوات الحمل ، فأنزل الله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) الآية. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وأبو يعلى ، والضياء في المختارة ، وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : «قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أهي المطلقة ثلاثا ، أو المتوفّى عنها؟ قال : هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها». وأخرج نحوه عنه مرفوعا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والدار قطني من وجه آخر. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه أن عليا قال : تعتدّ آخر الأجلين ، فقال : من شاء لاعنته ، إن الآية التي في سورة النساء القصرى (١) نزلت بعد سورة البقرة (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) بكذا وكذا أشهرا ، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها. وروي نحو هذا عنه من طرق وبعضها في صحيح البخاري. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة : أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى ، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الباب أحاديث.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) هذا كلام مبتدأ يتضمّن بيان ما يجب للنساء من السكنى ، ومن للتبعيض ، أي : بعض مكان سكناكم ، وقيل : زائدة (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي : من سعتكم وطاقتكم ، والوجد : القدرة. قال الفراء : يقول : على ما يجد ، فإن كان موسعا عليه وسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. قال قتادة : إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه.

وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثا ، هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة. وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور أنه لا نفقة

__________________

(١). أي سورة الطلاق.

٢٩٢

لها ولا سكنى ، وهذا هو الحق ، وقد قررته في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) نهى سبحانه عن مضارتهن بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة. وقال مجاهد : في المسكن. وقال مقاتل : في النفقة. وقال أبو الضحى : هو أن يطلّقها ، فإذا بقي يومان من عدّتها راجعها ، ثم طلّقها. (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي : إلى غاية هي وضعهن للحمل. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ؛ فأما الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا ينفق عليها إلا من نصيبها ، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم بعد ذلك (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : أجور إرضاعهن ، والمعنى : أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهن منهن فلهن أجورهن على ذلك (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) هو خطاب للأزواج والزوجات ، أي : تشاوروا بينكم بما هو معروف غير منكر ، وليقبل بعضكم من بعض [ما أمره به] (١) من المعروف الجميل ، وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضا بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم. قال مقاتل : المعنى ليتراض الأب والأم على أجر مسمّى ، قيل : والمعروف الجميل من الزوج أن يوفّر لها الأجر ، والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) أي : في أجر الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر ، وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي : يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده ، ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة ، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر. قال الضحاك : إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي : كان رزقه بمقدار القوت ، أو مضيق ليس بموسع (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي : ممّا أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي : ما أعطاها من الرزق ، فلا يكلّف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه ، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي : بعد ضيق وشدة سعة وغنى.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) قال : من سعتكم (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) قال : في المسكن. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) الآية ، قال : فهذه في المرأة يطلّقها زوجها وهي حامل ، فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع ، وإن أرضعت حتى تفطم ، فإن أبان طلاقها وليس بها حمل فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ولا نفقة لها. وأخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال : سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة ، فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل

__________________

(١). من تفسير القرطبي (١٨ / ١٦٩)

٢٩٣

أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ماذا يصنع بها إذا أخذها؟ فما لبث أن لبس ألين الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاء الرسول فأخبره ، فقال : رحمه‌الله ، تأوّل هذه الآية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ).

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

لما ذكر سبحانه ما تقدم من الأحكام ، حذّر من مخالفتها ، وذكر عتوّ قوم خالفوا أوامره ، فحلّ بهم عذابه ، فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) يعني عصت ، والمراد أهلها ، والمعنى : وكم من أهل قرية عصوا أمر الله ورسله ، أو أعرضوا عن أمر الله ورسله ؛ على تضمين عتت معنى أعرضت ، وقد قدّمنا الكلام في كأين في سورة آل عمران وغيرها (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي : شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا. قال مقاتل : حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب ، وهو معنى قوله : (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي : عذّبنا أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : عذّبنا أهلها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ ، وحاسبناهم في الآخرة حسابا شديدا. والنكر المنكر (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي : عاقبة كفرها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي : هلاكا في الدنيا وعذابا في الآخرة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة ، وهو عذاب النار ، والتكرير للتأكيد (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : يا أولي العقول الراجحة ، وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) في محل نصب بتقدير ، أعني بيانا للمنادى بقوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أو عطف بيان له ، أو نعت (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ـ رَسُولاً) قال الزجاج : إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل ، أي : أنزل إليكم قرآنا ، وأرسل إليكم رسولا ، وقال أبو علي الفارسي : إن رسولا منصوب بالمصدر ، وهو ذكرا ؛ لأن المصدر المنوّن يعمل. والمعنى : أنزل إليكم ذكر الرسول. وقيل : إن رسولا بدل من ذكرا ، وكأنه جعل الرسول نفس الذكر مبالغة. وقيل : إنه بدل منه على حذف مضاف من الأول تقديره : أنزل ذا ذكر رسولا ، أو صاحب ذكر رسولا. وقيل : إن رسولا نعت على حذف مضاف ، أي : ذكرا ذا رسول ، فذا رسول نعت للذكر. وقيل : إن «رسولا» بمعنى رسالة ، فيكون «رسولا» بدلا صريحا من غير تأويل ، أو بيانا. وقيل : إن رسولا منتصب على الإغراء ، كأنه قال : الزموا رسولا. وقيل : إن الذكر ها هنا بمعنى الشرف

٢٩٤

كقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (١) وقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٢). ثم بيّن هذا الشرف فقال : (رَسُولاً) وقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالرسول هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الكلبي : هو جبريل ، والمراد بالذكر القرآن ، ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة كما لا يخفى. ثم نعت سبحانه الرسول المذكور بقوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) أي : حال كونها مبينات ، قرأ الجمهور : «مبينات» على صيغة اسم المفعول ، أي : بينها الله وأوضحها ، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي على صيغة اسم الفاعل ، أي : الآيات تبين للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام. ورجّح القراءة الأولى أبو حاتم وأبو عبيد لقوله : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ). (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) اللام متعلقة بيتلو ، أي : ليخرج الرسول الّذي يتلو الآيات الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية ، ويجوز أن تتعلق اللام بأنزل ، فيكون المخرج هو الله سبحانه (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) أي : يجمع بين التصديق ، والعمل بما فرضه الله عليه ، مع اجتناب ما نهاه عنه (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قرأ الجمهور : (يُدْخِلْهُ) بالتحتية ، وقرأ نافع وابن عامر بالنون ، وجمع الضمير في (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) باعتبار معنى من ، ووحّده في «يُدْخِلْهُ» باعتبار لفظها ، وجملة (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) في محل نصب على الحال من الضمير في خالدين على التدخل ، أو من مفعول يدخله على الترادف ؛ ومعنى (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي : وسّع له رزقه في الجنة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) الاسم الشريف مبتدأ وخبره الموصول مع صلته (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي : وخلق من الأرض مثلهن يعني سبعا.

واختلف في كيفية طبقات الأرض. قال القرطبي في تفسيره : واختلف فيهنّ على قولين : أحدهما : وهو قول الجمهور أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض ، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء ، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك : إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأول أصح (٣) ؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما ، وقد مضى ذلك مبينا في البقرة قال : وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» إلى آخر كلامه ، وسيأتي في آخر البحث ما يقوي قول الجمهور. قرأ الجمهور : «مثلهنّ» بالنصب عطفا على «سبع سموات» أو على تقدير فعل ، أي : وخلق من الأرض مثلهنّ. وقرأ عاصم في رواية عنه بالرفع على الابتداء ، والجار والمجرور قبله خبره (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) الجملة مستأنفة ، ويجوز أن تكون صفة لما قبلها ، والأمر الوحي. قال مجاهد : يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال الحسن : بين كل سماءين أرض وأمر. وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه ، وقيل : بينهنّ إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أدناها ، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها ، وقيل : هو ما يدبّر فيهن

__________________

(١). الأنبياء : ١٠.

(٢). الزخرف : ٤٤.

(٣). هذا الكلام لا يعتمد على قرآن أو سنّة ، وقد أثبت العلم خلافه.

٢٩٥

من عجيب تدبيره ، فينزل المطر ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار ، والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان : وهذا هو مجال اللغة واتساعها ، كما يقال للموت : أمر الله ، وللريح والسحاب ونحوها. قرأ الجمهور : «يتنزل الأمر» من التنزل ورفع الأمر على الفاعلية ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه «ينزل» من الإنزال ، ونصب الأمر على المفعولية والفاعل الله سبحانه ، واللام في (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) متعلق بخلق ، أو بيتنزل أو بمقدر ، أي : فعل ذلك لتعلموا كمال قدرته وإحاطته بالأشياء ، وهو معنى (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان ، وانتصاب علما على المصدرية ، لأن أحاط بمعنى علم ، أو هو صفة لمصدر محذوف ، أي : أحاط إحاطة علما ، ويجوز أن يكون تمييزا.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) يقول : لم ترحم (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) يقول : عظيما منكرا. وأخرج ابن مردويه (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ـ رَسُولاً) قال : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال له رجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) إلى آخر السورة ، فقال ابن عباس : ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، من طريق أبي الضحى عن ابن عباس في قوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) قال : سبع أرضين في كلّ أرض نبي كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى. قال البيهقي : هذا إسناده صحيح ، وهو شاذ بمرة ، لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا. وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء ، والحوت على صخرة ، والصخرة بيد ملك. والثانية مسخر الريح ، فلما أراد الله أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا يهلك عادا ، فقال : يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور؟ فقال له الجبار : إذن تكفأ (١) الأرض ومن عليها ، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم ، فهي التي قال الله في كتابه : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٢). والثالثة فيها حجارة جهنم ، والرابعة فيها كبريت جهنم ، فقالوا : يا رسول الله أللنار كبريت؟ قال : نعم ، والّذي نفسي بيده ؛ إن فيها لأودية من كبريت ، لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت» إلى آخر الحديث. قال الذهبي متعقبا للحاكم : هو حديث منكر. وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس قال : سيد السموات السماء التي فيها العرش ، وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها.

* * *

__________________

(١). في المستدرك للحاكم : تكفي.

(٢). الذاريات : ٤٢.

٢٩٦

سورة التّحريم

وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع ، وتسمى سورة النبي. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة التحريم بالمدينة ، ولفظ ابن مردويه سورة المحرم. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : أنزلت بالمدينة سورة النساء (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) اختلف في سبب نزول الآية على أقوال : الأول قول أكثر المفسرين. قال الواحدي : قال المفسرون : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت حفصة فزارت أباها ، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت ، فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها : لا تخبري عائشة ولك علي أن لا أقربها أبدا ، فأخبرت حفصة عائشة وكانتا متصافيتين ، فغضبت عائشة ولم تزل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية ، فأنزل الله هذه السورة. قال القرطبي : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة ، وذكر القصة. وقيل : السبب أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة أن تقولا له إذا دخل عليهما : إنا نجد منك ريح مغافير. وقيل : السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وسيأتي دليل هذه الأقوال آخر البحث إن شاء الله ، وستعرف كيفية الجمع بينهما ، وجملة (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) مستأنفة ، أو مفسرة لقوله : «تحرّم» ، أو في محل نصب على الحال من فاعل تحرم ، أي : مبتغيا به مرضاة أزواجك ، ومرضاة اسم مصدر ، وهو الرضى ، وأصله مرضوة ، وهو مضاف إلى المفعول ، أي : أن ترضي أزواجك ، أو إلى الفاعل ، أي : أن يرضين هن (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : بليغ المغفرة والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحلّ الله لك ،

٢٩٧

قيل : وكان لك ذنبا من الصغائر ، فلذا عاتبه الله عليه ، وقيل : إنها معاتبة على ترك الأولى (١) (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي : شرع لكم تحليل أيمانكم ، وبيّن لكم ذلك ، وتحلة أصلها تحللة ، فأدغمت. وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية ، فكأن اليمين عقد ، والكفّارة حلّ ، لأنها تحلّ للحالف ما حرّمه على نفسه. قال مقاتل : المعنى قد بيّن الله كفّارة أيمانكم في سورة المائدة. أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكفر يمينه ويراجع وليدته فأعتق رقبة. قال الزجاج : وليس لأحد أن يحرم ما أحلّ الله.

قلت : وهذا هو الحق أن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه. فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره ، ومعاتبته لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك ، والبحث طويل والمذاهب فيه كثيرة والمقالات فيه طويلة ، وقد حققناه في مؤلفاتنا بما يشفي.

واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين يوجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف ، وليس في الآية ما يدل على أنه يمين ؛ لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحلّه له ، ثم قال : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها سبب نزول الآية أنه حرم أولا ثم حلف ثانيا كما قدمنا (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي : وليّكم وناصركم والمتولّي لأموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما فيه صلاحكم وفلاحكم (الْحَكِيمُ) في أفعاله وأقواله.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال أكثر المفسرين : هي حفصة كما سبق ، والحديث هو تحريم مارية ، أو العسل ، أو تحريم التي وهبت نفسها له ، والعامل في الظرف فعل مقدر ، أي : واذكر إذ أسرّ. وقال الكلبي : أسرّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت به غيرها (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي : أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي : عرّف حفصة بعض ما أخبرت به. قرأ الجمهور : «عرف» مشددا من التعريف ، وقرأ علي وطلحة بن مصرّف وأبو عبد الرّحمن السّلمي والحسن وقتادة والكسائي بالتخفيف. واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لقوله : (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي : لم يعرفها إياه ، ولو كان مخففا لقال في ضده : وأنكر بعضا (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي وأعرض عن تعريف بعض ذلك كراهة أن ينتشر في الناس ، وقيل : الّذي أعرض عنه هو حديث مارية. وللمفسرين ها هنا خبط وخلط ، وكل جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول ، وسنوضح لك ذلك إن شاء الله (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : أخبرها بما أفشت من الحديث (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي : من أخبرك به (قالَ : نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي : أخبرني الّذي لا تخفى عليه خافية. (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الخطاب لعائشة وحفصة ، أي : إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، ومعنى (صَغَتْ) عدلت ومالت عن الحق ، وهو

__________________

(١). قال القرطبي (١٨ / ١٨٤) : والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنّه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.

٢٩٨

أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو إفشاء الحديث. وقيل : المعنى : إن تتوبا إلى الله فقد مالت قلوبكما إلى التوبة ، وقال قلوبكما ولم يقل قلبا كما لأن العرب تستكره الجمع بين تثنيتين في لفظ واحد (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي : تتظاهروا ، قرأ الجمهور : «تظاهرا» بحذف إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ عكرمة «تتظاهرا» على الأصل. وقرأ الحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في رواية عنهم «تظّهّرا» بتشديد الظاء والهاء بدون ألف ، والمراد بالتظاهر : التعاضد والتعاون ، والمعنى : وإن تعاضدا وتعاونا في الغيرة عليه منكما وإفشاء سرّه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : فإن الله يتولّى نصره ، وكذلك جبريل ومن صلح من عباده المؤمنين ، فلن يعدم ناصرا ينصره (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد نصر الله ونصر جبريل وصالح المؤمنين (ظَهِيرٌ) أي : أعوان يظاهرونه ، والملائكة مبتدأ ، وخبره ظهير. قال أبو علي الفارسي : قد جاء فعيل للكثرة ، كقوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١) قال الواحدي : وهذا من الواحد الّذي يؤدي عن الجمع كقوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٢) وقد تقرر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع. وقيل : كان التّظاهر بين عائشة وحفصة في التحكم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النفقة (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) أي : يعطيه بدلكن أزواجا أفضل منكن ، وقد علم الله سبحانه أنه لا يطلقهن ، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن وقع منه الطلاق أبدله خيرا منهن تخويفا لهن ، وهو كقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (٣) فإنه إخبار عن القدرة وتخويف لهم. ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) أي : قائمات بفرائض الإسلام ، مصدّقات بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره. وقال سعيد بن جبير : (مُسْلِماتٍ) أي : مخلصات. وقيل معناه : مسلمات لأمر الله ورسوله (قانِتاتٍ) مطيعات لله. والقنوت : الطاعة ، وقيل : مصلّيات (تائِباتٍ) يعني من الذنوب (عابِداتٍ) لله متذللات له. قال الحسن وسعيد بن جبير : كثيرات العبادة. (سائِحاتٍ) أي : صائمات. وقال زيد بن أسلم : مهاجرات ، وليس في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سياحة إلا الهجرة. قال ابن قتيبة والفراء وغيرهما : وسمي الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه. وقيل المعنى : ذاهبات في طاعة الله ، من ساح الماء إذا ذهب ، وأصل السياحة : الجولان في الأرض ، وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة. (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) وسط بينهما العاطف لتنافيهما ، والثيبات : جمع ثيب ، وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت عن زوجها فعادت كما كانت غير ذات زوج. والأبكار : جمع بكر ، وهي العذراء ، سميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت عليه.

وقد أخرج البخاري وغيره عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها لبنا أو عسلا ، فتواصيت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت ذلك له ، فقال : لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود ، فنزلت :

__________________

(١). المعارج : ١٠.

(٢). النساء : ٦٩.

(٣). محمد : ٣٨.

٢٩٩

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) إلى قوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) لعائشة وحفصة (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) لقوله : بل شربت عسلا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند صحيح ، عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل ، فدخل على عائشة فقالت : إني أجد منك ريحا ، فدخل على حفصة فقالت : إني أجد منك ريحا ، فقال : أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه أبدا ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) الآية». وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن رافع قال : سألت أم سلمة عن هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) قالت : كانت عندي عكّة (١) من عسل أبيض ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلعق منها وكان يحبه ، فقالت له عائشة : نحلها تجرس عرفطا (٢) ، فحرّمها ، فنزلت الآية. وأخرج النسائي ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن أنس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما ، فأنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) وأخرج البزار والطبراني ، قال السيوطي : بسند صحيح ، عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال : عائشة وحفصة ، وكان بدوّ الحديث في شأن مارية القبطية أم إبراهيم أصابها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت حفصة في يومها ، فوجدت حفصة فقالت : يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري على فراشي ، قال : ألا ترضين أن أحرّمها فلا أقربها أبدا؟ قالت : بلى ، فحرّمها وقال : لا تذكري ذلك لأحد ، فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) الآيات كلها ، فبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفّر عن يمينه ، وأصاب مارية. وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عنه بأطول من هذا. وأخرجه ابن مردويه أيضا من وجه آخر عنه بأخصر منه ، وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه مختصرا بلفظ قال : حرّم سريته ، وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روي عنه من هذه الطرق ، وأخرج الهيثم بن كليب في مسنده ، والضياء المقدسي في المختارة ، من طريق نافع عن ابن عمر قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفصة : لا تحدثي أحدا ، وإن أم إبراهيم عليّ حرام ، فقالت : أتحرم ما أحل الله لك؟ قال : فو الله لا أقربها. فلم يقربها حتى أخبرت عائشة ، فأنزل الله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ). وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة أن سبب نزول الآية تحريم مارية كما سلف ، وسنده ضعيف. فهذان سببان صحيحان لنزول الآية ، والجمع ممكن بوقوع القصتين : قصة العسل ، وقصة مارية ، وأن القرآن نزل فيهما جميعا ، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه ، وأما ما قيل من أن السبب هو تحريم المرأة التي وهبت نفسها ، فليس في ذلك إلا ما روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال السيوطي : وسنده ضعيف. ويردّ هذا أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم

__________________

(١). «العكة» : زقّ صغير للسمن.

(٢). «تجرس» : تأكل. و «العرفط» : شجر.

٣٠٠