فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

كانت الإضافة إلى الفعل الماضي ، وأما إلى الفعل المستقبل فلا يجوز عندهما ، وقد وافق الزجاج على ذلك أبو علي الفارسي والفراء وغيرهما ، والمعنى : أنها لا تملك نفس من النفوس لنفس أخرى شيئا من النفع أو الضرّ (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده لا يملك شيئا من الأمر غيره كائنا ما كان. قال مقاتل : يعني لنفس كافرة شيئا من المنفعة. قال قتادة : ليس ثم أحد يقضي شيئا ، أو يصنع شيئا إلا الله ربّ العالمين ، والمعنى : أن الله لا يملك أحدا في ذلك اليوم شيئا من الأمور كما ملكهم في الدنيا ، ومثل هذا قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١).

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) قال : بعضها في بعض ، وفي قوله : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) قال : بحثت. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قال : ما قدّمت من خير وما أخرت من سنّة صالحة يعمل بها [بعده ، فإن له مثل أجر من عمل بها] (٢) من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، أو سنّة سيئة تعمل بعده ، فإن عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس نحوه. وأخرج الحاكم وصححه ، عن حذيفة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استنّ خيرا فاستنّ به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم ، ومن استنّ شرّا فاستنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه من غير منتقص من أوزارهم ، وتلا حذيفة (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)». وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال : غرّه والله جهله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل وحافظين في النهار يحفظان عمله ويكتبان أثره.

* * *

__________________

(١). غافر : ١٦.

(٢). ما بين حاصرتين سقط من الأصل واستدركناه من الدر المنثور (٨ / ٤٣٨)

٤٨١

سورة المطفّفين

قال القرطبي : وهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة. وقال مقاتل أيضا : هي أوّل سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة : هي مدنية إلا ثمان آيات من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلى آخرها. وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة. وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة المطففين بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال : آخر ما نزل بمكة سورة المطففين. وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في الشعب : قال السيوطي بسند صحيح : عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

قوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) «ويل» مبتدأ ، وسوّغ الابتداء به كونه دعاء ، ولو نصب لجاز. قال مكي والمختار في ويل وشبهه : إذا كان غير مضاف الرفع ، ويجوز النصب ، فإن كان مضافا أو معرّفا كان الاختيار فيه النصب ؛ نحو قوله : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا) (١) وللمطففين خبره ، والمطفّف : المنقص ، وحقيقته : الأخذ في الكيل أو الوزن شيئا طفيفا ، أي : نزرا حقيرا. قال أهل اللغة : المطفّف مأخوذ من الطّفيف ، وهو القليل ، فالمطفّف هو المقلّل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. قال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. قال أبو عبيدة والمبرد : المطفف الّذي يبخس في الكيل والوزن. والمراد بالويل هنا شدّة العذاب ، أو نفس العذاب ، أو الشرّ الشديد ، أو هو واد في جهنم. قال الكلبي : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم ، ويستوفون لأنفسهم ، فنزلت هذه الآية. وقال السدي : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وكان بها رجل يقال له أبو جهينة ،

__________________

(١). طه : ٦١.

٤٨٢

ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية. قال الفراء : هم بعد نزول هذه الآية أحسن الناس كيلا إلى يومهم هذا. ثم بيّن سبحانه المطففين من هم ، فقال : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي : يستوفون الاكتيال والأخذ بالكيل. قال الفراء : يريد اكتالوا من الناس ، و «على» و «من» في هذا الموضع يعتقبان ، يقال : اكتلت منك ، أي : استوفيت منك ، وتقول : اكتلت عليك ، أي : أخذت ما عليك. قال الزجاج : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل ، ولم يذكر اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع ، فأحدهما يدل على الآخر. قال الواحدي : قال المفسرون : يعني الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن ، وإذا باعوا ووزنوا لغيرهم نقصوا ، وهو معنى قوله : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي : كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذفت اللام فتعدى الفعل إلى المفعول ، فهو من باب الحذف والإيصال ، ومثله : نصحتك ونصحت لك ، كذا قال الأخفش والكسائي والفراء. قال الفراء : وسمعت أعرابية تقول : إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المدّ والمدّين إلى الموسم المقبل. قال : وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج : لا يجوز الوقف على «كالوا» حتى يوصل بالضمير ، ومن الناس من يجعله توكيدا ، أي توكيدا للضمير المستكنّ في الفعل ، فيجيز الوقف على كالوا أو وزنوا. قال أبو عبيدة : وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين ، ويقف على كالوا أو وزنوا ، ثم يقول : هم يخسرون. قال : وأحسب قراءة حمزة كذلك. قال أبو عبيد : والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين : إحداهما الخط ، ولذلك كتبوهما بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا أو وزنوا بالألف. والأخرى أنه يقال : كلتك ووزنتك بمعنى : كلت لك ووزنت لك ، وهو كلام عربيّ ؛ كما يقال : صدتك وصدت لك ، وكسبتك وكسبت لك ، وشكرتك وشكرت لك ونحو ذلك. وقيل : هو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف المكيل والموزون ، أي : وإذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا موزونهم ، ومعنى يخسرون : ينقصون ، كقوله : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (١) والعرب تقول : خسرت الميزان وأخسرته. ثم خوّفهم سبحانه فقال : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) والجملة مستأنفة مسوقة لتهويل ما فعلوه من التطفيف وتفظيعه وللتعجيب من حالهم في الاجتراء عليه ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المطففين ، والمعنى : أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم مبعوثون فمسؤولون عما يفعلون. قيل : والظنّ هنا بمعنى اليقين ، أي : لا يوقن أولئك ، ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن ، وقيل : الظن على بابه ، والمعنى : إن كانوا لا يستيقنون البعث ، فهلّا ظنّوه حتى يتدبروا فيه ويبحثوا عنه ويتركوا ما يخشون من عاقبته. واليوم العظيم هو يوم القيامة ، ووصفه بالعظم لكونه زمانا لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب ، ودخول أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار. ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) انتصاب الظرف بمبعوثون المذكور قبله ، أو بفعل مقدّر يدل عليه مبعوثون ، أي : يبعثون يوم يقوم الناس ، أو على البدل من محل ليوم ، أو بإضمار

__________________

(١). الرّحمن : ٩.

٤٨٣

أعني ، أو هو في محلّ رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو في محلّ جرّ على البدل من لفظ ليوم ، وإنما بني على الفتح في هذين الوجهين لإضافته إلى الفعل. قال الزجاج : «يوم» منصوب بقوله «مبعوثون» ، المعنى : ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة ، ومعنى يوم يقوم الناس : يوم يقومون من قبورهم لأمر ربّ العالمين ، أو لجزائه ، أو لحسابه ، أو لحكمه وقضائه. وفي وصف اليوم بالعظم مع قيام الناس لله خاضعين فيه ووصفه سبحانه بكونه ربّ العالمين دلالة على عظم ذنب التطفيف ، ومزيد إثمه وفظاعة عقابه. وقيل : المراد بقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم ، وقيل : المراد قيامهم بما عليهم من حقوق العباد ، وقيل : المراد قيام الرسل بين يدي الله للقضاء ، والأوّل أولى. قوله : (كَلَّا) هي للردع والزجر للمطففين الغافلين عن البعث وما بعده. ثم استأنف فقال : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أن كلا بمعنى حقا متصلة بما بعدها على معنى : حقا إن كتاب الفجار لفي سجين ، وسجين هو ما فسره به سبحانه من قوله : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ـ كِتابٌ مَرْقُومٌ) فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم ، أي : مسطور ، قيل : هو كتاب جامع لأعمال الشرّ الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة ، ولفظ سجين علم له. وقال قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب : إنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها ، وبه قال مجاهد ، فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف ، والتقدير : محل كتاب مرقوم. وقال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج (لَفِي سِجِّينٍ) لفي حبس وضيق شديد ، والمعنى : كأنهم في حبس ، جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم وهوانها. قال الواحدي : ذكر قوم أن قوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) تفسير لسجين ، وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين ، والوجه أن يجعل بيانا لكتاب المذكور في قوله : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) على تقدير هو كتاب مرقوم ، أي : مكتوب قد بينت حروفه. انتهى. والأولى ما ذكرناه ، ويكون المعنى : إن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون ، أي : ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدوّن للقبائح المختصّ بالشر ، وهو سجين. ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه ، فقال : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) ثم بينه بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ). قال الزجاج : معنى قوله : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. قال قتادة : ومعنى مرقوم : رقم لهم بشرّ ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر. وكذا قال مقاتل. وقد اختلفوا في نون سجين ، فقيل : هي أصلية واشتقاقه من السجن ، وهو الحبس ، وهو بناء مبالغة كخمير وسكير وفسيق ، من الخمر والسكر والفسق. وكذا قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج. قال الواحدي : وهذا ضعيف لأن العرب ما كانت تعرف سجينا. ويجاب عنه بأن رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة ، وتدل على أنه من لغة العرب ، ومنه قول ابن مقبل :

ورفقة يضربون البيض ضاحية

ضربا تواصت به الأبطال سجّينا

وقيل : النون بدل من اللام ، والأصل : سجيل ؛ مشتقا من السجل ، وهو الكتاب. قال ابن عطية : من قال إن سجينا موضع فكتاب مرفوع على أنه خبر إن ، والظرف وهو قوله : (لَفِي سِجِّينٍ) ملغى ، ومن جعله عبارة عن الكتاب ، فكتاب خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : هو كتاب ، ويكون هذا الكلام مفسرا

٤٨٤

لسجين ما هو؟ كذا قال. قال الضحاك : مرقوم : مختوم بلغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة. قال الشاعر :

سأرقم بالماء القراح (١) إليكم

على بعد كم إن كان للماء راقم

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا متصل بقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وما بينهما اعتراض ، والمعنى : ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث وبما جاءت به الرسل. ثم بيّن سبحانه هؤلاء المكذبين فقال : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) والموصول صفة للمكذبين ، أو بدل منه (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي : فاجر جائر ، متجاوز في الإثم ، منهمك في أسبابه (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) المنزّلة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها. قرأ الجمهور إذا «تتلى» بفوقيتين. وقرأ أبو حيوة وأبو السّمّال والأشهب العقيلي والسلمي بالتحتية ، وقوله : (كَلَّا) للردع والزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له ، وقوله : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) بيان للسبب الّذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأوّلين. قال أبو عبيدة : ران على قلوبهم : غلب عليها رينا وريونا ، وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك عليك. قال الفراء : هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب فأحاطت بقلوبهم ، فذلك الرين عليها. قال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب. قال مجاهد : القلب مثل الكف ، ورفع كفه ، فإذا أذنب انقبض ، وضمّ إصبعه ، فإذا أذنب ذنبا آخر انقبض ، وضم أخرى ؛ حتى ضم أصابعه كلها ، حتى يطبع على قلبه. قال : وكانوا يرون أن ذلك هو الرين. ثم قرأ هذه الآية. قال أبو زيد : يقال : قد رين بالرجل رينا ؛ إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به. وقال أبو معاذ النحويّ : الرين : أن يسودّ القلب من الذنوب ، والطّيع : أن يطبع على القلب ، وهو أشدّ من الرين ، والإقفال : أشدّ من الطّبع. قال الزجاج : الرين هو كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق ، ومثله الغين. ثم كرّر سبحانه الردع والزجر فقال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وقيل : كلا بمعنى حقا ، أي : حقا إنهم ، يعني الكفار ، عن ربهم يوم القيامة لا يرونه أبدا. قال مقاتل : يعني أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم. قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. قال الزجاج : في هذه الآية دليل على أن الله عزوجل يرى في القيامة ، ولو لا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة. وقال جلّ ثناؤه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ـ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢) فأعلم جلّ ثناؤه أن المؤمنين ينظرون ، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه. وقيل : هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك. وقال قتادة وابن أبي مليكة : هو أن لا ينظر إليهم برحمته ولا يزكيهم. وقال مجاهد : محجوبون عن كرامته ، وكذا قال ابن كيسان (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي : داخلو النار وملازموها غير خارجين منها ، و «ثم» لتراخي الرتبة ؛ لأن صلي الجحيم أشدّ من الإهانة وحرمان الكرامة (ثُمَّ يُقالُ هذَا

__________________

(١). «القراح» : الماء الّذي لا ثقل فيه.

(٢). القيامة : ٢٢ ـ ٢٣.

٤٨٥

الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي : تقول لهم خزنة جهنم تبكيتا وتوبيخا : هذا الّذي كنتم به تكذبون في الدنيا ، فانظروه وذوقوه.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». وأخرج الطبراني وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية : «(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال : فكيف إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم». وأخرج أبو يعلى وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة ، فيهون ذلك على المؤمن كتدلّي الشّمس إلى الغروب إلى أن تغرب». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما. وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعا. وأخرج الطبراني عن ابن عمر أنه قال : يا رسول الله كم مقام الناس بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة؟ قال : «ألف سنة لا يؤذن لهم». وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال : إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ، فيهبط بها إلى الأرض فتأبى أن تقبلها ، فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين ، وهو خدّ إبليس ، فيخرج لها من تحت خد إبليس كتابا فيختم ويوضع تحت خد إبليس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (سِجِّينٍ) أسفل الأرضين.

وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الفلق جب في جهنم مغطى ، وأما سجين فمفتوح». قال ابن كثير : هو حديث غريب منكر لا يصحّ. وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (سِجِّينٍ) الأرض السابعة السفلى. وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه مرفوعا. وأخرج عبد بن حميد وابن ماجة والطبراني ، والبيهقي في البعث ، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : لما حضرت كعبا الوفاة أتته أمّ بشر بنت البراء فقالت : إن لقيت ابني فأقرئه مني السلام ، فقال : غفر الله لك يا أمّ براء نحن أشغل من ذلك ، فقالت : أما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت ، وإن نسمة الكافر في سجين»؟ قال : بلى ، قالت : فهو ذلك. وأخرج ابن المبارك نحوه عن سلمان. وأخرج أحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه ، فذلك الران الّذي ذكره الله سبحانه في القرآن (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)».

٤٨٦

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

قوله : (كَلَّا) للردع والزجر عما كانوا عليه ، والتكرير للتأكيد ، وجملة (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) مستأنفة لبيان ما تضمنته ، ويجوز أن يكون «كلا» بمعنى حقا ، والأبرار : هم المطيعون ، وكتابهم : صحائف حسناتهم. قال الفراء : «عليين» ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له ، ووجه هذا أنه منقول من جمع عليّ من العلوّ. قال الزجاج : هو أعلى الأمكنة. قال الفراء والزجاج : فأعرب كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ولا واحد له من لفظه نحو ثلاثين وعشرين وقنّسرين ، قيل : هو علم لديوان الخير الّذي دوّن فيه ما عمله الصالحون. وحكى الواحدي عن المفسرين أنه السماء السابعة. قال الضحاك ومجاهد وقتادة : يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وقال الضحاك : هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها ، وقيل : هو الجنة. وقال قتادة أيضا : هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى ، وقيل : إن عليين صفة للملائكة فإنهم في الملأ الأعلى ، كما يقال : فلان في بني فلان ، أي : في جملتهم (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ـ كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : وما أعلمك يا محمد أيّ شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم لعليين ، ثم فسره فقال : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : مسطور ، والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ـ كِتابٌ مَرْقُومٌ) وجملة (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) صفة أخرى لكتاب ، والمعنى : أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم ، وقيل : يشهدون بما فيه يوم القيامة. قال وهب وابن إسحاق : المقرّبون هنا إسرافيل ، فإذا عمل المؤمن عمل البرّ صعدت الملائكة بالصحيفة ولها نور يتلألأ في السماوات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل فيختم عليها. ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم فقال : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي : إن أهل الطاعة لفي تنعّم عظيم لا يقادر قدره (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) الأرائك : الأسرّة التي في الحجال (١) ، وقد تقدّم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة. قال الحسن : ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن ، فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير. ومعنى (يَنْظُرُونَ) أنهم ينظرون إلى ما أعدّ الله لهم من الكرامات ، كذا قال عكرمة ومجاهد وغيرهما. وقال مقاتل : ينظرون إلى أهل النار ، وقيل : ينظرون إلى وجهه وجلاله (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي : إذا

__________________

(١). الحجال : جمع الحجلة ، وهي ساتر كالقبّة يتّخذ للعروس ، يزيّن بالثياب والسّتور والأسرّة.

٤٨٧

رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة والرونق ، والخطاب لكلّ راء يصلح لذلك ، يقال : أنضر النبات ؛ إذا أزهر ونوّر. قال عطاء : وذلك أن الله زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف. قرأ الجمهور : «تعرف» بفتح الفوقية وكسر الراء ، ونصب نضرة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وطلحة وابن أبي إسحاق بضم الفوقية وفتح الراء على البناء للمفعول ، ورفع «نضرة» بالنيابة (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) قال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج : الرحيق من الخمر ما لا غشّ فيه ولا شيء يفسده ، والمختوم : الّذي له ختام. وقال الخليل : الرحيق أجود الخمر. وفي الصحاح : الرحيق : صفرة الخمر. وقال مجاهد : هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية ، ومنه قول حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

قال مجاهد (مَخْتُومٍ) مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين ، ويكون المعنى : أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار. قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي : ختامه : آخر طعمه ، وهو معنى قوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ) أي : آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. وقيل : مختوم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطين ، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته. والحاصل أن المختوم والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره ، أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه كما تختم الأشياء بالطين ونحوه. قرأ الجمهور : «ختامه» وقرأ عليّ وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي «خاتمه» بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قال علقمة : أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل خاتمه مسكا ، أي : آخره ، والخاتم والختام يتقاربان في المعنى ، إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر ، كذا قال الفراء قال في الصحاح : والختام الطين الّذي يختم به ، وكذا قال ابن زيد. قال الفرزدق :

وبتن بجانبي مصرّعات

وبت أفضّ أغلاق الختام

(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي : فليرغب الراغبون ، والإشارة بقوله : «ذلك» إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة ، وقيل : إن «في» بمعنى إلى : أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل كما في قوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (١) وأصل التنافس : التشاجر على الشيء والتنازع فيه ؛ بأن يحبّ كل واحد أن يتفرّد به دون صاحبه ، يقال : نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة : أي ظننت به ولم أحبّ أن يصير إليه. قال البغوي : أصله من الشيء النفيس الّذي تحرص عليه نفوس الناس فيريده كل واحد لنفسه ، وينفس به على غيره ، أي : يضن به. قال عطاء : المعنى فليستبق المستبقون. وقال مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون ، وقوله : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) معطوف على (خِتامُهُ مِسْكٌ) صفة أخرى لرحيق ، أي : ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم ، وهو شراب ينصبّ عليهم من علو ، وهو أشرف شراب الجنة ، وأصل التسنيم في اللغة : الارتفاع ، فهي عين ماء تجري من علوّ إلى أسفل ، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه ، ومنه تسنيم

__________________

(١). الصافات : ٦١.

٤٨٨

القبور ، ثم بين ذلك فقال : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) وانتصاب عينا على المدح. وقال الزجاج : على الحال ، وإنما جاز أن تكون عينا حالا مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله : (يَشْرَبُ بِهَا) وقال الأخفش : إنها منصوبة بيسقون ، أي : يسقون عينا ، أو من عين. وقال الفراء : إنها منصوبة بتسنيم على أنه مصدر مشتق من السنام كما في قوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ـ يَتِيماً) (١) والأوّل أولى ، وبه قال المبرد. قيل والباء في بها زائدة ، أي : يشربها ، أو بمعنى من ، أي : يشرب منها. قال ابن زيد : بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش ، قيل : يشرب المقربون صرفا ، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين.

ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) وهم كفار قريش ومن وافقهم على الكفر (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي : كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ، ويسخرون منهم (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) أي : مرّ المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم (يَتَغامَزُونَ) من الغمز ، وهو الإشارة بالجفون والحواجب ، أي : يغمز بعضهم بعضا ، ويشيرون بأعينهم وحواجبهم ، وقيل : يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به (وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي : الكفار (إِلى أَهْلِهِمُ) من مجالسهم (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي : معجبين بما هم فيه متلذّذين به ، يتفكهون بذكر المؤمنين والطعن فيهم والاستهزاء بهم والسخرية منهم. والانقلاب : الانصراف. قرأ الجمهور : «فاكهين» وقرأ حفص وابن القعقاع والأعرج والسلمي «فكهين» بغير ألف. قال الفراء : هما لغتان ، مثل طمع وطامع ، وحذر وحاذر. وقد تقدّم بيانه في سورة الدخان أن الفكه : الأشر البطر ، والفاكه : الناعم المتنعم (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي : إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) في اتباعهم محمدا ، وتمسّكهم بما جاء به ، وتركهم التنعم الحاضر ، ويجوز أن يكون المعنى : وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول ، والأوّل أولى ، وجملة (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) في محل نصب على الحال من فاعل قالوا ، أي : قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا) المراد باليوم : اليوم الآخر (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) والمعنى : أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، وجملة (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) في محل نصب على الحال من فاعل يضحكون ، أي : يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع ، وقد تقدّم تفسير الأرائك قريبا. قال الواحدي : قال المفسرون : إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار ، فضحكوا منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا. وقال أبو صالح : يقال لأهل النار اخرجوا ويفتح لهم أبوابها ، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذلك قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) الجملة مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك

__________________

(١). البلد : ١٤ ـ ١٥.

٤٨٩

من المؤمنين والاستهزاء بهم ، والاستفهام للتقرير ، وثوّب بمعنى أثيب ، والمعنى : هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين؟ وقيل : الجملة في محل نصب بينظرون ، وقيل هي على إضمار القول ، أي : يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوّبت الكفار ، والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ويطلق على الخير والشرّ.

وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قال : روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء ، ففتح لها أبواب السماء وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى تنتهي بها إلى العرش وتعرج الملائكة ، فيخرج لها من تحت العرش رقّ فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (لَفِي عِلِّيِّينَ) قال : الجنة ، وفي قوله : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) قال : أهل السماء. وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين». وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) قال : عين في الجنة يتوضّؤون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم. وأخرج عبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر ، والبيهقي في البعث ، عن ابن مسعود في قوله : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) قال : الرحيق : الخمر ، والمختوم : يجدون عاقبتها طعم المسك. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عنه في قوله : (مَخْتُومٍ) قال : ممزوج (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال : طعمه وريحه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس في قوله : (مِنْ رَحِيقٍ) قال : خمر ، وقوله : (مَخْتُومٍ) قال : ختم بالمسك. وأخرج الفريابي والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال : ليس بخاتم يختم به ، ولكن خلطه مسك ، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول : خلطه من الطيب كذا وكذا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن أبي الدرداء (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال : هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم ، ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (تَسْنِيمٍ) أشرف شراب أهل الجنة ، وهو صرف للمتقين ، ويمزج لأصحاب اليمين. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود (مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال : عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين ويشربها المقرّبون صرفا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال : هذا مما قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١).

* * *

__________________

(١). السجدة : ١٧.

٤٩٠

سورة الانشقاق

وهي ثلاث وعشرون آية ، وقيل خمس وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الانشقاق بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي رافع قال : «صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد ، فقلت له ، فقال : سجدت خلف أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه». وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال : «سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)». وأخرج ابن خزيمة ، والروياني في مسنده ، والضياء المقدسي في المختارة ، عن بريدة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الظهر (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ونحوها».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) هو كقوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) في إضمار الفعل وعدمه. قال الواحدي : قال المفسرون : انشقاقها من علامات القيامة ، ومعنى انشقاقها : انفطارها بالغمام الأبيض كما في قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) (٢) وقيل : تنشقّ من المجرّة ، والمجرّة باب السماء.

واختلف في جواب إذا ، فقال الفراء : إنه أذنت ، والواو زائدة ، وكذلك ألقت. قال ابن الأنباري : هذا غلط ، لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى إذا كقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (٣) ومع لما كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ـ وَنادَيْناهُ) (٤) ولا تقحم مع غير هذين. وقيل : إن الجواب

__________________

(١). التكوير : ١.

(٢). الفرقان : ٢٥.

(٣). الزمر : ٧٣.

(٤). الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤.

٤٩١

قوله : (فَمُلاقِيهِ) أي : فأنت ملاقيه ، وبه قال الأخفش. وقال المبرد : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، أي : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقت. وقال المبرد أيضا : إن الجواب قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وبه قال الكسائي ، والتقدير : إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا ، وقيل : هو (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) على إضمار الفاء ، وقيل : إنه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) على إضمار القول ، أي : يقال له يا أيها الإنسان ، وقيل : الجواب محذوف تقديره بعثتم ، أو لاقى كلّ إنسان عمله ، وقيل : هو ما صرّح به في سورة التكوير ، أي : علمت نفس هذا ، على تقدير أن إذا شرطية ، وقيل : ليست بشرطية وهي منصوبة بفعل محذوف ، أي : اذكر ، أو هي مبتدأ وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة ، وتقديره : وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض ، ومعنى (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أنها أطاعته في الانشقاق ، من الإذن ، وهو : الاستماع للشيء والإصغاء إليه (وَحُقَّتْ) أي : وحقّ لها أن تطيع وتنقاد وتسمع ، ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وقول الآخر :

إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا

منّي وما أذنوا من صالح دفنوا

وقيل : المعنى : وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق ، أي : جعلها حقيقة بذلك. قال الضحاك : حقّت : أطاعت ، وحقّ لها أن تطيع ربها لأنه خلقها ، يقال : فلان محقوق بكذا ، ومعنى طاعتها : أنها لا تمتنع ممّا أراده الله بها. قال قتادة : حق لها أن تفعل ذلك ، ومن هذا قول كثير :

فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا

وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي : بسطت كما تبسط الأدم ؛ ودكت جبالها حتى صارت قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. قال مقاتل : سوّيت كمدّ الأديم فلا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها ، وقيل : مدّت : زيد في سعتها ، من المدد ، وهو الزيادة (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي : أخرجت ما فيها من الأموات والكنوز وطرحتهم إلى ظهرها (وَتَخَلَّتْ) من ذلك. قال سعيد بن جبير : ألقت ما في بطنها من الموتى وتخلت ممّن على ظهرها من الأحياء ، ومثل هذا قوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (١) (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي : سمعت وأطاعت لما أمرها به من الإلقاء والتخلي (وَحُقَّتْ) أي : وجعلت حقيقة بالاستماع لذلك والانقياد له ، وقد تقدّم بيان معنى الفعلين قبل هذا (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) المراد جنس الإنسان فيشمل المؤمن والكافر ، وقيل : هو الإنسان الكافر ، والأوّل أولى لما سيأتي من التفصيل (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الكدح في كلام العرب : السعي في الشيء بجهد من غير فرق بين أن يكون ذلك الشيء خيرا أو شرّا ، والمعنى :

__________________

(١). الزلزلة : ٢.

٤٩٢

أنك ساع إلى ربك في عملك ، أو إلى لقاء ربك ، مأخوذ من كدح جلده ؛ إذا خدشه قال ابن مقبل :

وما الدّهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

قال قتادة والضحاك والكلبي : عامل لربك عملا (فَمُلاقِيهِ) أي : فملاق عملك ، والمعنى : أنه لا محالة ملاق لجزاء عمله وما يترتب عليه من الثواب والعقاب. قال القتبي : معنى الآية : إنك كادح ، أي : عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك ، والملاقاة بمعنى اللقاء ، أي : تلقى ربك بعملك ، وقيل : فملاق كتاب عملك ، لأن العمل قد انقضى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وهم المؤمنون (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) لا مناقشة فيه. قال مقاتل : لأنها تغفر ذنوبه ولا يحاسب بها. وقال المفسرون : هو أن تعرض عليه سيئاته ثم يغفرها الله ، فهو الحساب اليسير (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي : وينصرف بعد الحساب اليسير إلى أهله الذين هم في الجنة من عشيرته ، أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد وقد سبقوه إلى الجنة ، أو إلى من أعدّه الله له في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين ، أو إلى جميع هؤلاء مسرورا مبتهجا بما أوتي من الخير والكرامة (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) قال الكلبي : لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ، وتكون يده اليسرى خلفه. وقال قتادة ومقاتل : تفكّ ألواح صدره وعظامه ، ثم تدخل يده وتخرج من ظهره فيأخذ كتابه كذلك (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي : إذا قرأ كتابه قال : يا ويلاه! يا ثبوراه! والثبور : الهلاك (وَيَصْلى سَعِيراً) أي : يدخلها ويقاسي حرّ نارها وشدّتها. قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديدها ، وروى إسماعيل المكي عن ابن كثير وكذلك خارجة عن نافع وكذلك روى إسماعيل المكي عن ابن كثير أنهم قرءوا بضم الياء وإسكان الصاد من أصلى يصلى (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي كان بين أهله في الدنيا مسرورا باتباع هواه وركوب شهوته بطرا أشرا لعدم حضور الآخرة بباله ، والجملة تعليل لما قبلها ، وجملة (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) تعليل لكونه كان في الدنيا في أهله مسرورا ، والمعنى : أن سبب ذلك السرور ظنه بأنه لا يرجع إلى الله ولا يبعث للحساب والعقاب لتكذيبه بالبعث وجحده للدار الآخرة ، وأن في قوله : (أَنْ لَنْ يَحُورَ) هي المخففة من الثقيلة سادّة مع ما في حيزها مسدّ مفعولي ظنّ ، والحور في اللغة : الرجوع ، يقال : حار يحور ؛ إذا رجع ، وقال الراغب : الحور : التردّد في الأمر ، ومنه : نعوذ بالله من الحور بعد الكور ، أي : من التردّد في الأمر بعد المضيّ فيه ، ومحاورة الكلام مراجعته ، والمحار : المرجع والمصير. قال عكرمة وداود بن أبي هند : يحور كلمة بالحبشية ومعناها يرجع. قال القرطبي : الحور في كلام العرب : الرجوع ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة ، وكذلك الحور بالضم ، وفي المثل : «حور في محارة» أي : نقصان في نقصان ، ومنه قول الشاعر (١) :

والذّمّ يبقى وزاد القوم في حور (٢)

__________________

(١). هو سبيع بن الخطيم.

(٢). وصدر البيت : واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا.

٤٩٣

والحور أيضا الهلكة ، ومنه قول الراجز (١) :

في بئر لا حور سرى وما شعر

قال أبو عبيدة : أي في بئر حور ، ولا زائدة (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) «بلى» إيجاب للمنفيّ بلن ، أي : بلى ليحورنّ وليبعثنّ. ثم علّل ذلك بقوله : (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي : كان به وبأعماله عالما لا يخفى عليه منها خافية. قال الزجاج : كان به بصيرا قبل أن يخلقه عالما بأن مرجعه إليه (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) «لا» زائدة كما تقدّم في أمثال هذه العبارة ، وقد قدّمنا الاختلاف فيها في سورة القيامة فارجع إليه ، والشفق : الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة. قال الواحدي : هذا قول المفسرين وأهل اللغة جميعا. قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق ؛ وكان أحمر ، وحكاه القرطبي عن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء. وقال أسد بن عمرو وأبو حنيفة ؛ في إحدى الروايتين عنه : إنه البياض ، ولا وجه لهذا القول ولا متمسك له لا من لغة العرب ولا من الشرع. قال الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة. قال في الصحاح : الشفق : بقية ضوء الشمس وحمرتها في أوّل الليل إلى قريب العتمة ، وكتب اللغة والشرع مطبقة على هذا ، ومنه قول الشاعر :

قم يا غلام أعني غير مرتبك

على الزّمان بكأس حشوها شفق

وقال آخر :

وأحمر اللّون كمحمرّ الشّفق

وقال مجاهد : الشفق : النهار كله ، ألا تراه قال : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) وقال عكرمة : هو ما بقي من النهار ، وإنما قالا هذا لقوله بعده : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) فكأنه تعالى أقسم بالضياء والظلام ، ولا وجه لهذا ، على أنه قد روي عن عكرمة أنه قال : الشفق : الّذي يكون بين المغرب والعشاء ، وروي عن أسد بن عمرو الرجوع (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) الوسق عند أهل اللغة : ضمّ الشيء بعضه إلى بعض ، يقال : استوسقت الإبل ؛ إذا اجتمعت وانضمّت ، والراعي يسقها ، أي : يجمعها. قال الواحدي : المفسرون يقولون : وما جمع وضمّ وحوى ولف ، والمعنى : أنه جمع وضمّ ما كان منتشرا بالنهار في تصرّفه ، وذلك أن الليل إذا أقبل آوى كل شيء إلى مأواه ، ومنه قول ضابئ بن الحارث البرجميّ :

فإنّي وإيّاكم وشوقا إليكم

كقابض شيئا لم تنله أنامله (٢)

وقال عكرمة : (وَما وَسَقَ) أي : وما ساق من شيء إلى حيث يأوي ، فجعله من السوق لا من الجمع ، وقيل : (وَما وَسَقَ) أي : وما جنّ وستر ، وقيل : «وما وسق» أي : وما حمل ، وكل شيء حملته فقد

__________________

(١). هو العجاج.

(٢). في تفسير القرطبي : كقابض ماء لم تسقه أنامله.

٤٩٤

وسقته ، والعرب تقول : لا أحمله ما وسقت عيني الماء ، أي : حملته ، ووسقت الناقة تسق وسقا ، أي : حملت. قال قتادة والضحاك ومقاتل بن سليمان : (وَما وَسَقَ) : وما حمل من الظلمة ، أو حمل من الكواكب. قال القشيري : ومعنى حمل : ضمّ وجمع ، والليل يحمل بظلمته كل شيء. وقال سعيد بن جبير : (وَما وَسَقَ) أي : وما عمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار ، والأوّل أولى (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي : اجتمع وتكامل. وقال الفراء : اتساقه امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثالث عشر ورابع عشر إلى ست عشرة ، وقد افتعل من الوسق الّذي هو الجمع. قال الحسن : اتسق : امتلأ واجتمع. وقال قتادة : استدار ، يقال : وسقته فاتّسق ، كما يقال : وصلته فاتصل ، ويقال : أمر فلان متّسق ، أي : مجتمع منتظم ، ويقال : اتسق الشيء ؛ إذا تتابع (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) هذا جواب القسم. قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وأبو عمرو (لَتَرْكَبُنَ) بفتح الموحدة على أنه خطاب للواحد ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يصلح له ، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ومسروق وأبي وائل ومجاهد والنخعي والشعبي وسعيد بن جبير وقرأ الباقون بضم الموحدة خطابا للجمع وهم الناس. قال الشعبي ومجاهد : لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء. قال الكلبي : يعني تصعد فيها ، وهذا على القراءة الأولى ، وقيل : درجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة ، في القرب من الله ورفعة المنزلة ، وقيل : المعنى : لتركبنّ حالا بعد حال كل حالة منها مطابقة لأختها في الشدّة ، وقيل المعنى : لتركبنّ أيها الإنسان حالا بعد حال من كونك نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا ، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الثانية قالا : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ عمر «ليركبنّ» بالتحتية وضم الموحدة على الإخبار ، وروي عنه وعن ابن عباس أنهما قرأ بالغيبة وفتح الموحدة ، أي : ليركبنّ الإنسان ، وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ بكسر حرف المضارعة وهي لغة ، وقرئ بفتح حرف المضارعة وكسر الموحدة على أنه خطاب للنفس. وقيل : إن معنى الآية : ليركبنّ القمر أحوالا من سرار واستهلال ، وهو بعيد. قال مقاتل : (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) يعني الموت والحياة. وقال عكرمة : رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شابّ ثم شيخ. ومحل عن طبق النصب على أنه صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا لطبق ، أو على الحال من ضمير لتركبنّ ، أي : مجاوزين ، أو مجاوزا (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الاستفهام للإنكار ، والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة أو من غيرها على الاختلاف السابق ، والمعنى : أيّ شيء للكفار لا يؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من القرآن مع وجود موجبات الإيمان بذلك (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) هذه الجملة الشرطية وجوابها في محل نصب على الحال ، أي : أي مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن؟ قال الحسن وعطاء والكلبي ومقاتل : ما لهم لا يصلون؟ وقال أبو مسلم : المراد الخضوع والاستكانة. وقيل : المراد نفس السجود المعروف بسجود التلاوة. وقد وقع الخلاف هل هذا الموضع من مواضع السجود عند التلاوة أم لا؟ وقد تقدّم في فاتحة هذه السورة الدليل على السجود (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي : يكذبون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من الكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث

٤٩٥

والثواب والعقاب (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي : بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب ، وقال مقاتل : يكتمون من أفعالهم. وقال ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة ، مأخوذ من الوعاء الّذي يجمع ما فيه ، ومنه قول الشاعر :

الخير أبقى وإن طال الزمان به

والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد

ويقال : وعاه : حفظه ، ووعيت الحديث أعيه وعيا ، ومنه : (أُذُنٌ واعِيَةٌ). (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : اجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم ؛ لأن علمه سبحانه بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم ، والأليم : المؤلم الموجع ، والكلام خارج مخرج التهكّم بهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) هذا الاستثناء منقطع ، أي : لكن الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح لهم أجر عند الله غير ممنون ، أي : غير مقطوع ، يقال : مننت الحبل ؛ إذا قطعته ، ومنه قول الشاعر :

فترى خلفهنّ من سرعة الرّج

ع منينا كأنّه أهباء

قال المبرد : المنين : الغبار ؛ لأنها تقطعه وراءها ، وكل ضعيف منين وممنون. وقيل : معنى غير ممنون أنه لا يمنّ عليهم به ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا إن أريد من آمن منهم.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) قال : تنشقّ السماء من المجرّة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) قال : سمعت حين كلمها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) قال : أطاعت وحقّت بالطّاعة. وأخرج الحاكم عنه وصحّحه قال : سمعت وأطاعت (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) قال : يوم القيامة (وَأَلْقَتْ ما فِيها) قال : أخرجت ما فيها من الموتى (وَتَخَلَّتْ) عنهم. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (وَأَلْقَتْ ما فِيها) قال : سواري الذهب. وأخرج الحاكم ـ قال السيوطي : بسند جيد ـ عن جابر قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تمدّ الأرض يوم القيامة مدّ الأديم ، ثم لا يكون لابن آدم فيها إلا موضع قدميه».

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) قال : عامل عملا (فَمُلاقِيهِ) قال : فملاق عملك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس أحد يحاسب إلا هلك ، فقلت : أليس يقول الله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)؟ قال : ليس ذلك بالحساب ولكن ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب هلك». وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في بعض صلاته : «اللهم حاسبني حسابا يسيرا ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال : أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه ، إنه من نوقش الحساب هلك» وفي بعض ألفاظ الحديث الأوّل وهذا الحديث الآخر : «من نوقش الحساب عذّب». وأخرج البزار ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من كنّ فيه يحاسبه الله حسابا يسيرا ويدخله الجنة

٤٩٦

برحمته : تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (يَدْعُوا ثُبُوراً) قال : الويل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) قال : يبعث. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (أَنْ لَنْ يَحُورَ) قال : أن لن يرجع. وأخرج سمويه في فوائده عن عمر بن الخطاب قال : الشفق الحمرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : الشفق النهار كله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) قال : وما دخل فيه. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه (وَما وَسَقَ) قال : وما جمع. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال : إذا استوى. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) قال : وما جمع ، أما سمعت قوله :

إنّ لنا قلائصا نقانقا

مستوسقات لو يجدن سائقا

وأخرج عبد بن حميد عنه (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال : ليلة ثلاثة عشر. وأخرج عبد بن حميد عن عمر ابن الخطاب (لَتَرْكَبُنَ) قال : حالا بعد حال. وأخرج البخاري عن ابن عباس (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال ، قال : هذا نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج أبو عبيد في القراءات وسعيد بن منصور وابن منيع وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) يعني بفتح الباء من تركبنّ. وقال : يعني نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حالا بعد حال. وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عنه قال : (لَتَرْكَبُنَ) يا محمد السماء (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ). وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر ، والحاكم في الكنى ، والطبراني وابن مندة وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ : (لَتَرْكَبُنَ) يعني بفتح الباء. وقال : لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عنه (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال : يعني السماء تنفطر ، ثم تنشق ، ثم تحمرّ. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عنه أيضا في الآية قال : السماء تكون كالمهل ، وتكون وردة كالدّهان ، وتكون واهية ، وتشقق فتكون حالا بعد حال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) قال : يسرّون.

* * *

٤٩٧

سورة البروج

هي اثنتان وعشرون آية ، وهي مكية بلا خلاف ، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) بمكة. وأخرج أحمد قال : حدّثنا عبد الصمد ، حدّثنا رزيق بن أبي سلمي ، حدّثنا أبو المهزّم ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج ، والسماء والطارق. وأخرج الطيالسي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وأحمد والدارمي وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن حبان والطبراني ، والبيهقي في سننه ، عن جابر بن سمرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق ، والسماء ذات البروج.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) قد تقدّم الكلام في البروج عند تفسير قوله : (جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) (١) قال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك : هي النجوم ، والمعنى : والسماء ذات النجوم. وقال عكرمة ومجاهد أيضا : هي قصور في السماء. وقال المنهال بن عمرو : ذات الخلق الحسن. وقال أبو عبيدة ويحيى بن سلام وغيرهما : هي المنازل للكواكب ، وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا ، وهي الحمل ، والثّور ، والجوزاء ، والسّرطان ، والأسد ، والسّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت. والبروج في كلام العرب : القصور : ومنه قوله : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٢) شبهت منازل هذه النجوم بالقصور لكونها تنزل فيها ، وقيل : هي أبواب السماء ، وقيل : هي منازل القمر ، وأصل

__________________

(١). الفرقان : ٦١.

(٢). النساء : ٧٨.

٤٩٨

البرج : الظهور ، سمّيت بذلك لظهورها (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي : الموعود به ، وهو يوم القيامة. قال الواحدي : في قول جميع المفسرين (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) المراد بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق ، أي : يحضر فيه ، والمراد بالمشهود ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة ، وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه ، والمشهود : يوم عرفة ؛ لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج ، وتحضره الملائكة. قال الواحدي : وهذا قول الأكثر. وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب : الشاهد : يوم التروية ، والمشهود : يوم عرفة. وقال النخعي : الشاهد : يوم عرفة ، والمشهود : يوم النحر ، وقيل : الشاهد : هو الله سبحانه. وبه قال الحسن وسعيد بن جبير ، لقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وقوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (١) وقيل : الشاهد : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٣) وقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٤) وقيل : الشاهد : جميع الأنبياء لقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (٥) وقيل : هو عيسى ابن مريم لقوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (٦) والمشهود على هذه الأقوال الثلاثة إما : أمة محمد ، أو : أمم الأنبياء ، أو : أمة عيسى. وقيل : الشاهد آدم. والمشهود ذريته. وقال محمد بن كعب : الشاهد : الإنسان لقوله : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٧) وقال مقاتل : أعضاؤه لقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨) وقال الحسين بن الفضل : الشاهد : هذه الأمة ، والمشهود : سائر الأمم لقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٩) وقيل : الشاهد : الحفظة ، والمشهود : بنو آدم ، وقيل : الأيام والليالي. وقيل : الشاهد : الخلق يشهدون لله عزوجل بالوحدانية ، والمشهود له بالوحدانية : هو الله سبحانه ، وسيأتي بيان ما ورد في تفسير الشاهد والمشهود ، وبيان ما هو الحقّ إن شاء الله (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) هذا جواب القسم ، واللام فيه مضمرة ، وهو الظاهر ، وبه قال الفراء وغيره ، وقيل تقديره : لقد قتل ، فحذفت اللام وقد ، وعلى هذا تكون الجملة خبرية ، والظاهر أنها دعائية ؛ لأن معنى قتل لعن. قال الواحدي : في قول الجميع ، والدعائية لا تكون جوابا للقسم ، فقيل : الجواب قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) وقيل : قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) وبه قال المبرد ، واعترض عليه بطول الفصل ، وقيل : هو مقدّر يدلّ عليه قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) كأنه قال : أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وقيل : تقدير الجواب : لتبعثنّ ، واختاره ابن الأنباري. وقال أبو حاتم السجستاني وابن الأنباري أيضا : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج ، واعترض عليه بأنه لا يجوز أن

__________________

(١). الأنعام : ١٩.

(٢). النساء : ٤١.

(٣). الأحزاب : ٤٥.

(٤). البقرة : ١٤٣.

(٥). النساء : ٤١.

(٦). المائدة : ١١٧.

(٧). الإسراء : ١٤.

(٨). النور : ٢٤.

(٩). البقرة : ١٤٣.

٤٩٩

يقال : والله قام زيد ، والأخدود : الشقّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخدّ لمجاري الدموع ، والمخدة لأن الخد يوضع عليها ، ويقال : تخدّد وجه الرجل ؛ إذا صارت فيه أخاديد من خراج ، ومنه قول طرفة :

ووجه كأنّ الشمس ألقت رداءها

عليه نقيّ اللون لم يتخدّد

وسيأتي بيان حديث أصحاب الأخدود إن شاء الله. قرأ الجمهور : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) بجر النار على أنها بدل اشتمال من الأخدود ؛ لأن الأخدود مشتمل عليها ، وذات الوقود وصف لها بأنها نار عظيمة ، والوقود : الحطب الّذي توقد به ، وقيل : هو بدل كل من كل ، لا بدل اشتمال. وقيل : إن النار مخفوضة على الجوار ، كذا حكى مكي عن الكوفيين. وقرأ الجمهور بفتح الواو من الوقود ، وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر ابن عاصم بضمها. وقرأ أشهب العقيلي وأبو حيوة وأبو السّمّال العدوي وابن السّميقع وعيسى برفع النار على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي النار ، أو على أنها فاعل فعل محذوف ، أي : أحرقتهم النار (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) العامل في الظرف «قتل» أي : لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين على ما يدنو منها ، ويقرب إليها. قال مقاتل : يعني عند النار قعود يعرضونهم على الكفر. وقال مجاهد : كانوا قعودا على الكراسي عند الأخدود (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي : الذين خدّوا الأخدود ، وهم الملك وأصحابه ، على ما يفعلون بالمؤمنين من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم شهود ، أي : حضور ، أو يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به. وقيل : يشهدون بما فعلوا يوم القيامة ، ثم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم. وقيل : على بمعنى مع ، والتقدير : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود. قال الزجاج : أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي : ما أنكروا عليهم ولا عابوا منهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي : إلا أن صدّقوا بالله الغالب المحمود في كل حال. قال الزجاج : ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم ، وهذا كقوله : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (١) وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ ، كما في قوله :

لا عيب فيهم سوى أنّ النزيل بهم

يسلو عن الأهل والأوطان والحشم

وقول الآخر :

ولا عيب فيها غير شكلة عينها

كذاك عتاق الطّير شكل عيونها

قرأ الجمهور : (نَقَمُوا) بفتح النون ، وقرأ أبو حيوة بكسرها ، والفصيح الفتح. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على العظم والفخامة فقال : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومن كان هذا شأنه ، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحد (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) من فعلهم بالمؤمنين لا يخفى عليه منهم خافية ،

__________________

(١). المائدة : ٥٩.

٥٠٠