فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

فكيف يخفى عليه بطلان ما تدّعونه من الإيمان. والجملة من محل النصب على الحال من مفعول تعلمون (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا تخفى عليه من ذلك خافية ، وقد علم ما تبطنونه من الكفر وتظهرونه من الإسلام لخوف الضرّاء ورجاء النفع. ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المنّ عليه منهم بما يدّعونه من الإسلام ، فقال : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي : يعدّون إسلامهم منّة عليك ، حيث قالوا : جئناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي : لا تعدّوه عليّ ، فإن الإسلام هو المنّة التي لا يطلب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه ، ولهذا قال : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي : أرشدكم إليه وأراكم طريقه ، سواء وصلتم إلى المطلوب أم لم تصلوا إليه ، وانتصاب إسلامكم إما على أنه مفعول به على تضمين يمنون معنى يعدّون ، أو بنزع الخافض ، أي : لأن أسلموا ، وهكذا قوله : (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) فإنه يحتمل الوجهين (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تدّعونه ، والجواب محذوف يدلّ عليه ما قبله ؛ أي : إن كنتم صادقين فلله المنّة عليكم ، قرأ الجمهور : (أَنْ هَداكُمْ) بفتح أن ، وقرأ عاصم بكسرها. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لا يخفى عليه من ذلك شيء ، فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشرّ شرّا. قرأ الجمهور (تَعْمَلُونَ) على الخطاب ، وقرأ ابن كثير على الغيبة.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن أبي مليكة قال : لما كان يوم الفتح رقي بلال فأذّن على الكعبة ، فقال بعض الناس : أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟! وقال بعضهم : إن يسخط الله هذا يغيّره ، فنزلت : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى). وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج أبو داود في مراسيله ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن الزهري قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني بياضة أن يزوّجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا : يا رسول الله ، أنزوّج بناتنا موالينا؟ فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب أن هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) هي مكية ، وهي للعرب خاصة الموالي ، أي قبيلة لهم ، وأي شعاب ، وقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قال : أتقاكم للشرك. وأخرج البخاري وابن جرير عن ابن عباس قال : الشعوب : القبائل العظام ، والقبائل : البطون. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : الشعوب : الجماع ، والقبائل : الأفخاذ التي يتعارفون بها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضا قال : القبائل الأفخاذ ، والشعوب : الجمهور مثل مضر. وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّ الناس أكرم؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : فأكرم الناس يوسف نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل الله. قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا : نعم ، قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» وقد وردت أحاديث في الصحيح وغيره أن التقوى هي التي يتفاضل بها العباد.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) قال : أعراب

٨١

بني أسد وخزيمة ، وفي قوله : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) استسلمنا (١) مخافة القتل والسبي. وأخرج ابن جرير عن قتادة : أنها نزلت في بني أسد. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند حسن ، عن عبد الله بن أبي أوفى : أن ناسا من العرب قالوا : يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فأنزل الله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا). وأخرج النسائي والبزار وابن مردويه عن ابن عباس نحوه ، وذكر أنهم بنو أسد.

* * *

__________________

(١). من الدر المنثور (٧ / ٥٨٢)

٨٢

سورة ق

وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا آية ، وهي قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) وهي أوّل المفصّل على الصّحيح ، وقيل : من الحجرات. وأخرج ابن الضّريس والنحّاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة ق بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وقد أخرج مسلم وغيره عن قطبة بن مالك قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الفجر في الركعة الأولى ق والقرآن المجيد» وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن أبي واقد الليثيّ قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العيد بقاف واقتربت». وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن أم هشام ابنة حارثة قالت : ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من فيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وهو في صحيح مسلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

قوله : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) الكلام في إعراب هذا كالكلام الّذي قدّمنا في قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). وفي قوله : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) واختلف في ق ، فقال الواقدي : قال المفسرون : هو اسم جبل يحيط بالدنيا من زبرجد والسماء مقبيّة عليه ، وهو وراء الحجاب الّذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة (١). قال الفراء : كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في ق لأنه اسم ، وليس بهجاء. قال :

__________________

(١). قال أبو حيان : (ق) حرف هجاء ، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة ، لا دليل على صحة شيء منها.

٨٣

ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كقول القائل :

قلت لها قفي لنا قالت قاف

أي : أنا واقفة. وحكى الفراء والزجاج : أن قوما قالوا معنى ق : قضي الأمر وقضي ما هو كائن ، كما قيل في حم : حمّ الأمر. وقيل : هو اسم من أسماء الله أقسم به. وقال قتادة : هو اسم من أسماء القرآن. وقال الشعبي : فاتحة السورة. وقال أبو بكر الورّاق معناه : قف عند أمرنا ونهينا ولا تتعداهما ، وقيل غير ذلك ممّا هو أضعف منه. والحق أنه من المتشابه الّذي استأثر الله بعلمه كما حققنا ذلك في فاتحة سورة البقرة ، ومعنى المجيد : أنه ذو مجد وشرف على سائر الكتب المنزلة. وقال الحسن : الكريم ، وقيل : الرفيع القدر ، وقيل : الكبير القدر ، وجواب القسم قال الكوفيون هو قوله : (بَلْ عَجِبُوا) وقال الأخفش : جوابه محذوف ، كأنه قال : ق والقرآن المجيد لتبعثن ، يدلّ عليه (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) وقال ابن كيسان جوابه : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) وقيل هو : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) بتقدير اللام ، أي : لقد علمنا ، وقيل : هو محذوف وتقديره أنزلناه إليك لتنذر ، كأنه قيل ق والقرآن المجيد أنزلناه إليك لتنذر به الناس. قرأ الجمهور قاف بالسكون. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم بكسر الفاء. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء. وقرأ هارون ومحمد بن السّميع بالضم (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) بل للإضراب عن الجواب على اختلاف الأقوال ، وأن في موضع نصب على تقدير : لأن جاءهم. والمعنى : بل عجب الكفار لأن جاءهم منذر منهم وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكتفوا بمجرد الشك والردّ ، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة ، وقيل : هو إضراب عن وصف القرآن بكونه مجيدا. وقد تقدم تفسير هذا في سورة ص. ثم فسر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) وفيه زيادة تصريح وإيضاح. قال قتادة : عجبهم أن دعوا إلى إله واحد ، وقيل : تعجبهم من البعث ، فيكون لفظ (هذا) إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من قوله : (أَإِذا مِتْنا) إلخ ، والأول أولى. قال الرازي : الظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر ، ثم قالوا : (أَإِذا مِتْنا) وأيضا قد وجد ها هنا بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدّي معنى التعجّب ، وهو قولهم : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) فإنه استبعاد وهو كالتعجب ، فلو كان التعجب بقولهم (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) عائدا إلى قولهم : «أإذا» لكان كالتكرار ، فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك : هذا شيء عجيب أنه يعود إلى مجيء المنذر ، فإن تعجبهم منه علم من قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ) فقولهم : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) يكون تكرارا ، فنقول : ذلك ليس بتكرار ، بل هو تقرير ؛ لأنه لما قال بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجّب الإنسان ممّا لا يكون عجبا ، كقوله : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ويقال في العرف : لا وجه لتعجّبك مما ليس بعجب ، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتعجبكم ، فقالوا : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) فكيف لا نعجب منه ، ويدلّ على ذلك قوله ها هنا : (فَقالَ الْكافِرُونَ) بالفاء ، فإنها تدلّ على أنه مترتّب على ما قدّم ، قرأ الجمهور (أَإِذا مِتْنا) بالاستفهام. وقرأ ابن عامر في رواية عنه وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزة واحدة ، فيحتمل الاستفهام كقراءة الجمهور ، وهمزة الاستفهام مقدّرة ، ويحتمل أن معناه الإخبار ،

٨٤

والعامل في الظرف مقدّر ، أي : أيبعثنا ، أو أنرجع إذا متنا لدلالة ما بعده عليه ، هذا على قراءة الجمهور ، وأما على القراءة الثانية فجواب إذا محذوف ، أي : رجعنا ، وقيل : ذلك رجع ، والمعنى : استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم ترابا. ثم جزموا باستبعادهم للبعث فقالوا : (ذلِكَ) أي : البعث (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي : بعيد عن العقول أو الأفهام أو العادة أو الإمكان ، يقال : رجعته أرجعه رجعا ، ورجع هو يرجع رجوعا. ثم ردّ سبحانه ما قالوه فقال : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي : ما تأكل من أجسادهم فلا يضلّ عنّا شيء من ذلك ، ومن أحاط علمه بشيء حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور لا يصعب عليه البعث ولا يستبعد منه ، وقال السدّي : النقص هنا الموت ، يقول : قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى ؛ لأنّ من مات دفن ، فكأن الأرض تنقص من الأموات ، وقيل : المعنى : من يدخل في الإسلام من المشركين ، والأوّل أولى (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي : حافظ لعدّتهم وأسمائهم ولكلّ شيء من الأشياء ، وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : المراد بالكتاب هنا العلم والإحصاء ، والأوّل أولى. وقيل : حفيظ بمعنى محفوظ ، أي : محفوظ من الشياطين ، أو محفوظ فيه كل شيء. ثم أضرب سبحانه عن كلامهم الأوّل ، وانتقل إلى ما هو أشنع منه ، فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) فإنه تصريح منهم بالتكذيب بعد ما تقدّم عنهم من الاستبعاد ، والمراد بالحق هنا القرآن. قال الماوردي : في قول الجميع ، وقيل : هو الإسلام ، وقيل : محمد ، وقيل : النبوّة الثابتة بالمعجزات (لَمَّا جاءَهُمْ) أي : وقت مجيئه إليهم من غير تدبّر ولا تفكّر ولا إمعان نظر ، قرأ الجمهور : بفتح اللام وتشديد الميم. وقرأ الجحدري : بكسر اللام وتخفيف الميم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي : مختلط مضطرب ، يقولون مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن ؛ قاله الزجاج وغيره. وقال قتادة : مختلف. وقال الحسن : ملتبس ، والمعنى متقارب ، وقيل : فاسد ، والمعاني متقاربة. ومنه قولهم : مرجت أمانات الناس : أي فسدت ، ومرج الدين والأمر اختلط (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) أي : الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي كيف غفلوا عن النظر إلى السماء فوقهم (كَيْفَ بَنَيْناها) وجعلناها على هذه الصفة مرفوعة بغير عماد تعتمد عليه (وَزَيَّنَّاها) بما جعلنا فيها من المصابيح (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي : فتوق وشقوق وصدوع ، وهو جمع فرج ، ومنه قول امرئ القيس :

تسدّ به فرجها من دبر (١)

قال الكسائي : ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي : بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الرعد (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي : من كل صنف حسن. وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الحج (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) هما علّتان لما تقدّم منتصبان بالفعل الأخير منها ، أو بمقدّر ، أي : فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير ، قاله الزجاج. وقال أبو حاتم : انتصبا على المصدرية ، أي : جعلنا ذلك تبصرة وذكرى. والمنيب الراجع إلى الله بالتوبة ،

__________________

(١). وصدره : لها ذنب مثل ذيل العروس.

٨٥

المتدبر في بديع صنعه وعجائب مخلوقاته. وفي سياق هذه الآيات تذكير لمنكري البعث وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة ، وبيان لإمكان ذلك وعدم امتناعه ، فإن القادر على مثل هذه الأمور يقدر عليه ، وهكذا قوله : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أي : نزّلنا من السحاب ماء كثير البركة لانتفاع الناس به في غالب أمورهم (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) أي : أنبتنا بذلك الماء بساتين كثيرة (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي : ما يقتات ويحصد من الحبوب ، والمعنى : وحبّ الزرع الحصيد ، وخصّ الحبّ لأنه المقصود ، كذا قال البصريون. وقال الكوفيون : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع ، حكاه الفرّاء. قال الضحاك : حبّ الحصيد : البرّ والشعير ، وقيل : كل حبّ يحصد ويدّخر ويقتات (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) هو معطوف على جنات ؛ أي : وأنبتنا به النخل ، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في الجنات للدلالة على فضلها على سائر الأشجار ، وانتصاب باسقات على الحال ، وهي حال مقدّرة لأنها وقت الإنبات لم تكن باسقة. قال مجاهد وعكرمة وقتادة : الباسقات : الطوال ، وقال سعيد بن جبير : مستويات. وقال الحسن وعكرمة والفراء : مواقير حوامل ، يقال للشاة بسقت إذا ولدت ، والأشهر في لغة العرب الأوّل ، يقال : بسقت النخلة بسوقا ؛ إذا طالت ، ومنه قول الشاعر :

لنا خمر وليست خمر كرم

ولكن من نتاج الباسقات

كرام في السّماء ذهبن طولا

وفات ثمارها أيدي الجناة

وجملة (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) في محل نصب على الحال من النخل ، والطلع : هو أوّل ما يخرج من ثمر النخل ، يقال : طلع الطّلع طلوعا. والنّضيد : المتراكب الّذي نضّد بعضه على بعض ، وذلك قبل أن ينفتح فهو نضيد في أكمامه ، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد (رِزْقاً لِلْعِبادِ) انتصابه على المصدرية ، أي : رزقناهم رزقا ، أو على العلّة ، أي : أنبتنا هذه الأشياء للرزق (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي : أحيينا بذلك الماء بلدة مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع ، وجملة (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الّذي أحيا الله به الأرض الميتة ، قرأ الجمهور (مَيْتاً) على التخفيف ، وقرأ أبو جعفر وخالد بالتثقيل. ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) هم قوم شعيب كما تقدّم بيانه ، وقيل : هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى ، وهم من قوم عيسى. وقيل : هم أصحاب الأخدود. والرسّ : إما موضع نسبوا إليه ، أو فعل ، وهو حفر البئر ، يقال : رس ؛ إذا حفر بئرا (وَثَمُودُ ـ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) أي : فرعون وقومه (وَإِخْوانُ لُوطٍ) جعلهم إخوانه لأنهم كانوا أصهاره ، وقيل : هم من قوم إبراهيم ، وكانوا من معارف لوط (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) تقدّم الكلام على الأيكة ، واختلاف القراء فيها في سورة الشعراء مستوفى ، ونبيهم الّذي بعثه الله إليهم شعيب (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) هو تبّع الحميري الّذي تقدّم ذكره في قوله : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) واسمه سعد أبو كرب ، وقيل : أسعد. قال قتادة : ذمّ الله قوم تبع ، ولم يذمّه. (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) التنوين عوض عن المضاف إليه ؛ أي : كل واحد من هؤلاء كذّب رسوله الّذي أرسله الله إليه ، وكذب ما جاء به من الشرع ، واللام في الرسل تكون للعهد ،

٨٦

ويجوز أن تكون للجنس ؛ أي : كل طائفة من هذه الطوائف كذبت جميع الرسل ، وإفراد الضمير في كذب باعتبار لفظ كل ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأنه قيل له : لا تحزن ولا تكثر غمّك لتكذيب هؤلاء لك ، فهذا شأن من تقدّمك من الأنبياء ، فإن قومهم كذّبوهم ولم يصدّقهم إلا القليل منهم (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي : وجب عليهم وعيدي ، وحقّت عليهم كلمة العذاب ، وحلّ بهم ما قدّره الله عليهم من الخسف والمسخ والإهلاك بالأنواع التي أنزلها الله بهم من عذابه (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث الّذي أنكرته الأمم ؛ أي : أفعجزنا بالخلق حين خلقناهم أوّلا ولم يكونوا شيئا ، فكيف نعجز عن بعثهم ، يقال : عييت بالأمر ؛ إذا عجزت عنه ولم أعرف وجهه. قرأ الجمهور بكسر الياء الأولى بعدها ياء ساكنة. وقرأ ابن أبي عبلة بتشديد الياء من غير إشباع. ثم ذكر أنهم في شكّ من البعث ، فقال : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : في شك وحيرة واختلاط من خلق مستأنف ، وهو بعث الأموات ، ومعنى الإضراب أنهم غير منكرين لقدرة الله على الخلق الأوّل (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (ق) قال : هو اسم من أسماء الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : خلق الله من وراء هذه الأرض بحرا محيطا ، ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له : ق ، السماء الدنيا مرفرفة عليه ، ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ، ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ، ثم خلق وراء ذلك جبلا ، يقال له قاف ، السماء الثانية مرفرفة عليه ، حتى عدّ سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سماوات ، قال : وذلك قوله : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (١) قال ابن كثير : لا يصحّ سنده عن ابن عباس. وقال أيضا : وفيه انقطاع. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عنه أيضا قال : هو جبل ، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرّك ذلك العرق الّذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحرّكها ، فمن ثم يحرّك القرية دون القرية (٢). وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قال : الكريم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : القرآن المجيد ليس شيء أحسن منه ولا أفضل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) قال : أجسادهم وما يذهب منها. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : ما تأكل من لحومهم وعظامهم وأشعارهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال : المريج : الشيء المتغير. وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن قطبة قال : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الصبح ق ، فلما أتى على هذه الآية (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) فجعلت أقول : ما بسوقها؟ قال : طولها». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) قال : الطول. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) قال : متراكم بعضه على بعض. وأخرج

__________________

(١). لقمان : ٢٧.

(٢). هذا الكلام لا يستند إلى أصل شرعي ويتنافى مع الحقائق العلمية فلا يعتد به.

٨٧

ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) يقول : لم يعينا الخلق الأوّل ، وفي قوله : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) في شكّ من البعث.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر بعض القدرة الربانية. والمراد بالإنسان الجنس ، وقيل : آدم. والوسوسة هي في الأصل : الصوت الخفيّ ، والمراد بها هنا ما يختلج في سرّه وقلبه وضميره ، أي : نعلم ما يخفي ويكنّ في نفسه ، ومن استعمال الوسوسة في الصوت الخفيّ قول الأعشى :

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت (١)

فاستعمل لما خفي من حديث النفس (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) هو حبل العاتق ، وهو ممتدّ من ناحية حلقه إلى عاتقه ، وهما وريدان من عن يمين وشمال. وقال الحسن : الوريد الوتين ، وهو عرق معلّق بالقلب. وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان ، أي : نحن أقرب إليه من حبل وريده ، والإضافة بيانية ، أي : حبل هو الوريد. وقيل : الحبل هو نفس الوريد ، فهو من باب مسجد الجامع. ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكلّ به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) الظرف منتصب بما في (أَقْرَبُ) من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون منصوبا بمقدّر هو اذكر ، والمعنى : أنه أقرب إليه من حيل وريده حين يتلقى المتلقيان ، وهما الملكان الموكلان به ما يلفظ به وما يعمل به ، أي : يأخذان ذلك ويثبتانه ، والتلقي : الأخذ ، أي : نحن أعلم بأحواله غير محتاجين إلى الحفظة الموكّلين به ، وإنما جعلنا

__________________

(١). وعجزه : كما استعان بريح عشرق زجل.

٨٨

ذلك إلزاما للحجة وتوكيدا للأمر. قال الحسن وقتادة ومجاهد : المتلقيان : ملكان يتلقيان عملك أحد هما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. وقال مجاهد أيضا : وكل الله بالإنسان ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) إنما قال قعيد ولم يقل قعيدان وهما اثنان ، لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد. فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه ، كذا قال سيبويه ، كقول الشاعر (١) :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

وقول الفرزدق :

وأبي فكان وكنت غير غدور (٢)

أي : وكان غير غدور وكنت غير غدور ، وقال الأخفش والفراء : إن لفظ قعيد يصلح للواحد والاثنين والجمع ، ولا يحتاج إلى تقدير في الأوّل. قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة والنحو : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، والقعيد : المقاعد كالجليس بمعنى المجالس (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي : ما يتكلم من كلام ، فيلفظه ويرميه من فيه إلّا لديه ، أي : على ذلك اللافظ رقيب ، أي : ملك يرقب قوله ويكتبه ، والرقيب : الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الّذي يكتب ما يقوله من خير وشرّ ، فكاتب الخير هو ملك اليمين ، وكاتب الشرّ ملك الشمال. والعتيد : الحاضر المهيّأ. قال الجوهري : العتيد : الحاضر المهيأ ، يقال : عتّده تعتيدا وأعتده إعتادا ، أي : أعدّه ، ومنه : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) (٣) والمراد هنا أنه معدّ للكتابة مهيّأ لها (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) لما بين سبحانه أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت ، والمراد بسكرة الموت شدّته وغمرته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله ، ومعنى بالحق : أنه عند الموت يتضح له الحق ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد ، وقيل : الحق هو الموت ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : وجاءت سكرة الموت بالحق ، وكذا قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود. والسكرة : هي الحق ، فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين ، وقيل : الباء للملابسة كالتي في قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (٤) أي : متلبسة بالحق ، أي : بحقيقة الحال ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الموت ، والحيد : الميل ، أي : ذلك الموت الّذي كنت تميل عنه وتفرّ منه ، يقال : حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة ؛ مال عنه وعدل ، ومنه قول طرفة :

أبا منذر رمت الوفاء فهبته

وحدت كما حاد البعير عن الدّحض

__________________

(١). هو قيس بن الخطيم.

(٢). وصدره : إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى.

(٣). يوسف : ٣١.

(٤). المؤمنون : ٢٠.

٨٩

وقال الحسن : تحيد : تهرب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) عبّر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه ، وهذه هي النفخة الآخرة للبعث (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي : ذلك الوقت الّذي يكون فيه النفخ في الصور يوم الوعيد الّذي أوعد الله به الكفار. قال مقاتل : يعني بالوعيد العذاب في الآخرة ، وخصص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعا لتهويله (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي : جاءت كل نفس من النفوس معها من يسوقها ومن يشهد لها أو عليها.

واختلف في السائق والشهيد ، فقال الضحاك : السائق من الملائكة ، والشهيد من أنفسهم : يعني الأيدي والأرجل. وقال الحسن وقتادة : سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم : السائق قرينها من الشياطين ، سمّي سائقها لأنه يتبعها وإن لم يحثّها. وقال مجاهد : السائق والشهيد ملكان. وقيل : السائق الملك ، والشهيد العمل ، وقيل : السائق كاتب السيئات ، والشهيد كاتب الحسنات. ومحل الجملة النصب على الحال. (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي : يقال له : لقد كنت في غفلة من هذا ، والجملة في محل نصب على الحال من نفس أو مستأنفة ، كأنه قيل ما يقال له؟ قال الضحاك : والمراد بهذا المشركون لأنهم كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال ابن زيد : الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة. وقال أكثر المفسرين : المراد به جميع الخلق برّهم وفاجرهم ، واختار هذا ابن جرير. قرأ الجمهور بفتح التاء من (كُنْتَ) وفتح الكاف في غطاءك وبصرك ، حملا على ما في لفظ كل من التذكير. وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرّف بالكسر في الجميع ؛ على أن المراد النفس (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) الّذي كان في الدنيا ، يعني : رفعنا الحجاب الّذي كان بينك وبين أمور الآخرة ، ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي : نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في الدنيا. قال السدّي : المراد بالغطاء أنه كان في بطن أمه فولد ، وقيل : إنه كان في القبر فنشر ، والأوّل أولى. والبصر قيل : هو بصر القلب ، وقيل : بصر العين. وقال مجاهد : بصرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك ، وبه قال الضحاك. (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي : قال الملك الموكّل به : هذا ما عندي من كتاب عملك عتيد حاضر قد هيأته ، كذا قال الحسن وقتادة والضحاك. وقال مجاهد : إن الملك يقول للربّ سبحانه : هذا الّذي وكّلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وروي عنه أنه قال : إن قرينه من الشياطين ، يقول ذلك ، أي : هذا ما قد هيّأته لك بإغوائي وإضلالي. وقال ابن زيد : إن المراد هنا قرينه من الإنس ، وعتيد مرفوع على أنه صفة لما إن كانت موصوفة ، وإن كانت موصولة فهو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) هذا خطاب من الله عزوجل للسائق والشهيد. قال الزجاج : هذا أمر للملكين الموكلين به ، وهما السائق والشاهد. «كل كفّار» للنعم ، «عنيد» مجانب للإيمان (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) لا يبذل خيرا (مُعْتَدٍ) ظالم لا يقرّ بتوحيد الله (مُرِيبٍ) شاكّ في الحق ، من قولهم : أراب الرجل ؛ إذا صار ذا ريب. وقيل : هو خطاب للملكين من خزنة النار ، وقيل : هو خطاب لواحد على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل وتكريره. قال الخليل والأخفش : هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين

٩٠

يقولون : ارحلاها وازجراها ، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء : العرب تقول للواحد : قوما عنا. وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان ، فجرى كلام الرجل للواحد على ذلك ، ومنه قولهم للواحد في الشعر : خليليّ ، كما قال امرؤ القيس :

خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

نقضّ لبانات الفؤاد المعذّب

وقوله :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

وقول الآخر (١) :

فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا

قال المازني : قوله : (أَلْقِيا) يدل على ألق ألق. قال المبرد : هي تثنية على التوكيد ، فناب «ألقيا» مناب ألق ألق. قال مجاهد وعكرمة : العنيد : المعاند للحق ، وقيل : المعرض عن الحق ، يقال : عند يعند بالكسر عنودا ؛ إذا خالف الحق (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يجوز أن يكون بدلا من كلّ ، أو منصوبا على الذم ، أو بدلا من كفار ، أو مرفوعا بالابتداء أو الخبر (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) تأكيدا للأمر الأول أو بدل منه (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) هذه الجملة مستأنفة لبيان ما يقوله القريب ، والمراد بالقرين هنا الشيطان الّذي قيّض لهذا الكافر ، أنكر أن يكون أطغاه ، ثم قال : (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي : عن الحق فدعوته فاستجاب لي ، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه ، وقيل : إن قرينه الملك الّذي كان يكتب سيئاته. وإن الكافر يقول : ربّ إنه أعجلني فيجيبه بهذا ، كذا قال مقاتل وسعيد بن جبير. والأوّل أولى ، وبه قال الجمهور. (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فماذا قال الله؟ فقيل : (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) يعني الكافرين وقرنائهم ، نهاهم سبحانه عن الاختصام في موقف الحساب ، وجملة (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن قد قدّمت إليكم بالوعيد بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، والباء في «بالوعيد» مزيدة للتأكيد ، أو على تضمين قدّم معنى تقدّم (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي : لا خلف لوعدي ، بل هو كائن لا محالة ، وقد قضيت عليكم بالعذاب فلا تبديل له ، وقيل : هذا القول هو قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٢) وقيل : هو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٣) وقال الفراء وابن قتيبة : معنى الآية : أنه ما يكذب عندي بزيادة في القول ولا ينقص منه لعلمي بالغيب ، وهو قول الكلبي. واختاره الواحدي لأنه قال (لَدَيَ) ولم يقل : وما يبدّل قولي ، والأوّل أولى. وقيل : إن مفعول قدّمت

__________________

(١). الشاعر هو سويد بن كراع ، والبيت في الأغاني (١١ / ١٢٣) ، وشرح المعلقات السبع للزوزني ص (٣٣)

(٢). الأنعام : ١٦٠.

(٣). هود : ١١٩.

٩١

إليكم هو ما يبدّل ، أي : وقد قدّمت إليكم هو ما يبدّل ، أي : وقد قدّمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد ، وهذا بعيد جدا (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي : لا أعذّبهم ظلما بغير جرم اجترموه ولا ذنب أذنبوه. ولما كان نفي الظّلّام لا يستلزم نفي مجرّد الظلم قيل : إنه هنا بمعنى الظالم كالثمّار بمعنى الثامر. وقيل : إن صيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم. وقيل : صيغة المبالغة لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده وظلّام لعبيده ، وقيل : غير ذلك ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة آل عمران وفي سورة الحج (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قرأ الجمهور (نَقُولُ) بالنون. وقرأ نافع وأبو بكر بالياء. وقرأ الحسن «أقول». وقرأ الأعمش : «يقال» والعامل في الظرف (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أو محذوف ، أي : اذكر ، أو أنذرهم ، وهذا الكلام على طريقة التمثيل والتخييل ، ولا سؤال ولا جواب ، كذا قيل ، والأولى أنه على طريقة التحقيق ، ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع. قال الواحدي : قال المفسرون : أراها الله تصديق قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) فلما امتلأت قال لها : (هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي : قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ ، وبهذا قال عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان. وقيل : إن هذا الاستفهام بمعنى الاستزادة ، أي : أنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها. وقيل : إن المعنى أنها طلبت أن يزاد في سعتها لتضايقها بأهلها ، والمزيد إما مصدر كالمجيد ، أو اسم مفعول كالمنيع ، فالأول بمعنى : هل من زيادة ، والثاني بمعنى : هل من شيء تزيدونيه. ثم لما فرغ من بيان حال الكافرين شرع في بيان حال المؤمنين فقال : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : قرّبت للمتقين تقريبا غير بعيد أو مكان غير بعيد منهم ، بحيث يشاهدونها في الموقف ، وينظرون ما فيها مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ويجوز أن يكون انتصاب (غَيْرَ بَعِيدٍ) على الحال. وقيل : المعنى : أنها زينت قلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب ، فصارت قريبة من قلوبهم ، والأوّل أولى. والإشارة بقوله : (هذا ما تُوعَدُونَ) إلى الجنة التي أزلفت لهم ، على معنى : هذا الّذي ترونه من فنون نعيمها ما توعدون ، والجملة بتقدير القول ، أي : يقال لهم هذا ما توعدون. قرأ الجمهور : (تُوعَدُونَ) بالفوقية. وقرأ ابن كثير بالتحتية. (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) هو بدل من (لِلْمُتَّقِينَ) بإعادة الخافض ، أو متعلق بقول محذوف هو حال ، أي : مقولا لهم لكل أواب ، والأواب : الرجّاع إلى الله تعالى بالتوبة عن المعصية ، وقيل : هو المسبح ، وقيل : هو الذاكر لله في الخلوة. قال الشعبي ومجاهد : هو الّذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وقال عبيد بن عمير : هو الّذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله فيه ، والحفيظ : هو الحافظ لذنوبه حتى يتوب منها. وقال قتادة : هو الحافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته ، قاله مجاهد. وقيل : هو الحافظ لأمر الله. وقال الضحاك : هو الحافظ لوصية الله له بالقبول (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) الموصول في محل جرّ بدلا أو بيانا لكل أوّاب ، وقيل : يجوز أن يكون بدلا بعد بدل من المتقين ، وفيه نظر لأنه لا يتكرر البدل ، والمبدل منه واحد ، ويجوز أن يكون في محل رفع على الاستئناف ، والخبر «ادخلوها» بتقدير : يقال لهم : ادخلوها ، والخشية بالغيب أن يخاف الله ولم يكن رآه. وقال الضحاك والسدّي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد.

٩٢

قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب ، «وبالغيب» متعلق بمحذوف هو حال أو صفة لمصدر خشي (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي : راجع إلى الله مخلص لطاعته ، وقيل : المنيب : المقبل على الطاعة ، وقيل : السليم (ادْخُلُوها) هو بتقدير القول ، أي : يقال لهم ادخلوها ، والجمع باعتبار معنى من ، أي : ادخلوا الجنة (بِسَلامٍ) أي : بسلامة من العذاب ، وقيل : بسلام من الله وملائكته ، وقيل : بسلامة من زوال النعم ، وهو متعلق بمحذوف هو حال ، أي : متلبسين بسلام ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى زمن ذلك اليوم كما قال أبو البقاء ، وخبره (يَوْمُ الْخُلُودِ) وسماه يوم الخلود لأنه لا انتهاء له ، بل هو دائم أبدا (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) أي : في الجنة ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم من فنون النعم وأنواع الخير (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) من النعم التي لم تخطر لهم على بال ، ولا مرّت لهم في خيال.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزل الله من ابن آدم أربع منازل : هو أقرب إليه من حبل الوريد ، وهو يحول بين المرء وقلبه ، وهو آخذ بناصية كل دابة ، وهو معهم أينما كانوا». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال : عروق العنق. وأخرج ابن المنذر عنه قال : هو نياط القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا ، في قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شرّ حتى إنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقرّ منه ما كان من خير أو شرّ وألقى سائره ، فذلك قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ). وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : إنما يكتب الخير والشرّ ، لا يكتب : يا غلام أسرج الفرس ، يا غلام اسقني الماء. وقد ثبت في الصحيحين وغير هما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم». وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، والحكيم والترمذي وأبو نعيم ، والبيهقي في الشعب ، عن عمرة بن ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله عند لسان كل قائل ، فليتق الله عبد ، ولينظر ما يقول». وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعا مثله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، وابن عساكر عن عثمان بن عفان أنه قرأ : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال : سائق يسوقها إلى أمر الله ، وشهيد يشهد عليها بما عملت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي هريرة في الآية قال : السائق : الملك ، والشهيد : العمل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : السائق : من الملائكة ، والشهيد : شاهد عليه من نفسه.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) قال : هو الكافر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) قال : الحياة بعد الموت. وأخرج ابن

٩٣

جرير عنه أيضا ، و (قالَ قَرِينُهُ) قال : شيطانه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) قال : إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجّتهم وردّ عليهم قولهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) قال : ما أنا بمعذب من لم يجترم (١). وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا ، في قوله : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال : وهل فيّ من مكان يزاد فيّ؟ وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ، حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط ، وعزّتك وكرمك. ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة». وأخرجا أيضا من حديث أبي هريرة نحوه ، وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال : حفظ ذنوبه حتى رجع عنها. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن أنس ، في قوله : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) قال : يتجلى لهم الربّ تبارك وتعالى في كل جمعة. وأخرج البيهقي في الرؤية ، والديلمي عن عليّ في الآية قال : يتجلى لهم الرب عزوجل. وفي الباب أحاديث.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

خوّف سبحانه أهل مكة بما اتفق للقرون الماضية (قَبْلَهُمْ) أي : قبل قريش ومن وافقهم (مِنْ قَرْنٍ) أي : من أمة (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي : قوة كعاد وثمود وغير هما (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي : ساروا وتقلّبوا فيها وطافوا بقاعها. وأصله من النقب ، وهو الطريق. قال مجاهد : ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل : دوّروا. وقال المؤرّج : تباعدوا. والأوّل أولى. ومنه قول امرئ القيس :

وقد نقّبت في الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب

ومثله قول الحارث بن حلّزة :

نقّبوا في البلاد من حذر المو

ت وجالوا في الأرض كلّ مجال

__________________

(١). «يجترم» : يرتكب الذّنب.

٩٤

وقرأ ابن عباس والحسن وأبو العالية وأبو عمرو في رواية : نقبوا بفتح القاف مخففة ، والنقب : هو الخرق والطريق في الجبل وكذا المنقب والمنقبة ، كذا قال ابن السّكّيت ، وجمع النّقب نقوب. وقرأ السلمي ويحيى بن يعمر بكسر القاف مشدّدة على الأمر للتهديد ، أي : طوّفوا فيها وسيروا في جوانبها. وقرأ الباقون بفتح القاف مشدّدة على الماضي. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : هل لهم من مهرب يهربون إليه ، أو مخلص يتخلصون به من العذاب. قال الزجاج : لم يروا محيصا من الموت ، والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا ، أي : عدل وحاد ، والجملة مستأنفة لبيان أنه لا مهرب لهم ، وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم مثل من قبلهم من القرون لا يجدون من الموت والعذاب مفرّا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) أي : فيما ذكر من قصتهم تذكرة وموعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي : عقل. قال الفراء : وهذا جائز في العربية ، تقول : ما لك قلب ، وما قلبك معك ، أي : ما لك عقل ، وما عقلك معك ، وقيل : المراد القلب نفسه ، لأنه إذا كان سليما أدرك الحقائق وتفكّر كما ينبغي. وقيل : لمن كان له حياة ونفس مميزة ، فعبّر عن ذلك بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها ، ومنه قول امرئ القيس :

أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي

وأنّك مهما تأمري النّفس (١) تفعل

(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي : استمع ما يقال له ، يقال : ألق سمعك إليّ ، أي : استمع مني ، والمعنى : أنه ألقى السمع إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى على تلك الأمم. قرأ الجمهور : (أَلْقَى) مبنيا للفاعل. وقرأ السلمي وطلحة والسدّي على البناء للمفعول ورفع السمع (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي : حاضر الفهم أو حاضر القلب ؛ لأن من لا يفهم في حكم الغائب وإن حضر بجسمه فهو لم يحضر بفهمه. قال الزجاج : أي : وقلبه حاضر فيما يسمع. قال سفيان : أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. قال مجاهد وقتادة : هذه الآية في أهل الكتاب ، وكذا قال الحسن. وقال محمد بن كعب وأبو صالح : إنها في أهل القرآن خاصة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف وغيرها (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) اللغوب : التعب والإعياء ، تقول : لغب يلغب بالضم لغوبا. قال الواحدي : قال جماعة المفسرين : إن اليهود قالوا : خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، أوّلها الأحد وآخرها الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فكذّبهم الله تعالى بقوله : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ـ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) هذه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر لهم بالصبر على ما يقوله المشركون ، أي : هوّن عليك ، ولا تحزن لقولهم وتلقّ ما يرد عليك منه بالصبر (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) أي : نزّه الله عمّا لا يليق بجنابه العالي متلبسا بحمده وقت الفجر ووقت العصر ، وقيل : المراد صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقيل : الصلوات الخمس ، وقيل : صلّ ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها ، والأول أولى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) من للتبعيض : أي سبحه بعض الليل ، وقيل : هي صلاة الليل ، وقيل : ركعتا الفجر ، وقيل : صلاة العشاء ،

__________________

(١). وفي رواية : القلب.

٩٥

والأوّل أولى (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي : وسبحه أعقاب الصلوات. قرأ الجمهور : (أَدْبارَ) بفتح الهمزة جمع دبر. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسرها على المصدر ، من أدبر الشيء إدبارا ؛ إذا ولى. وقال جماعة من الصحابة والتابعين : إدبار السجود الركعتان بعد المغرب ، وإدبار النجوم : الركعتان قبل الفجر. وقد اتفق القراء السبعة في إدبار النجوم أنه بكسر الهمزة كما سيأتي (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي : استمع ما يوحى إليك من أحوال القيامة ؛ يوم ينادي المناد ، وهو إسرافيل أو جبريل ، وقيل : استمع النداء أو الصوت أو الصيحة ، وهي صيحة القيامة ، أعني النفخة الثانية في الصور من إسرافيل ، وقيل : إسرافيل ينفخ ، وجبريل ينادي أهل المحشر ، ويقول : هلمّوا للحساب ، فالنداء على هذا في المحشر. قال مقاتل : هو إسرافيل ينادي بالحشر فيقول : يا أيها الناس هلمّوا للحساب (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) بحيث يصل النداء إلى كل فرد من أفراد أهل المحشر. قال قتادة : كنا نحدّث أنه ينادي من صخرة بيت المقدس. قال الكلبي : وهي أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب : بثمانية عشر ميلا (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) هو بدل من يوم ينادي ، يعني صيحة البعث ، و «بالحق» متعلق بالصيحة (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي : يوم الخروج من القبور. قال الكلبي : معنى بالحق : بالبعث. وقال مقاتل : يعني أنها كائنة حقا (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي : نحيي في الآخرة ونميت في الدنيا ، لا يشاركنا في ذلك مشارك ، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) فنجازي كل عامل بعمله (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ) قرأ الجمهور بإدغام التاء في الشين. وقرأ الكوفيون بتخفيف الشين على حذف إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ زيد بن عليّ : تشقق بإثبات التاءين على الأصل ، وقرئ على البناء للمفعول ، وانتصاب (سِراعاً) على أنه حال من الضمير في عنهم ، والعامل في الحال تشقق ، وقيل : العامل في الحال هو العامل في يوم ، أي : مسرعين إلى المنادي الّذي ناداهم (ذلِكَ حَشْرٌ) أي : بعث وجمع (عَلَيْنا يَسِيرٌ) هين. ثم عزّى الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) يعني من تكذيبك فيما جئت به ومن إنكار البعث والتوحيد (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي : بمسلّط يجبرهم ويقهرهم على الإيمان ، والآية منسوخة بآية السيف (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي : من يخاف وعيدي لعصاتي بالعذاب ، وأما من عداهم فلا تشتغل بهم. ثم أمره الله سبحانه بعد ذلك بالقتال.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) قال : من نصب. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن عساكر عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) «صلاة الصبح» (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) «صلاة العصر». وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : «بتّ عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّى ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة فقال : يا ابن عباس ركعتان قبل صلاة الفجر إدبار النجوم وركعتان بعد المغرب إدبار السجود». وأخرج مسدّد في مسنده ، وابن المنذر وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إدبار النجوم وإدبار السجود ، فقال : إدبار السجود ركعتان

٩٦

بعد المغرب ، وإدبار النجوم ركعتان قبل الغداة». وأخرج محمد بن نصر في الصلاة ، وابن المنذر عن عمر ابن الخطاب : إدبار السجود ركعتان بعد المغرب ، وإدبار النجوم ركعتان قبل الفجر. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن نصر وابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن عليّ بن أبي طالب مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة مثله. وأخرج البخاري وغيره عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها. وأخرج ابن جرير عنه (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) قال : هي الصيحة. وأخرج الواسطي عنه أيضا (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قال : من صخرة بيت المقدس. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عنه أيضا (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) قال : يوم يخرجون إلى البعث من القبور. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : قالوا : يا رسول الله لو خوّفتنا ، فنزلت : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

* * *

٩٧

سورة الذّاريات

وهي مكية. قال القرطبي : في قول الجميع.

وأخرج ابن الضّريس والنحّاس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : نزلت سورة الذاريات بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْم الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

قوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) يقال : ذرت الرّيح التراب تذروه ذروا ؛ وأذرته تذريه ذريا. أقسم سبحانه بالرياح التي تذري التراب ، وانتصاب ذروا على المصدرية ، والعامل فيها اسم الفاعل ، والمفعول محذوف. قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام تاء الذاريات في ذال ذروا ، وقرأ الباقون بدون إدغام. وقيل : المقسم به مقدّر وهو ربّ الذاريات وما بعدها ، والأوّل أولى (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) هي السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر ، وانتصاب (وِقْراً) على أنه مفعول به ، كما يقال : حمل فلان عدلا ثقيلا. قرأ الجمهور : (وِقْراً) بكسر الواو اسم ما يوقر ، أي : يحمل ، وقرئ بفتحها على أنه مصدر والعامل فيه اسم الفاعل ، أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة (فَالْجارِياتِ يُسْراً) هي السفن الجارية في البحر بالرّياح جريا سهلا ، وانتصاب «يسرا» على المصدرية ، أو صفة لمصدر محذوف ، أو على الحال ، أي : جريا ذا يسر. وقيل : هي الرّياح ، وقيل : السحاب ، والأوّل أولى ، واليسر : السهل في كل شيء (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) هي الملائكة التي تقسم الأمور. قال الفرّاء : تأتي بأمر مختلف ، جبريل بالغلظة ، وميكائيل صاحب الرحمة ، وملك الموت يأتي بالموت ، وقيل : تأتي بأمر مختلف من الجدب والخصب والمطر والموت والحوادث. وقيل : هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد ، وقيل : إن المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات : الرياح ، فإنها توصف بجميع ذلك لأنها تذرو التراب ، وتحمل السحاب ، وتجري في الهواء ، وتقسم الأمطار ، وهو ضعيف جدّا.

٩٨

وانتصاب «أمرا» على المفعول به ، وقيل : على الحال ، أي : مأمورة ، والأوّل أولى (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) هذا جواب القسم ، أي : إنما توعدون من الثواب والعقاب لكائن لا محالة. وما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية. ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها كونها أمورا بديعة مخالفة لمقتضى العادة ، فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود به (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قرأ الجمهور : (الْحُبُكِ) بضم الحاء والباء ، وقرئ بضم الحاء وسكون الباء وبكسر الحاء وفتح الباء ، وبكسر الحاء وضم الباء. قال ابن عطية : هي لغات ، والمراد بالسماء هنا هي المعروفة ، وقيل : المراد بها السحاب ، والأوّل أولى.

واختلف المفسرون في تفسير الحبك ؛ فقال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم : المعنى ذات الخلق المستوي الحسن. قال ابن الأعرابي : كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته واحتبكته. وقال الحسن وسعيد ابن جبير : ذات الزينة. وروي عن الحسن أيضا أنه قال : ذات النجوم. وقال الضحاك : ذات الطرائق ، وبه قال الفراء ، يقال لما تراه من الماء والرمل إذا أصابته الريح : حبك. قال الفراء : الحبك تكسّر كل شيء كالرمل إذا مرّت به الريح الساكنة ، والماء إذا مرّت به الرّيح ، ويقال لدرع الحديد : حبك ، ومنه قول الشاعر :

كأنّما جلّلها الحوّاك

طنفسة في وشيها حباك

أي : طرق ، وقيل : الحبك الشدّة ، والمعنى : والسماء ذات الشدّة ، والمحبوك : الشديد الخلق من فرس أو غيره ، ومنه قول الشاعر :

قد غدا يحملني في أنفه

لاحق الإطلين (١) محبوك ممر

وقول الآخر (٢) :

مرج الدّين فأعددت له

مشرف الحارك محبوك الكتد (٣)

قال الواحدي بعد حكاية القول الأوّل : هذا قول الأكثرين (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) هذا جواب القسم بالسماء ذات الحبك. أي : إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف متناقض في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بعضكم يقول : إنه شاعر. وبعضكم يقول : إنه ساحر ، وبعضكم يقول : إنه مجنون. ووجه تخصيص القسم بالسماء المتّصفة بتلك الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء ، واستعمال الحبك في الطرائق هو الّذي عليه أهل اللغة ، وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه. على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحبك إلى هذا ، وذلك بأن يقال : إن ما في السماء من الطرائق يصحّ أن يكون سببا لمزيد حسنها واستواء خلقها

__________________

(١). «الإطل» : الخاصرة.

(٢). هو أبو دؤاد.

(٣). «الكتد» : هو مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس.

٩٩

وحصول الزينة فيها ومزيد القوّة لها. وقيل : إن المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفي الحشر وبعضهم يشكّ فيه ، وقيل : كونهم يقرّون أن الله خالقهم ويعبدون الأصنام (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي : يصرف عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، أو عن الحقّ ، وهو البعث والتوحيد من صرف. وقيل : يصرف عن ذلك الاختلاف من صرفه الله عنه بالعصمة والتوفيق ، يقال : أفكه يأفكه أفكا ، أي : قلبه عن الشيء ، وصرفه عنه ، ومنه قوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) (١) وقال مجاهد : يؤفن عنه من أفن ، والأفن : فساد العقل ، وقيل : يحرمه من حرم. وقال قطرب : يخدع عنه من خدع. وقال اليزيدي : يدفع عنه من دفع (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) هذا دعاء عليهم. وحكى الواحدي عن المفسرين جميعا أن المعنى : لعن الكذابون. قال ابن الأنباري : والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن ؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال الفرّاء : معنى «قتل» : لعن. والخرّاصون : الكذابون الذين يتخرّصون فيما لا يعلمون ، فيقولون : إن محمدا مجنون ، كذّاب ، شاعر ، ساحر. قال الزجاج : الخرّاصون : هم الكذابون ، والخرص : حزر ما على النخل من الرّطب تمرا ، والخرّاص : الّذي يخرصها ، وليس هو المراد هنا. ثم قال : (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي : في غفلة وعمى وجهالة عن أمور الآخرة. ومعنى ساهون : لاهون غافلون ، والسهو : الغفلة عن الشيء وذهابه عن القلب ، وأصل الغمرة ما ستر الشيء وغطّاه ، ومنها غمرات الموت (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي : يقولون متى يوم الجزاء تكذيبا منهم واستهزاء. ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي : يحرقون ويعذّبون ، يقال : فتنت الذهب ؛ إذا أحرقته لتختبره ؛ وأصل الفتنة : الاختبار. قال عكرمة : ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل : فتن. وانتصاب يوم بمضمر : أي الجزاء : يوم هم على النار ، ويجوز أن يكون بدلا من يوم الدين ، والفتح للبناء لكونه مضافا إلى الجملة ، وقيل : هو منصوب بتقدير أعني. وقرأ ابن أبي عبلة برفع (يَوْمَ) على البدل من يوم الدين ، وجملة : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) هي بتقدير القول ، أي : يقال لهم ذوقوا عذابكم ، قاله ابن زيد. وقال مجاهد : حريقكم ، ورجح الأوّل الفرّاء ، وجملة (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) من جملة ما هو محكيّ بالقول ، أي : هذا ما كنتم تطلبون تعجيله استهزاء منكم ، وقيل : هي بدل من فتنتكم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة ، أي : هم في بساتين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي : قابلين ما أعطاهم ربّهم من الخير والكرامة ، وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) تعليل لما قبلها ، أي : لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه. ثم بيّن إحسانهم الّذي وصفهم به فقال : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) الهجوع : النوم بالليل دون النهار ، والمعنى : كانوا قليلا ما ينامون من الليل ، و «ما» زائدة ، ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة ، أي : كانوا قليلا من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه ، ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت :

__________________

(١). الأحقاف : ٢٢.

١٠٠