فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

أَثِيمٍ) أي : متجاوز الحدّ في الظلم ، كثير الإثم (عُتُلٍ) قال الواحدي : المفسرون يقولون هو الشديد الخلق الفاحش الخلق. وقال الفراء : هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الزجّاج : هو الغليظ الجافي. وقال الليث : هو الأكول المنوع ، يقال : عتلت الرجل أعتله ؛ إذا جذبته جذبا عنيفا ، ومنه قول الشاعر (١) :

نفرعه فرعا ولسنا نعتله

(بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) أي : هو بعد ما عدّ من معايبه زنيم ، والزنيم والدّعيّ : الملصق بالقوم وليس هو منهم ؛ مأخوذ من الزّنمة المتدلية في حلق الشاة ، أو الماعز ، ومنه قول حسان :

زنيم تداعاه الرّجال زيادة

كما زيد في عرض الأديم الأكارع

وقال سعيد بن جبير : الزنيم : المعروف بالشرّ ، وقيل : هو رجل من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة ، وقيل : هو الظلوم. (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) متعلق بقوله : (لا تُطِعْ) أي : لا تطع من هذه مثالبه لكونه ذا مال وبنين. قال الفراء والزجاج : أي لأن كان ، والمعنى : لا تطعه لماله وبنيه. قرأ ابن عامر وأبو جعفر والمغيرة وأبو حيوة (أَنْ كانَ) بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ حمزة وأبو بكر والمفضّل أأن كان بهمزتين مخففتين ، وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر ، وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم التي خوّله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله. وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط ، وجملة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي ، وقد تقدّم معنى أساطير الأوّلين في غير موضع (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي : سنسمه بالكيّ على خرطومه. قال أبو عبيدة وأبو زيد والمبرد : الخرطوم : الأنف. قال مقاتل : سنسمه بالسواد على الأنف ، وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار. قال الفراء : والخرطوم وإن كان قد خصّ بالسّمة فإنه في مذهب (٢) الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض. قال الزجاج : سيجعل له في الآخرة العلم الّذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وقال قتادة : سنلحق به شيئا لا يفارقه ، واختار هذا ابن قتيبة ، قال : والعرب تقول : قد وسمه ميسم سوء ؛ يريدون ألصق به عارا لا يفارقه ، فالمعنى : أن الله ألحق به عارا لا يفارقه ، كالوسم على الخرطوم ، وقيل : معنى سنسمه : سنحطمه بالسيف. وقال النضر بن شميل : المعنى سنحدّه على شرب الخمر ، وقد يسمى الخمر بالخرطوم ، ومنه قول الشاعر :

تظلّ يومك في لهو وفي طرب

وأنت باللّيل شرّاب الخراطيم

وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخطيب في

__________________

(١). هو أبو النجم الرّاجز.

(٢). في تفسير القرطبي : معنى.

٣٢١

تاريخه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : إن أوّل شيء خلقه الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : يا ربّ وما أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم طوي الكتاب ورفع القلم ، وكان عرشه على الماء ، فارتفع بخار الماء ففتقت منه السماوات ، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه ، والأرض على ظهر النون (١) ، فاضطرب النون فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ، ثم قرأ ابن عباس (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، وابن مردويه عن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أوّل ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى بما هو كائن إلى الأبد». وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرّة عن أبيه مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون ، وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب ، قال : وما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : (ن) الدواة. وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النون : السمكة التي عليها قرار الأرضين ، والقلم الّذي خطّ به ربنا عزوجل القدر خيره وشرّه وضرّه ونفعه ، (وَما يَسْطُرُونَ) قال : الكرام الكاتبون». وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَما يَسْطُرُونَ) قال : ما يكتبون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وَما يَسْطُرُونَ) قال : وما يعلمون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن سعد بن هشام قال : أتيت عائشة فقلت : يا أمّ المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله ، قالت : كان خلقه القرآن ، أما تقرأ القرآن (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والواحدي عنها قالت : «ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، فلذلك أنزل الله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)». وأخرج ابن المنذر وابن مردويه ؛ والبيهقي في الدلائل ، عن أبي الدرداء قال : «سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه». وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي وصحّحه ، وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدليّ قال : «قلت لعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : لم يكن فاحشا ولا متفاحشا ، ولا صخّابا في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) قال : تعلم ويعلمون يوم القيامة (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) قال : الشيطان ، كانوا يقولون : إنه شيطان وإنه مجنون. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : بأيكم المجنون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) يقول : لو ترخص لهم فيرخصون. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الآية قال : يعني الأسود بن عبد يغوث. وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال : «قال مروان لما بايع الناس ليزيد :

__________________

(١). «النون» : الحوت.

٣٢٢

سنّة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرّحمن بن أبي بكر : إنها ليست بسنّة أبي بكر وعمر ، ولكنها سنّة هرقل ، فقال مروان : هذا الّذي أنزل فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) (١) الآية ، قال : فسمعت ذلك عائشة فقالت : إنها لم تنزل في عبد الرّحمن ، ولكن نزل في أبيك : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ـ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : «نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ـ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) فلم نعرفه حتى نزل عليه (بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) ، فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة». وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : العتلّ : هو الدعيّ ، والزنيم : هو المريب الّذي يعرف بالشرّ. وأخرج عبد بن حميد وابن عساكر عنه قال : الزنيم : هو الدعيّ. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، عنه أيضا قال : الزنيم : الّذي يعرف بالشرّ كما تعرف الشاة بزنمتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : هو الرجل يمرّ على القوم ، فيقولون : رجل سوء. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (زَنِيمٍ) قال : ظلوم ، وقد قيل : إن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق ، وقيل : في الوليد بن المغيرة.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

قوله : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) يعني كفار مكة ، فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، والابتلاء : الاختبار ، والمعنى : أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) المعروف خبرهم عندهم ، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدّي حق الله منها ، فمات وصارت إلى أولاده ، فمنعوا الناس خيرها ، وبخلوا بحقّ الله فيها. قال الواحدي : هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ، ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل ، وكان أبوهم يجعل ممّا فيها من كل شيء حظا للمساكين عند الحصاد والصرام ، فقالت بنوه : المال قليل ، والعيال كثير ، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا ، وعزموا على حرمان المساكين ، فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله في كتابه. قال الكلبي : كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ابتلاهم الله بأن حرق جنتهم. وقيل : هي جنة كانت بضوران ، وضوران على فراسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي : حلفوا ليقطعنها داخلين في وقت الصباح ، والصرم : القطع للثمر

__________________

(١). الأحقاف : ١٧.

٣٢٣

والزرع ، وانتصاب (مُصْبِحِينَ) على الحال من فاعل ليصرمنها ، والكاف في (كَما بَلَوْنا) نعت مصدر محذوف ، أي : بلوناهم ابتلاء كما بلونا ، وما مصدرية ، أو بمعنى الّذي ، و «إذ» ظرف لبلونا منتصب به ، وليصرمنها جواب القسم (وَلا يَسْتَثْنُونَ) يعني : ولا يقولون إن شاء الله ، وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم ، أو حال. وقيل : المعنى : ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الّذي كان يدفعه أبوهم إليهم ، قاله عكرمة : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) أي : طاف على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه ، والطائف قيل : هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء ، كذا قال مقاتل. وقيل : الطائف جبريل اقتلعها ، وجملة (وَهُمْ نائِمُونَ) في محل نصب على الحال (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي : كالشيء الّذي صرمت ثماره ، أي : قطعت ، فعيل بمعنى مفعول ، وقال الفرّاء : كالصريم المظلم ، ومنه قول الشاعر :

تطاول ليلك الجون الصّريم

فما ينجاب عن صبح بهيم

والمعنى : أنها حرقت فصارت كالليل الأسود ، قال : والصريم : الرماد الأسود بلغة خزيمة. وقال الأخفش : أي كالصبح انصرم من الليل ، يعني أنها يبست وابيضت. وقال المبرد : الصريم : الليل ، والصريم : النهار ، أي : ينصرم هذا عن هذا ، وذاك عن هذا ، وقيل : سمّى الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرّف. وقال المؤرج : الصريم : الرملة لأنها لا يثبت عليها شيء ينتفع به. وقال الحسن : صرم منها الخير ، أي : قطع (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي : نادى بعضهم بعضا داخلين في الصباح. قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) و (أَنِ) في قوله : (أَنِ اغْدُوا) هي المفسرة ؛ لأنّ في التنادي معنى القول ، أو هي المصدرية ، أي : بأن اغدوا ، والمراد اخرجوا غدوة ، والمراد بالحرث : الثمار والزرع (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي : قاصدين للصرم ، والغدوّ يتعدّى بإلى وعلى ، فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل : وجواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم صارمين فاغدوا ، وقيل ، معنى صارمين ماضين في العزم ، من قولك سيف صارم (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي : ذهبوا إلى جنّتهم وهم يسرّون الكلام بينهم لئلا يعلم أحد بهم ، يقال : خفت يخفت ؛ إذا سكن ولم يبين ، ومنه قول دريد بن الصّمّة :

وإنّي لم أهلك سلالا ولم أمت

خفاتا وكلّا ظنّه بي عوّدي

وقيل : المعنى : يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم ، فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد ، والأوّل أولى لقوله : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) فإنّ «أن» هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول. والمعنى : يسرّ بعضهم إلى بعض هذا القول ، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين ، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) الحرد يكون بمعنى المنع والقصد. قال قتادة ومقاتل والكلبي والحسن ومجاهد : الحرد هنا بمعنى القصد ؛ لأن القاصد إلى الشيء حارد ، يقال : حرد يحرد إذا قصد ، تقول : حردت حردك ، أي : قصدت قصدك ، ومنه قول الراجز :

٣٢٤

أقبل سيل جاء من عند الله

يحرد حرد الجنّة المغلّة

وقال أبو عبيد والمبرد والقتيبي : على حرد على منع ، من قولهم حاردت الإبل حردا ؛ إذا قلّت ألبانها ، والحرود من النوق هي القليلة اللبن. وقال السدّي وسفيان والشعبي (عَلى حَرْدٍ) على غضب ، ومنه قول الشاعر :

إذا جياد الخيل جاءت تردي

مملوءة من غضب وحرد

وقول الآخر :

تساقوا على حرد دماء الأساود

ومنه قيل : أسد حارد. وروي عن قتادة ومجاهد أيضا أنهما قالا : (عَلى حَرْدٍ) أي : على حسد. وقال الحسن أيضا : على حاجة وفاقة. وقيل : (عَلى حَرْدٍ) : على انفراد ، يقال : حرد يحرد حردا أو حرودا ؛ إذا تنحى عن قومه ونزل منفردا عنهم ولم يخالطهم ، وبه قال الأصمعي وغيره. وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم ، وقال السدّي : اسم جنتهم. قرأ الجمهور (حَرْدٍ) بسكون الراء. وقرأ أبو العالية وابن السّميقع بفتحها ، وانتصاب (قادِرِينَ) على الحال. قال الفراء : ومعنى قادرين : قد قدّروا أمرهم وبنوا عليه ، وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم. وقال الشعبي : يعني قادرين على المساكين (فَلَمَّا رَأَوْها) أي : لما رأوا جنتهم وشاهدوا ما قد حلّ بها من الآفة التي أذهبت ما فيها (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي : قال بعضهم لبعض : قد ضللنا جنتنا وليست هذه ، ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم ، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها ، فأضربوا عن قولهم الأوّل إلى هذا القول ، وقيل : معنى قولهم : (إِنَّا لَضَالُّونَ) أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي : أمثلهم وأعقلهم وخيرهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي : هلّا تسبحون ، يعني تستثنون ، وسمّي الاستثناء تسبيحا ؛ لأنه تعظيم لله وإقرار به ، وهذا يدلّ على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه ، وقال مجاهد وأبو صالح وغير هما : كان استثناؤهم تسبيحا. قال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله عزوجل ، فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله. وقيل : المعنى : هلا تستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها ، وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم للجنة على تلك الصفة (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي : تنزيها له عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا ، فإن ذلك بسبب ذنبنا الّذي فعلناه ، وقيل : معنى تسبيحهم الاستغفار ، أي نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي : يلوم بعضهم بعضا في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك ، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي : عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء. قال ابن كيسان : أي : طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل ، ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم بخير منها ،

٣٢٥

فقالوا : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) لما اعترفوا بالخطيئة رجوا من الله عزوجل أن يبدلهم جنة خيرا من جنتهم ، قيل : إنهم تعاقدوا فيما بينهم ، وقالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعنّ كما صنع أبونا ، فدعوا الله وتضرّعوا فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها. قرأ الجمهور : (يُبْدِلَنا) بالتخفيف ، وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتشديد ، وهما لغتان ، والتبديل : تغيير ذات الشيء ، أو تغيير صفته ، والإبدال : رفع الشيء جملة ووضع آخر مكانه ، كما مضى في سورة سبأ (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي : طالبون منه الخير ، راجون لعفوه ، راجعون إليه. وعدّي بإلى وهو إنما يتعدّى بعن أو في لتضمينه معنى الرجوع (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي : مثل ذلك العذاب الّذي بلوناهم به وبلونا أهل مكة بعذاب الدنيا ، والعذاب مبتدأ مؤخر ، وكذلك خبره (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي : أشدّ وأعظم لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك ، ولكنهم لا يعلمون.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) قال : هم ناس من الحبشة كان لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين ، فمات أبوهم ، فقال بنوه : إن كان أبونا لأحمق ، كان يطعم المساكين (أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) وأن لا يطعموا مسكينا. وأخرج ابن جرير عنه (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ) قال : أمر من الله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والمعصية ، فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم ، وإن العبد ليذنب فيحرم به قيام الليل ، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيّئ له. ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) قد حرموا خير جنّتهم بذنبهم». وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كَالصَّرِيمِ) قال : مثل الليل الأسود. وأخرج ابن المنذر عنه (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) قال : الإسرار والكلام الخفيّ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) يقول : ذوي قدرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (إِنَّا لَضَالُّونَ) قال : أضللنا مكان جنتنا. وأخرجا عنه أيضا (قالَ أَوْسَطُهُمْ) قال : أعدلهم.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ

٣٢٦

وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

لما فرغ سبحانه من ذكر حال الكفار ، وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة ذكر حال المتقين ، وما أعدّه لهم من الخير ، فقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : للمتقين ما يوجب سخطه ـ من الكفر والمعاصي ـ عنده عزوجل في الدار الآخرة جنات النعيم الخالص ؛ الّذي لا يشوبه كدر ولا ينغصه خوف زوال (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) الاستفهام للإنكار. وكان صناديد كفار قريش يرون وفور حظّهم في الدنيا ، وقلّة حظوظ المسلمين فيها ، فلما سمعوا بذكر الآخرة ، وما يعطي الله المسلمين فيها قالوا : إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا ، فقال الله مكذبا لهم رادّا عليهم : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ) الآية ، والفاء للعطف على مقدر كنظائره. ثم وبّخهم الله ، فقال : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الأعوج ؛ كأنّ أمر الجزاء مفوّض إليكم تحكمون فيه بما شئتم (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أي : تقرؤون فيه فتجدون المطيع كالعاصي ، ومثل هذا قوله تعالى : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ـ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) (١) ، ثم قال سبحانه : (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) قرأ الجمهور بكسر إن على أنها معمولة لتدرسون ، أي : تدرسون في الكتاب (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) فلما دخلت اللام كسرت الهمزة ، كقوله : علمت إنك لعاقل بالكسر ، أو على الحكاية للمدروس ، كما في قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ـ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٢) وقيل : قد تمّ الكلام عند قوله : (تَدْرُسُونَ) ثم ابتدأ فقال : (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي : ليس لكم ذلك ، وقرأ طلحة بن مصرّف والضحاك (إِنَّ لَكُمْ) بفتح الهمزة على أن العامل فيه تدرسون مع زيادة لام التأكيد ، ومعنى (تَخَيَّرُونَ) : تختارون وتشتهون. ثم زاد سبحانه في التوبيخ فقال : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ) أي : عهود مؤكّدة موثقة متناهية ، والمعنى : أم لكم أيمان على الله استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة ، وقوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالمقدر في لكم ، ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، لا نخرج عن عهدتها حتى يحكمكم يومئذ ، وجواب القسم قوله : (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) لأن معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) أي : أم أقسمنا لكم. قال الرازي : والمعنى أم ضمنا لكم ، وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد. وقيل : قد تمّ الكلام عند قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ثم ابتدأ فقال : (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي : ليس الأمر كذلك. قرأ الجمهور : (بالِغَةٌ) بالرفع على النعت لأيمان ، وقرأ الحسن وزيد بن عليّ بنصبها على الحال من أيمان ؛ لأنها قد تخصّصت بالوصف ، أو من الضمير في لكم أو من الضمير في علينا (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي : سل يا محمد الكفار ، موبّخا لهم ومقرّعا ، أيّهم بذلك الحكم الخارج عن الصواب ، كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها. وقال ابن كيسان : الزعيم هنا القائم بالحجّة والدعوى. وقال الحسن : الزعيم : الرسول (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم فيه (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا

__________________

(١). الصافات : ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٢). الصافات : ٧٨ ـ ٧٩.

٣٢٧

صادِقِينَ) فيما يقولون ، وهو أمر تعجيز. وقيل : المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يوم ظرف ، لقوله فليأتوا ، أي : فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق ، ويجوز أن يكون ظرفا لفعل مقدّر ، أي : اذكر يوم يكشف. قال الواحدي : قال المفسرون في قوله : (عَنْ ساقٍ) عن شدّة من الأمر. قال ابن قتيبة : أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجدّ فيه شمّر عن ساقه ، فيستعار الكشف عن الساق في موضع الشدّة ، وأنشد لدريد بن الصّمّة :

كميش الإزار خارج نصف ساقه

صبور على الجلاء طلّاع أنجد

وقال : وتأويل الآية يوم يشتدّ الأمر كما يشتدّ ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق. قال أبو عبيدة : إذا اشتدّ الحرب والأمر قيل : كشف الأمر عن ساقه ، والأصل فيه : من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجدّ شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدّة ، وهكذا قال غيره من أهل اللغة ، وقد استعملت ذلك العرب في أشعارها ، ومن ذلك قول الشاعر (١) :

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمرت عن ساقها الحرب شمّرا

وقول آخر :

والخيل تعدو عند وقت الإشراق

وقامت الحرب بنا على ساق

وقول آخر أيضا :

قد كشفت عن ساقها فشدّوا

وجدّت الحرب بكم فجدّوا

وقول آخر أيضا :

في سنة قد كشفت عن ساقها

حمراء تبري اللّحم عن عراقها (٢).

وقيل : ساق الشيء : أصله وقوامه كساق الشجرة ، وساق الإنسان ، أي : يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه ، وقيل : يكشف عن ساق جهنم ، وقيل : عن ساق العرش ، وقيل : هو عبارة عن القرب ، وقيل : يكشف الربّ سبحانه عن نوره ، وسيأتي في آخر البحث ما هو الحق ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. قرأ الجمهور (يُكْشَفُ) بالتحتية مبنيا للمفعول ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة تكشف بالفوقية مبنيا للفاعل ، أي : الشدّة أو الساعة ، وقرئ بالفوقية مبنيا للمفعول ، وقرئ بالنون ، وقرئ بالفوقية المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر ، أي : دخل في الكشف (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) قال الواحدي : قال المفسرون : يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ، ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون ؛ لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود. قال الربيع بن أنس : يكشف

__________________

(١). هو حاتم الطائي.

(٢). «العراق» : العظم بغير لحم.

٣٢٨

عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له ، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون ؛ لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا ، وانتصاب (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) على الحال من ضمير «يدعون» ، و «أبصارهم» مرتفع به على الفاعلية ، ونسبة الخشوع إلى الأبصار ، وهو الخضوع والذلة لظهور أثره فيها (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي : تغشاهم ذلّة شديدة وحسرة وندامة (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي : في الدنيا (وَهُمْ سالِمُونَ) أي : معافون عن العلل متمكّنون من الفعل. قال إبراهيم التّيمي : يدعون بالأذان والإقامة فيأبون. وقال سعيد بن جبير : يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجيبون. قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلّفون عن الجماعات. وقيل : يدعون بالتكليف المتوجّه عليهم بالشرع فلا يجيبون ، وجملة (وَهُمْ سالِمُونَ) في محل نصب على الحال من ضمير يدعون (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي : حل بيني وبينه وكل أمره إليّ فأنا أكفيكه. قال الزجاج : معناه لا يشتغل به قلبك ، كله إليّ أكفك أمره. والفاء لترتيب ما بعدها من الأمر على ما قبلها ، و (مَنْ) منصوب بالعطف على ضمير المتكلم أو على أنه مفعول معه ، والمراد بهذا الحديث القرآن ، قاله السدّي. وقيل : يوم القيامة ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجملة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) مستأنفة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ، والضمير عائد إلى «من» باعتبار معناها ، والمعنى : سنأخذهم بالعذاب على غفلة ، ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه ؛ من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج ؛ لأنهم يظنّونه إنعاما ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته. قال سفيان الثوري : يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر. وقال الحسن : كم من مستدرج بالإحسان إليه! وكم من مفتون بالثناء عليه! وكم من مغرور بالستر عليه! والاستدراج : ترك المعاجلة ، وأصله النقل من حال إلى حال ، ويقال : استدرج فلان فلانا ، أي : استخرج ما عنده قليلا قليلا ، ويقال : درّجه إلى كذا واستدرجه ، بمعنى ، أي (١) أدناه إلى التدريج فتدرّج هو. ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين ، فقال : (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي : أمهلهم ليزدادوا إثما. وقد مضى تفسير هذا في سورة الأعراف والطور ، وأصل الملاوة : المدّة من الدهر ، يقال : أملى الله له ، أي : أطال له المدّة ، والملا ، مقصور : الأرض الواسعة ، سمّيت به لامتدادها (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي : قويّ شديد فلا يفوتني شيء ، وسمّى سبحانه إحسانه كيدا ، كما سمّاه استدراجا ؛ لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته ووصفه بالمتانة لقوّة أثره في التسبب للهلاك (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أعاد سبحانه الكلام إلى ما تقدّم من قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي : أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) المغرم : الغرامة ، أي : فهم من غرامة ذلك الأجر ، و «مثقلون» أي : يثقل عليهم حمله لشحّهم ببذل المال ، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب ، والاستفهام للتوبيخ لهم ، والمعنى : أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي : اللوح المحفوظ ، أو كلّ ما غاب عنهم ، فهم

__________________

(١). من تفسير القرطبي (١٨ / ٢٥٢)

٣٢٩

من ذلك الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدلّ على قولهم ، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ويستغنون بذلك عن الإجابة لك والامتثال لما تقوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لقضائه الّذي قد قضاه في سابق علمه ، قيل : والحكم هنا هو إمهالهم وتأخير نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وقيل : هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة ، قيل : وهذا منسوخ بآية السيف (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني يونس عليه‌السلام ، أي : لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة. والظرف في قوله : (إِذْ نادى) منصوب بمضاف محذوف ، أي : لا تكن حالك كحاله وقت ندائه ، وجملة (وَهُوَ مَكْظُومٌ) في محل نصب على الحال من فاعل نادى ، والمكظوم : المملوء غيظا وكربا. قال قتادة : إن الله يعزّي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت ، وقد تقدّم بيان قصته في سورة الأنبياء ويونس والصّافّات ، وكان النداء منه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (١) وقيل : إن المكظوم : المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس. قاله المبرّد ، وقيل : هو المحبوس ، والأوّل أولى ، ومنه قول ذي الرّمة :

وأنت من حبّ ميّ مضمر حزنا

عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : لو لا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من الله وهي توفيقه للتوبة فتاب الله عليه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) أي : لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات (وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي : يذمّ ويلام بالذنب الّذي أذنبه ويطرد من الرحمة ، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير نبذ. قال الضحاك : النعمة هنا للنبوّة. وقال سعيد بن جبير : عبادته التي سلفت. وقال ابن زيد : هي نداؤه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقيل : مذموم : مبعد. وقيل : مذنب. قرأ الجمهور : (تَدارَكَهُ) على صيغة الماضي ، وقرأ الحسن وابن هرمز والأعمش بتشديد الدال ، والأصل تتداركه بتاءين مضارعا فأدغم ، وتكون هذه القراءة على حكاية الحال الماضية ، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس تداركته بتاء التأنيث (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي : استخلصه واصطفاه واختاره للنبوّة (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : الكاملين في الصلاح وعصمه من الذنب ، وقيل : ردّ إليه النبوّة وشفعه في نفسه وفي قومه ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون كما تقدّم (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) إن هي المخففة من الثقيلة. قرأ الجمهور : (لَيُزْلِقُونَكَ) بضم الياء من أزلقه ، أي : أزلّ رجله ، يقال : أزلقه عن موضعه إذا نحّاه ، وقرأ نافع وأهل المدينة بفتحها من زلق عن موضعه ؛ وإذا تنحّى. قال الهروي : أي : فيغتالونك بعيونهم فيزلقونك عن مقامك الّذي أقامك الله فيه عداوة لك ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش ومجاهد وأبو وائل ليرهقونك أي : يهلكونك. وقال الكلبي : (لَيُزْلِقُونَكَ) أي : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة ، وكذا قال السدّي وسعيد بن جبير. وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك. وقال

__________________

(١). الأنبياء : ٨٧.

٣٣٠

الحسن وابن كيسان : ليقتلونك. قال الزجاج في الآية : مذهب أهل اللغة والتأويل أنهم من شدّة إبغاضهم وعداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك ، وهذا مستعمل في الكلام ، يقول القائل نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ، ونظرا يكاد يأكلني. قال ابن قتيبة : ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه ، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك ، كما قال الشاعر :

يتقارضون إذا التقوا في مجلس

نظرا يزيل مواطئ الأقدام

(لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي : وقت سماعهم للقرآن لكراهتهم لذلك أشدّ كراهة ، ولما : ظرفية منصوبة بيزلقونك ، وقيل : هي حرف ، وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي : ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن ، فردّ الله عليهم بقوله : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) والجملة مستأنفة ، أو في محل نصب على الحال من فاعل يقولون ، أي : والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه ، أو شرف لهم كما قال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقيل : الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنه مذكر للعالمين أو شرف لهم.

وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا» وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما ، وله ألفاظ في بعضها طول ، وهو حديث مشهور معروف. وأخرج ابن مندة عن أبي هريرة في الآية قال : يكشف الله عزوجل عن ساقه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن مندة عن ابن مسعود في الآية قال : يكشف عن ساقه تبارك وتعالى. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر ، وابن مردويه في الأسماء والصفات ، وضعّفه وابن عساكر عن أبي موسى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قال : «عن نور عظيم فيخرّون له سجدا». وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن مندة والبيهقي عن إبراهيم النّخعي عن ابن عباس في الآية قال : يكشف عن أمر عظيم ، ثم قال : قد قامت الحرب على ساق. قال : وقال ابن مسعود : يكشف عن ساقه فيسجد كلّ مؤمن ، ويقسو ظهر الكافر فيصير عظما واحدا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق (١)

قال ابن عباس : هذ يوم كرب شديد ، روي عنه نحو هذا من طرق أخرى ، وقد أغنانا الله سبحانه في

__________________

(١). جاء هذا القول على المثل. كما في اللسان (مادة سوق) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (٤٨١)

٣٣١

تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما عرفت ، وذلك لا يستلزم تجسيما ولا تشبيها فليس كمثله شيء.

دعوا كلّ قول عند قول محمّد

فما آمن في دينه كمخاطر

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) قال : هم الكفار يدعون في الدنيا وهم آمنون فاليوم يدعون وهم خائفون. وأخرج البيهقي في الشعب عنه في الآية قال : الرجل يسمع الأذان فلا يجيب الصلاة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله : (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قال : ينفذونك بأبصارهم.

* * *

٣٣٢

سورة الحاقّة

هي إحدى وخمسون آية ، وقيل : اثنتان وخمسون وهي مكية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحاقة بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الطبراني عن أبي برزة قال : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الفجر بالحاقة ونحوها».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

قوله : (الْحَاقَّةُ) هي القيامة ؛ لأن الأمر يحقّ فيها ، وهي تحقّ في نفسها من غير شك. قال الأزهري : يقال : حاققته فحققته أحقّه : غالبته فغلبته أغلبه ، فالقيامة حاقة لأنها تحقّ كلّ محاقّ في دين الله بالباطل وتخصم كل مخاصم. وقال في الصحاح : حاقّه أي خاصمه في صغار الأشياء ، ويقال : ما له فيها حقّ ولا حقاق ، أي : خصومة ، والتحاقّ : التخاصم ، والحاقة والحقّة والحقّ ثلاث لغات بمعنى. قال الواحدي : هي القيامة في قول كل المفسرين ، وسمّيت بذلك لأنها ذات الحواقّ من الأمور ، وهي الصادقة الواجبة الصدق ، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود. قال الكسائي والمؤرّج : الحاقة يوم الحق ، وقيل : سمّيت بذلك لأنّ كلّ إنسان فيها حقيق بأن يجزى بعمله ، وقيل : سميت بذلك لأنها أحقّت لقوم النار ، وأحقّت لقوم الجنّة ، وهي مبتدأ وخبرها قوله : (مَا الْحَاقَّةُ) على أن «ما» الاستفهامية مبتدأ ثان وخبره «الحاقة» ، والجملة خبر للمبتدأ الأول ، والمعنى : أيّ شيء هي في حالها أو صفاتها ، وقيل : إن «ما» الاستفهامية خبر لما بعدها ، وهذه الجملة وإن كان لفظها لفظ الاستفهام فمعناها التعظيم والتفخيم لشأنها ، كما تقول : زيد ما زيد ، وقد قدّمنا تحقيق هذا المعنى في سورة الواقعة. ثم زاد سبحانه في تفخيم أمرها وتفظيع شأنها وتهويل حالها فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) أي : أيّ شيء أعلمك ما هي؟ أي : كأنك لست تعلمها إذ لم

٣٣٣

تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين. قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن (وَما أَدْراكَ) فقد أدراه إياه وعلمه ، وكلّ شيء قال فيه : (وَما يُدْرِيكَ) [فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : (وَما أَدْراكَ)] (١) فإنه أخبره به ، و «ما» مبتدأ ، وخبره «أدراك» ، و «ما الحاقة» جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بإسقاط الخافض ؛ لأن أدرى يتعدّى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني ، وبدون الهمزة يتعدى إلى مفعول واحد بالباء نحو : دريت بكذا ، وإن كان بمعنى العلم تعدّى إلى مفعولين ، وجملة «وما أدراك» معطوفة على جملة «ما الحاقة». (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي : بالقيامة ، وسمّيت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. وقال المبرّد : عنى بالقارعة القرآن الّذي نزل في الدنيا على أنبيائهم ، وكانوا يخوّفونهم بذلك فيكذبونهم ، وقيل : القارعة مأخوذة من القرعة لأنها ترفع أقواما وتحطّ آخرين ، والأوّل أولى ، ويكون وضع القارعة موضع ضمير الحاقة للدلالة على عظيم هولها وفظاعة حالها ، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقة (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) ثمود : هم قوم صالح ، وقد تقدّم بيان هذا في غير موضع وبيان منازلهم وأين كانت ، والطاغية الصيحة التي جاوزت الحدّ ، وقيل : بطغيانهم وكفرهم ، وأصل الطغيان : مجاوزة الحدّ (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) عاد : هم قوم هود ، وقد تقدّم بيان هذا ، وذكر منازلهم وأين كانت في غير موضع ، والريح الصرصر : هي الشديدة البرد ، مأخوذ من الصرّ وهو البرد ، وقيل : هي الشديدة الصوت. وقال مجاهد : الشديدة السموم ، والعاتية : التي عتت عن الطاعة ؛ فكأنها عتت على خزّانها فلم تطعهم ، ولم يقدروا على ردّها لشدّة هبوبها ، أو عتت على عاد ؛ فلم يقدروا على ردّها ، بل أهلكتهم (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ) هذه الجملة مستأنفة لبيان كيفية إهلاكهم ، ومعنى سخّرها : سلّطها ، كذا قال مقاتل ، وقيل : أرسلها. وقال الزجاج : أقامها عليهم كما شاء ، والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار ، ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة لريح ، وأن تكون حالا منها لتخصيصها بالصفة ، أو من الضمير في عاتية ، (وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) معطوف على سبع ليال ، وانتصاب (حُسُوماً) على الحال ، أي : ذات حسوم ، أو على المصدر بفعل مقدّر ، أي : تحسمهم حسوما ، أو على أنه مفعول به ، والحسوم : التتابع ، فإذا تتابع الشيء ولم ينقطع أوّله عن آخره قيل له : الحسوم. قال الزجاج : الّذي توجبه اللغة في معنى قوله حسوما ، أي : تحسمهم حسوما : تفنيهم وتذهبهم. قال النضر بن شميل : حسمتهم : قطعتهم وأهلكتهم. وقال الفراء : الحسوم : التّباع ، من حسم الداء وهو الكيّ ، لأن صاحبه يكوى بالمكواة ، ثم يتابع ذلك عليه ، ومنه قول أبي داود (٢) :

يفرّق بينهم زمن طويل

تتابع فيه أعواما حسوما (٣)

__________________

(١). من تفسير القرطبي (١٨ / ٢٥٧)

(٢). في تفسير القرطبي : عبد العزيز بن زرارة الكلابي.

(٣). في تفسير القرطبي :

ففرّق بين بينهم زمان

تتابع فيه أعوام حسوم

٣٣٤

وقال المبرّد : هو من قولك : حسمت الشيء ؛ إذا قطعته وفصلته عن غيره ، وقيل : الحسم : الاستئصال ، ويقال للسيف حسام ؛ لأنه يحسم العدوّ عما يريده من بلوغ عداوته ، والمعنى : أنها حسمتهم ، أي : قطعتهم وأذهبتهم ، ومنه قول الشاعر :

فأرسلت ريحا دبورا عقيما

فدارت عليهم فكانت حسوما

قال ابن زيد : أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وروي عنه أنه قال : حسمت الأيام والليالي حتى استوفتها ، لأنها بدأت بطلوع الشمس من أوّل يوم وانقطعت بغروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث : الحسوم هي الشؤم ، أي : تحسم الخير عن أهلها ، كقوله : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) (١).

واختلف في أوّلها ، فقيل : غداة الأحد ، وقيل : غداة الجمعة ، وقيل : غداة الأربعاء. قال وهب : وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز ، كان فيها برد شديد وريح شديدة ، وكان أوّلها يوم الأربعاء ، وآخرها يوم الأربعاء. (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) الخطاب لكلّ من يصلح له على تقدير أنه لو كان حاضرا حينئذ لرأى ذلك ، والضمير في فيها يعود إلى الليالي والأيام ، وقيل : إلى مهاب الريح ، والأوّل أولى. وصرعى : جمع صريع ، يعني : موتى (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي : أصول نخل ساقطة ، أو بالية ، وقيل : خالية لا جوف فيها ، والنخل يذكّر ويؤنّث ، ومثله قوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢) وقد تقدّم تفسيره ، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. قال يحيى بن سلام : إنما قال خاوية لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي : من فرقة باقية ، أو من نفس باقية ، أو من بقيّة ، على أن باقية مصدر كالعاقبة والعافية. قال ابن جريج : أقاموا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا ، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) أي : من الأمم الكافرة. قرأ الجمهور قبله بفتح القاف وسكون الباء ، أي : ومن تقدّمه من القرون الماضية والأمم الخالية ، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء ، أي : ومن هو في جهته من أتباعه ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الثانية لقراءة ابن مسعود وأبيّ «ومن معه» ، ولقراءة أبي موسى «ومن تلقاءه» (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) قرأ الجمهور : (الْمُؤْتَفِكاتُ) بالجمع وهي قرى قوم لوط ، وقرأ الحسن والجحدري : المؤتفكة بالإفراد ، واللام للجنس ، فهي في معنى الجمع ، والمعنى : وجاءت المؤتفكات (بِالْخاطِئَةِ) أي : بالفعلة الخاطئة ، أو الخطأ على أنها مصدر. والمراد أنها جاءت بالشرك والمعاصي. قال مجاهد : بالخطايا. وقال الجرجانيّ : بالخطإ العظيم (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي : فعصت كلّ أمة رسولها المرسل إليها. قال الكلبي : هو موسى : وقيل : لوط لأنه أقرب ، وقيل : ورسول هنا بمعنى رسالة ، ومنه قول الشاعر (٣) :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول

__________________

(١). فصلت : ١٦.

(٢). القمر : ٢٠.

(٣). هو كثيّر عزّة.

٣٣٥

أي : برسالة. (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي : أخذهم الله أخذة نامية زائدة على أخذات الأمم ، والمعنى : أنها بالغة في الشدّة إلى الغاية ، يقال : ربا الشيء يربو ؛ إذا زاد وتضاعف. قال الزجاج : تزيد على الأخذات. قال مجاهد : شديدة (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي : تجاوز في الارتفاع والعلوّ ، وذلك في زمن نوح لما أصرّ قومه على الكفر وكذبوه ، وقيل : طغى على خزّانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي : في أصلاب آبائكم ، أو حملناهم وحملناكم في أصلابهم تغليبا للمخاطبين على الغائبين. والجارية : سفينة نوح ، وسمّيت جارية لأنها تجري في الماء ، ومحل «في الجارية» النصب على الحال ، أي : رفعناكم فوق الماء حال كونكم في السفينة ، ولما كان المقصود من ذكر قصص هذه الأمم ، وذكر ما حلّ بهم من العذاب ، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول ، قال : (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي : لنجعل هذه الأمور المذكورة لكم ، يا أمة محمّد ، عبرة وموعظة ؛ تستدلون بها على عظيم قدرة الله وبديع صنعه ، أو لنجعل هذه الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لكم تذكرة ، (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي : تحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت. قال الزجاج : يقال وعيت كذا ، أي : حفظته في نفسي ، أعيه وعيا ، ووعيت العلم ، ووعيت ما قلته ؛ كلّه بمعنى ، وأوعيت المتاع في الوعاء ، ويقال لكل ما وعيته في غير نفسك : أوعيته بالألف ، ولما حفظته في نفسك : وعيته بغير ألف. قال قتادة في تفسير الآية : أذن سمعت وعقلت ما سمعت. قال الفراء : المعنى لتحفظها كل أذن ؛ عظة لمن يأتي بعد. قرأ الجمهور (تَعِيَها) بكسر العين. وقرأ طلحة بن مصرّف وحميد الأعرج وأبو عمرو في رواية عنه بإسكان العين ، تشبيها لهذه الكلمة برحم وشهد ، وإن لم تكن من ذلك. قال الرازي : وروي عن ابن كثير إسكان العين ، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة كلمة واحدة ، فخفف وأسكن ، كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف انتهى. والأولى أن يكون هذا من باب إجراء الوصل مجرى الوقف ، كما في قراءة من قرأ (وَما يُشْعِرُكُمْ) (١) بسكون الراء ، قال القرطبي : واختلفت القراءة فيها عن عاصم وابن كثير ، يعني تعيها (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) هذا شروع في بيان الحاقة ، وكيف وقوعها ، بعد بيان شأنها بإهلاك المكذبين. قال عطاء : يريد النفخة الأولى. وقال الكلبي ومقاتل : يريد النفخة الأخيرة. قرأ الجمهور : (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) بالرفع فيهما على أن نفخة مرتفعة على النيابة ، وواحدة تأكيد لها ، وحسن تذكير الفعل لوقوع الفصل ، وقرأ أبو السّمّال بنصبهما على أن النائب هو الجار والمجرور. قال الزجاج : قوله : (فِي الصُّورِ) يقوم مقام ما لم يسمّ فاعله (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي : رفعت من أماكنها وقلعت عن مقارّها بالقدرة الإلهية. قرأ الجمهور : (حُمِلَتِ) بتخفيف الميم. وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن عامر في رواية عنه بتشديدها للتكثير أو للتعدية (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي : فكسرتا كسرة واحدة لا زيادة عليها ، أو ضربتا ضربة واحدة بعضهما ببعض حتى صارتا كثيبا مهيلا وهباء منبثا. قال الفراء : ولم

__________________

(١). الأنعام : ١٠٩.

٣٣٦

يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة ، ومثله قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (١) وقيل : دكّتا : بسطتا بسطة واحدة ، ومنه اندك سنام البعير ؛ إذا انفرش على ظهره (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي : انشقت بنزول ما فيها من الملائكة ، فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية. قال الزجاج : يقال : لكل ما ضعف جدّا قد وهي فهو واه ، وقال الفرّاء : وهيها : تشقّقها (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي : جنس الملك على أطرافها وجوانبها ، وهي جمع رجا مقصور ، وتثنيته رجوان ، مثل قفا وقفوان ، والمعنى : أنها لما تشقّقت السماء ، وهي مساكنهم ، لجئوا إلى أطرافها. قال الضحاك : إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت ، وتكون الملائكة على حافاتها حيث يأمرهم الربّ فينزلون إلى الأرض ، ويحيطون بالأرض ومن عليها. وقال سعيد بن جبير : المعنى : والملك على حافات الدنيا ، أي : ينزلون إلى الأرض ، وقيل : إذا صارت السماء قطعا يقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشقّقة في أنفسها (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي : يحمله فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك ، وقيل : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عزوجل ، وقيل : ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة ، قاله الكلبي وغيره (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) أي : تعرض العباد على الله لحسابهم ، ومثله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) (٢) ، وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالما به. وإنما هو عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال ، وجملة (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) في محل نصب على الحال من ضمير تعرضون ، أي : تعرضون حال كونه لا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم أو أقوالكم وأفعالكم خافية كائنة ما كانت ، والتقدير : أيّ نفس خافية ، أو فعلة خافية.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (الْحَاقَّةُ) من أسماء القيامة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عنه قال : ما أرسل الله شيئا من ريح إلا بمكيال ، ولا قطرة من ماء إلا بمكيال ؛ إلا يوم نوح ويوم عاد. فأما يوم نوح فإن الماء طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل ، ثم قرأ : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) وأما يوم عاد فإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل ، ثم قرأ : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ). وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب نحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدّبور». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر مرفوعا : «قال ما أمر الخزّان أن يرسلوا على عاد إلا مثل موضع الخاتم من الريح ، فعتت على الخزان فخرجت من نواحي الأبواب» فذلك قوله : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) قال : عتوّها : عتت على الخزّان. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) قال : الغالبة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود في قوله : (حُسُوماً) قال : متتابعات. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير من طرق عن ابن عباس في قوله :

__________________

(١). الأنبياء : ٣٠.

(٢). الكهف : ٤٨.

٣٣٧

(حُسُوماً) قال : تباعا ، وفي لفظ : متتابعات. وأخرج ابن المنذر عنه (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) قال : هي أصولها ، وفي قوله : (خاوِيَةٍ) قال : خربة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أيضا في قوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) قال : طغى على خزانه فنزل ، ولم ينزل من السماء ماء إلا بمكيال أو ميزان إلا زمن نوح فإنه طغى على خزانه فنزل بغير كيل ولا وزن. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، من طريق مكحول عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ» فقال علي : ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فنسيته. قال ابن كثير : وهو حديث مرسل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن بريدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ : «إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك ، وأن تعي ، وحقّ لك أن تعي ، فنزلت هذه الآية (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) فأنت أذن واعية ، لعليّ» قال ابن كثير : ولا يصح. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر في قوله : (أُذُنٌ واعِيَةٌ) قال : أذن عقلت عن الله. وأخرج الحاكم ، والبيهقي في البعث ، عن أبيّ بن كعب في قوله : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) قال : تصيران غبرة على وجوه الكافرين لا على وجوه المؤمنين ، وذلك قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ـ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (١). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) قال : متخرقة. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) قال : على حافاتها على ما لم يهيئ منها. وأخرج عبد بن حميد ، وعثمان بن سعيد الدّارمي في الردّ على الجهمية ، وأبو يعلى وابن المنذر وابن خزيمة ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والخطيب في تالي التلخيص ، عنه أيضا في قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال : ثمانية أملاك على صورة الأوعال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا من طرق في الآية قال : يقال ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلّا الله ، ويقال : ثمانية أملاك رؤوسهم عند العرش في السماء السابعة وأقدامهم في الأرض السفلى ، ولهم قرون كقرون الوعلة ، ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمائة عام. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي ؛ فآخذ بيمينه وآخذ بشماله». وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في البعث ، عن ابن مسعود نحوه.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ

__________________

(١). عبس : ٤٠ ـ ٤١.

٣٣٨

كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

لما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي : أعطي كتابه الّذي كتبته الحفظة عليه من أعماله (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) يقول ذلك سرورا وابتهاجا. قال ابن السكيت والكسائي : العرب تقول : هاء يا رجل ، وللاثنين هاؤما يا رجلان ، وللجمع هاؤم يا رجال ، وقيل : والأصل هاكم ، فأبدلت الهمزة من الكاف ، قال ابن زيد : ومعنى هاؤم : تعالوا. وقال مقاتل : هلم ، وقيل : خذوا ، فهي اسم فعل ، وقد يكون فعلا صريحا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها ، وفيها ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب ، وقوله : (كِتابِيَهْ) معمول لقوله : (اقْرَؤُا) لأنه أقرب الفعلين ، ومعمول (هاؤُمُ) محذوف يدل عليه معمول (اقْرَؤُا) والتقدير : هاؤم كتابيه اقرءوا كتابيه ، والهاء في كتابيه وحسابيه وسلطانيه وماليه هي هاء السكت. قرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفا ووصلا مطابقة لرسم المصحف ، ولو لا ذلك لحذفت في الوصل كما هو شأن هاء السكت ، واختار أبو عبيد أن يتعمّد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط ، يعني خط المصحف. وقرأ ابن محيصن وابن أبي إسحاق وحميد ومجاهد والأعمش ويعقوب بحذفها وصلا وإثباتها وقفا في جميع هذه الألفاظ. ورويت هذه القراءة عن حمزة ، واختار أبو حاتم هذه القراءة اتباعا للغة. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ بحذفها وصلا ووقفا. (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي : علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة ، وقيل : المعنى : إني ظننت أن يأخذني الله بسيئاتي فقد تفضّل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني. قال الضحاك : كل ظنّ في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك. قال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك. قال الحسن في هذه الآية : إن المؤمن أحسن الظنّ بربه ، فأحسن العمل للآخرة ، وإن الكافر أساء الظنّ بربه فأساء العمل. قيل : والتعبير بالظنّ هنا للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : في عيشة مرضية لا مكروهة ، أو ذات رضى ، أي : يرضى بها صاحبها. قال أبو عبيدة والفرّاء : راضية أي مرضية ، كقوله : (ماءٍ دافِقٍ) (١) أي : مدفوق ، فقد أسند إلى العيشة ما هو لصاحبها ، فكان ذلك من المجاز في الإسناد (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي : مرتفعة المكان لأنها في السماء ، أو مرتفعة المنازل ، أو عظيمة في النفوس (قُطُوفُها دانِيَةٌ) القطوف : جمع قطف بكسر

__________________

(١). الطارق : ٦.

٣٣٩

ما يقطف من الثمار ، والقطف بالفتح المصدر ، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف ، والمعنى : أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي : يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة (هَنِيئاً) أي : أكلا وشربا هنيئا لا تكدير فيه ولا تنغيص (بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي : بسبب ما قدّمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا. وقال مجاهد : هي أيام الصيام (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) حزنا وكربا لما رأى فيه من سيئاته : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) أي : لم أعط كتابيه (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أي : لم أدر أيّ شيء حسابي ؛ لأن كلّه عليه (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي : ليت الموتة التي متّها كانت القاضية ولم أحي بعدها ، ومعنى : القاضية : القاطعة للحياة ، والمعنى : أنه تمنى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب ، فالضمير في ليتها يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها وإن لم تكن مذكورة ؛ لأنها لظهورها كانت كالمذكورة. قال قتادة : تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره منه ، وشر من الموت ما يطلب منه الموت. وقيل : الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت عليّ (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي : لم يدفع عني من عذاب الله شيئا ، على أن ما نافية أو استفهامية ، والمعنى : أيّ شيء أغنى عني مالي (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي : هلكت عني حجّتي وضلّت عني ، كذا قال مجاهد وعكرمة والسدّي والضحاك. وقال ابن زيد : يعني سلطاني الّذي في الدنيا ، وهو الملك ، وقيل : تسلّطي على جوارحي. قال مقاتل : يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك ، وحينئذ يقول الله عزوجل : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أي : اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي : أدخلوه الجحيم ، والمعنى : لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظيمة (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) السلسلة : حلق منتظمة ، وذرعها : طولها. قال الحسن : الله أعلم بأيّ ذراع هو. قال نوف الشامي : كل ذراع سبعون باعا أبعد مما بينك وبين مكة ، وكان نوف في رحبة الكوفة. قال مقاتل : لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص ، ومعنى (فَاسْلُكُوهُ) فاجعلوه فيها ، يقال : سلكته الطريق إذا أدخلته فيه. قال سفيان : بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. قال الكلبي : تسلك سلك الخيط في اللؤلؤ. وقال سويد بن أبي نجيح : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة. وتقديم السلسلة للدلالة على الاختصاص كتقديم الجحيم ، وجملة (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) تعليل لما قبلها (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي : لا يحث على إطعام المسكين من ماله ، أو لا يحثّ الغير على إطعامه ، ووضع الطعام موضع الإطعام كما يوضع العطاء موضع الإعطاء ، كما قال الشاعر (١) :

أكفرا بعد ردّ موتي عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٢)

__________________

(١). هو القطامي.

(٢). «الرتاع» : التي ترتع.

٣٤٠