فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

خوّف سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشدّ منهم ، فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) قد قدّمنا أن «كأين» مركبة من الكاف وأيّ ، وأنها بمعنى كم الخبرية ؛ أي : وكم من قرية ، وأنشد الأخفش قول الوليد (١) :

وكأين رأينا من ملوك وسوقة

ومفتاح قيد للأسير المكبل

ومعنى الآية : وكم من أهل قرية هم أشدّ قوة من أهل قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) فبالأولى من هو أضعف منهم وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي مكة ، فالكلام على حذف المضاف ؛ كما في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) قال مقاتل : أي أهلكناهم بالعذاب حين كذّبوا رسولهم. ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن وحال الكافر فقال : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، ومن مبتدأ ، والخبر (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وأفرد في هذا باعتبار لفظ من ، وجمع في قوله : (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) باعتبار معناها ، والمعنى : أنه لا يستوي من كان على يقين من ربّه ولا يكون كمن زيّن له سوء عمله ، وهو عبادة الأوثان ، والإشراك بالله ، والعمل بمعاصي الله ، واتبعوا أهواءهم في عبادتها ، وانهمكوا في أنواع الضلالات ، بل شبهة توجب الشك فضلا عن حجّة نيّرة. ثم لمّا بيّن سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق في مرجعهما ومآلهما ، فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة وبيان ما فيها ، ومعنى (مَثَلُ الْجَنَّةِ) وصفها العجيب الشأن ، وهو مبتدأ وخبره محذوف. قال النضر بن شميل : تقديره ما يسمعون ، وقدّره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، قال : والمثل هو الوصف ، ومعناه وصف الجنة ، وجملة (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) إلخ ، مفسرة للمثل. وقيل : إنّ «مثل» زائدة ، وقيل : إن مثل الجنة مبتدأ ، والخبر فيها أنهار ، وقيل : خبره كمن هو خالد ، والآسن : المتغير ، يقال : أسن الماء يأسن أسونا ؛ إذا تغيرت رائحته ، ومثله الآجن ، ومنه قول زهير :

قد أترك القرن مصفرّا أنامله

يميد في الرّمح ميد الماتح الآسن

قرأ الجمهور : (آسِنٍ) بالمدّ. وقرأ حميد وابن كثير بالقصر ، وهما لغتان كحاذر وحذر. وقال الأخفش : إن الممدود يراد به الاستقبال ، والمقصور يراد به الحال (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي : لم يحمض كما تغير ألبان الدنيا ؛ لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي : لذيذة لهم ، طيبة الشرب ، لا يتكرهها الشاربون ، يقال : شراب لذّ ولذيذ وفيه لذة بمعنى ، ومثل هذه الآية قوله : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) قرأ الجمهور (لَذَّةٍ) بالجرّ صفة لخمر ، وقرئ بالنصب على أنه مصدر ، أو مفعول له. وقرئ بالرفع صفة لأنهار (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي : مصفّى ممّا يخالطه

__________________

(١). في تفسير القرطبي : لبيد.

٤١

من الشمع والقذى والعكر والكدر (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات ، أي : من كلّ صنف من أصنافها ، و (مِنْ) زائدة للتوكيد (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) لذنوبهم ، وتنكير مغفرة للتعظيم ، أي : ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) هو خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالدا فيها كمن هو خالد في النار ، أو خبر لقوله : مثل الجنة كما تقدّم. ورجح الأوّل الفراء فقال : أراد أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار. وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه ، وأعطى هذه الأشياء ، كمن زيّن له سوء عمله وهو خالد في النار؟ فقوله : (كَمَنْ) بدل من قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وقال ابن كيسان : ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم ، وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم ، وقوله : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية ، لكنه راعى في الأولى لفظ من ، وفي الثانية معناها ، والحميم : الماء الحارّ الشديد الغليان ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، وهو معنى قوله : (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) لفرط حرارته. والأمعاء : جمع معي ، وهي ما في البطون من الحوايا. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي : من هؤلاء الكفار الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام من يستمع إليك ، وهم المنافقون. أفرد الضمير باعتبار لفظ من ، وجمع في قوله : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) باعتبار معناها ، والمعنى : أن المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومواطن خطبه التي يمليها على المسلمين ، حتى إذا خرجوا من عنده (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم علماء الصحابة ، وقيل : عبد الله بن عباس ، وقيل : عبد الله بن مسعود ، وقيل : أبو الدرداء ، والأوّل أولى ، أي : سألوا أهل العلم ، فقالوا لهم : (ما ذا قالَ آنِفاً) أي : ماذا قال النبيّ الساعة على طريقة الاستهزاء ، والمعنى :

أنا لم نلتفت إلى قوله ، وآنفا يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات ، ومنه أمر أنف ، أي : مستأنف ، وروضة أنف ، أي : لم يرعها أحد ، وانتصابه على الظرفية ، أي : وقتا مؤتنفا ، أو حال من الضمير في قال. قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء ؛ إذا ابتدأته ، وأصله مأخوذ من أنف الشيء لما تقدّم منه ، مستعار من الجارحة ، ومنه قول الشاعر (١) :

ويحرم سرّ جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع

والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المذكورين من المنافقين (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلم يؤمنوا ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي : في الكفر والعناد. ثم ذكر حال أضدادهم فقال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) أي : والذين اهتدوا إلى طريق الخير ، فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به زادهم هدى بالتوفيق ، وقيل : زادهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : زادهم القرآن. وقال الفراء : زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى. وقيل : زادهم نزول الناسخ هدى ، وعلى كل تقدير فالمراد أنه زادهم إيمانا وعلما

__________________

(١). هو الحطيئة.

٤٢

وبصيرة في الدين (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي : ألهمهم إياها وأعانهم عليها. والتقوى في الربيع : هي الخشية. وقال السدّي : هي ثواب الآخرة. وقال مقاتل : هي التوفيق للعمل الّذي يرضاه ، وقيل : العمل بالناسخ وترك المنسوخ ، وقيل : ترك الرّخص والأخذ بالعزائم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي : القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي : فجأة ، وفي هذا وعيد للكفار شديد ، وقوله : (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) بدل من الساعة بدل اشتمال. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي : «إن تأتهم» بإن الشرطية (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي : أماراتها وعلاماتها ، وكانوا قد قرءوا في كتبهم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر الأنبياء ، فبعثته من أشراطها ، قاله الحسن والضحاك. والأشراط : جمع شرط بسكون الراء وفتحها. وقيل : المراد بأشراطها هنا : أسبابها التي هي دون معظمها. وقيل : أراد بعلامات الساعة انشقاق القمر والدخان ، كذا قال الحسن ، وقال الكلبي : كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام ، ومنه قول أبي الأسود :

فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوّله تبدو

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) ذكراهم مبتدأ وخبره فإنّى لهم ، أي : أنّى لهم التذكّر إذا جاءتهم الساعة ، كقوله : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) (١) و «إذا جاءتهم» اعتراض بين المبتدأ والخبر (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي : إذا علمت أن مدار الخير هو التوحيد والطاعة ، ومدار الشرّ هو الشرك والعمل بمعاصي الله فاعلم أنه لا إله غيره ولا ربّ سواه ، والمعنى : اثبت على ذلك واستمر عليه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان عالما بأنه لا إله إلا الله قبل هذا ، وقيل : ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا. وقيل : المعنى : فاذكر أنه لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي : استغفر الله أن يقع منك ذنب ، أو استغفر الله ليعصمك ، أو استغفره مما ربما يصدر منك من ترك الأولى. وقيل : الخطاب له ، والمراد الأمة ، ويأبى هذا قوله : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فإن المراد به استغفاره لذنوب أمته بالدعاء لهم بالمغفرة عمّا فرط من ذنوبهم (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في أعمالكم (وَمَثْواكُمْ) في الدار الآخرة ، وقيل : متقلّبكم في أعمالكم نهارا ومثواكم في ليلكم نياما. وقيل : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم في الأرض ، أي : مقامكم فيها. قال ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا ، ومثواكم في القبور.

وقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس : «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحبّ بلاد الله إليّ ، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج ، فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بدخول الجاهلية» فأنزل الله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال : غير متغير. وأخرج أحمد ، والترمذي وصحّحه ، وابن المنذر وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن معاوية بن حيدة سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر

__________________

(١). الفجر : ٢٣.

٤٣

الخمر ، ثم تشقّق الأنهار منها». وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، والبيهقي عن كعب قال : نهر النيل نهر العسل في الجنة ، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة ، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة ، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) قال : كنت فيمن يسأل. وأخرج عبد بن حميد من وجه آخر عنه في الآية قال : أنا منهم. وفي هذا منقبة لابن عباس جليلة لأنه كان إذ ذاك صبيا غير بالغ ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات وهو في سنّ البلوغ ، فسؤال الناس له عن معاني القرآن في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصف الله سبحانه للمسئولين بأنهم الذين أوتوا العلم وهو منهم من أعظم الأدلة على سعة علمه ومزيد فقهه في كتاب الله وسنة رسوله ، مع كون أترابه وأهل سنّه إذ ذاك يلعبون مع الصبيان. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا خرجوا من عنده قالوا لابن عباس : ماذا قال آنفا؟ فيقول : كذا وكذا ، وكان ابن عباس أصغر القوم ، فأنزل الله الآية ، فكان ابن عباس من الذين أتوا العلم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن عساكر عن ابن بريدة في الآية قال : هو عبد الله بن مسعود. وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : هو عبد الله بن مسعود. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) قال : لما أنزل القرآن آمنوا به ، فكان هدى ، فلما تبين الناسخ من المنسوخ زادهم هدى. وأخرج ابن المنذر عنه (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) قال : أوّل الساعات. وقد ثبت في الصحيحين وغير هما من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأشار بالوسطى والسبابة» ومثله عند البخاري من حديث سهل بن سعد. وفي الباب أحاديث كثيرة فيها بيان أشراط الساعة وبيان ما قد وقع منها وما لم يكن قد وقع ، وهي تأتي في مصنّف مستقل فلا نطيل بذكرها. وأخرج الطبراني وابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الاستغفار» ثم قرأ : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة في قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة». وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن سرجس قال : «أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكلت معه من طعام ، فقلت : غفر الله لك يا رسول الله ، قال : ولك ، فقيل : أستغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم ولكم ، وقرأ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)». وقد ورد أحاديث في استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه ولأمته وترغيبه في الاستغفار. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا (وَمَثْواكُمْ) في الآخرة.

٤٤

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

سأل المؤمنون ربهم عزوجل أن ينزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار ؛ حرصا منهم على الجهاد ، ونيل ما أعدّ الله للمجاهدين من جزيل الثواب ، فحكى الله عنهم ذلك بقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي : هلا نزلت (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي : غير منسوخة (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي : فرض الجهاد. قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين ، وفي قراءة ابن مسعود «فإذا أنزلت سورة محدثة» أي : محدثة النزول. قرأ الجمهور : (فَإِذا أُنْزِلَتْ) وذكر على بناء الفعلين للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ وابن عمير «نزلت» «وذكر» على بناء الفعلين للفاعل ونصب القتال (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك ، وهم المنافقون (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي : ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الموت لجبنهم عن القتال وميلهم إلى الكفار. قال ابن قتيبة والزجاج : يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم ، وينظرون إليك نظرا شديدا ، كما ينظر الشاخص بصره عند الموت (فَأَوْلى لَهُمْ) قال الجوهري : وقولهم : أولى لك ، تهديد ووعيد ، وكذا قال مقاتل والكلبي وقتادة. قال الأصمعي : معنى قولهم في التهديد : أولى لك ، أي : وليك وقاربك ما تكره ، وأنشد قول الشاعر :

فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثّلاث

أي : قارب أن يزيد. قال ثعلب : ولم يقل (أحد) (١) في أولى أحسن ممّا قاله الأصمعي. وقال المبرّد : يقال لمن همّ بالعطب ثم أفلت : أولى لك ؛ أي : قاربت العطب. وقال الجرجاني : هو مأخوذ من الويل ؛

__________________

(١). من تفسير القرطبي (١٦ / ٢٤٤)

٤٥

أي : فويل لهم ، وكذا قال في الكشاف. قال قتادة أيضا : كأنه قال : العقاب أولى لهم ، وقوله : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام مستأنف ، أي : أمرهم طاعة ، أو طاعة وقول معروف خير لكم. قال الخليل وسيبويه : إن التقدير طاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غير هما. وقيل : إن طاعة خبر أولى ، وقيل : إن طاعة صفة لسورة ، وقيل : إن لهم خبر مقدّم وطاعة مبتدأ مؤخر ، والأول أولى. (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) عزم الأمر : جدّ الأمر ، أي : جدّ القتال ووجب وفرض ، وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه مجازا ، وجواب «إذا» قيل : هو (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) وقيل : محذوف تقديره كرهوه. قال المفسرون : معناه إذا جدّ الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في إظهار الإيمان والطاعة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من المعصية والمخالفة (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) هذا خطاب للذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتقريع. قال الكلبي : أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال كعب : (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي : بقتل بعضكم بعضا ، وقال قتادة : إن توليتم عن طاعة كتاب الله عزوجل أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء وتقطعوا أرحامكم. وقال ابن جريج : إن توليتم عن الطاعة ، وقيل : أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه. قرأ الجمهور : (تَوَلَّيْتُمْ) مبنيا للفاعل ، وقرأ عليّ بن أبي طالب : بضم التاء والواو وكسر اللام مبنيا للمفعول ، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب ، ومعناها : فهل عسيتم إن ولّى عليكم ولاة جائرين أن تخرجوا عليهم في الفتنة وتحاربوهم وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل. وقرأ الجمهور : (وَتُقَطِّعُوا) بالتشديد على التكثير ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه وسلام وعيسى ويعقوب بالتخفيف من القطع ، يقال : عسيت أن أفعل كذا ، وعسيت ، بالفتح والكسر لغتان ، ذكره الجوهري وغيره ، وخبر عسيتم هو أن تفسدوا ، والجملة الشرطية بينهما اعتراض ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المخاطبين بما تقدّم وهو مبتدأ وخبره (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي : أبعدهم من رحمته وطردهم عنها (فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الحق (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث وحقّية سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستفهام في قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) للإنكار ؛ والمعنى : أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة ، والحجج الظاهرة ، والبراهين القاطعة ؛ التي تكفي من له فهم وعقل ، وتزجره عن الكفر بالله والإشراك به والعمل بمعاصيه (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) «أم» هي المنقطعة ، أي : بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون. قال مقاتل : يعني الطبع على القلوب ، والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق ، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب ، ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر والشرك ؛ لأنّ الله سبحانه قد طبع عليها ، والمراد بهذه القلوب قلوب هؤلاء المخاطبين. قرأ الجمهور : (أَقْفالُها) بالجمع ، وقرئ : «إقفالها» بكسر الهمزة على أنه مصدر كالإقبال (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي : رجعوا كفارا كما كانوا. قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم ، وبه قال ابن جرير. وقال الضحاك والسدّي : هم المنافقون قعدوا عن القتال ، وهذا أولى ؛

٤٦

لأن السياق في المنافقين (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بما جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي : زيّن لهم خطاياهم وسهّل لهم الوقوع فيها ، وهذه الجملة خبر إن ، ومعنى (وَأَمْلى لَهُمْ) أن الشيطان مدّ لهم في الأمل ووعدهم طول العمر ، وقيل : إن الّذي أملى لهم هو الله عزوجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة. قرأ الجمهور (أَمْلى) مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة على البناء للمفعول. قيل : وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان كالقراءة الأولى ، وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفرّاء والمفضل ، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدّم ذكره قريبا ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من ارتدادهم ، وهو مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي : بسبب أن هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله ، وهم المشركون (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومخافة ما جاء به. وقيل المعنى : إن المنافقين قالوا لليهود : سنطيعكم في بعض الأمر ، وقيل : إن القائلين اليهود والذين كرهوا ما أنزل الله المنافقون ، وقيل : إن الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الإملاء ، وقيل : إن الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الإسلام ، وقيل : إلى التسويل ، والأوّل أولى. ويؤيد كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) (١) ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السرّ بينهم. قال الله سبحانه : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) قرأ الجمهور بفتح الهمزة ، جمع سرّ ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم. وقرأ الكوفيون وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن وثاب والأعمش بكسر الهمزة على المصدر ، أي : إخفاءهم (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، و «كيف» في محل رفع على أنها خبر مقدّم ، والتقدير ، فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة ، أو في محل نصب بفعل محذوف : أي فكيف يصنعون ، أو خبر لكان مقدّرة : أي فكيف يكونون ، والظرف معمول للمقدّر ، قرأ الجمهور (تَوَفَّتْهُمُ) وقرأ الأعمش «توفاهم» وجملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم أو من مفعوله ، أي : ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم ، وفي الكلام تخويف وتشديد ، والمعنى : أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا ، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه. وقيل : ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : ذلك يوم القيامة ، والأوّل أولى. والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة ، وهو مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) أي : بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي ، وقيل : كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأوّل أولى لما في الصيغة من العموم (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي : كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة (فَأَحْبَطَ) الله (أَعْمالَهُمْ) بهذا السبب ، والمراد

__________________

(١). الحشر : ١١.

٤٧

بأعمالهم الأعمال التي صورتها صورة الطاعة ؛ وإلا فلا عمل لكافر ، أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل الردّة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني المنافقين المذكورين سابقا ، و «أم» هي المنقطعة ، أي : بل أحسب المنافقون (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) الإخراج بمعنى الإظهار ، والأضغان : جمع ضغن ، وهو ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه ، فقيل : هو الغش ، وقيل : الحسد ، وقيل : قال الجوهري : الضغن والضغينة : الحقد ، وقال قطرب : هو في الآية العداوة ، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدّر (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي : لأعلمناكهم وعرّفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية ، تقول العرب : سأريك ما أصنع ، أي : سأعلمك (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي : بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها. قال الزجّاج : المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة ، وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة ، والفاء لترتيب المعرفة على الإرادة ، وما بعدها معطوف على جواب لو ، وكررت في المعطوف للتأكيد ، وأما اللام في قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فهي جواب قسم محذوف. قال المفسرون : لحن القول : فحواه ومقصده ومغزاه وما يعرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين ، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه. قال أبو زيد : لحنت له اللحن : إذا قلت له قولا يفقهه عنك ويخفى على غيره ، ومنه قول الشاعر (١) :

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الكلام ما كان لحنا

أي : أحسنه ما كان تعريضا يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه ، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) لا تخفى عليه منها خافية فيجازيكم بها ، وفيه وعيد شديد (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) أي : لنعاملنكم معاملة المختبر ، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد وصبر على دينه ومشاقّ ما كلّف به. قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها ، ومعنى (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) نظهرها ونكشفها امتحانا لكم ليظهر للناس من أطاع ما أمره الله به ، ومن عصى ، ومن لم يمتثل. وقرأ الجمهور (وَنَبْلُوَا) بنصب الواو عطفا على قوله : (حَتَّى نَعْلَمَ) وروى ورش عن يعقوب إسكانها على القطع عمّا قبله.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرّحمن ، فقال : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم أما ترضي أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى. قال : فذلك لك ؛ ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية إلى قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)» والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جدا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) قال : هم أهل النفاق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي

__________________

(١). هو الفزاريّ.

٤٨

قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) قال : أعمالهم خبثهم والحسد الّذي في قلوبهم ، ثم دلّ الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد على المنافقين ، فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) قال : ببغضهم عليّ بن أبي طالب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) المراد بهؤلاء هم المنافقون ، وقيل : أهل الكتاب ، وقيل : هم المطعمون يوم بدر من المشركين ، ومعنى صدّهم عن سبيل الله : منعهم للناس عن الإسلام واتّباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى (شَاقُّوا الرَّسُولَ) عادوه وخالفوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) أي : علموا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة والحجج القاطعة (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر وما ضرّوا إلا أنفسهم (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي : يبطلها ، والمراد بهذه الأعمال ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام وصلة الأرحام وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير وإن كانت باطلة من الأصل ؛ لأن الكفر مانع ، وقيل : المراد بالأعمال المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله ، والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنّة رسوله ، ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر ، فقال : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) قال الحسن : أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي. وقال الزهري : بالكبائر. وقال الكلبي وابن جريج : بالرياء والسمعة. وقال مقاتل : بالمنّ. والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال ، كائنا ما كان ، من غير تخصيص بنوع معين. ثم بيّن سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر والصدّ عن سبيل الله ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) فقيّد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر ؛ لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا ، وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصا. ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف فقال : (فَلا تَهِنُوا) أي : تضعفوا عن القتال ، والوهن : الضعف (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي : ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء منكم ،

٤٩

فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجاج : منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي (وَتَدْعُوا) بتشديد الدال ، من ادّعى القوم وتداعوا. قال قتادة : معنى الآية : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.

واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل : إنها محكمة ، وإنها ناسخة لقوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) وقيل : منسوخة بهذه الآية. ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداء ، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون ، فالآيتان محكمتان ، ولم يتوارد على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص ، وجملة : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها من النهي ، أي : وأنتم الغالبون بالسيف والحجّة. قال الكلبي : أي آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، وكذا جملة قوله : (وَاللهُ مَعَكُمْ) في محل نصب على الحال ، أي : معكم بالنصر والمعونة عليهم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي : لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم ، يقال : وتره يتره وترا ؛ إذا نقصه حقه. وأصله من وترت الرجل : إذا قتلت له قريبا ، أو نهبت له مالا ، ويقال : فلان موتور : إذا قتل له قتيل ولم يؤخذ بدمه. قال الجوهري : أي لن ينقصكم في أعمالكم ، كما تقول : دخلت البيت ؛ وأنت تريد في البيت. قال الفراء : هو مشتق من الوتر وهو الذّحل (١) ، وقيل : مشتق من الوتر وهو الفرد ، فكأن المعنى : ولن يفردكم بغير ثواب (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي : باطل وغرور ، لا أصل لشيء منها ولا ثبات له ولا اعتداد به (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي : إن تؤمنوا وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة ، والأجر : الثواب على الطاعة (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي : لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات ، بل أمركم بإخراج القليل منها وهو الزكاة. وقيل المعنى : لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله لأنه أملك لها ، وهو المنعم عليكم بإعطائها. وقيل : لا يسألكم أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة ، كما في قوله : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) والأوّل أولى (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي : أموالكم كلها (فَيُحْفِكُمْ) قال المفسرون : يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها ، يقال : أحفى بالمسألة وألحف وألحّ بمعنى واحد ، والحفي : المستقصي في السؤال ، والإحفاء : الاستقصاء في الكلام ، ومنه إحفاء الشارب ، أي : استئصاله ، وجواب الشرط قوله : (تَبْخَلُوا) أي : إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها وتمتنعوا من الامتثال (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) معطوف على جواب الشرط ، ولهذا قرأ الجمهور (يُخْرِجْ) بالجزم ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بالرفع على الاستئناف ، وروي عنه أنه قرأ بفتح الياء وضم الراء ورفع أضغانكم ، وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قرأ بالنون ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء. وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه ، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان : الأحقاد ،

__________________

(١). «الذّحل» : الحقد والعداوة والثأر.

٥٠

والمعنى : أنها تظهر عند ذلك. قال قتادة : قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله ، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال ، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال. ثم بيّن سبحانه أنّ ضرر البخل عائد على النفس ، فقال : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي : يمنعها الأجر والثواب ببخله ، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى. وقيل : إن أصله أن يتعدى بعلى ، ولا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى الإمساك (وَاللهُ الْغَنِيُ) المطلق ، المتنزّه عن الحاجة إلى أموالكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة ، وجملة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) معطوفة على الشرطية المتقدمة وهي (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) ، والمعنى : وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في التولي عن الإيمان والتقوى. قال عكرمة : هم فارس والروم. وقال الحسن : هم العجم. وقال شريح بن عبيد : هم أهل اليمن ، وقيل : الأنصار ، وقيل : الملائكة ، وقيل : التابعون. وقال مجاهد : هم من شاء الله من سائر الناس. قال ابن جرير : والمعنى (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي : في البخل بالإنفاق في سبيل الله.

وقد أخرج عبد بن حميد ، ومحمد بن نصر في كتاب «الصلاة» ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرون أنه لا يضرّ مع لا إله إلا الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، حتى نزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فخافوا أن يبطل الذنب العمل ، ولفظ عبد ابن حميد : فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم. وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال : كنّا معشر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الّذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، فكنّا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك ، حتى نزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئا رجوناه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (يَتِرَكُمْ) قال : يظلمكم. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه قال : لما نزلت : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) قالوا : من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «هم الفرس ، هذا وقومه». وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد تفرّد به ، وفيه مقال معروف. وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي. وابن جرير وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدلائل ، عن أبي هريرة قال : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه ، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» وفي إسناده أيضا مسلم بن خالد الزنجي. وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه.

٥١

سورة الفتح

وهي مدنية قال القرطبي : بالإجماع. وأخرج ابن الضّريس والنحّاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الفتح بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن إسحاق ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل ، عن المسور بن مخرمة ومروان قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية ؛ لأنّ المراد بالسور المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن عبد الله بن مغفل قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : هلكت أمّ عمر ، نزرت (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك ، فقال عمر : فحرّكت بعيري ثم تقدّمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ قرآن ، فما نشبت (٢) أن سمعت صارخا يصرخ بي ؛ فقلت : لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّمت عليه ، فقال : «لقد أنزلت عليّ سورة لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس» ، ثم قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدّثهم قال : لما نزلت (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآية إلى قوله : (فَوْزاً عَظِيماً) مرجعه من الحديبية ، وهم يخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحر الهدي بالحديبية ، فقال : «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعها».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

__________________

(١). «نزرت» : أي ألححت عليه وبالغت في السؤال.

(٢). «ما نشبت» : أي ما لبثت.

٥٢

قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) اختلف في تعيين هذا الفتح ، فقال الأكثر : هو صلح الحديبية ، والصّلح قد يسمّى فتحا. قال الفرّاء : والفتح قد يكون صلحا ، ومعنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق ، والصّلح الّذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذّرا حتى فتحه الله. قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام. قال الشعبي : لقد أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرّضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محلّه ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال قوم : إنه فتح مكة. وقال آخرون : إنه فتح خيبر. والأوّل أرجح ، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية. وقيل : هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح ، وقيل : هو ما فتح له من النبوّة والدعوة إلى الإسلام ، وقيل : فتح الروم ، وقيل : المراد بالفتح في هذه الآية الحكم والقضاء ، كما في قوله : (افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) فكأنه قال : إنا قضينا لك قضاء مبينا ، أي : ظاهرا واضحا مكشوفا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) اللام متعلقة بفتحنا ، وهي لام العلة. قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس ، يعني المبرد ، عن اللام في قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) فقال : هي لام كي ، معناها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع ؛ حسن معنى كي ، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة. وقال صاحب الكشاف : إن اللام لم تكن علّة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عزّ الدارين ، وأعراض العاجل والآجل. وهذا كلام غير جيد ، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح. فكيف يصح أن تكون معللة؟ وقال الرازي في توجيه التعليل : إن المراد بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) التعريف بالمغفرة تقديره : إنا فتحنا لك لنعرف أنك مغفور لك معصوم. وقال ابن عطية : المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك. فكأنها لام الصيرورة. وقال أبو حاتم : هي لام القسم وهو خطأ ، فإن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها.

واختلف في معنى قوله : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فقيل : ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر بعدها ، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم. وقال عطاء : ما تقدّم من ذنبك : يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ، وما تأخر من ذنوب أمتك. وما أبعد هذا عن معنى القرآن! وقيل : ما تقدّم من ذنب أبيك أبيك إبراهيم ، وما تأخر من ذنوب النّبيين من بعده ، وهذا كالذي قبله. وقيل : ما تقدّم من ذنب يوم بدر ، وما تأخر من ذنب يوم حنين ، وهذا كالقولين الأولين في البعد. وقيل : لو كان ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك ، وقيل : غير ذلك مما لا وجه له ، والأوّل أولى. ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى ، وسمّي ذنبا في حقه لجلالة قدره وإن لم يكن ذنبا في حق غيره (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإظهار دينك على الدين كله ، وقيل : بالجنة ، وقيل : بالنبوّة والحكمة ، وقيل : بفتح مكة والطائف وخيبر ، والأولى أن

٥٣

يكون المعنى ؛ ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم ، وهو الإسلام ، ومعنى «يهديك» : يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي : غالبا منيعا لا يتبعه ذلّ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : السكون والطمأنينة بما يسّره لهم من الفتح ؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي : ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيمانا منضمّا إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي : كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم ، وقال الربيع بن أنس : خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني الملائكة والإنس والجن والشياطين يدبّر أمرهم كيف يشاء ، ويسلّط بعضهم على بعض ، ويحوط بعضهم ببعض (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) كثير العلم بليغه (حَكِيماً) في أفعاله وأقواله. (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه اللام متعلقة بمحذوف يدلّ عليه ما قبله ، تقديره : يبتلي بتلك الجنود من يشاء ، فيقبل الخير من أهله والشرّ ممن قضى له به ليدخل ويعذب ، وقيل : متعلّقة بقوله : (إِنَّا فَتَحْنا) كأنه قال : إنا فتحنا لك ما فتحنا ليدخل ويعذب ، وقيل : متعلقة بينصرك : أي نصرك الله بالمؤمنين ليدخل ويعذب ، وقيل : متعلقة بيزدادوا ، أي : يزدادوا «ليدخل» و «يعذب» ، والأوّل أولى. (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : يسترها ولا يظهرها ولا يعذّبهم بها ، وقدّم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس ؛ للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى ، والمقصد الأسنى (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي : وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله وفي حكمه فوزا عظيما ، أي : ظفرا بكل مطلوب ونجاة من كل غمّ ، وجلبا لكل نفع ، ودفعا لكل ضرّ ، وقوله : (عِنْدَ اللهِ) متعلّق بمحذوف على أنه حال من فوزا ؛ لأنه صفة في الأصل ، فلما قدم صار حالا ، أي : كائنا عند الله ، والجملة معترضة بين جزاء المؤمنين وجزاء المنافقين والمشركين. ثم لما فرغ ممّا وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم ، فقال : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) وهو معطوف على «يدخل» ، أي : يعذّبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام وقهر المخالفين له ، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر ، وفي الآخرة بعذاب جهنم ، وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشدّ منهم عذابا ، وأحقّ منهم بما وعدهم الله به. ثم وصف الفريقين ، فقال : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو ظنّهم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغلب ؛ وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام.

وممّا ظنّوه ما حكاه الله عنهم بقوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً). (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي : ما يظنّونه ويتربّصونه بالمؤمنين دائر عليهم ، حائق بهم ، والمعنى : أن العذاب والهلاك الّذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم. وقال الخليل وسيبويه : السوء هنا الفساد. قرأ الجمهور (السَّوْءِ) بفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمها (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) لمّا بيّن سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بيّن ما يستحقّونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجنّ والشياطين

٥٤

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) كرّر هذه الآية لقصد التأكيد. وقيل : المراد بالجنود هنا جنود العذاب كما يفيده التعبير بالعزة هنا مكان العلم هنا لك.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن مجمّع بن جارية الأنصاري قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم (١) ، إذ الناس يهزّون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف (٢) ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) ، فقال رجل : أي رسول الله أو فتح هو؟ قال : إي والّذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح. فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية عشر سهما ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة ، منهم ثلاثمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينا نحن نسير إذا أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه ، فسرّي عنه

وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً). وأخرج البخاري وغيره عن أنس في قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : الحديبية. وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال : تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكّة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : «فتح مكة». وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن المغيرة بن شعبة قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا» وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس في قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) قال : السكينة هي الرحمة ، وفي قوله : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) قال : إن الله بعث نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدّق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام ، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ ، فلما صدّقوا به زادهم الجهاد. ثم أكمل لهم دينهم فقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٣). قال ابن عباس : فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) قال : تصديقا مع تصديقهم. وأخرج البخاري ومسلم

__________________

(١). «كراع الغميم» : موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة.

(٢). «نوجف» : نسرع السير.

(٣). المائدة : ٣.

٥٥

وغير هما عن أنس قال : لما أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية. قال : «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض ، ثم قرأها عليهم. فقالوا : هنيئا مريئا يا رسول الله ، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا. فنزلت عليه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حتى بلغ (فَوْزاً عَظِيماً)».

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي : على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم (وَمُبَشِّراً) بالجنة للمطيعين (وَنَذِيراً) لأهل المعصية (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) قرأ الجمهور : (لِتُؤْمِنُوا) بالفوقية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية ، فعلى القراءة الأولى الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته ، وعلى القراءة الثانية المراد المبشرين والمنذرين ، وانتصاب شاهدا ومبشرا ونذيرا على الحال المقدرة (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) الخلاف بين القرّاء في هذه الثلاثة الأفعال كالخلاف في (لِتُؤْمِنُوا) كما سلف ، ومعنى تعزّروه : تعظّموه وتفخّموه ؛ قال الحسن والكلبي ، والعزيز : التعظيم والتوقير. وقال قتادة : تنصروه وتمنعوا منه. وقال عكرمة : تقاتلون معه بالسيف ، ومعنى توقروه : تعظموه. وقال السدّي : تسوّدوه ، وقيل : والضميران في الفعلين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهنا وقف تام ، ثم يبتدئ وتسبحوه ، أي : تسبحوا الله عزوجل (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي : غدوة وعشية ، وقيل : الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة لله عزوجل ، فيكون معنى تعزروه وتوقروه : تثبتون له التوحيد وتنفون عنه الشركاء ، وقيل : تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله. وفي التسبيح وجهان ، أحد هما التنزيه له سبحانه من كل قبيح ، والثاني الصلاة (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) يعني بيعة الرضوان بالحديبية ، فإنهم بايعوا تحت الشجرة على قتال قريش (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي بيعة له ،

٥٦

كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة ، وجملة : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التّخييل ، في محل نصب على الحال ، والمعنى : أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت. وقال الكلبي : المعنى : إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء. وقال ابن كيسان : قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي : فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه ؛ لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) أي : ثبت على الوفاء بما عاهد عليه في البيعة لرسوله. قرأ الجمهور : (فَسَيُؤْتِيهِ) بالتحتية ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالنون ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ، واختار القراءة الثانية الفراء (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية. قال مجاهد وغيره : يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدّئل ، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة. وقيل : تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه ، والمخلّف : المتروك (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) أي : منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال والنّساء والذّراري ، وليس لنا من يقوم بهم ويخلفنا عليهم (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب ، ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء ، وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم فضحهم الله سبحانه بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وهذا هو صنيع المنافقين. والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم ، ويجوز أن تكون بدلا من الجملة الأولى. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب عنهم ، فقال : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : فمن يمنعكم ممّا أراده الله بكم من خير وشرّ ، ثم بيّن ذلك فقال : (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي : إنزال ما يضرّكم من ضياع الأموال وهلاك الأهل. قرأ الجمهور : (ضَرًّا) بفتح الضاد ، وهو مصدر ضررته ضرّا. وقرأ حمزة والكسائي بضمّها ، وهو اسم ما يضرّ ، وقيل : هما لغتان (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي : نصرا وغنيمة ، وهذا ردّ عليهم حين ظنّوا أن التخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدفع عنه الضرّ ، ويجلب لهم النفع ، ثم أضرب سبحانه عن ذلك وقال : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي : إن تخلفكم ليس لما زعمتم ، بل كان الله خبيرا بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم ، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك ، بل للشك والنفاق وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله ، ولهذا قال : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) وهذه الجملة مفسرة لقوله : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) لما فيها من الإبهام ، أي : بل ظننتم أن العدوّ يستأصل المؤمنين بالمرة فلا يرجع منهم أحد إلى أهله ، فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من

__________________

(١). النساء : ٨٠.

٥٧

المعاذير الباطلة (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : وزيّن الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فقبلتموه. قرأ الجمهور (وَزُيِّنَ) مبنيا للمفعول ، وقرئ مبنيا للفاعل. (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) أن الله سبحانه لا ينصر رسوله ، وهذا الظن إما هو الظن الأول ، والتكرير للتأكيد والتوبيخ ، والمراد به ما هو أعمّ من الأوّل ، فيدخل الظنّ الأوّل تحته دخولا أوّليا (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي : هلكى. قال الزجاج : هالكين عند الله ، وكذا قال مجاهد. قال الجوهري : البور : الرجل الفاسد الهالك الّذي لا خير فيه. قال أبو عبيد (قَوْماً بُوراً) هلكى ، وهو جمع بائر ، مثل حائل وحول ، وقد بار فلان ، أي : هلك ، وأباره الله : أهلكه (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) هذا الكلام مستأنف من جهة الله سبحانه غير داخل تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله ، أي : ومن لم يؤمن بهما كما صنع هؤلاء المخلفون ، فجزاؤهم ما أعدّه الله لهم من عذاب السعير (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرّف فيه كيف يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه ، وإنّما تعبّدهم بما تعبّدهم ليثيب من أحسن ويعاقب من أساء ، ولهذا قال : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١). (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : كثير المغفرة والرحمة بليغها ، يخصّ بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) المخلفون هؤلاء المذكورون سابقا ، والظرف متعلّق بقوله (سَيَقُولُ) والمعنى : سيقولون عند انطلاقكم أيها المسلمون (إِلى مَغانِمَ) يعني مغانم خيبر (لِتَأْخُذُوها) لتحوزوها (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي : اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر. وأصل القصة أنه لما انصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المسلمين من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر ، وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية ، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون : ذرونا نتبعكم ، فقال الله سبحانه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي : يغيروا كلام الله ، والمراد بهذا الكلام الّذي أرادوا أن يبدّلوه هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصّة بغنيمة خيبر. وقال مقاتل : يعني أمر الله لرسوله أن لا يسير معه أحد منهم. وقال ابن زيد : هو قوله تعالى : (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (٢) واعترض على هذا ابن جرير وغيره بأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة ، والأوّل أولى ، وبه قال مجاهد وقتادة ، ورجّحه ابن جرير وغيره. قرأ الجمهور : (كَلامَ اللهِ) وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» قال الجوهري : الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير ، والكلام لا يكون أقلّ من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة ، مثل نبقة ونبق. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمنعهم من الخروج معه فقال : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) هذا النفي هو في معنى النهي ، والمعنى : لا تتبعونا (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل رجوعنا من الحديبية أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة ليس لغيرهم فيها نصيب (فَسَيَقُولُونَ) يعني المنافقين عند سماع هذا القول ، وهو قوله : («لَنْ تَتَّبِعُونا» بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي : بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلا الحسد لئلا نشارككم في الغنيمة ، وليس ذلك

__________________

(١). الأنبياء : ٢٣.

(٢). التوبة : ٨٣.

٥٨

بقول الله كما تزعمون. ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : لا يعلمون إلا علما قليلا ، وهو علمهم بأمر الدنيا ، وقيل : لا يفقهون من أمر الدين إلا فقها قليلا ، وهو ما يصنعونه نفاقا بظواهرهم دون بواطنهم.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَتُعَزِّرُوهُ) يعني الإجلال (وَتُوَقِّرُوهُ) يعني التعظيم ، يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عنه في قوله : (وَتُعَزِّرُوهُ) قال : تضربوا بين يديه بالسيف. وأخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب ، وابن عساكر في تاريخه ، عن جابر بن عبد الله قال : «لما أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (وَتُعَزِّرُوهُ) قال لأصحابه : ما ذاك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : لتنصروه». وأخرج أحمد وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : «بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النّفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه ممّا نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة ، فمن وفّى وفّى الله له ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه». وفي الصحيحين من حديث جابر : «أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة» وفيهما عنه أنهم كانوا أربعة عشرة مائة ، وفي البخاري من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان قال : خمس عشرة مائة ، فقال له : إن جابرا قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال رحمه‌الله : وهم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

قوله : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) هم المذكورون سابقا (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال عطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني : هم فارس. وقال كعب والحسن : هم الروم. وروي عن الحسن أيضا أنه قال : هم فارس والروم. وقال سعيد بن جبير : هم هوازن وثقيف. وقال عكرمة :

٥٩

هوازن. وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري ومقاتل : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. وحكى هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين. (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي : يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة ، أو الإسلام ، لا ثالث لهما ، وهذا حكم الكفار الّذين لا تؤخذ منهم الجزية. قال الزجّاج : التقدير : أو هم يسلمون ، وفي قراءة أبيّ أو يسلموا أي : حتى يسلموا (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) وهو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي : تعرضوا (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) وذلك عام الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) بالقتل والأسر والقهر في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة لتضاعف جرمكم. (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي : ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار حرج في التخلف عن الغزو لعدم استطاعتهم. قال مقاتل : عذر الله أهل الزمانة الذين تخلّفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية ، والحرج : الإثم (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمراه به ونهياه عنه (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قرأ الجمهور : (يُدْخِلْهُ) بالتحتية ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ، وقرأ نافع وابن عامر بالنون. (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) أي : ومن يعرض عن الطاعة يعذّبه الله عذابا شديد الألم. ثم ذكر سبحانه الذين أخلصوا نياتهم وشهدوا بيعة الرضوان ، فقال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أي : رضي الله عنهم وقت تلك البيعة ، وهي بيعة الرضوان ، وكانت بالحديبية ، والعامل في «تحت» إما يبايعونك ، أو محذوف على أنه حال من المفعول ، وهذه الشجرة المذكورة هي شجرة كانت بالحديبية ، وقيل : سدرة. وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشا ولا يفرّوا. وروي أنه بايعهم (١) على الموت ، وقد تقدّم ذكر عدد أهل هذه البيعة قريبا ، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسّير (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) معطوف على يبايعونك. قال الفراء : أي : علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء. وقال قتادة وابن جريج : من الرضى بأمر البيعة على أن لا يفرّوا. وقال مقاتل : من كراهة البيعة على الموت (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) معطوف على رضي. والسكينة : الطمأنينة وسكون النفس كما تقدّم ، وقيل : الصبر (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية. قاله قتادة وابن أبي ليلى وغير هما ، وقيل : فتح مكة ، والأوّل أولى (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) أي : وأثابكم مغانم كثيرة ، أو : وآتاكم ، وهي غنائم خيبر ، والالتفات لتشريفهم بالخطاب (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي : غالبا مصدرا أفعاله وأقواله على أسلوب الحكمة (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) في هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة يأخذونها في أوقاتها التي قدّر وقوعها فيها (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي : غنائم خيبر ، قاله مجاهد وغيره ، وقيل : صلح الحديبية (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي : وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح ، وقيل : كفّ أيدي أهل خيبر وأنصارهم عن قتالكم ، وقذف في قلوبهم الرعب. وقال قتادة : كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبية وخيبر ،

__________________

(١). في مسند أحمد (٤ / ٥١) : فبايعوه.

٦٠