فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

وقول الآخر :

متقلّدا سيفا ورمحا (١)

قال قطرب : هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال : ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ، ويكون لهم في ذلك لذة. وقرأ الأشهب العقيلي والنّخعي وعيسى بن عمر بنصبهما على تقدير إضمار فعل ، كأنه قيل : ويزوّجون حورا عينا ، أو ويعطون ، ورجّح أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور. ثم شبههنّ سبحانه باللؤلؤ المكنون ، وهو الّذي لم تمسّه الأيدي ولا وقع عليه الغبار ، فهو أشد ما يكون صفاء ، وانتصاب جزاء في قوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) على أنه مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك كله للجزاء بأعمالهم. ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لفعل محذوف ، أي : يجزون جزاء ، وقد تقدّم تفسير الحور العين في سورة الطور وغيرها (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) اللغو : الباطل من الكلام ، والتأثيم النسبة إلى الإثم. قال محمد بن كعب : لا يؤثّم بعضهم بعضا ، وقال مجاهد : لا يسمعون شتما ولا مأثما ، والمعنى : أنه لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) القيل : القول ، والاستثناء منقطع ، أي : لكن يقولون قيلا ، أو يسمعون قيلا ، وانتصاب سلاما سلاما على أنه بدل من «قيلا» ، أو صفة له ، أو هو مفعول به لقيلا ، أي : إلا أن يقولوا سلاما سلاما ، واختار هذا الزجاج ، أو على أنه منصوب بفعل هو محكي بقيلا ، أي : إلا قيلا سلموا سلاما سلاما ، والمعنى في الآية : أنهم لا يسمعون إلا تحية بعضهم لبعض. قال عطاء : يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، وقيل : إن الاستثناء متصل وهو بعيد ، لأن التحية ليست ممّا يندرج تحت اللغو والتأثيم ، وقرئ سلام سلام بالرفع. قال مكي : ويجوز الرفع على معنى سلام عليكم مبتدأ وخبر.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) قال : يوم القيامة (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) قال : ليس لها مرد يرد (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قال : تخفض ناسا وترفع آخرين. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قال : أسمعت القريب والبعيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قال : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) قال : زلزلت (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) قال : فتتت (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) قال : شعاع الشمس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) قال : الهباء الّذي يطير من النار إذا أضرمت يطير منها الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : الهباء : ما يثور مع شعاع الشمس ، وانبثاثه تفرقه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : الهباء المنبث : رهج الدواب ، والهباء المنثور : غبار الشمس الّذي تراه في شعاع الكوّة. وأخرج ابن

__________________

(١). وصدره : ورأيت زوجك في الوغى.

١٨١

أبي حاتم عن ابن عباس (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) قال : أصنافا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) قال : هي التي في سورة الملائكة : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) (١). وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) قال : يوشع بن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى ، وعليّ بن أبي طالب سبق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار الّذي ذكر في يس ، وعليّ بن أبي طالب ، وكل رجل منهم سابق أمته ، وعليّ أفضلهم سبقا. وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ وَأَصْحابُ الشِّمالِ) فقبض بيديه قبضتين فقال : هذه في الجنة ولا أبالي ، وهذه في النار ولا أبالي». وأخرج أحمد أيضا عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوا بذلوا ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم». وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ـ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) شقّ على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني». وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال : مصفوفة. وأخرج سعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عنه قال : مرمولة بالذهب. وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، والبزار ، وابن مردويه في البعث ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لتنظر إلى الطّير في الجنة فتشتهيه فيخرّ بين يديك مشويا». وأخرج أحمد والترمذي والضياء عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة ، فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة ، قال : آكلها أنعم منها ، وإني لأرجو أن تكون ممّن يأكل منها» وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) قال : الّذي في الصّدف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) قال : باطلا (وَلا تَأْثِيماً) قال : كذبا.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ

__________________

(١). فاطر : ٣٢.

١٨٢

(٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين وما أعدّه لهم من النعيم المقيم ، ذكر أحوال أصحاب اليمين فقال : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) قد قدّمنا وجه إعراب هذا الكلام ، وما في هذه الجملة الاستفهامية من التفخيم والتعظيم ، وهي خبر المبتدأ. وهو أصحاب اليمين ، وقوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم في سدر مخضود ، والسدر : نوع من الشجر ، والمخضود : الّذي خضد شوكه ، أي : قطع فلا شوك فيه. قال أمية بن أبي الصّلت يصف الجنة :

إنّ الحدائق في الجنان ظليلة

فيها الكواعب سدرها مخضود

وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان : إن السدر المخضود : الموقر حملا (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال أكثر المفسرين : إن الطلح في الآية هو شجر الموز. وقال جماعة : ليس هو شجر الموز ، ولكنه الطلح المعروف ، وهو أعظم أشجار العرب. قال الفراء وأبو عبيدة : هو شجر عظام لها شوك. قال الزجاج : الطلح هو أمّ غيلان. ولها نور طيّب ، فخوطبوا ووعدوا بما يحبون ، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. قال : ويجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. قال السدي : طلح الجنة يشبه طلح الدنيا ، لكن له ثمر أحلى من العسل ، والمنضود : المتراكب الّذي قد نضد أوله وآخره بالحمل ليس له سوق بارزة. قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيد ، ثمر كله ، كلما أخذت ثمرة عاد مكانها أحسن منها (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي : دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس. قال أبو عبيدة : والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع ممدود ، ومنه قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (١) والجنة كلها ظلّ لا شمس معه. قال الربيع بن أنس : يعني ظلّ العرش ، ومن استعمال العرب للممدود في الدائم الّذي لا ينقطع قول لبيد :

غلب العزاء وكنت غير مغلّب

دهر طويل دائم ممدود

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي : منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا لا ينقطع عنهم ، فهو مسكوب يسكبه الله في مجاريه ، وأصل السكب : الصبّ ، يقال سكبه سكبا ، أي : صبّه (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي : ألوان متنوعة متكثرة (لا مَقْطُوعَةٍ) في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات (وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي : لا تمتنع على من أرادها في أي وقت على أيّ صفة ، بل هي معدّة لمن أرادها لا يحول بينه

__________________

(١). الفرقان : ٤٥.

١٨٣

وبينها حائل. قال ابن قتيبة : يعني أنها غير محظورة عليها كما يحظر على بساتين الدنيا (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي : مرفوع بعضها فوق بعض ، أو مرفوعة على الأسرّة. وقيل : إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ، وارتفاعها كونها على الأرائك ، أو كونها مرتفعات الأقدار في الحسن والكمال (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أي : خلقناهنّ خلقا جديدا من غير توالد ، وقيل : المراد نساء بني آدم ، والمعنى : أن الله سبحانه أعادهنّ بعد الموت إلى حال الشباب ، والنساء وإن لم يتقدّم لهنّ ذكر لكنهن قد دخلن في أصحاب اليمين ، وأما على قول من قال : إن الفرش المرفوعة عين النساء فمرجع الضمير ظاهر (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً). (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (١). (عُرُباً أَتْراباً) العرب : جمع عروب ، وهي المتحبّبة إلى زوجها ، قال المبرد : هي العاشقة لزوجها ، ومنه قول لبيد :

وفي الخباء عروب غير فاحشة

ريّا الرّوادف يعشي ضوؤها البصرا (٢)

وقال زيد بن أسلم : هي الحسنة الكلام. قرأ الجمهور بضم العين والراء. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء وهما لغتان في جمع فعول ، والأتراب : هنّ اللواتي على ميلاد واحد وسنّ واحد. وقال مجاهد : أترابا : أمثالا وأشكالا. وقال السدّي : أترابا في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. قوله : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلّق بأنشأناهن ، أو بجعلنا ، أو بأترابا ، والمعنى : أن الله أنشأهنّ لأجلهم ، أو خلقهنّ لأجلهم ، أو هنّ مساويات لأصحاب اليمين في السنّ ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هنّ لأصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ـ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هذا راجع إلى قوله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي : هم ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين ، وقد تقدّم تفسير الثلة عند ذكر السابقين ، والمعنى : أنهم جماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الأوّلين ، وهم من لدن آدم إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الآخرين وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) يعني : من سابقي هذه الأمة ، (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : من هذه الأمة من آخرها. ثم لمّا فرغ سبحانه مما أعدّه لأصحاب اليمين شرع في ذكر أصحاب الشمال وما أعدّه لهم فقال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) الكلام في إعراب هذا وما فيه من التفخيم كما سبق في أصحاب اليمين ، وقوله : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) إما خبر ثان لأصحاب الشمال أو خبر مبتدأ محذوف ، والسموم : حرّ النار ، والحميم : الماء الحارّ الشديد الحرارة ، وقد سبق بيان معناه. وقيل : السموم : الريح الحارة التي تدخل في مسامّ البدن (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) اليحموم يفعول من الأحم ، وهو الأسود ؛ والعرب تقول : أسود يحموم ؛ إذا كان شديد السواد ، والمعنى : أنهم يفزعون إلى الظلّ فيجدونه ظلا من دخان جهنم شديد السواد. وقيل : وهو مأخوذ من الحم وهو الشّحم المسودّ باحتراق النار. وقيل : مأخوذ من الحمم وهو الفحم. قال الضحاك : النار سوداء ، وأهلها سود ،

__________________

(١). الرّحمن : ٥٦ و ٧٤.

(٢). في تفسير القرطبي : يغشى دونها البصر.

١٨٤

وكل ما فيها أسود. ثم وصف هذا الظلّ بقوله : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي : ليس كغيره من الظلال التي تكون باردة ، بل هو حار لأنه من دخان نار جهنم. قال سعيد بن المسيب : (وَلا كَرِيمٍ) ، أي : ليس فيه حسن منظر وكل ما لا خبر فيه فليس بكريم. قال الضحاك : ولا كريم ولا عذب. قال الفراء : العرب تجعل الكريم تابعا لكلّ شيء نفت عنه وصفا تنوي به الذم ، تقول : ما هو بسمين ولا بكريم ، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة. ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقّوا بها هذا العذاب فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) وهذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي : إنهم كانوا قبل هذا العذاب النازل مترفين في الدنيا ، أي : منعّمين بما لا يحلّ لهم ، والمترف : المتنعم. وقال السدي : مشركين ، وقيل : متكبّرين ، والأوّل أولى (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الحنث : الذنب ، أي : يصرون على الذنب العظيم. قال الواحدي : قال أهل التفسير : عنى به الشرك ، أي : كانوا لا يتوبون عن الشرك. وبه قال الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد : هو الذنب العظيم الّذي لا يتوبون عنه. وقال الشعبي : هو اليمين الغموس ، (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الهمزة في الموضعين للإنكار والاستبعاد ، وقد تقدّم الكلام على هذا في الصافات ، وفي سورة الرعد ، والمعنى : أنهم أنكروا واستبعدوا أن يبعثوا بعد الموت ، وقد صاروا عظاما وترابا ، والمراد أنه صار لحمهم وجلودهم ترابا ، وصارت عظامهم نخرة بالية ، والعامل في الظرف ما يدلّ عليه مبعوثون ، لأن ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، أي : أنبعث إذا متنا؟ إلخ (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) معطوف على الضمير في لمبعوثون لوقوع الفصل بينهما بالهمزة ، والمعنى : أن بعث آبائهم الأوّلين أبعد لتقدّم موتهم ، وقرئ وآباؤنا. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم ويردّ استبعادهم فقال : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ) أي : قل لهم يا محمد إن الأوّلين من الأمم والآخرين منهم الذين أنتم من جملتهم لمجموعون بعد البعث (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) وهو يوم القيامة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) هذا وما بعده من جملة ما هو داخل تحت القول ، وهو معطوف على (إِنَّ الْأَوَّلِينَ) ووصفهم سبحانه بوصفين قبيحين ، وهما الضلال عن الحقّ والتكذيب له (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) أي : لآكلون في الآخرة من شجر كريه المنظر كريه الطعم ، وقد تقدّم تفسيره في سورة الصافات ، ومن الأولى لابتداء الغاية ، والثانية بيانية ، ويجوز أن تكون الأولى مزيدة ، والثانية بيانية ، وأن تكون الثانية مزيدة ، والأولى للابتداء (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي : مالئون من شجر الزقوم بطونكم لما يلحقكم من شدّة الجوع (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) الضمير في عليه إلى الزقوم ، والحميم : الماء الّذي قد بلغ حرّه إلى الغاية ، والمعنى : فشاربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحارّ ، ويجوز أن يعود الضمير إلى شجر لأنه يذكّر ويؤنّث. ويجوز أن يعود إلى الأكل المدلول عليه بقوله : (لَآكِلُونَ) ، وقرئ «من شجرة» بالإفراد (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قرأ الجمهور : (شُرْبَ الْهِيمِ) بفتح الشين ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة بضمها ، وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرها ، وهي لغات. قال أبو زيد : سمعت العرب تقول بضم السين وفتحها وكسرها. قال المبرد : الفتح على أصل المصدر والضم اسم المصدر ، والهيم : الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها ، وهذه الجملة بيان لما قبلها :

١٨٥

أي : لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى بشرب الماء ، ومفرد الهيم : أهيم ، والأنثى هيماء. قال قيس بن الملوح :

يقال به داء الهيام أصابه

وقد علمت نفسي مكان شفائها

وقال الضحاك وابن عيينة والأخفش وابن كيسان : الهيم : الأرض السهلة ذات الرمل ، والمعنى : أنهم يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء ولا يظهر له فيها أثر. قال في الصحاح : الهيام بالضم : أشد العطش ، والهيام كالجنون من العشق ، والهيام : داء يأخذ الإبل تهيم في الأرض لا ترعى ، يقال : ناقة هيماء ، والهيماء أيضا : المفازة لا ماء بها ، والهيام بالفتح : الرمل الّذي لا يتماسك في اليد للينه ، والجمع هيم ، مثل قذال وقذل ، والهيام بالكسر الإبل العطاش. (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) قرأ الجمهور : (نُزُلُهُمْ) بضمتين ، وروي عن أبي عمرو وابن محيصن بضمة وسكون ، وقد تقدم أن النزل ما يعدّ للضيف ، ويكون أوّل ما يأكله ، ويوم الدين يوم الجزاء وهو يوم القيامة ، والمعنى : أن ما ذكر من شجر الزقوم وشراب الحميم هو الّذي يعدّ لهم ويأكلونه يوم القيامة ، وفي هذا تهكّم بهم ؛ لأن النزل هو ما يعدّ للأضياف تكرمة لهم ، ومثل هذا قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١).

وقد أخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي عن أبي أمامة قال : «كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ذكر في القرآن شجرة مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. قال : وما هي؟ قال : السدر فإن لها شوكا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أليس الله يقول : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)؟ يخضد الله شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمرا يتفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما منها لون يشبه الآخر». وأخرج ابن أبي داود والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه عن عيينة بن عبد السلمي قال : «كنت جالسا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء أعرابي فقال : يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكا منها : يعني الطلح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصية التيس الملبود ـ يعني : الخصيّ منها ـ فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون آخر» وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال : خضده : وقره من الحمل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه قال : المخضود : الّذي لا شوك فيه. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال : المخضود : الموقر الّذي لا شوك فيه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال : هو الموز. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن

__________________

(١). آل عمران : ٢١ والتوبة : ٣٤ والانشقاق : ٢٤.

١٨٦

أبي هريرة مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ : وطلع منضود وأخرج ابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن قيس بن عباد قال : قرأت على عليّ بن أبي طالب (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فقال عليّ : ما بال الطلح ، أما تقرأ : وطلع؟ ثم قال : «وطلع نضيد» فقيل له : يا أمير المؤمنين أنحكّها في المصحف؟ قال : لا يهاج القرآن اليوم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (مَنْضُودٍ) قال : بعضه على بعض. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، اقرءوا إن شئتم : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)». وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث أنس. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما نحوه من حديث أبي سعيد. وأخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : ارتفاعها كما بين السماء والأرض ، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام. قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد انتهى ، ورشدين ضعيف. وأخرج الفريابي وهناد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال : «إن المنشآت اللاتي كنّ في الدنيا عجائز عمشا رمصا» قال الترمذي بعد إخراجه : غريب ، وموسى ويزيد ضعيفان. وأخرج الطيالسي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن قانع ، والبيهقي في البعث ، عن سلمة بن يزيد الجعفي سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في قوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال : «الثيبات والأبكار اللاتي كنّ في الدنيا». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : خلقهنّ الأوّل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (أَبْكاراً) قال : عذارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في البعث ، من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (عُرُباً) قال : عواشق (أَتْراباً) يقول : مستويات. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (عُرُباً) قال : عواشق لأزواجهنّ ، وأزواجهنّ لهنّ عاشقون (أَتْراباً) قال : في سنّ واحد ثلاثا وثلاثين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : العروب الملقة لزوجها. وأخرج مسدّد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : «جميعهما من هذه الأمة». وأخرج أبو داود الطيالسي ومسدّد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي بكرة في قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ـ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : هما جميعا من هذه الأمة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه. قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عباس «في قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما جميعا من أمتي». وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : الثلتان جميعا من هذه الأمة. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس

١٨٧

في قوله : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال : من دخان أسود ، وفي لفظ : من دخان جهنم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (شُرْبَ الْهِيمِ) قال : الإبل العطاش.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

قوله : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) التفت سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتا لهم وإلزاما للحجة ، أي : فهلا تصدّقون بالبعث أو بالخلق. قال مقاتل : خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث؟ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي : ما تقذفون وتصبّون في أرحام النساء من النطف ، ومعنى أفرأيتم : أخبروني ، ومفعولها الأول ما تمنون ، والثاني : الجملة الاستفهامية ، وهي (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي : تقدّرونه وتصوّرونه بشرا أم نحن المقدرون المصوّرون له ، و «أم» هي المتصلة ، وقيل : هي المنقطعة ، والأول أولى. قرأ الجمهور : (تُمْنُونَ) بضم الفوقية من أمنى يمني. وقرأ ابن عباس وأبو السّمّال ومحمد ابن السّميقع والأشهب العقيلي بفتحها من منى يمني ، وهما لغتان ، وقيل : معناهما مختلف ، يقال : أمنى إذا أنزل عن جماع ، ومنى إذا أنزل عن احتلام ، وسمي المنيّ منيا لأنه يمنى ، أي : يراق ، (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) قرأ الجمهور (قَدَّرْنا) بالتشديد ، وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير بالتخفيف ، وهما لغتان ، يقال : قدرت الشيء وقدّرته ، أي : قسمناه عليكم ووقّتناه لكل فرد من أفرادكم ، وقيل : قضينا ، وقيل : كتبنا ، والمعنى متقارب. قال مقاتل : فمنكم من يموت كبيرا ومنكم من يموت صغيرا. وقال الضّحّاك : معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين ، بل قادرين (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي : نأتي بخلق مثلكم. قال الزجاج : إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا. قال ابن جرير : المعنى نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدّل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم وما نحن بمسبوقين في آجالكم ، أي : لا يتقدّم متأخّر ولا يتأخر متقدّم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصّور والهيئات. قال الحسن : أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم ، وقيل : المعنى : ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا. وقال سعيد بن المسيب : «فيما لا تعلمون» : يعني في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف. وبرهوت واد باليمن. وقال مجاهد : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) يعني في أيّ خلق شئنا ، ومن كان قادرا على هذا فهو قادر على البعث (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ

١٨٨

النَّشْأَةَ الْأُولى) وهي ابتداء الخلق من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ولم تكونوا قبل ذلك شيئا. وقال قتادة والضحّاك : يعني خلق آدم من تراب (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي : فهلّا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة وتقيسونها على النشأة الأولى. قرأ الجمهور : (النَّشْأَةَ) بالقصر ، وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو بالمدّ ، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) أي : أخبروني ما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيه البذر (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي : تنبتونه وتجعلونه زرعا فيكون فيه السّنبل والحبّ (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي : المنبتون له الجاعلون له زرعا لا أنتم. قال المبرد : يقال زرعه الله ، أي : أنماه ؛ فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي : لو نشاء جعلناه ما تحرثون حطاما ، أي : متحطما متكسّرا ، والحطام : الهشيم الّذي لا ينتفع به ولا يحصل منه حبّ ولا شيء ممّا يطلب من الحرث (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي : صرتم تعجبون. قال الفرّاء : تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم. قال في الصحاح : وتفكّه : تعجّب ، ويقال : تندّم. قال الحسن وقتادة وغير هما : معنى الآية : تعجبون من ذهابها وتندمون ممّا حلّ بكم. وقال عكرمة : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله. وقال أبو عمرو والكسائي : هو التلهف على ما فات. قرأ الجمهور : (فَظَلْتُمْ) بفتح الظاء مع لام واحدة. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية عنه بكسر الظاء. وقرأ ابن عباس والجحدري «فظللتم» بلامين ، أولاهما مكسورة على الأصل ، وروي عن الجحدري فتحها ، وهي لغة. وقرأ الجمهور : (تَفَكَّهُونَ) وقرأ أبو حزام العكلي تفكّنون بالنون مكان الهاء ، أي : تندمون. قال ابن خالويه : تفكّه : تعجب. وتفكّن : تندم. وفي الصحاح : التفكن : التندم (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر ، وقرأ أبو بكر والمفضل وزرّ بن حبيش بهمزتين على الاستفهام ، والجملة بتقدير القول ، أي : تقولون إنا لمغرمون ، أي : ملزمون غرما بما هلك من زرعنا ، والمغرم الّذي ذهب ماله بغير عوض ، قال الضحاك وابن كيسان. وقيل : إنا لمعذبون ، قال قتادة وغيره. وقال مجاهد وعكرمة : لمولع بنا ، ومنه قول النّمر بن تولب :

سلا عن تذكّره تكتما

وكان رهينا بها مغرما

يقال : أغرم فلان بفلانة ، أي : أولع. وقال مقاتل : مهلكون. قال النحاس : مأخوذ من الغرام ، وهو الهلاك ، ومنه قول الشاعر (١) :

يوم النّسار ويوم الجفا

ركانا عليكم عذابا مقيما (٢)

والظاهر من السياق المعنى الأول ، أي : إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه ومصيره حطاما ، ثم أضربوا عن قولهم هذا وانتقلوا ، فقالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي : حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا ، والمحروم : الممنوع

__________________

(١). هو بشر بن أبي حازم.

(٢). في تفسير القرطبي. وكان عذابا وكان غراما.

١٨٩

من الرزق الّذي لا حظّ له فيه ، وهو المحارف. (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) فتسكنون به ما يلحقكم من العطش ، وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ. واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء ومنافعه ، لأنه أعظم فوائده وأجلّ منافعه (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أي : السحاب : قال في الصحاح : قال أبو زيد : المزنة : السحابة البيضاء. والجمع مزن. والمزنة : المطرة. قال الشاعر (١) :

ألم تر أنّ الله أنزل مزنة

وعفر الظّباء في الكناس تقمّع

وممّا يدلّ على أنه السحاب قول الشاعر :

فنحن كماء المزن ما في نصابنا

كهام ولا فينا يعدّ بخيل (٢)

وقول الآخر :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

(أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) له بقدرتنا دون غيرنا ، فإذا عرفتم ذلك ، فكيف لا تقرّون بالتوحيد وتصدقون بالبعث. ثم بين لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) الأجاج : الماء الشديد الملوحة الّذي لا يمكن شربه ، وقال الحسن : هو الماء المرّ الّذي لا ينتفعون به في شرب ولا زرع ولا غير هما (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي : فهلّا تشكرون نعمة الله الّذي خلق لكم ماء عذبا تشربون منه وتنتفعون به (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي : أخبروني عنها ، ومعنى تورون : تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب ، يقال : أوريت النار إذا قدحتها (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) التي يكون منها الزّناد ، وهي المرخ والعفار ، تقول العرب : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) لها بقدرتنا دونكم. ومعنى الإنشاء الخلق ، وعبّر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة وعجيب القدرة (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) أي : جعلنا هذه النار التي في الدنيا تذكرة لنار جهنم الكبرى. قال مجاهد وقتادة : تبصرة للناس في الظلام ، وقال عطاء : موعظة ليتّعظ به المؤمن (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي : منفعة للذين ينزلون بالقواء ، وهي الأرض القفر كالمسافرين وأهل البوادي النازلين في الأراضي المقفرة ، يقال : أرض قواء بالمد والقصر ، أي : مقفرة ، ومنه قول النابغة :

يا دارمية بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقال عنترة :

حيّيت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

__________________

(١). هو أوس بن حجر.

(٢). «نصاب» أصل. «كهام» : ثقيل ، لا غناء عنده.

١٩٠

وقول الآخر (١) :

ألم تسأل الرّبع القواء فينطق؟

وهل تخبرنّك اليوم بيداء سملق؟ (٢)

ويقال : أقوى إذا سافر ، أي : نزل القوى. وقال مجاهد : المقوين : المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة ، وتذكّر نار جهنم. وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم ، يقال : أقويت منذ كذا وكذا ، أي : ما أكلت شيئا ، وبات فلان القوى ، أي : بات جائعا ، ومنه قول الشاعر (٣) :

وإنّي لأختار القوى طاوي الحشى

محافظة من أن يقال لئيم

وقال قطرب : المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقر ، ويكون بمعنى الغني ؛ يقال : أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد ، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأوّل ، وهو الظاهر (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه ، وتنزيه على ما قبلها مما عدّده من النعم التي أنعم بها على عباده وجحوده المشركين لها وتكذيبهم بها.

وقد أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم ، والبيهقي في الشعب ، وضعّفه ، عن أبي هريرة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقولنّ أحدكم زرعت ، ولكن يقول : حرثت». قال أبو هريرة : ألم تسمعوا الله يقول : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (تَفَكَّهُونَ) قال : تعجبون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. قال : (الْمُزْنِ) : السحاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) قال : تذكرة للنار الكبرى (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) قال : للمسافرين.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

__________________

(١). هو جميل.

(٢). «سملق» : هي الأرض المستوية.

(٣). هو حاتم الطائي.

١٩١

قوله : (فَلا أُقْسِمُ) ذهب جمهور المفسرين إلا أن «لا» مزيدة للتوكيد ، والمعنى : فأقسم ، ويؤيد هذا قوله بعد (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) وقال جماعة من المفسرين : إنها للنفي ، وإن المنفيّ بها محذوف ، وهو كلام الكفار الجاحدين. قال الفراء : هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون. ثم استأنف فقال : أقسم ، وضعف هذا بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز ، كما قال أبو حيان وغيره. وقيل : إنها لام الابتداء ، والأصل : فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف ، كقول الشاعر :

أعوذ بالله من العقراب (١)

وقد قرأ هكذا فلأقسم بدون ألف الحسن وحميد وعيسى بن عمر ، وعلى هذا القول ، وهذه القراءة ؛ يقدّر مبتدأ محذوف ، والتقدير : فلأنا أقسم بذلك. وقيل : إن «لا» هنا بمعنى ألا التي للتنبيه ، وهو بعيد. وقيل : «لا» هنا على ظاهرها ، وإنها لنفي القسم ، أي : فلا أقسم على هذا لأن الأمر أوضح من ذلك ، وهذا مدفوع بقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) مع تعيين المقسم به والمقسم عليه ، ومعنى قوله : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) مساقطها ، وهي مغاربها ، كذا قال قتادة وغيره. وقال عطاء بن أبي رباح : منازلها. وقال الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة ، وقال الضحاك : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون : مطرنا بنوء كذا. وقيل : المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما من اللوح المحفوظ ، وبه قال السدّي وغيره ، وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. قرأ الجمهور : (بِمَواقِعِ) على الجمع ، وقرأ ابن مسعود والنخغي وحمزة والكسائي وابن محيصن وورش (٢) عن يعقوب «بموقع» على الإفراد. قال المبرد : «موقع» هاهنا مصدر ، فهو يصلح للواحد والجمع. ثم أخبر سبحانه عن تعظيم هذا القسم وتفخيمه فقال : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) هذه الجملة معترضة بين المقسم به والمقسم عليه ، وقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) جملة معترضة بين جزأي الجملة المعترضة ، فهو اعتراض في اعتراض. قال الفراء والزجاج : هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن ، والضمير في «إنه» على القسم الّذي يدل عليه أقسم ، والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون. ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي : كرّمه الله وأعزّه ورفع قدره على جميع الكتب ، وكرّمه عن أن يكون سحرا أو كهانة أو كذبا ، وقيل : إنه كريم لما فيه من كرم الأخلاق ومعالي الأمور ، وقيل : لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه. وحكى الواحدي عن أهل المعاني أن وصف القرآن بالكريم ، لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدّي إلى الحق في الدّين. قال الأزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد ، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي : مستور مصون ، وقيل : محفوظ عن الباطل ، وهو اللوح

__________________

(١). وتتمته في تاج العروس :

الشّائلات عقد الأذناب

والشاهد في قوله : «عقراب» حيث أشبعت الراء المفتوحة فصارت عقراب. والأصل : عقرب.

(٢). في تفسير القرطبي : رويس بدل ورش.

١٩٢

المحفوظ ، قاله جماعة. وقيل : هو كتاب. وقال عكرمة : هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه ، وقال السدّي : هو الزبور. وقال مجاهد وقتادة : هو المصحف الّذي في أيدينا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون ، أي : لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون ، وهم الملائكة ، وقيل : هم الملائكة والرسل من بني آدم ، ومعنى (لا يَمَسُّهُ) المسّ الحقيقي ، وقيل : معناه : لا ينزل به إلا المطهرون ، وقيل : معناه : لا يقرؤه ، وعلى كون المراد الكتاب المكنون هو القرآن ، فقيل (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الأحداث والأنجاس. كذا قال قتادة وغيره : وقال الكلبي : المطهرون من الشرك. وقال الربيع بن أنس : المطهرون من الذنوب والخطايا. وقال محمد بن الفضل وغيره : معنى لا يمسه : لا يقرؤه ، إلا المطهرون أي : إلا الموحّدون. وقال الفراء : لا يجد نفعه وبركته إلا المطهرون ، أي : المؤمنون. وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلّا من طهّره الله من الشرك والنفاق. وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مسّ المصحف ، وبه قال عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد ابن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. وروي عن ابن عباس والشعبي وجماعة منهم أبو حنيفة ، أنه يجوز للمحدث مسّه ، وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. قرأ الجمهور : (الْمُطَهَّرُونَ) بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول. وقرأ سلمان الفارسي بكسر الهاء على أنه اسم فاعل ، أي : المطهرون أنفسهم. وقرأ نافع وابن عمر ، وفي رواية عنهما عيسى بن عمر ، بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة ، اسم مفعول من أطهر ، وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء وكسر الهاء ، وأصله المتطهرون. (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) قرأ الجمهور بالرفع ، وقرئ بالنصب ، فالرفع على أنه صفة أخرى للقرآن ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والنصب على الحال (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت السابقة ، والمدهن والمداهن المنافق. كذا قال الزجاج وغيره وقال عطاء وغيره : هو الكذاب. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة : «مدهنون» : كافرون ، كما في قوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) وقال الضحاك : «مدهنون» : معرضون ، وقال مجاهد : ممالئون للكفار على الكفر ، وقال أبو كيسان : المدهن : الّذي لا يعقل حق الله عليه ويدفعه بالعلل. والأوّل أولى ؛ لأن أصل المدهن الّذي ظاهره خلاف باطنه كأنه يشبه الدهن في سهولته. قال المؤرّج : المدهن : المنافق الّذي يلين جانبه ليخفي كفره ، والإدهان والمداهنة : التكذيب والكفر والنفاق ، وأصله اللين ، وأن يسرّ خلاف ما يظهر ، وقال في الكشاف : «مدهنون» أي : متهاونون به ، كمن يدهن في الأمر ، أي : يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به ، انتهى. قال الراغب : والإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المدارة والملاينة ، وترك الجدّ : كما جعل التقريد ، وهو نزع القراد عبارة عن ذلك ، ويؤيد ما ذكره قول أبي قيس بن الأسلت :

الحزم والقوّة خير من ال

إدهان والفهّة والهاع (١)

__________________

(١). «الفهة» : العي. «الهاع» : سوء الحرص مع ضعف.

١٩٣

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) في الكلام مضاف محذوف ، كما حكاه الواحدي عن المفسرين ، أي : تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله فتضعون التكذيب موضع الشكر. وقال الهيثم : إن أزد شنوءة يقولون : ما رزق فلان؟ أي : ما شكره. وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق والشكر. ووجه التعبير بالرزق عن الشكر أن الشكر يفيض زيادة الرزق فيكون الشكر رزقا تعبيرا بالسبب عن المسبب ، ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله ، وأنزل عليهم المطر : سقينا بنوء كذا ، ومطرنا بنوء كذا. قال الأزهري : معنى الآية وتجعلون بدل شكركم رزقكم الّذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرّزاق. وقرأ عليّ وابن عباس «وتجعلون شكركم» وقرأ الجمهور (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بالتشديد من التكذيب ، وقرأ عليّ وعاصم في رواية عنه بالتخفيف من الكذب. (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي : فهلا إذا بلغت الروح ، أو النفس ، الحلقوم عند الموت ، ولم يتقدّم لها ذكر ؛ لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاءوا بمثل هذه العبارة ، ومنه قول حاتم طيء :

أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر

(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) إلى ما هو فيه ذلك الّذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم. قال الزجاج : وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه ، والمعنى أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه ، ولا يستطيعون شيئا ينفعه أو يخفف عنه ما هو فيه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي : بالعلم والقدرة والرؤية ، وقيل : أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي : لا تدركون ذلك لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد ، أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ـ تَرْجِعُونَها) يقال : دان السلطان رعيته ؛ إذا ساسهم واستعبدهم. قال الفراء : دنته ملكته ، وأنشد للحطيئة :

لقد ديّنت أمر بنيك حتّى

تركتهم أدّق من الطّحين

أي : ملّكت ، ويقال دانه ؛ إذا أذله واستعبده ، وقيل : معنى مدينين محاسبين ، وقيل : مجزيين ، ومنه قول الشاعر :

ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا

والمعنى الأوّل ألصق بمعنى الآية ، أي : فهلّا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين ترجعونها ، أي : النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرّها الّذي كانت فيه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولن ترجعوها ، فبطل زعمكم إنكم غير مربوبين ولا مملوكين ، والعامل في قوله : إذا بلغت هو قوله : ترجعونها ، ولو لا الثانية تأكيد للأولى. قال الفراء : وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد. ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي : السابقين من الثلاثة الأصناف المتقدّم تفصيل أحوالهم (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) قرأ الجمهور (فَرَوْحٌ) بفتح الراء ، ومعناه الراحة من الدنيا والاستراحة من أحوالها. وقال

١٩٤

الحسن : الروح : الرحمة. وقال مجاهد : الروح : الفرح. وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري (فَرَوْحٌ) بضم الراء ، ورويت هذه القراءة عن يعقوب ، قيل : ومعنى هذه القراءة الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم ، والريحان : الرزق في الجنة ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل. هو الرزق بلغة حمير ، يقال خرجت أطلب ريحان الله : أي رزقه ، ومنه قول النّمر بن تولب :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر

وقال قتادة : إنه الجنة. وقال الضحاك : هو الرحمة. وقال الحسن : هو الريحان المعروف الّذي يشم. قال قتادة والربيع بن خثيم : هذا عن الموت ، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث ، وكذا قال أبو الجوزاء وأبو العالية ، ومعنى «وجنة نعيم» : أنها ذات تنعم ، وارتفاع روح وما بعده على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : فله روح. (وَأَمَّا إِنْ كانَ) ذلك المتوفى (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) وقد تقدّم ذكرهم وتفصيل أحوالهم وما أعدّه الله لهم من الجزاء (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي : لست ترى فيهم إلا ما تحب من السلامة ، فلا تهتم بهم ، فإنهم يسلمون من عذاب الله ، وقيل : المعنى : سلام لك منهم ، أي : أنت سالم من الاغتمام بهم ، وقيل المعنى : إنهم يدعون لك ويسلمون عليك ، وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحين بالسلام إكراما ، وقيل : هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض ، وقيل : المعنى : سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) أي : المكذبين بالبعث الضالين عن الهدى ، وهم أصحاب الشمال المتقدّم ذكرهم ، وتفصيل أحوالهم (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي : فله نزل يعدّ لنزوله من حميم ، وهو الماء الّذي قد تناهت حرارته ، وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم بيانه (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) يقال : أصلاه النار وصلاه ، أي : إذا جعله في النار ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أو إلى المكان. قال المبرد : وجواب الشرط في هذه المواضع الثلاثة محذوف ، والتقدير : مهما يكن من شيء فروح إلخ. وقال الأخفش : إن الفاء في المواضع الثلاثة هي جواب أما ، وجواب حرف الشرط. قرأ الجمهور : (وَتَصْلِيَةُ) بالرفع عطفا على فنزل. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفا على حميم ، أي : فنزل من حميم ومن تصلية جحيم. (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة ، أو إلى المذكور قريبا من أحوال المتفرقين له حق اليقين ، الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة ، أو إلى المذكور قريبا من أحوال المتفرقين له حق اليقين ، أي : محض اليقين وخالصه ، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه. قال المبرّد : هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين ، هذا عند الكوفيين وجوّزوا ذلك لاختلاف اللفظ ؛ وأما البصريون فيجعلون المضاف إليه محذوفا ، والتقدير : حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين ، والفاء في (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : نزّهه عمّا لا يليق بشأنه ، والباء متعلقة بمحذوف ، أي : فسبح متلبسا باسم ربك للتبرك به. وقيل : المعنى : فصلّ بذكر ربك : وقيل : الباء زائدة ، والاسم بمعنى الذات. وقيل : هي للتعدية لأن سبح يتعدّى بنفسه تارة ويتعدّى بالحرف أخرى ، والأوّل أولى.

١٩٥

وقد أخرج النسائي وابن جرير ومحمد بن نصر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم فرّق في السنين ، وفي لفظ : ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما. ثم قرأ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) قال القرآن (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) قال : القرآن. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : نجوم القرآن حين ينزل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في المعرفة ، من طرق عن ابن عباس أيضا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال الكتاب المنزل في السماء لا يمسّه إلا الملائكة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أنس (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال : الملائكة. وأخرج عبد الرّزاق وابن المنذر عن علقمة قال : أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف ، فقلنا له : لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا ، قال : إنما قال الله : (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ـ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وهو الّذي في السماء لا يمسّه إلا الملائكة ، ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا. وأخرج عبد الرّزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال في كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم : «لا تمس القرآن إلا على طهر». وأخرجه مالك في الموطأ ، عن عبد الله بن أبي بكر ، وأخرجه أبو داود في المراسيل ، من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولا يمس القرآن إلا طاهر» وقد أسنده الدار قطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان ابن أبي العاص ، وفي أسانيدها نظر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان لا يمس المصحف إلا متوضئا. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، عن عبد الرّحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجة ، فتوارى عنا ثم خرج إلينا ، فقلنا : لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن ، فقال : سلوني ، فإني لست أمسّه ، إنما يمسه المطهرون ، ثم تلا : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ). وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر». وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل : «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب له في عهده : أن لا يمسّ القرآن إلّا طاهر». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عباس في قوله : (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) قال : مكذبون. وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن عباس قال : «مطر الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة وضعها الله. وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، فنزلت هذه الآية (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) حتى بلغ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)». وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني ، ومن حديث أبي سعيد الخدري ، وفي الباب أحاديث. وأخرج أحمد وابن منيع وعبد بن حميد ، والترمذي وحسّنه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال : «شكركم ، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا».

١٩٦

وأخرج ابن عساكر في تاريخه ، عن عائشة قالت : ما فسّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن إلا آيات يسيرة ، قوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال : «شكركم». وأخرج ابن مردويه عن عليّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : «وتجعلون شكركم». وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «وتجعلون شكركم» قال : يعني الأنواء ، وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم كافرا كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ، فأنزل الله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ). وأخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرّحمن السلمي عن عليّ أنه قرأ : «وتجعلون شكركم» وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها كذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (غَيْرَ مَدِينِينَ) قال : غير محاسبين. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خثيم (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) الآية قال : هذا له عند الموت (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ـ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) قال : هذا عند الموت (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) قال : تخبأ له الجحيم إلى يوم يبعث. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَرَوْحٌ) قال : رائحة (وَرَيْحانٌ) قال : استراحة. وأخرج ابن جرير عنه قال : يعني بالريحان : المستريح من الدنيا (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) يقول : مغفرة ورحمة. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : الريحان : الرزق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) قال : تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين. وأخرج ابن أبي حاتم حاتم عنه أيضا (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) قال : ما قصصنا عليك في هذه السورة. وأخرج عنه أيضا : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال : فصلّ لربك. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : «لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال : اجعلوها في ركوعكم ، فلما نزلت : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم».

* * *

١٩٧

سورة الحديد

وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحديد بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند ضعيف ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء ، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء ، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء ، ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء». وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعا : «لا تحتجموا يوم الثلاثاء ، فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء». وأخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، والنسائي وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن العرباض بن سارية : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهنّ آية أفضل من ألف آية». وفي إسناده بقية بن الوليد ، وفيه مقال معروف. وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يذكر العرباض بن سارية ، فهو مرسل. وأخرج ابن الضريس عن يحيى ابن أبي كثير قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات ، وكان يقول : إن فيهنّ آية أفضل من ألف آية» قال يحيى : فنراها الآية التي في آخر الحشر. وقال ابن كثير في تفسيره : والآية المشار إليها والله أعلم هي قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) الآية. والمسبّحات المذكورة هي : الحديد ، والحشر ، والصفّ ، والجمعة ، والتغابن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : نزّهه ومجّده. قال المقاتلان : يعني كل شيء من ذي روح وغيره ، وقد تقدّم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السّماوات والأرض من العقلاء وغيرهم

__________________

(١). الإسراء : ٤٤.

١٩٨

والحيوانات والجمادات : هو ما يعمّ التسبيح بلسان المقال ؛ كتسبيح الملائكة والإنس والجنّ ، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم ، فإنّ كل موجود يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة ، وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة ، فلم قال : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وإنما هو تسبيح مقال. واستدل بقوله : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) (١) فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة. وفعل التسبيح قد يتعدّى بنفسه تارة ، كما في قوله : (وَسَبِّحُوهُ) وباللام أخرى كهذه الآية ، وأصله أن يكون متعديا بنفسه ؛ لأن معنى سبّحته : بعّدته عن السّوء ، فإذا استعمل باللام فهي إما مزيدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت له ، أو هي للتعليل ، أي : افعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصا له ، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة ، وفي بعضها مضارعا ، وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبّحة في كل الأوقات ، لا يختصّ تسبيحها بوقت دون وقت ، بل هي مسبحة أبدا في الماضي ، وستكون مسبحة أبدا في المستقبل (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي : القادر الغالب الّذي لا ينازعه أحد ولا يمانعه ممانع كائنا ما كان (الْحَكِيمُ) الّذي يفعل أفعال الحكمة والصواب (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرف فيه وحده ولا ينفذ غير تصرّفه وأمره ، وقيل : أراد خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق (يُحْيِي وَيُمِيتُ) الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف ، أو في محل نصب على الحال من ضمير له ، أو كلام مستأنف لبيان بعض أحكام الملك ، والمعنى : أنه يحيي في الدنيا ويميت الأحياء ، وقيل : يحيي النطف وهي موات ويميت الأحياء ، وقيل : يحيي الأموات للبعث (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء كائنا ما كان (هُوَ الْأَوَّلُ) قبل كل شيء (وَالْآخِرُ) بعد كل شيء ، أي : الباقي بعد فناء خلقه (وَالظَّاهِرُ) العالي الغالب على كل شيء ، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة (وَالْباطِنُ) أي : العالم بما بطن ، من قولهم فلان يبطن أمر فلان ، أي : يعلم داخلة أمره ، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار والعقول ، وقد فسّر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي ، فيتعين المصير إلى ذلك (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) هذا بيان لبعض ملكه للسماوات والأرض. وقد تقدّم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي : يدخل فيها من مطر وغيره (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات وغيره (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر وغيره (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي : يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة سبأ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي : بقدرته وسلطانه وعلمه ، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من برّ وبحر (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه من أعمالكم شيء (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا التكرير للتأكيد (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لا إلى غيره. قرأ الجمهور : «ترجع» مبنيا للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر على البناء للفاعل (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) قد تقدّم تفسير هذا في سورة آل عمران ، وفي مواضع (وَهُوَ

__________________

(١). الأنبياء : ٧٩.

١٩٩

عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بضمائر الصدور ومكنوناتها ، لا يخفى عليه من ذلك خافية.

وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسأله خادما ، فقال قولي : «اللهم ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم ، وربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدّين ، وأغننا من الفقر». وأخرج أحمد ومسلم وغير هما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعا مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا : هذا الله كان قبل كل شيء ، فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا : هو الأول قبل كل شيء ، والآخر فليس بعده شيء ، وهو الظاهر فوق كل شيء ، وهو الباطن دون كل شيء ، وهو بكل شيء عليم». وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري ، قال : ما هو؟ قلت : والله لا أتكلّم به ، قال : فقال لي : أشيء من شك؟ قال : وضحك ، قال : ما نجا من ذلك أحد ، قال : حتى أنزل الله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) (١) الآية قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئا فقل : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) قال : عالم بكم أينما كنتم.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

قوله : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : صدّقوا بالتوحيد وبصحة الرسالة ، وهذا خطاب لكفار العرب ، ويجوز أن يكون خطابا للجميع ، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه ، أو الازدياد منه. ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي : جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، فإن المال مال الله والعباد خلفاء الله في أمواله ، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه. وقيل : جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممّن ترثونه ، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم ،

__________________

(١). يونس : ٩٤.

٢٠٠