بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وهي إمّا رؤية إطلاقية ، وهي عبارة عن لحاظ الطبيعة مع عدم لحاظ الخصوصية من القيد ، والوصف.

وعدم لحاظ الخصوصية ، قيد في الرؤية ، لا في العالم ـ المرئي ـ إذ أنّها لا تزيد في المرئي شيئا عن ذات الطبيعة ، وإمّا رؤية تقييدية ، وهي عبارة عن لحاظ الطبيعة مع لحاظ القيد والوصف وإلا لما حكم المولى بوجوب الإكرام على العالم ، فالإطلاق هنا غير داخل في الموضوع لأنه خصوصية للرؤية لا المرئي ، فهو كالمنظار فكما أن المنظار لا يدخل في المنظور ، فكذلك عدم لحاظ الخصوصية ، فإنها خصوصية للرؤية ، وعدم لحاظ الخصوصية هذا ، الذي هو غير داخل في الموضوع ، يحدد مدى سعة الموضوع ، فهو يشكل الحيثية التعليليّة لسعة الموضوع لا الحيثية التقييدية ، فالواجب إذن ، إكرام ذات الطبيعة ، من دون أن يكون الإطلاق دخيلا في موضوع الإكرام.

وهذا الكلام بنفسه يجري في الوضع ، فإن الواضع عند ما جعل العلقة الوضعية ، فإنما جعلها لذات المعنى ناظرا له بالرؤية الإطلاقية فتكون هذه حيثية تعليلية تقتضي سعة إطلاق الموضوع ، وهو يقتضي صحة انطباقه على تمام أفراده.

وهذا بنفسه يجري في المقام أيضا ، فإن الاستيعاب الأداتي موضوع لذات الطبيعة ، لا المطلقة بما هي مطلقة ، لأن ما ينطبق على الأفراد خارجا هو المنظور وليس المجموع من المنظور والنظارة ، وذات الطبيعة بالحمل الشائع مطلقة ، ولولاه لما أمكن الاستيعاب.

ثم أجيب على بياننا ثانية ، فقيل : إن الطبيعة المهملة هي الجامع بين المطلق والمقيد ، إذن ، فهي محفوظة فيهما ، ولا بدّ من صحة انطباقها عليهما ، والمطلق بدوره محفوظ في أفراده ومنطبق عليها ، والمحفوظ في المحفوظ ، محفوظ.

إذن فالمهملة محفوظة ومنطبقة على تمام الأفراد ، ولا حاجة لمقدمات الحكمة.

٤١

والجواب هو أن هنا نحوين من الرؤية.

١ ـ النحو الأول : الرؤية الإطلاقية ، وهو مكونة من عنصرين ، أحدهما ، لحاظ ذات الطبيعة. والثاني ، هو عدم لحاظ الوصف ، والمنظور بهذه الرؤية هو ذات الطبيعة ، وقد عرفنا آنفا ، أن عدم لحاظ الوصف لا يزيد في المرئي شيئا.

٢ ـ النحو الثاني : الرؤية التقييدية : وهي مكوّنة من لحاظ ذات الطبيعة ، مع لحاظ الوصف ، أو القيد.

ثم إن لحاظ القيد يساهم في تكوين نحو رؤية ، لكن له مرئي ، لأنه لحاظ ، لا عدم لحاظ.

وهاتان الرؤيتان متباينتان ، فإنّ الأولى : حيثيّة تعليليّة لسعة الانطباق ، والثانية : حيثيّة تعليليّة لضيق الانطباق ، وأمّا ذات المرئي ـ الطبيعة ـ فهو محفوظ فيهما ، وذات الطبيعة لا يمكن تصورها وتعليق الحكم عليها ، إلّا من خلال هاتين الرؤيتين ، فإنّ كلا منهما ، متوقف على وجودها في الذهن ، وهو لا يكون إلّا ضمن الإطلاق والتقييد ، فإذا لم ينظر إليها بأحدهما ، لا يمكن الحكم عليها بشيء ليقال : بأنّ الحكم يسري إلى تمام الأفراد أم لا ، وإذا نظر إليها بأحدهما ، فيتبعها حكمها.

ومن هنا يتضح ، انّ الطبيعة المهملة ، هي عين الطبيعة المطلقة ، لكن مع قطع النظر عن طراز الرؤية ، وقطع النظر عن ذلك ، هو رؤية في الحقيقة ، فالمهملة عند ما ترد إلى الذهن ، تكون مطلقة بالحمل الشائع.

وبهذا يتضح ، أنه لا معنى لدلالة الأداة على استيعاب مدخوله ، وهو اسم الجنس الذي هو ذات الطبيعة ، إلّا إذا كان الملحوظ هو الطبيعة المطلقة بالحمل الشائع ، إذ بهذه الرؤية يمكن الحكم بالاستيعاب على ذات الطبيعة ، وأمّا الطبيعة بما هي مجردة عن الرؤية الإطلاقية والتقييدية ـ المسماة بالطبيعة المهملة ـ فليست مرئية لكي يعقل أن تقع موضوعا لحكم ، سواء أكان ذلك

٤٢

الحكم هو ، الوضع أو الاستيعاب أو غيرهما من الأحكام ، فأيّ طبيعة تفترض رؤيتها ، فهي ليست إلا المطلقة بالحمل الشائع أو المقيّدة ، وإلّا ، لزم ارتفاع النقيضين المحال.

ومن هنا فإنّ الصحيح في الاعتراض على المحقق النائيني (قده) ، هو ما ذكرناه ، من أنّ إثبات كون مدخول الأداة هو الطبيعة المطلقة بالحمل الشائع لا يحتاج إلى مقدمات الحكمة والإطلاق ، وإنّما يكفي نفس ذكر اسم الجنس وعدم ذكر القيد معه ، وحينئذ إذا أضيف إلى هذا ، مدلول الأداة ، تتم بذلك حينئذ الدلالة اللفظية على استيعاب تمام الأفراد التي تنطبق عليها الطبيعة.

٢ ـ المقام الثاني : هو في بيان سنخ العموم الذي تدل عليه ، «كل» فهل إنّها تدل على العموم الاستغراقي ، أم أنّها تدل على العموم المجموعي ، بعد وضوح عدم دلالتها على العموم البدلي ، قولان :

١ ـ القول الأول : هو أنّها مقتضى الإطلاق فيها الاستغراقية ، وذلك لأن المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة ، هي عناية تقييد بعض الأفراد ببعض ، لتتحول إلى أجزاء مترابطة في مركب واحد.

ومن هنا ، كان امتثال العموم المجموعي ، بالإتيان بجميع الأفراد ، وعصيانه ، بترك ولو فرد واحد منها.

وعليه ، فإذا كان هناك ما يدل على هذه العناية ، يكون العموم مجموعيا ، وإلّا ، فالإطلاق يقتضي كونه استغراقيا.

وبتعبير آخر يقال : إنّ مقتضى الأصل في «كل» إفادة العموم الاستغراقي ، وأما المجموعي ، فإنه بحاجة إلى عناية زائدة ، وحينئذ ، ننفيها بالإطلاق ، بدعوى أنّ المجموعيّة ، كما عرفت ، ـ تتوقف على ملاحظة أمر زائد على ذات الأفراد يكون به مركبا وحدانيا يشكّل كل فرد منه جزءا فيه.

٢ ـ القول الثاني : هو عكس الأول ، أي أنّ مقتضى الإطلاق هو

٤٣

المجموعية ، أي أنّ العموم المجموعي هو المفاد الأولي لأداة كل ، باعتبار انّ العموم المجموعي وإن كان بحاجة إلى عناية زائدة ، لكن هذه العناية داخلة في المراد الاستعمالي لكلام المتكلم ، لأن لفظ كل قد أعمل في مدلولها هذه العناية ، فإنه مفهوم واحد يحيط بتمام الأفراد ، وحينئذ ، مقتضى اصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات هو أن تكون هذه العناية قد أخذت في موضوع المراد الجدي للمتكلم ، وإن شئت قلت : إنّ العموم المجموعي هو المفاد الأولي لأداة كل ، باعتبار أنه لا بد من افتراض وجود معنى وحداني للأداة تتوحد فيه الأفراد المتكثرة ، وأمّا الدلالة على الأفراد المتكثرة بما هي متكثرة فهي معان متكثرة لا يمكن أن تكون مدلولا للأداة الواحدة.

والتحقيق هو أن يقال : إنّ عناية توحيد الكثير على نحوين.

١ ـ النحو الأول : هو أن يفرض أنّ هناك أفراد تشترك في صفة واحدة ، «كالعلم» ، ونريد أن نعبّر عنهم جميعا بلفظ واحد ، كلفظ ، «كل» ، فحينئذ لا بدّ للمستعمل من إلباس هذه الكثرة ثوب الوحدة ، فيجعلها شيئا واحدا ويستعمل فيه اللفظ.

وهذه العمليّة ، عمليّة اعتباريّة في عالم الاستعمال ، وليس لها ما وراء في الخارج أصلا.

٢ ـ النحو الثاني : هو أن يفرض أنّ هذه الأفراد لها صفة مشتركة قائمة بمجموع الأفراد مع قطع النظر عن الاستعمال ، وهذه الصفة تعطيهم نوعا من التوحد ، باعتبار أن الأفراد بمجموعهم أصبحوا مركزا لهذه الصفة.

كعنوان الجيش ، والفرق بين النحوين هو ، أنّ صفة العلم في الأول قائمة بالجميع ، أي بكل فرد بما هو هو ، وهذه الصفة لم تعط للأفراد توحدا بحيث تصيرهم مركبا ، بينما في النحو الثاني ، التركيب ثابت بقيام صفة بالمجموع مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر بقيام هذه الصفة.

وحينئذ يقال : إنّ عناية توحيد الكثير المأخوذة في المدلول

٤٤

الاستعمالي ، إن كانت مأخوذة فيه لمجرد كونها عملية اعتبارية من المستعمل للاستطراق بها إلى التمكن من الاستعمال في المجموع ، فهي من شئون الاستعمال ، وليس لها ما وراء ومحكي في الخارج ، وعليه ، فلا يقتضي البناء العقلائي حفظ هذه العناية في مرحلة المراد الجدي ، لأنه إنما يجب حفظ كل ما يقوله في مرحلة المدلول الاستعمالي ، في مرحلة المدلول الجدي إذا لم يكن من شئون الاستعمال.

وإن كانت مأخوذة فيه باعتبار أنّ لها واقعا موضوعيا وراء شئون الاستعمال ، فمثل هذا التركيب ينبغي حفظه في مرحلة المراد الجدي ، ومقتضى اصالة التطابق حفظه ، وذلك لأن هذا التركيب له ما وراء وهو ليس من شئون الاستعمال.

ومن هنا نفرق بين ، أكرم كل رجل ، وأكرم كل العسكر ، فإنّ الأول ، مقتضى الإطلاق فيه ، كون العموم استغراقيا ، لأن المجموعية بحاجة إلى عناية توحيد الكثير في مرحلة المراد الجدي ، ولا قرينة على ذلك ، بينما الثاني مقتضى الإطلاق فيه كون العموم مجموعيا ، ما لم يكن قرينة على الخلاف ، لأن نكتة توحيد الكثير ، لها واقع ومحكي وراء عالم الاستعمال فينبغي حفظه في مرحلة المراد الجدي.

وعلى ضوء ما ذكرنا آنفا ، نستطيع أن نفسّر وجه الفرق بين «كل» الداخلة على المفرد النكرة حيث تفيد العموم الإفرادي والاستغراق بلحاظ الأفراد ، و «كل» الداخلة على المفرد المعرّف باللام حيث تفيد العموم الاجزائي. فتارة تقول : اقرأ كل كتاب ، وأخرى تقول : اقرأ كل الكتاب ، فالقول الأول نفهم من «كل» الاستغراقية ، فيكون كل فرد موضوعا لحكم مستقل ، لأن وحدة هذه الكتب ليست إلّا حيثية اعتبارية محضة خلقها المستعمل في مرحلة الاستعمال ليصححه وليس لها ما بإزاء ، بينما كل في القول الثاني نفهم منها المجموعية ، أي حكما واحدا قائما بالمجموع ، ولذا لو ترك ورقة دون قراءة ، يكون قد عصى الأمر ، وهذا الفهم في المقامين

٤٥

منشؤه هو ، انّ حيثية اجتماع الأفراد في الأول اعتبارية محضة نشأت من ضرورة عالم الاستعمال ، فإن المستعمل ليس هو الذي أعطى هذه الوحدة للمركب ، بل هي موجودة بقطع النظر عن لحاظ الاستعمال ، ومن هنا كانت اصالة التطابق تقضي بأن هذه الحيثية الوحدوية مأخوذة في المراد الجدي كما كانت مأخوذة في المراد الاستعمالي التصوري ، إذن فالأصل في كل حيث تأتي لإفادة العموم الإفرادي هو الاستغراقية ، وحيث تأتي لإفادة العموم الأجزائي هو المجموعيّة ، ومما يؤيّد هذا التمييز بين مدلولي كل هو اتفاق علماء العربية على أنّ كل بلحاظ حال لفظها مذكرة مفردة ، لكن بلحاظ حال معناها تختلف من التذكير إلى التأنيث ومن الأفراد إلى التثنية إلى الجمع فذكروا أنها إذا دخلت على النكرة كانت في الافراد والجمع والتأنيث والتذكير تابعة لمدخولها ـ عند الأصوليين ـ أي معناها عند علماء العربية ـ بينما إذا دخلت على المعرفة فيجوز فيها الوجهان ـ أي لحاظ مدخولها ، ولحاظ نفسها ـ فإنه إذا دخلت على النكرة كانت ظاهرة في الاستغراقية التي لا تلحظ فيها توحد المتكثرات وإن كان هناك وحدة في مرحلة الاستعمال والرؤية ، ففي قولنا ، كل جمع ، يلحظ المدخول ، فيرجح ضمير الجمع ، وأمّا إذا دخلت على المعرفة فتكون ظاهرة في كون المجموع ملحوظا كشيء واحد على النكتة المزبورة ، ففي قولنا كل عالم ، يرجح ضمير المفرد المذكرين ، وهذا يؤكد ما ذكرنا إذ يبدو أنّ مدلول كل اللفظي ، و «هو حيثية الكثرة» منسحقة ومختبئة في الجملة وليس له ظهور ، إذ حتى في مرحلة الإسناد الكلامي لا ينظر إليه ، ومعه كيف يقال : انّ هذا المدلول المطلق يجب حفظه في مرحلة المدلول الجدي؟.

٤٦

«الجمع المحلّى باللّام»

ومن جملة ما ادّعي إفادته العموم ، دخول اللّام على الجمع.

والبحث فيه يقع في مقامات.

١ ـ المقام الأول : في كيفيّة دلالته على العموم ثبوتا.

٢ ـ المقام الثاني : في كيفيّة دلالته عليه إثباتا.

٣ ـ المقام الثالث : في أنّ العموم الدال عليه ، هل هو استغراقي ، أم مجموعي؟.

أمّا المقام الأول : فالكلام فيه «تارة» ، يكون بناء على كون العموم أنه استيعاب مفهوم لأفراد نفسه ، أي استيعابه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه كما فسّره الآخوند (قده) وتارة أخرى بناء على ما حقّقناه من أنه استيعاب مفهوم لتمام أفراد مفهوم آخر.

أمّا بناء على التفسير الأول ، فإنّنا نحتاج إلى مفهوم اسمي واحد يكون مستوعبا لأفراد نفسه ، وبناء عليه ، نحلل لفظ العلماء ، فنرى أنّ فيه : «مادة ، وهيئة ، واللام».

والمادة تدل على مفهوم اسمي بلا إشكال ، واللام تدل على معنى حرفي بلا إشكال.

ومحط الكلام إنما هو الهيئة ، فهل تدل على معنى حرفي أم معنى اسمي؟. يمكن القول بأنها تدل على معنى حرفي كبقية الهيئات ، وهذا المعنى الحرفي قائم بمدلول مادة العلماء ، فيدل على تعدد الأفراد المرادة من هذه المادة ،

٤٧

لكن بما هو نسبة ، ويمكن القول ، بأنها تدل على معنى اسمي ، وهو عبارة عن المتعدد من أفراد المادة ـ ما لا يقل عن ثلاثة ـ. وإن شئت قلت : إنّ البحث الثبوتي تارة يكون الكلام فيه مبنيا على تفسير الآخوند (قده) للعموم ، بأنه استيعاب مفهوم لتمام أفراد نفسه ، وأخرى يكون الكلام فيه مبنيا على تفسيرنا وتحقيقنا ، من أن العموم هو استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر ، فأما على التفسير الأول فيقال : لا إشكال في اشتمال الجمع المعرّف باللام على دوال ثلاثة هي ، «مادة الجمع وهيئته ، واللام».

ولا كلام في مادة الجمع ، وإنّما البحث عن مدلول الدالين الآخرين وحينئذ يقال : إنّ هيئة الجمع تارة يفترض أنّ مدلولها معنى اسمي هو المتعدد من أفراد المادة ، وتارة أخرى يفترض أن مدلولها معنى حرفي فقط شأنها في ذلك شأن جميع الهيئات.

وإذا أردنا تطبيق العموم بناء على الفرض الأول ، وهو تفسير الآخوند (قده) فعلينا أن نتصور أنّ مدلول هيئة الجمع هو العام الذي يستوعب تمام أفراد نفسه وذلك من خلال عدة وجوه.

١ ـ الوجه الأول : هو أن يقال : انّ هذا المفهوم الاسمي يستوعب كل فرد فرد من أفراد العلماء باعتبار اندراج كل فرد تحت الجمع.

وجوابه : إنّ كل فرد فرد ليس فردا من مدلول هيئة الجمع ، لأنّ مدلولها هو ، الجمع بالمعنى الاسمي ، والفرد ليس مصداقا له ، كي يكون مقتضى استيعاب الجمع لتمام مصاديق نفسه ، شموله لكل فرد.

وعليه ، فاستيعابه للأفراد لا ينطبق عليه تعريف الآخوند (قده) للعموم.

٢ ـ الوجه الثاني : هو أن يقال : إنّ مدلول هيئة الجمع بناء على كونه معنى اسميا يستوعب كل ثلاثة ثلاثة منها ، فيكون كل فرد داخلا باعتبار جزء الثلاثة.

وجوابه : هو أنّ الثلاثة وإن كان أحد مراتب الجمع ومصاديقه ، لكن

٤٨

هيئة الجمع لم توضع لمصداقها الثلاثة بشرط لا من حيث الزيادة إذ مقتضى مفهوم العموم استيعاب جميع مصاديقه التي منها ، الأربعة أربعة ، والخمسة خمسة ، والستة ستة ، وهكذا إلى آخر حلقات ومصاديق الجمع إن كان للجمع آخر ونهاية.

٣ ـ الوجه الثالث : هو أن يقال : إنّ هيئة الجمع وضعت لمعنى مرن ، نعبر عنه ، بالمتعدد الذي لا يقل عن ثلاثة ، ولكن قد يزيد ، لكن عند ما ندخل عليه اللّام ، فإنها تدل على أنه أريد منه المرتبة العليا ، فيستوعب تمام المراتب الأخرى.

وجوابه : هو أنّ هذا بحسب الحقيقة ، ليس عموما بالمعنى الدقيق ، لأنه ليس استيعابا لتمام مصاديق الجمع ، إذ المرتبة العليا من الجمع هي إحدى مصاديقه لا جميعها ولكن جعلوا من اللام قرينة على إرادة هذه المرتبة باعتبار دخول المراتب الأخرى تحتها فكأنها كل المراتب ، وإنّما معنى العموم هو أن تدل اللّام مع مدخولها على استيعاب تمام أفراد نفسه ، أي الجموع كلها ، وهنا قد دلت على أن مدلولها متعين في المرتبة العليا ، وهذا نتيجة العموم لا نفس العموم.

٤ ـ الوجه الرابع : هو أن مدلول هيئة الجمع الذي هو العام ، يستوعب تمام أفراد نفسه من مراتب الجمع بحسب المدلول التصوري ، أي الثلاثات والأربعات والخمسات بحسب المدلول الجدّي.

وجوابه : إنّه يلزم من ذلك ، التداخل ، فإن الثلاثة داخلة في ضمن الأربعة والأربعة في ضمن الخمسة وهكذا الخمسة في ضمن الستة إلى آخر الجموع ، كما أنّه يلزم من ذلك الاشتراك ، إذ قد يدخل فرد في ثلاثتين وهكذا ، لكن لمّا كان المولى لا يريد إكرام الواحد مرتين ، فهذا يشكّل قرينة على إسقاط المتكررات من وجوب الإكرام وعدم ثبوت أحكام متعددة للفرد الواحد ، باعتبار دخول هذه المتكررات تحت حكم مجاميع متعددة ، وحينئذ فسوف يبقى عندنا ما يشبه نتيجة الوجه الثالث ـ تمام الأفراد ـ فإنها هي المرتبة التي لا يتصور فيها تكرار.

٤٩

وأما إذا أردنا تطبيق العموم بتعريف الآخوند بناء على الفرض الآخر الذي يفترض أن مدلول هيئة الجمع معنى حرفي بحت ـ ملاحظة التعدد في مدلول المادة بما هو نسبة وربط ـ كما في الهيئات الأخرى ، أي أنه يدل على استيعاب المادة لأفرادها ، فإنه يلزم من ذلك اجتماع معنيين حرفيين على مدلول مادة الجمع كما في كلمة العلماء ، وهما هيئة الجمع ، واللام ، وحينئذ ، نواجه في مقام تصوير دلالته على العموم عدة افتراضات.

١ ـ الافتراض الأول : هو أن يكون لكل من الهيئة واللام مدلول حرفي خاص به ، في مقابل الآخر ، وكلاهما يطرءان على مدلول المادة في عرض واحد ، فيدل كل منهما على استيعابه لأفراد نفسه ، فالمعنى الذي تدل عليه الهيئة نسبة من التعدد ـ وهي مرتبة من الاستغراق ـ ثلاثة فصاعدا من دون تعيين ـ والذي تدل عليه اللام ، هو الاستغراق الكامل ، أي تمام المراتب.

وجوابه : هو أنه لو كان الأمر كذلك ، لكان الاستغراق الأول ، مستدركا في الثاني ومستغنى عنه ، لأنّ الناقص ـ أي الاستغراق المستفاد من الهيئة ـ يكون زائدا في الصورة الذهنية ، لوضوح أنّنا لا نتصور في المقام استغراق مادة الجمع لشيء من أفراده مرتين في عرض واحد.

٢ ـ الافتراض الثاني : هو أن يكون كل من اللام وهيئة الجمع بمجموعهما موضوعا لاستغراق واحد لتمام الأفراد ، أي يكونا بمجموعهما دالا على استيعاب المادة لتمام أفرادها بنحو المعنى الحرفي.

وجوابه : هو أنّ هيئة الجمع في المعرّف ، نفسها في المنكّر ، ولازم ذلك ، تعدد الوضع لهيئة الجمع ، ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يختلف مدلولها في مورد دخول اللام عليها ، عن مدلولها في مورد عدم دخوله عليها.

وهو على خلاف المرتكز العرفي.

٣ ـ الافتراض الثالث : هو أن يكون لكل من هيئة الجمع واللام ،

٥٠

مدلولا حرفيا ، لكنهما وردا على المادة بنحو الطولية ، كما هو ترتيبهما اللفظي في الكلمة ، بمعنى أنّ اللام طرأت على الهيئة بعد طرو الهيئة على المادة ، فتدل اللّام على النسبة الاستيعابية بين مدلول مادة الجمع المستوعبة ببركة مدلول هيئة الجمع ، استيعابا ثلاثيا وبين الأفراد بأحد الوجوه الأربعة المتقدمة مع مناقشتها ، بناء على كون مدلول هيئة الجمع اسميا.

فنتيجة هذا الفرض ، نفس نتيجة كلامنا السابق ، عن هيئة الجمع لو كان مدلولها معنى اسميا ، لأنّ مدلول المادة ، بعد أن يمتص مدلول الهيئة الحرفي ، يصبح عبارة أخرى عن معنى اسمي مطعّم بالجمع ، ثم دخلت عليه اللام وحينئذ تأتي نفس الوجوه الأربعة المتصورة المتقدمة مع مناقشتها.

وأمّا بناء على التفسير الثاني : فالصحيح ما اخترناه من أنّ العموم هو ، استيعاب مفهوم لتمام أفراد مفهوم آخر ـ فإنه حينئذ يجب أن نحصل على دال يدل على مفهوم مستوعب ، ودال آخر ، يدل على مفهوم مستوعب ، ودال ثالث ، يدل على النسبة الاستيعابية بينهما على نحو المعنى الحرفي.

وفي الجمع المعرف باللّام ، أولا ، هيئة الجمع تدل على معنى اسمي ـ الجماعة التي لا تقل عن ثلاثة ـ كما اخترنا ذلك في هيئات أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة وغيرها في بحث المشتق ، وهو المفهوم المستوعب.

وثانيا : المادة ، وتدل على المفهوم المستوعب ، بلحاظ ما له من مصاديق خارجا.

وثالثا : اللّام ، وتدل على النسبة الاستيعابية ، غاية الأمر ، انّ دلالتها على ذلك ، ترجع إلى تعيين مرتبة الجمع ـ ، وهي العليا في العموم.

والفرق بين قولنا «كل عالم» ، في دلالته على العموم ، حيث لم نحتج إلّا إلى دالين ، هما ، لفظ «كل» ، ولفظ ، «عالم» ، وبين المقام ، حيث احتجنا إلى ثلاث دوال ، حيث انّ الاستيعاب ، تارة يكون ذاتيا لمفهوم المستوعب ،

٥١

«ككل» ، فلا نحتاج حينئذ إلى ما يدل عليه ، وأخرى لا يكون ذاتيا له ، كهيئة الجمع ، «علماء» ، وحينئذ لا بدّ من دال يدل عليه.

٢ ـ أمّا المقام الثاني : وهو في كيفية دلالة الجمع المعرّف باللّام على العموم إثباتا ، وفيه مسلكان ، لتخريج هذه الدلالة وإثباتها.

١ ـ المسلك الأول : هو أن «اللام» فيه ، قد وضعت لإفادة العموم بأحد الأدلة المنقولة.

وهذه الدعوى ، تعني ، أنّ هناك فرقا بين «اللام» الداخلة على الجمع ، واللّام الداخلة على المفرد ، فإنّ الأولى تدل على العموم بالوضع ، بينما الثانية تدل عليه بمقدمات الحكمة.

٢ ـ المسلك الثاني : هو أنّ «اللام» لها معنى واحد في الموردين ، وهو التعيين ، كما ستعرف في بحث المطلق والمقيّد ، لكن الداخلة على الجمع تدل على التعيين مباشرة ، ثم على العموم ، لأنها عند ما دلت على أنّ مدخولها متعين في الجميع ، إذن يجب أن يراد به الاستغراق ، لأنّ التعيين في الجميع لا يكون إلّا في المرتبة العليا المستوعبة لجميع الأفراد ، إذ لو أريد مرتبة دون ذلك ، لما كان متعينا ، فلو كان للفظ «العلماء» مائة فرد ، فإنه يكون متعينا في المائة ، وإلّا لم يتعين ، لأنه حينئذ ، يكون كل فرد مرددا بين الخروج والدخول.

والآن ، نستعرض الأمور التي ذكرت للفرق بين المسلكين أولا ، ثمّ نستعرض المناقشات حول كل منهما ثانيا.

١ ـ الأمر الأول : هو أنّ دلالة اللام على العموم ـ بناء على الأول ـ وضعية ثابتة بمقتضى اصالة الحقيقة في استعمال «اللام» ، وحينئذ ، ننفي احتمال إرادة العهديّة منها ، باصالة الحقيقة ، بينما بناء على الثاني ، فإنه مع احتمال العهديّة يلزم الإجمال ، لأنّ «اللام» حينئذ ، كما تصلح لتعيين الجمع في المرتبة العليا ، فهي أيضا تصلح لتعيين المرتبة المعهودة ، ومعنى هذا انّ احتمال إرادة العهديّة ، لا يكون على خلاف التعيين ، كي ننفيه باصالة

٥٢

الحقيقة ، إذن ، بناء على الثاني ، تكون دلالة «اللام» على العموم في طول نفي دلالتها على العهدية ، بخلاف الأول ، حيث لا تتوقف دلالتها على العموم على ذلك.

إلّا انّ الصحيح عدم ترتب هذا الفرق بين المسلكين ، وإنما يتم هذا الفرق ، لو كان صاحب المسلك الأول ، يدّعي وضع «اللّام» الداخلة على الجمع ، للعموم فقط ، وإنّ استعمالها في العهد ، يكون مجازا ، أمّا لو ادّعى أنّها موضوعة بنحو الاشتراك اللفظي للعموم والعهد بوضعين ، فحينئذ ، يكون كل منهما موضوعا له.

وعليه : فلا يكون أحدهما مجازا ، ومعه لا يمكن نفي العهديّة باصالة الحقيقة فيما لو احتملناه ، وحينئذ ، يتفق المسلكان في الإجمال.

وإن شئت قلت : انّ هذا الفرق غير مترتب بين المسلكين ، لأنّ صاحب المسلك الأول ، يعترف أيضا ، بأنّ من معاني «اللّام» ، التعيين ، لوضوح عدم استفادة العموم منها في غير موارد الجمع ، إذن ، فيكون مشتركا لفظيا بين التعيين والعموم ، ودخولها على الجمع ، كما يناسب العموم ، يناسب أيضا إرادة التعيين في جماعة معهودة ، وعليه : فلا يمكن إثبات العموم باصالة الحقيقة ، ليجدي في موارد الإجمال واحتمال التعيين ، فإنّ الاستعمال حقيقي على كل حال ، كما انّه بناء على المسلك الثاني ، أيضا لا يمكن رفع الشك في موارد احتمال العهد ، بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، لأنّه من موارد احتمال القرينيّة والبيان.

الأمر الثاني : هو أنّه بناء على الأول يمكن أن يتصور أنّ اللّام موضوعة للعموم بنحو إفناء الطبيعة في كل فرد فرد.

وبناء على الثاني ، فإنّ اللّام تعيّن مرتبة الجمع ، إذن لا دلالة لها على الاستغراقيّة ، بنفسها ، وإنّما يرجع في تحقيق ذلك إلى نفس الجمع.

وبتعبير آخر ، لو قلنا : «أكرم علماء» ، فهل انّ هذا اللفظ ظاهر في الاستغراقية ، أم المجموعية ، أم انّه مجمل؟.

٥٣

فلو قلنا إنّه ظاهر في المجموعية ، فحينئذ ، إذا كانت «اللّام» وظيفتها تعيين مرتبة الجمع ، فسيبقى مجموعيا ، غايته : إنه قبل «اللّام» ، كنّا مردّدين بين مراتبه ، وبعدها تعيّن في خصوص العليا.

بينما لو قلنا : إنّ «اللّام» كانت موضوعة للعموم ، فسوف نتصور وضعها له بنحو يغيّر حالة الجمع في لفظة «علماء» ، ويقلب دلالته من المجموعيّة إلى الاستغراقية بعد دخولها.

وهذا الأمر يرد عليه : إنّ الجمع ما ذا يقتضي في نفسه ، المجموعيّة ، أم الاستغراقيّة؟.

وقبل بيان ذلك ، نتكلم في بيان ما يمكن أن يراد من الأعداد ، فلو قال المولى : «أكرم ثلاثة علماء» ، فهل إنّ ظاهرها العموم الاستغراقي ، أم المجموعي؟.

من الواضح أنّ ظاهرها ، المجموعية ، لأن حيثية الاجتماع في الثلاثة ، لها ما وراء ومحكي ، بقطع النظر عن اعتبار المستعمل.

ومقتضى الأصل ، حفظ هذه الحيثيّة في مرحلة المراد الجدّي والحكم.

فالعدد ، إذن ، من مقولة الكم المنفصل ، وهي من المقولات الحقيقية ، وعلى الأقل لها واقع موضوعي في المرتكز العرفي ، فيكون العموم فيها مجموعيا.

وهذا الميزان ، مطابق مع الميزان العرفي ، فإن المولى لو قال : «أكرم ثلاثة علماء» ، فأكرم العبد واحدا ، أو اثنين فقط ، فإنه لا يعد ممتثلا عرفا.

وهذا الكلام بنفسه ، نقوله في الجمع ، فإنّ قوله : «أكرم علماء» في قوة قوله : «أكرم ثلاثة علماء» ، إلّا أنّه لا بشرط من حيث الزيادة ، إذن الجمع من ناحية نفسه يدل على المجموعيّة.

وبناء على هذا ، يصح أن نقول : إنّه بناء على أن «اللّام» تدل على التعيين ، فوظيفتها تكون تحديد ما أريد من مدخولها ، فتوسع نطاق مدلوله إلى المرتبة العليا ، أمّا كونه مجموعيا فيبقى على حاله.

٥٤

وبناء على أن «اللّام» تدل على العموم ابتداء ، فيمكن القول حينئذ : بأنّها تلبس العموم ثوبا جديدا وهو ، الاستغراقيّة.

والصحيح هو ، أنّ العموم استغراقي ، حتى بناء على المسلك الثاني ، وهو ما يقتضيه الفهم العرفي.

وذلك لأنّ «اللّام» إذا دلّت على استغراق هيئة الجمع للمرتبة العليا ولو بتوسط دلالتها على التعيين ، فهذا يعني ، أنّ حيثية الوحدة الملحوظة في هيئة الجمع ليست حيثية العدد ، وإنّما هي حيثية اعتبارية محضة ، «التجميع» ، فقولنا : «أكرم عشرة علماء» ، ظاهر في المجموعيّة ، لأنّ حيثية العدد ، لها ما وراء ، بقطع النظر عن اعتبار المستعمل ، بينما في قولنا : «أكرم العلماء» ، يكون نظر المستعمل إلى الاستغراق ، ولذا نرى صدقه يزداد وينقص ، عشرة أو أكثر أو أقل ، وذلك لأنّ حيثيّة التوحيد اعتبارية محضة ، ولذا تطرح بحسب الفهم العرفي ، ولا يحافظ عليها في مقام اقتناص المراد الجدّي ، وهذا يعني : أنّ العموم استغراقي.

وهكذا يكون عموم «العلماء» استغراقي على كلا المسلكين.

فالصحيح إذن ، عدم تماميّة الفارق المذكور أيضا.

٣ ـ الأمر الثالث : هو أنّه لو فرضنا أنّ أفراد الجمع المعرّف «باللّام» كانوا عشرة ، والمتكلم أراد تسعة ، بحيث كانت التسعة متعيّنة ، حيث لا تردّد في المقام ، وحينئذ ، تارة نفرض أنّ تعيّن التسعة كان بقرينة لبيّة ، وتارة أخرى ، كان تعيّن التسعة ، لكونه قدرا متيقنا في مقام التخاطب ، وتارة ثالثة ، يكون التعيّن لقرينة خارجية.

ومثال الأول ، كما لو قال : اصعد الطوابق ، وكانت عشرة ، واحتملنا إرادته لتسعة منها ، فهنا كما كانت العشرة متعيّنة لكونها أعلى المراتب ، فكذلك التسعة ، تكون في المقام متعيّنة حيث لا يحتمل إرادة الفرد العاشر دون التاسع ، إذن ، ليس هناك تردّد بين تسعات.

٥٥

وبتعبير آخر إن الفرد الخارج ، وهو العاشر ـ بناء على إرادته التسعة ـ متعيّن ، وبالمقابل ، التسعة متعيّنة ، ولا تردد في الخارج ولا في الداخل.

ومثال الثاني كما لو قال : العبد لمولاه : أأكرم تسعة من العلماء؟ فقال له المولى : أكرم العلماء ، وحينئذ ، فإن أراد المولى إكرام العشرة ، يكون قد تبرّع بإضافة واحد ، وإن أراد التسعة ، فلا تردد فيها.

ومثال الثالث : هو كما لو علمنا أنّ زيدا أقلّ العلماء شأنا ، فهنا إن أراد المولى إكرام العشرة فلا بأس ، وإن أراد إكرام التسعة ، فزيد خارج بخصوصه.

وحينئذ نقول : إنّه بناء على المسلك الأول ، تكون «اللام» في كل هذه الحالات الثلاثة ، دالة على العموم ، ويكون احتمال إرادة التسعة ، على خلاف اصالة الحقيقة ، فننفيه بها.

وأمّا بناء على المسلك الثاني ، فإن فرض أنّ التعيين لا يشترط فيه أن يكون مدلولا لنفس الكلام ، فإنّ المولى حينئذ إن أراد العشرة ، فهي متعيّنة ، وإن أراد التسعة ، فهي متعيّنة ، ولا تردّد في الانطباق خارجا ، وحينئذ يكون اقتضاء «اللام» للتعيين ، حياديا ، لأنّ إرادة كل من العشرة والتسعة مناسبا معه.

أمّا إذا فرض أنّ التعيين يشترط أن يكون مدلولا لنفس الكلام ، ولو باعتبار قرائن ، فحينئذ ، نسقط الحالة الثالثة ، ونبقي الحالتين الأوليتين ، ويلزم من هذا حينئذ ، عدم دلالة الجمع المعرّف «باللّام» على العموم. وهذه ثمرة مهمة بين هذين المسلكين ، إذ بناء على المسلك الأول ، تكون دالة على العموم ، بخلاف المسلك الثاني ، بل هذا قد يكون منبها لأصحاب المسلك الثاني على بطلان مسلكهم ، إذ كانوا يروا بوجدانهم دلالة المعرف باللّام على العموم على الإطلاق ، فيكون هذا منبها إلى أن تفسيرهم ليس صحيحا ، لأن الوجدان المدّعى أكبر من التعيين الذي يفسرونه ، وإن شئت قلت : إنّه بناء على المسلك الثاني لا يمكن إثبات العموم في الحالات كلها ، أو في الحالتين

٥٦

الأولى والثانية لو قيل باشتراط ما يعين مدخول اللام من داخل الخطاب ، ولا يكفي تعيينه بقرينة خارجية منفصلة. لأن اللفظ نسبته إلى إرادة كل من المقدارين المتعينين في الخارج على حد سواء ، ولا معين لأحدهما دون الآخر ، وهذا الفارق بنفسه يكون منبها وجدانيا على عدم تمامية المسلك الثاني عند من يدّعي وجدانا على دلالة الجمع المعرف باللام على العموم على الإطلاق حتى في موارد هذه الحالات الثلاث ، هذه هي الفوارق بين المسلكين.

وأمّا المناقشة فيهما : فقد أشكل السيد الخوئي (١) (قده) على الأول من هذين المسلكين ، بلزوم كون استعمال «اللام» في موارد العهد مجازيا ، وهو خلاف الوجدان وباطل بالضرورة ، فإنّ استعمالها فيه ليس مجازيا ، بينما لا يلزم ذلك لو قلنا بوضعها للتعيين.

وهذا الإشكال غير صحيح ، وإنّما يرد ، لو كان أصحاب المسلك الأول ، يقولون بأنّ «اللّام» وضعت بوضع واحد للعموم ، وهذا بعيد ، فإنّ «اللام» الداخلة على الجمع وضعت للعموم ، والداخلة على المفرد وضعت للتعيين والعهد ، وحينئذ تكون من المشترك اللفظي ، الموضوعة بوضعين مستقلين في عرض واحد ، ومعه لا مجاز في استعمالها في أيّ منهما ، بل يكون الاستعمال حقيقيا ، لأنّه من استعمال المشترك في أحد معنييه.

وقد ناقش المحقق الخراساني (٢) (قده) في صحة المسلك الثاني ، بما يصلح أن يكون ردا وإيرادا على السيد الخوئي (قده) ، فقال : إنه ليس المراد من التعيين ، المرتبة العليا ، لأنّ كل مرتبة في نفسها ، لمّا كانت تحكي عن عدد معيّن ، وذلك العدد له تعيين وحقيقة ، كان المقصود من التعيين ، التعيين الماهوي.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ السيد الخوئي ـ هامش ص ٤٤٥.

(٢) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٨١.

٥٧

وبعبارة أخرى يقال : إنّه كما تكون المرتبة العليا المتمثلة في جميع الأفراد متعيّنة ، فكذلك المرتبة الدنيا ، وهي الثلاثة ، فإنّها أيضا متعيّنة ، وحينئذ ، لا وجه لاستفادة العموم بالملازمة ، من مجرد دلالة «اللام» على التعيين.

وقد أوردت مدرسة المحقق النائيني (١) (قده) على مناقشة المحقق الخراساني (قده) فقالت : إنّه ليس المقصود من التعيين ما ذكر من التعيين الماهوي ، بل المقصود بالتعيين ، التعيين في الصدق الخارجي ، فإنّ المقصود ، إنّ المرتبة العليا متعيّنة في مقام التطبيق ، حيث انّه لا تردد في تطبيقها ، بخلاف ما دونها من المراتب ، فإن عدد الثلاثة ، وإن كان متعينا بحسب الماهية ، لكنه ليس بمتعيّن بحسب الصدق في الخارج ، وذلك لإمكان انطباقه على هذه الثلاثة ، وعلى تلك الثلاثة ، وهكذا سائر المراتب.

ولكن يمكن تقرير إيراد المحقق الخراساني (قده) بوجه آخر ، لا يرد عليه جواب مدرسة المحقق النائيني (قده) ، فيقال : إنّ «اللام» تدل على التعيين ، والمراد منه تعيين الجنس ـ لا الصدق الخارجي ـ كالتعيين الجنسي المفهوم من «اللام» إذا دخلت على المفرد ، والفرق ليس إلّا من ناحية أنّ التعيين الجنسي في المفرد ، يكون لذات الطبيعة ، وفيما نحن فيه ، يكون لجماعة من أفرادها. وهذا أمر يبني عليه العرف في الجمع والمثنّى ، فنقول مثلا : «العلماء أو العالمان ، أكثر فائدة من العالم الواحد» ، فهنا ، مفاد «اللام» هو ، أنّ جنس العلماء أو العالمين أكثر عطاء من جنس العالم الواحد ، فإنّ العلماء أو العالمين غير متعيّنين صدقا في أشخاص ، لكنه يراد المقابلة بين ماهية الكثير وماهية القليل ، فجاء بلفظ يعيّن حدّها الجنسي من أجل المفارقة ، وهذا مثل قولهم : «الأسد أقوى من الذئب» ، فإنها تدل على الجنس لا الفرد الخارجي.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ٢ هامش ص ٤٤٥.

٥٨

والخلاصة هي ، أنّ «اللام» موضوع لجامع التعيين ، وهو كما قد يكون للصدق الخارجي كما هو في موارد العهد ، فكذلك ، قد يكون ذهنيا ، وقد يكون ماهويا ، أي تعيينا للجنس والطبيعة ، كما هو الحال في موارد دخول «اللام» على الجنس ، في مثل قولك : «العالم خير من الجاهل».

وعليه : فكما يمكن أن يكون المراد من «لام» الجماعة التعيين الخارجي بحسب الصدق الملازم مع إرادة العموم ، كذلك يمكن أن يكون المراد منه التعيين الجنسي ، وذلك : بأن يكون المقصود منه ، جنس الجمع والكثرة ، فيكون نظير قولهم : «إنّ العلماء أو العالمين خير من عالم واحد» ويقصدون بذلك ، أنّ جنس العلماء أو العالمين ، أفضل وأكثر عطاء من جنس عالم واحد.

وبهذا التقرير ، يندفع جواب مدرسة المحقق النائيني (قده) ، على مدّعى المحقق الخراساني (قده).

هذا مضافا إلى أنّ هناك إيرادا آخر يوجه على المسلك الثاني ، خلاصته : إنّ المتكلم إذا قال «أكرم العلماء» ، وكانوا عشرة ، فإنّ أصحاب المسلك الثاني ، كانوا يفترضون أنّ المتكلم ، إمّا أن يريد العشرة ، وهي مرتبة متعيّنة صدقا ، وإمّا أن يريد تسعة مخصوصة ، لكن يتردد الأمر في كون زيد داخلا فيها أم لا ، وحينئذ ، لا تكون متعيّنة صدقا ، فإذا دخلت «اللام» ثبت الأول ، لأنه المتعين صدقا ، وحينئذ نقول : لو كان المتكلم مريدا إكرام تسعة كليّة لا مخصوصة ، إذن فيحصل الامتثال بإكرام تسعة ، سواء كان فيهم زيد أم لا ، ويكون التعيين حينئذ محفوظا ، لأنّ المراد كلّي التسعة ، وهو متعيّن صدقا ، أي لا تردد في صدقه ، وإذا ثبت للتسعة هذا النحو من التعيين ، نقول : لما ذا ، «اللام» ، تعيّن مرتبة العشرة المحققة للاستغراق ، ولا تعيّن مرتبة التسعة غير المحققة له ، مع العلم ، أنها موضوعة للتعيين ، وهو يحصل بكل منهما؟

والحاصل هو : أنّ إرادة مرتبة أخرى من الجمع غير مرتبة الاستيعاب ،

٥٩

كالتسعة مثلا ، بدلا عن العشرة ، هي أيضا لا تنافي التعيين المدلول عليه «باللام» ، فيما إذا أريد كلي التسعة الصادق على سبيل البدل على مصاديق خارجية متعددة بحيث يكون كل واحد منها محققا للكلي في مقام الامتثال ، والمفروض أنّ اللّام موضوع لطبيعي التعيين ، ثم إنه قد يناقش في أصل المسلكين ، أي دلالة «الجمع المعرّف باللام» على العموم.

أو قل ، إنه قد يناقش في أصل دلالة الجمع المعرف «باللام» على العموم ـ على كلا المسلكين ـ فيقال : إنّ الجمع المعرّف «باللّام» لا يدل على العموم ، وذلك لدخول أداة العموم ـ «كل» ـ عليه ، حيث يقال : «أكرم كل العلماء» فإنّ نفس دخول «كل» عليه ، قرينة على أنّ مدخولها لا يدلّ على العموم ، وإلّا لزم ، إمّا محذور وجداني إثباتي وهو التكرار في إفادة العموم ، وإمّا محذور ثبوتي وهو ، أن «العلماء» لو كان فيه استغراق ، لزم من دخول «كل» ، أن يكون مستغرقا أيضا ، والمستغرق لا يقبل استغراقا آخر ، والمماثل لا يقبل مماثلا معه ، لأنّ المدخول يكون مستوعبا ، فلا يعقل أن يطرأ عليه الاستيعاب من الأداة مرة أخرى.

والجواب هو ، أنّه لا يلزم من قولنا ، بدلالته على العموم ، أيّ من المحذورين ، وذلك لأنه يوجد في المقام نحوان من الاستغراق.

١ ـ النحو الأول : هو استغراق هيئة الجمع لمفاد مدلول المادة ، وهو استغراق إفرادي ، بمعنى أن المادة تمتص كل أفراد مدلولها ثم تحولهم إلى أجزاء لمدلول هيئة الجمع ، وهكذا يكون كل فرد جزء من الجماعة ، وحينئذ يأتي دور الاستغراق الثاني.

٢ ـ النحو الثاني : من الاستغراق هو ، استغراق «كل» ، فإنّ مفادها الاستيعاب الأجزائي ، وحينئذ ، ينحل المحذوران.

أمّا انحلال المحذور الأول ، فلأنّه لا تكرار في الاستيعاب ، لأن أحدهما في طول الآخر.

٦٠