بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

جعل الحكم عرضيين ، وحينئذ ، ما هو موضوع الحكم ، ليست القرشية في المرتبة الثانية ، وإن كانت في لوح الواقع في المرتبة الثانية ، لكن هذا ليس دخيلا في كونها موضوعا للحكم ، بل القرشية التي أخذها جزءا لموضوع الحكم ، لم يأخذها بما هي في المرتبة الثانية ، بل أخذها بمطلق وجودها ، وحينئذ ، حيث انّ المعيار لم يكن ملحوظا عند جعل الحكم ، إذن فنقيضها هو مطلق العدم ، لا العدم الخاص ، فيجري استصحاب العدم الأزلي حينئذ.

ومن هنا يتم التفصيل عند المحقق العراقي (قده).

وهذا التفصيل الذي ذكره المحقق (قده) يمكن أن يرد عليه إيرادات عديدة ، نذكر منها إيرادين.

١ ـ الإيراد الأول : هو في مناقشة الأصل الموضوعي القائل : بأنّ نقيض كل شيء لا بدّ أن يكون في مرتبة نقيضه ، فإذا فرض ان القرشية أخذت بوجدها الطولي ، حينئذ هو يقول : إن نقيضها هو عدمها في هذه المرتبة.

وهذا غير تام ، فإنّ نقيضها هو عدم الوجود في هذه المرتبة ، بحيث يكون القيد قيدا للمعدوم لا للعدم.

وهذا الأصل الموضوعي لا محصل له ، وذلك : لأنه إن أريد بكون النقيضين في مرتبة بمعنى عدم تقدم أحدهما على الآخر فهو صحيح ، لأنّ تقدم كل منهما لا بدّ وأن يكون إمّا بالعلية ، وإمّا بالطبع ، وكلاهما بلا موجب ، لأنه ليس أحدهما علة للآخر ، ولا جزء علة له ليتقدم عليه بالطبع ، ولكن لا يلزم من ذلك حينئذ أن يكون ما يتقدم على أحدهما بالعلية أو بالطبع متقدم على الآخر كذلك ، أي لا يلزم أن يكون وجود المرأة المتقدم على وجود القرشية ، هو أيضا متقدم على عدم القرشية لما بيّناه في مبحث الضد ، فإذا تقدمت المرأة على القرشية بالطبع أو بالعليّة فلا موجب لتقدمها على عدم القرشيّة ، لأنها ليست علة ولا جزء علة لعدم القرشية ، فنكتة التقدم على النقيض غير محفوظة في نقيضه ليسري التقدم من أحدهما على نقيضه.

٢٨١

وإن أريد من كون النقيضين في مرتبة واحدة ، يعني أنهما متلازمان في المرتبة بحيث انّ ما يكون علة لأحدهما يكون علة للآخر ، وكذا ما يكون جزء علة لأحدهما يكون جزء علة للآخر ، فهو بديهي البطلان ، لأن النقيضين ليسا متلازمين بهذا المعنى ، بل كل منهما له علة غير علة الآخر.

إذن فهذا الأصل الموضوعي غير تام ، فالبرهان الذي بني عليه مثله.

٢ ـ الإيراد الثاني : هو انه لو سلّمنا ان نقيض كل شيء في مرتبته ، إذن ففي الشق الأول حينما يلاحظ المولى ، القرشية بوجودها الطولي ، فيكون نقيضها هو العدم الطولي المتأخر رتبة عن وجود المرأة ، فلو سلّمنا هذا ، حينئذ نقول : بأن هذا لا دخل له في محل البحث ، وذلك لأنه لم يرد في دليل شرعي عنوان النقيض حتى يقع الكلام في انه هل يمكن التعبد بالنقيض أم لا؟ إذن ، فحتى لو كان النقيض عبارة عن الرفع الذي هو في نفس الرتبة ، ونحن نريد أن ننفي حكم الخاص ، فإنّ نفيه وانتفائه لا يتوقف على ثبوت العدم في هذه المرتبة ، لوضوح كفاية العدم الأزلي في نفيه ، سواء سمّي نقيضا أم لا ، إذن فوجهة البحث ينبغي أن تكون عرفية بلحاظ الاستصحاب ، وإنّ دليله الذي يعبدنا بعدم موضوع الحكم من دون أن يحفظ المرتبة فيه ، هذا التعبد ممكن ويكفي لنفي الحكم حتى لو لم يصدق عليه اسم النقيض ، لأنّ المهم أن يتعبدنا الاستصحاب بما يكون مساوقا مع انتفاء الحكم حتى لو تعبدنا بمطلق العدم.

ثم إن المحقق العراقي (قده) عدل عن هذا الكلام في رسالته في استصحاب العدم الأزلي وبقي محتفظا بالأصول الموضوعية لتفكيره ، وجاء عدوله هذا بصورة إشكال على نفسه.

وحاصل هذا الأشكال كما ذكره هو ، انّ العدم الأزلي في طول وجود المرأة ، فنقيض القرشية الطولي هو العدم الطولي ، والعدم الأزلي هو في طول وجود المرأة ، وذلك ، لأنّ العدم الأزلي متقدم على المرأة ، والتقدم الزماني لا ينافي التأخر الرتبي عن وجود المرأة ، لأن التقدم والتأخر له ملاكات ، من

٢٨٢

جملتها ، الرمان ، الطبع ، الرتبة ، الخ. إذ قد يكون شيء متقدم في الزمان لكن متأخر بالطبع أو بالعكس.

وفي المقام الأمر كذلك ، لأنّ هذا العدم الأزلي للقرشية معلول لعدم المرأة ، كما انّ نفس القرشية معلول للمرأة ، فعدمها معلول لعدم المرأة ، وعدم المرأة مساو مع وجود المرأة وفقا لقانون وحدة رتبة النقيضين ، فإنّ عدم المرأة في رتبة واحدة ، كما انّ عدم القرشية مع القرشية في رتبة واحدة ، فصار العدم الأزلي للقرشية معلول لعدم المرأة ، أي متأخر عنها رتبة ، وعدم المرأة مساو مع وجود المرأة ، إذن فهو متأخر عن وجود المرأة ، لأنه متأخر عن أحد المتساويين والمتأخر عن أحدهما متأخر عن الآخر ، فالعدم الأزلي في طول المرأة ، فاستصحابه يكفي لترتيب الأثر الشرعي.

إلّا انّ هذا الإشكال لا معنى له ، لأنه حتى لو سلّمنا ان العدم الأزلي للقرشية معلول لعدم المرأة وان عدم المرأة مساو رتبة لوجودها ، وإن المتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر ، لكن نسأل : إن العدم الأزلي للقرشية ، معلول لعدم المرأة في أيّ زمان؟ هل هو معلول لها في الزمان الفعلي والآن ، أو انّه معلول لعدمها في الأزل؟

الصحيح هو انّه معلول لعدمها في الأزل ، فعدم القرشية في الأزل ، معلول لعدم المرأة في الأزل.

ومن الواضح : إنّ عدم وجود المرأة في الأزل ، نقيضه ، وجودها في الأزل ، لأنّ أحد شروط التناقض هو وحدة الزمان.

وحينئذ إذا طبّقنا ما ذكره ـ من ان النقيضين في مرتبة واحدة ـ على عدم وجود المرأة في الأزل ، فإنّ هذا ينتج ، ان عدم المرأة في الأزل ، ووجودها في الأزل في مرتبة واحدة ، إذن عدم القرشية الأزلي في طول عدم المرأة الأزلي ، وبالتالي في طول وجود المرأة في الأزل ، لا الآن وهذا يعني ان العدم الأزلي ليس في طول وجودها الآن لأن وجودها الآن ليس نقيضا لعلة العدم الأزلي.

٢٨٣

وعليه : فنحن عند ما نريد أن نطبق الحكم الشرعي على موضوعه المركب من جزءين طوليين ـ المرأة والقرشية ـ يجب أن نطبقه على مصداق نحفظ فيه هذه الطولية بينهما ، وهذه الطولية غير محفوظة في المقام ، بين عدم القرشية في الأزل ، وبين وجود المرأة الآن.

إذن فما نريد استصحابه ، ليس مصداقا للجزء الثاني ، لأنّ الجزء الثاني هو العدم الطولي ، وهذا ليس عدما طوليا بالنسبة لهذا الوجود للمرأة ، هذا تمام التعليق على الكلام الأول للمحقق العراقي (قده).

ثم إن المحقق العراقي (قده) ، حاول تعميق إشكاله مع الاحتفاظ بالأصل الموضوعي لكلامه الأول فقال : إن العدم الأزلي قد جعلناه بالبيان السابق متأخر برتبة واحدة عن وجود المرأة ، لكن الآن ندّعي دعوى جديدة ، وحاصلها هو ، انّ العدم الطولي الذي هو موضوع الأثر والذي يترتب على استصحابه نفي الحكم. لو كان هو العدم المتأخر عن وجود المرأة برتبة واحدة ، إذن لتمّ استصحاب العدم الأزلي ، لأنه يثبت بهذا البيان حينئذ ، إن العدم الأزلي متأخر عن وجود المرأة برتبة واحدة فيستصحب لنفي كون المرأة قرشية.

ولكن المحقق العراقي (قده) برهن على أن العدم الطولي الذي يترتب عليه نفي الحكم ، متأخر بمرتبتين عن وجود المرأة ، والعدم الأزلي غاية ما يكون انه متأخر برتبة واحدة. وحينئذ نسأل : إذن فكيف صار ما هو محط الأثر الشرعي هو العدم الطولي المتأخر بمرتبتين ، إذ حينئذ ، لا يفيد استصحاب العدم الأزلي المتأخر برتبة واحدة لإثبات العدم الطولي المتأخر بمرتبتين؟

وحينئذ قال المحقق : إن الحكم الشرعي مترتب على المرأة القرشية ، وقد كنا نقول سابقا ، إن القرشية متأخرة عن وجود المرأة من باب تأخر الوصف عن موصوفه ، وهذا يقتضي تأخرها بمرتبة واحدة لأنها بمثابة المعلول ، أمّا هنا فالقرشية متأخرة بمرتبتين عن وجود المرأة ، لأن القرشية بما

٢٨٤

هي موضوع الحكم الشرعي تكون في طول تقييد المرأة بالقرشية ، إذ لو لا تقيّد المرأة بالقرشية لما كانت القرشية موضوعا للحكم الشرعي ، فالقرشية بما هي موضوع للحكم هي في طول تقيّد المرأة بالقرشية ، وتقيّد المرأة بالقرشية في طول المرأة ، لأنه من عوارض المرأة ، إذن فهنا طوليتان ، أي مرتبتان ، القرشية بما هي موضوع للأثر الشرعي في طول تقيد المرأة بها ، وإلّا لما كانت لها أثر شرعي ، وتقيّد المرأة بها في طول ذات المرأة ، لأنّ التقيد حالة طارئة على المرأة ، فصار عندنا إذن ثلاثة أشياء ، القرشية ومعها التقيّد ومعه المرأة ، فالقرشية متأخرة عن المرأة بمرتبتين ، وبقانون وحدة مرتبة النقيضين ، يكون النقيض المستصحب هو العدم المتأخر عن المرأة بمرتبتين ، فلا بدّ من التفتيش عن عدم متأخر عن المرأة برتبتين ، وذاك العدم نستصحبه ، وما هو ذاك العدم؟ هو العدم الذي يحصل في العدم النعتي ، فإنه في طول تقييد المرأة بهذا العدم ، وتقييد المرأة بالعدم متأخر عن المرأة ، فالعدم النعتي متأخر عن المرأة بمرتبتين ، بخلاف الأزلي ، فاستصحابه لو كان له حالة سابقة فهو حينئذ يفيد في نفي الحكم في المقام ، وأمّا العدم الأزلي فقد جعلناه سابقا متأخرا عن وجود المرأة بمرتبة واحدة ، فهو ليس بموضوع للحكم الشرعي ، لأن موضوع الحكم الشرعي هو المتأخر بمرتبتين ، وإثباته بالتعبد بذاك الاستصحاب لا يكون إلّا بالأصل المثبت.

هذه هي فذلكة كلام المحقق العراقي (قده) الذي لم يفهمه أحد من تلامذته عند ما بيّنه كما ينقل عنه.

وهذا الكلام غير تام ، فإن مصطلح التقيد له معنيان.

١ ـ المعنى الأول : هو بمعنى حكم الشارع بالقيديّة في مقام جعل الحكم ، كما في تقييد المرأة بالقرشية ، فإنّ المولى جعل القرشية قيدا في مقام جعل الحكم بلا نظر إلى الخارج.

٢ ـ المعنى الثاني : التقييد ، بمعنى وقوع نسبة خارجية بين المرأة والقرشية ، سواء كان هنا حكم أم لا.

٢٨٥

وحينئذ ، حينما يقول العراقي (قده) ، إن القرشية في طول التقيّد ، والتقيّد في طول المرأة ، فما ذا يقصد من التقيّد ، هل يقصد المعنى الأول أو الثاني؟.

فإن كان يقصد المعنى الأول ، فهو واضح البطلان ، لأنّ القرشية بما هي وصف ليست في طول حكم الشارع بالقيديّة ، سواء حكم الشارع بذلك أم لا ، فإن هناك أناس من قريش ، وأناس من غير قريش.

نعم موضوعية المرأة القرشية للحكم الشرعي في طول ذلك ، إلّا أنّ ما هو مصب ومحط الاستصحاب إنّما هو ذات الموضوع لا موضوعيّة الموضوع.

وإن كان العراقي (قده) يقصد المعنى الثاني من التقيّد ـ وهو النسبة الخارجية القائمة بين الوصف وموصوفه ـ فمن الواضح ان القرشية بذاتها ليست في طول هذه النسبة ، بل النسبة في طولها ، لأنّ النسبة معنى حرفي قائمة بين العرض ومحله فهي في طول العرض ومحله ، فهي إذن ، في طول القرشية.

وأمّا موضوعيتها للحكم ، فلا ربط له بهذا التقيّد ، سواء وجدت امرأة قرشية في الخارج أم لا ، فموضوعية القرشية للأثر الشرعي منوط بالجعل الكلي الصادر من الشارع ، سواء وجدت قرشية أم لا ، إذن فما ذكره العراقي (قده) غير معقول.

نعم هناك شيء ينبغي الإشارة إليه وهو ، انّه بعد ان اتضح بطلان القولين السابقين ، تعيّن صحة القول الثالث ، وهو جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا كما ذهب إليه صاحب الكفاية (قده) مع الاختلاف في البرهان.

لكن ينبغي أن يعلم انّ المراد من إجراء الاستصحاب في العدم الأزلي ، إنّما هو إجراؤه في أوصاف لها عدم أزلي ، لا في أوصاف أزلية ، فإنّ الأوصاف بعضها حادث ، وبعضها الآخر أزلي ، فما كان من الأوصاف حادثا

٢٨٦

بحدوث الموضوع يمكن استصحاب عدمه الأزلي ، أمّا الأوصاف الأزلية التي لا تكون كذلك فلا معنى لاستصحاب عدمها ، لأنها أزلية ، فليس لها عدم سابقا ، ويدخل في ذلك كلّ لوازم الماهيات ، فإنه لو شكّ في ثبوت صفة من الصفات على وجه احتمل أن تكون من لوازم الماهية ، فهنا لا يمكن إجراء استصحاب عدمها الأزلي ، لأنه يتنافى مع الوجود الأزلي للماهية ، إذ الماهية في لوح نفس الأمر والواقع ملازمة للازمها ، فهو ثابت لها في الأزل ، فمتى لم يكن ثابتا حتى يستصحب عدم الثبوت؟.

أو قل : إنه لم يكن هناك ظرف كانت الماهية فيه غير موصوفة بهذا الوصف ليستصحب عدم اتصافها به.

إذن فمتى كان الحكم الشرعي مترتبا على ثبوت لازم للماهية ثم شك في انّه من لوازم الماهية ، فإنه حينئذ لا يجري استصحاب عدمه الأزلي ، فمثلا لو ترتب حكم شرعي على العدد الزوج كزوجية الأربعة ، وشك في زوجية هذا العدد ، فهنا لا يجري استصحاب عدم زوجيته ، لأن هذا العدد أي متى لم يكن زوجا حتى قبل وجوده كي يستصحب ، لأنّ الزوجية ثابتة له في لوح الواقع إذا كان زوجا.

وهذا ليس تفصيلا في استصحاب العدم الأزلي ، بل هو تخصص فيه ، لأن لوازم الماهيّة لها ثبوت في الأزل ، ومعه لا معنى لإجراء استصحاب عدمه ، وهذا ما نذهب إليه ونبني عليه.

هذا تمام الكلام في استصحاب العدم الأزلي.

٢٨٧

في جواز التمسك بالعام لنفي التخصيص

وإثبات التخصص

إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص ، فهل يمكن التمسك باصالة العموم لنفي التخصيص وإثبات التخصص؟.

ومثاله أن يرد عام «كأكرم كل قرشي» ، ثم يرد دليل خاص يقول : «إن زيدا لا يجب إكرامه» ، ونحن نشك في أن زيدا هل هو قرشي أم لا؟ فإن كان قرشيا ولا يجب إكرامه. فهذا تخصيص ، وإن لم يكن قرشيا ولا يجب إكرامه فهذا تخصص ، مع القطع بأن وجوب الإكرام غير ثابت له.

والأثر العملي للمسألة مع قطعنا بعدم ثبوت حكم العام له ، يظهر في بقية أحكام القرشي ، فمثلا إذا بني على التمسك باصالة العموم لنفي التخصيص فيثبت به أن هذا ليس بقرشي ، وحينئذ ، ننفي عنه تمام أحكام القرشي ، وإن لم نبني على التمسك باصالة العموم لنفي التخصيص فلا يمكن إثبات أو إسقاط تلك الأحكام إلا بدليل.

وفي مقام التطبيقات الاستدلالية ، فإنّ الذي يظهر من الفقهاء في جملة من الموارد هو الميل إلى إعمال اصالة العموم لنفي التخصيص في باب المطلقات ، فضلا عن باب العمومات.

ومن جملة هذه الموارد ما ذكره صاحب المعالم (قده) (١) من

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين ـ الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ـ ص ٤٠.

٢٨٨

الاستدلال على كون الأمر للوجوب بقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ) حيث حكموا بوجوب الحذر من مخالفة الأمر ، فإذا حولنا هذا الكلام إلى عام كان مضمونه إنّ الأمر يجب الحذر منه ، ولا إشكال حينئذ في أنّ الاستحباب خارج من تحت العموم.

لكن يقع الكلام ، في انّ خروج الاستحباب هل كان خروجا تخصيصيا وتقيديا ، أم انّه خرج تخصصا وتقيدا؟

وهنا استدل جملة من الأصوليين باصالة العموم في هذه الآية أو الإطلاق ، لنفي التخصيص ، وإثبات انّ الاستحباب خارج تخصصا.

وقد قيل في مقام تقريب الاستدلال على إجراء اصالة العموم لنفي التخصيص ابتداء.

إن اصالة العموم من الأصول اللفظية ، ومثبتات هذه الأصول حجة ، لأنّ مرجعها إلى ظواهر الألفاظ ، وقد عرفت انها من الإمارات ، ومثبتات الإمارات حجة.

وحينئذ ، يقال : بأنّ العام يشكل موجبة كلية ، حاصلها : «إن كلّ قرشي يجب إكرامه» ، والموجبة الكلية تنعكس بعكس النقيض ، إلى انّ كلّ ما لا يكون مصداقا للمحمول لا يكون مصداقا للموضوع ، فيلزم من قولنا : «كل قرشي يجب إكرامه» ، «إنّ كل من لا يجب إكرامه ليس قرشي».

وهذا مدلول التزامي عقلي للأول ، فإذا ثبت المدلول الأول باصالة العموم ثبت الثاني ، وهو اللزوم.

وبعبارة أخرى ، هي أنّ تحليل مفاد دليل «إن كلّ قرشي يجب إكرامه» ، هو قضية شرطية وهي ، «إذا كان هذا قرشيا يجب إكرامه» فبالعام يثبت قضية شرطية ، وبالدليل الخارجي القائل : بأنّ هذا الإنسان لا يجب إكرامه ، يثبت نقيض التالي ، وحينئذ ، بضم دليل الشرطية إلى دليل نفي الثاني يلزم منه نفي المقدم ، لأنه قياس استثنائي.

٢٨٩

إلّا ان المعروف بين المحققين من الأصوليين المتأخرين هو ، عدم البناء على التمسك باصالة العموم في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص.

وقد ذهب صاحب الكفاية (قده) (١) إلى عدم جواز التمسك باصالة العموم في المقام.

وحاصل ما يستفاد من كلامه هو ، إنّه لا يناقش في أصل هذه الملازمة بين المدلول المطابقي والالتزامي ، أي لا يرى بأسا من كون عكس النقيض لازما للمدلول المطابقي الذي هو الموجبة الكلية ، إذ دلالة الكلام الالتزامي على ذلك لا تضر ، ولكن يقول : إنه يرى أنّ هناك ضيق في دائرة الحجية المجعولة ، بمعنى انّه بعد مراجعة دليل حجية الإمارة ، يرى انّ هذا الدليل يدل على حجيتها في تمام المدلولات الالتزامية وإن لم يستقر بناء العقلاء في بعضها.

ثم يقول : والصحيح ، انّ بناء العقلاء استقرّ على جعل الحجية في المدلول المطابقي وبعض المداليل الالتزامية ، فمثلا : الفرد الذي يعلم بدخوله تحت العام ويشك في شمول حكم العام له ، فقد جعلوا له الحجية ، بينما الفرد الذي يشك ابتداء في دخوله تحت العام ويعلم بعدم شمول الحكم له ، فإنهم لم يجعلوا له الحجية ، وذلك لأنّ دليل الحجية دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، حيث انّ دليلها السيرة ، ولم يعلم بإمضاء الشارع لها في كل المداليل الالتزامية ، ولا أقل من الشك في حجيتها ، والشك فيها مساوق لعدمها.

وهذا الكلام في نفسه معقول حيث انّ العقلاء يعقل أن يفرقوا بين هذين الموردين في الحجية ، حيث يجعلون الحجية لاحدهما دون الآخر.

لكن نحن يجب أن نرى ونعرف سبب تفرقتهم بين الموردين بعد

__________________

(١) كفاية الأصول ـ ج ١ ـ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٢٩٠

وضوح انّ حجية الإمارة ـ التي هي ظهور العام في العموم ـ ليس من باب التعبد ، بل من باب الكشف والطريقية ، والعقلاء في الطرق المعمولة عندهم لا يدخلون غايات نفسية ، بل يبنون عليها من باب الطريقية ، وحينئذ يقال : إنه بناء على أنّ تمام نكتة جعل الحجية هي الكاشفية والطريقية ، حينئذ ، تكون كاشفية هذا الدليل عن الموجبة الكلية وعن عكس النقيض بنفس القوة بعد فرض التلازم بينهما ، فكيف إذن يفكك بينهما؟.

وكأن المحقق العراقي (قده) (١) عند ما انتهى إلى هنا ، شعر بأنه لا بدّ من تفسير لذلك وإبراز نكتة لهذا التفريق بين المقامين في جعل الحجية ، كي لا يكون تعبدا بحتا فصار في مقام تخريجه.

وحاصل هذا التخريج كما أفاده هو : إنّ العام الصادر من المولى ، متى ما وقع شك فيه بنحو الشبهة الحكمية ، صحّ الرجوع إلى العام لرفعه ، لأنّ الشبهة الحكمية ، يرجع فيها إلى المولى ، ومتى ما وقع الشك بنحو الشبهة الموضوعية ، فلا ينبغي الرجوع إلى الكلام الصادر من المولى بما هو مولى لرفع ذلك الشك ، لأنّه لا يناسبه بما هو مولى أن يعالج الشبهة الموضوعية ، بل هو أجنبي عنها ، وليس من شأنه ذلك ، وإن فرض الرجوع إليه في ذلك فبما انه شاهد على ذلك.

وهذه النكتة يستفاد منها فائدتين.

أ ـ الفائدة الأولى : صحة التمسك بالعام في الشبهة المفهوميّة في المخصص المنفصل إذا كان مرددا بين الأقل والأكثر ، لأنّ الشبهة المفهومية شبهة حكمية ، وأمّا إذا كان المخصّص المنفصل دائرا بين الأقل والأكثر بنحو الشبهة المصداقية ، فإنه لا يصح التمسك بالعام ، لأنّ الرجوع إلى العام فيها لإثبات انّ زيدا عالم ، معناه : إنّا نثبت بكلام المولى موضوعا خارجيا ونرفع شكا ناشئا عن الشبهة الموضوعية ، وهذا لا يصح ، لأنه ليس من شأن المولى بما هو مولى.

__________________

(١) مقالات الأصول ـ ج ١ ـ العراقي ـ ص ١٥٢ ـ ١٥٣ ـ ١٥٤.

٢٩١

ب ـ الفائدة الثانية : هي انه لو أردنا التمسك بالعام في محل الكلام ، لكان معناه : التمسك بالعام كي نثبت شبهة موضوعية وانّ هذا الإنسان ليس قرشيا.

وهذا رجوع إلى كلام المولى في الشبهة الموضوعيّة مع انها ليست من شئون المولى كما عرفت.

وبهذا يظهر ، ان نكتة عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية هي عين نكتة عدم جواز التمسك بالعام لنفي التخصيص ، إذ في كلا الموردين يعالج شبهة موضوعية ، مع ان كلام المولى بما هو مولى يعالج فيه الشبهة الحكمية فقط دون الموضوعية.

والتحقيق هو ، إنّ ما أفاده العراقي (قده) غير تام ، وإن هناك فرق بين الشبهة المصداقية وبين ما نحن فيه ، فإن نكتة عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لا يمكن تطبيقها هنا ، وذلك انه في ذلك المقام ، يصح أن يقال : إن التمسك بالعام لإثبات حكم هذا الفرد المشتبه ليس من شأن العام ووظيفة المولى ، لأنه

إن أردنا أن نثبت بالتمسك بالعام وجوب الإكرام مطلقا ، أي سواء كان عادلا أو فاسقا ، فهو مقطوع البطلان ، لأنه خلف فرض المخصص.

وإن أردنا من إثبات وجوب إكرامه أن نثبت كونه عادلا ، فهذا يعني إثبات المجعول لا إثبات الجعل.

ومن المعلوم ، انّ الكلام الصادر من المولى في مقام التشريع إنّما هو الجعل لا فعليّة المجعول.

وأمّا في المقام ومحل الكلام ، فإنّ المقصود من التمسك بالعام إثبات التخصيص ، والتخصيص ضيّق في دائرة الجعل لا المجعول ، فإنّ دائرة المجعول تضيق وتتسع تبعا لوجود الشرط خارجا ، وهذا لا ربط له بالجعل.

وأمّا الجعل ، فإنه يتسع ويضيق حسب التخصيصات والتقيدات التي يأخذها المولى في عالم الجعل.

٢٩٢

ونحن نريد أن ننفي باصالة العموم ، التخصيص ، إذن ما نريده ناظر إلى مرتبة الجعل ، وهذه المرتبة هي التي ينظر إليها خطاب المولى.

نعم من باب الاتفاق ، لو علمنا من الخارج انّ هذه الخصوصيّة الجعلية ملازمة مع أمر خارجي معيّن ، وهو كون هذا غير قرشي ، أو إنه غير عالم ، فمجرد ذلك لا يوجب عدم جواز التمسك بالعام ، فلو علمنا انّ قوله «أكرم كل عالم» ، شموله ملازم لثبوت نجاسة هذا الثوب ، فهنا لا بأس بذلك.

إذن فهذه النكتة التي ذكرها العراقي (قده) للتفرقة غير صحيحة ، وإن كانت النكتة الوحيدة المبرزة.

والحاصل هو ، إنّ التبعيض في الحجية بالنسبة لبعض المداليل ، وإن كان معقولا ثبوتا ، لكن هو خلاف المرتكز العقلائي ، فالأمارية نسبتها إلى كل المداليل على حد واحد.

والتحقيق في المسألة هو أن يقال : إننا قد أشرنا سابقا إلى وجود تقريبين لاستفادة نفي فرديّة هذا الفرد المشكوك من تحت دليل العام.

وكان التقريب الأول يقول : إن الموجبة الكلية مستلزمة صدق عكس نقيضها ، وحيث انّ دليل العام يدل على الموجبة الكلية بالمطابقة ، إذن هو يدل على عكس نقيضها بالالتزام.

وكان التقريب الثاني يقول : إنّ دليل العام يرجع إلى قضية شرطية ، مفادها : إن كان هذا الإنسان قرشيا يجب إكرامه.

وهذه القضيّة الشرطيّة لم نعلم بكذبها في زيد ، وإنّما الذي نعلمه بالفعل في زيد من الخارج ، انه لا يجب إكرامه ، أي إنّا نعلم بكذب التالي لا كذب الشرطية ، فنجمع بين الأمرين ، فنأخذ الشرطية من دليل العام ، ونحكم بأنّ زيدا لو كان قرشيا لوجب إكرامه ، ونضم إليه علمنا بكذب التالي من الدليل الخاص الدال على عدم وجوب إكرام زيد ، فينتج كذب المقدّم ، لأنه متى ما علمنا الشرطية وعلم كذب التالي ، يتعيّن كذب المقدم ، فيثبت انّ هذا الإنسان ليس بقرشي.

٢٩٣

وهذان التقريبان يختلفان في مجال التطبيق ، إذ قد ينطبق أحدهما في مورد لا ينطبق فيه الآخر.

وعلى هذا ، فنحن نصنّف الدليلين ، الدليل العام ، والدليل الخاص ، الذي دار أمره بين التخصيص والتخصص ، إلى أربع حالات ، ثم نعرض هذه الحالات الأربع على كل واحد من التقريبين ، لنرى أيّ حالة منها تنطبق عليهما ، وأيّها لا تنطبق.

إذن ، فدليل العام ـ أكرم كلّ عالم ـ مع دليل الخاص ـ زيدا لا يجب إكرامه ـ لهما أربع حالات :

أ ـ الحالة الأولى : هي أن يكونا مسوقين على نهج القضية الحقيقيّة.

ب ـ الحالة الثانية : هي أن يكونا مسوقين على نهج القضية الخارجية :

ج ـ الحالة الثالثة : هي أن يكون العام على نهج القضية الحقيقيّة ، والخاص على نهج القضية الخارجية.

د ـ الحالة الرابعة : هي أن يكون العام مسوقا على نهج القضية الخارجية ، والخاص على نهج القضية الحقيقية.

وسوق الحكم على نهج القضية الحقيقية ، وسوقه على نهج القضية الخارجية ، مصطلحان تقدم شرحهما ، لكن لا بدّ من الإشارة إلى خصوصيتين هنا ، لكي يتضح الكلام في القضية الحقيقية ، والقضية الخارجية.

١ ـ الخصوصية الأولى : هي انّ القضية الحقيقية ، مرجعها دائما إلى قضية شرطية ، وذلك لأنّ الموضوع فيها مقدّر الوجود ، ومعنى التقدير هو الشرطية ، فترجع الحقيقية إلى شرطية متعددة ، تنحل بعدد أفراد الموضوع في الخارج ، فمثلا ، عند ما يقول : «النار حارة» ، فهذا مرجعه إلى انّه ، «إن كان هذا نارا ، فهو حار».

وعند ما نجعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ونقول : يجب «إكرام كل قرشي» ، إنّما نأخذ الموضوع مقدّر الوجود ، فمرجعه إلى إنشاء قضايا

٢٩٤

شرطيّة بعدد أفراد القرشيّين ، أي «إن كان هذا قرشيا يجب إكرامه» ، وهكذا.

وأمّا القضية الخارجية فلا تستبطن تقديرا لقضية شرطية ، لأن موضوعها محقّق الوجود ، فعند ما يقال : «كل هؤلاء عدول» ، فهذه قضية خارجية ، مرجعها إلى الحكم بعدالة من أشير إليه وتنحل إلى قضايا فعلية عديدة.

نعم ، ليس المقصود من كون موضوع القضية الخارجية محقق الوجود ، إنه خصوص الموجود في الزمن الحاضر ، بل لو فرض انّ المتكلم لاحظ الأفراد المحققة الوجود في الأزمنة الثلاثة ، الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، وحكم عليها ، فهذه أيضا قضية خارجية ، لأنّ موضوعها محقق الوجود ، وإن كانت الأحكام على الأفراد الاستقبالية ، لكن استقباليتها تابعة لظرف وجود موضوعها.

لكن هذا بحسب الحقيقة ، يختلف عن القضية الحقيقية نظريا ، وإن لم يختلف عنها عمليا ، فلو فرض انّ المولى حكم على نهج القضية الحقيقية ، بأن «كل عالم يجب إكرامه» ، حيث كان الموضوع مقدّر الوجود ، فهذا يعني نظريا ، انّه لو فرض ان علماء الكون ازدادوا فإنه يجب إكرامهم ، باعتبار كون القضية حقيقية.

وأمّا لو فرض كون القضية خارجية ، بمعنى انّ المولى بنظارة الغيب عرف العلماء الموجودين ومن سيوجد ، فحكم بوجوب إكرامهم ، فلو فرض انّه بعد صدور الحكم هذا ازدادوا ، ولو محالا ، حينئذ ، لعلّ المولى لا يحكم بوجوب إكرامهم.

وهذا فارق نظري ، ولا يوجد فارق عملي بينهما.

ولكن هذا الفرق ، له تأثير في الحساب الأصولي والمنطقي.

٢ ـ الخصوصية الثانية : هي انّ كل حكم كانت الأحوال والنكات الدخيلة فيه قد ذكرت قيدا ، بحيث يكون تشخيصها متروكا للمكلف ، نسمي القضية المشتملة عليه بالقضية الحقيقية. وكل حكم تكون الأحوال والنكات دخيلة فيه ولكن تشخيصها والضامن لإحرازها ووجودها هو المولى من دون إناطة ذلك بالمكلف. نسمي القضية المشتملة عليه بالقضية الخارجية. فمثلا :

٢٩٥

لو قال المولى : إن كان هذا عادلا فأكرمه. فهذه قضية حقيقية. لأن المولى جعل عهدة تحصيل العدالة فيها على المكلف. وتارة أخرى يفرض ان المولى نفسه فحص عن حاله وأحرز عدالته فقال لعبده. أكرمه. فهذه قضية خارجية لأنّ المولى هو الذي ضمن توفر النكتة الموجبة للحكم بوجوب إكرامه. فالحكم في كلتا الحالتين منوط بعدالة هذا الشخص ، لكن في القضية الأولى ، ـ أي الحقيقية ـ أناط المولى تشخيص العدالة وإحرازها بالمكلف ، بينما في القضية الثانية ـ أي الخارجية ـ المولى نفسه هو الذي ضمن إحراز الشرط وما هو دخيل في الحكم بنفسه.

وبعد هذا التمهيد ، نأتي إلى محل البحث ونأخذ الشقوق الأربعة. فإذا فرض ان دليل العام كان الحكم فيه مجعولا على نهج القضية الخارجية فحينئذ ، التقريب الثاني من التقريبين لا يتم ، سواء جعل الخاص على نهج القضية الحقيقية أو الخارجية. وذلك لأن العام إذا كان مجعولا على نهج القضية الخارجية فهو لا ينحل إلى قضايا شرطية بعدد أفراد الموضوع كما بيّناه في الخصوصية الأولى بل ينحل إلى قضايا فعلية بعدد من نظر إليهم المولى ورآهم أفرادا للموضوع ، وحينئذ ، فزيد الفرد المشكوك ، لو فرض انه ليس بقرشي ، لا يناله شيء من دليل العام بقضية شرطية ـ إذا كان هذا عالما يجب إكرامه ـ لأن العام ليس مفاده قضايا شرطية حتى يكون مشمولا لقضية منها ، بل يختص هذا الحكم بخصوص من كان قرشيا أو عالما حقيقية ، وفي مثله ، لا يتم التقريب الثاني إذن ، وذلك لأن مرجعه إلى استفادة قضية شرطية من العام ، وضمّ هذه القضية الشرطية إلى نقيض التالي يثبت نقيض المقدم. بينما هنا في العام لا نستفيد قضية شرطية من دليل العام ، وإنما قضايا العام فعلية.

وإنّما يتم هذا التقريب الثاني ، لو كان العام على نهج القضية الحقيقية ، ففي مثل ذلك ينحل إلى قضايا شرطية بعدد أفراد الموضوع في الخارج ، ويكون مرجعه إلى ان التميمي لو كان قرشيا وجب إكرامه ، أو إلى أن هذا الفرد إذا كان عالما وجب إكرامه. وهكذا بما فيه هذا الإنسان الذي دلّ دليل على عدم وجوب إكرامه المردد بين التخصيص والتخصص ، ولتم هذا

٢٩٦

التقريب حينئذ ، لأنه يقال حينئذ ، إذا كانت هذه الشرطية تتناول هذا الفرد ، فنضمّ إليها نقيض التالي ـ ولكن هذا لا يجب إكرامه ، فينتج حينئذ نقيض المقدم ـ وهو انّ هذا ليس عالما.

وبهذا يتضح انّ هذا التقريب الثاني لا يتم في موارد كون العام مجعولا على نهج قضية خارجية ، وإنما يمكن أن يتم في موارد كون العام مجعولا على نهج القضية الحقيقية بخلاف التقريب الأول حيث لا يفرق فيه بين القضية الحقيقية والخارجية لأنّ الموجبة الكلية ، سواء كانت على نهج القضية الخارجية ، أو الحقيقية فإن لها عكس نقيض ولا يمكن أن تكون صادقة إلّا إذا صدق عكس نقيضها إذ هو لازم للموجبة الكلية على كل حال. أي سواء كانت قضية فعلية أو شرطية تقديرية ، فمن هذه الناحية التقريب الأول أوقع وأقرب من الثاني ، كما ان التقريب الأول إنما يتم فيما لو فرض انّه كان هناك دال على الاستيعاب في الموجبة ، يعني ان الحكم فيها ينحل إلى أحكام بعدد الأفراد ، وانّه استوعب تمام أفراد الطبيعة ، إذن ، فهنا الموجبة الكلية تنحل إلى أمرين. أحدهما : ثبوت الحكم لهذا. وهذا ، وذاك وهكذا ، والآخر : هو ان هذه الأحكام استوعبت كل أفراد الطبيعة ، فعكس النقيض لازم للدلالة على الاستيعاب ، بمعنى انه لا بدّ من الكلية أي الاستيعاب. وأما إذا لم يكن في الموجبة الكلية ما يدل على الاستيعاب فلا يلزمها عكس النقيض ولا تدل عليه.

وهذا بخلاف التقريب الثاني. حيث لا تحتاج تماميته إلى أن يكون فيه ما يدل على الاستيعاب في الكلام ، بل يكفي دلالته على آحاد الحكم فيها ما يدل على شرطية هذا الفرد المشكوك وانه لو كان قرشيا لوجب إكرامه. فنضمّ إلى هذه الشرطية كذب التالي ، فيثبت كذب المقدم بلا اشتراط أن يكون في الكلام ما يدل على الكلية.

ومن هنا كان التقريب الثاني أقرب في باب المطلقات من التقريب الأول باعتبار ان الدلالة على الكلية والاستيعاب غير موجودة في باب المطلقات وإن ادّعي وجودها في باب العمومات.

٢٩٧

ثم إن كلا التقريبين لا يصحان فيما لو فرض ان الدليل الخاص ـ الدال على عدم وجوب إكرام زيد ـ كان قضية حقيقية. فإن كلا التقريبين لا يتم. ومثاله : أن يرد عام يقول : أكرم كل عالم الآن. ويرد خاص يقول : لا يجب إكرام زيد الآن. فهذا المخصص تارة يحمل على أنّه على نهج القضية الخارجية. فحينئذ ، لا يمكن القول إن دليل العام ـ «لا تكرم زيدا الآن» ـ له إطلاق بحيث يشمل ما إذا كان زيد عالما. إذ لعلّ المولى فحص عنه وأحرز انه جاهل ولهذا قال : لا يجب إكرامه. أي لعله خارج تخصّصا.

ولكن لو حملنا المخصص على نهج القضية الحقيقية ، فحينئذ هذا المخصص يكون له إطلاق يشمل ما لو كان زيد عالما ، أي لا تكرمه سواء كان عالما أو لم يكن ، كان قرشيا أو لم يكن. فالتمسك بالعام الذي هو على نهج القضية الحقيقية لإثبات ان زيدا لو كان قرشيا لوجب إكرامه ، كذلك هنا. فإذا أمكن التمسك بإطلاق هذا الدليل لإثبات أن زيدا لا يجب إكرامه مطلقا ، أي سواء كان قرشيا أو لا عالما أو لا. فهذا بنفسه يعني إثباتا للتخصيص. وحينئذ ، لا يكون المقام من باب دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، بل هو تخصيص من باب انه قامت عليه الحجة والدليل. لأنّ الدليل أثبت عدم وجوب إكرام زيد الآن سواء كان عالما أو لا ، وحينئذ يكون هذا تخصيص في دليل العام إذا كان العام على نحو القضية الحقيقية لأنه ينحل إلى قضايا شرطية واحدة منها تعطى لزيد ، إذن ، فالعام يقول : إن كان هذا عالما فأكرمه. والخاص يقول : لا تكرمه مطلقا ، وهذا يعني إن العام لا يتناوله بشرطيته بعد تناول الخاص له مطلقا. إذن ، فيتعين الالتزام بسقوط شرطية العام في هذا الفرد ، ومع تعين ذلك يكون تخصيصا ولا مجال لإعمال اصالة العموم أبدا. وبهذا ، يتضح انّه كلما كان العام مجعولا على نهج القضية الحقيقية وكان الخاص كذلك كما هو الغالب في القضايا الشرعية ، فلا يتم كلا التقريبين لأن الخاص حينئذ يكون مخصصا للعام يقينا. وفرض دوران أمر المخصّص بين التخصيص والتخصص إنّما هو في القضايا الخارجية الحقيقية.

٢٩٨

في جواز التمسك بالعام قبل

الفحص عن المخصّص

هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص ، أو لا يجوز؟

وعلى القول بعدم الجواز إلّا بعد الفحص ، يقع الكلام في مقدار الفحص ، فهنا مقامان :

١ ـ المقام الأول : في أصل وجوب الفحص عن المخصص.

٢ ـ المقام الثاني : في مقدار هذا الفحص.

أمّا المقام الأول : فقد استدل على وجوب الفحص قبل التمسك بالعام بعدة وجوه :

١ ـ الوجه الأول : هو التمسك بأخبار وجوب التعلم على ما في كلمات المحقق العراقي (قده) (١) والسيد الخوئي (قده) (٢) وغيرهما ، بأن الفحص عن المخصص ، نحو من التعلم ، فيجب بهذه الأدلة.

والتحقيق : إنّ الاستدلال على لزوم الفحص بهذه الأخبار غير تام ، بل هو دوريّ ، بعد أن يتضح المقصود من عنوان المسألة ، لأنّ المقصود من وجوب الفحص عن المخصص ليس هو الحكم التكليفي ، بل المراد منه هو

__________________

(١) مقالات الأصول ـ ج ١ ـ العراقي ـ ص ١٥٤.

(٢) أجود التقريرات ـ ج ١ ـ ص ٤٨١ ـ محاضرات فياض ـ الخوئي ـ ج ٥ ـ ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٢٩٩

عدم حجية العام قبل الفحص ، فكأننا نريد أن نقيم دليلا على عدم حجية العام قبل الفحص ، وكأنّ المستدل بأخبار وجوب التعلم يريد أن يقول : إنه لو لا أخبار التعلم لكان العام حجة قبل الفحص ، ولكنه يجعل أخبار وجوب التعلم مخصصة لدليل حجية العام.

وهذا غير معقول ، لأن أدلة وجوب التعلم لا يمكن التمسك بها للإلزام بالفحص عن المخصص إلّا في طول ثبوت عدم حجية العام قبل الفحص ، إذ لا يمكن أن نثبت عدم حجيته بنفس هذا الدليل.

ولتوضيح هذه الدعوى ، نذكر ثلاثة ألسنة من الأخبار.

١ ـ اللسان الأول : وهو أخبار دلّت على وجوب (١) التفقّه في الدين ، فلو فرض انّ العام ـ بقطع النظر عن هذه الأخبار ـ ليس بحجة ، إذن لا حاجة حينئذ لهذه الأخبار.

وإذا فرض انّ العام حجة بقطع النظر عن هذه الأخبار ، ونريد بهذه الأخبار أن نخصص حجيّته ، فهذا أيضا غير معقول ، لأنه لو فرض قيام الدليل على حجية العام في نفسه ، فإنه حينئذ يكون الرجوع إلى العام تفقه في الدين ، ونكون قد امتثلنا الأمر بالتفقّه الوارد في تلك الأخبار ، أي نكون عالمين بالحكم الشرعي ، ومعه لا داعي لوجوب الفحص.

والحاصل : انّ كون هذا اللسان يقتضي وجوب الفحص ، هو فرع عدم حجية العام ، ومع عدم حجيته لا حاجة لهذه الأخبار ، ومع فرض قيام الدليل على حجية العام ، إذن فالتفقّه حاصل بالرجوع إلى العام دون الحاجة لتلك الأخبار ، إذن فالاستدلال بهذه الأخبار غير تام.

٢ ـ اللسان الثاني : هو اللسان الوارد بعنوان : ذمّ من ترك السؤال (٢) والتفقّه.

__________________

(١) الكافي ـ الكليني ـ ج ١ ـ ص ٣١.

(٢) الكافي ـ الكليني ـ ج ١ ـ ص ٤٠.

٣٠٠