بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

المتصل المجمل مفهوما والدائر بين المتباينين ، وبين المخصص المنفصل المجمل مفهوما كذلك ، لأنّ المتصل يهدم أصل ظهور العام بمقداره ، بينما المنفصل المذكور ، يهدم حجيّة ظهور العام بمقداره أيضا.

والآن يسأل : انّه هل يوجد فرق عملي بينهما أيضا أم لا يوجد؟

يمكن أن يقال : بأنه لا فرق عملي بينهما ، إذ قد عرفت سابقا بأنّه لا يجوز التمسك بالعام لإثبات حكمه لكلا الفردين ، ولا لأحدهما بعنوانه التفصيلي ، وإنّه يجوز التمسك بالعام فيهما لإثبات حكمه على عنوان «غير ما خرج بالتخصيص» بعنوانه الإجمالي ، سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا.

ولكن مع هذا ، يمكن أن نذكر فارقين عمليين في أثرين فقهيّين ، أحدهما مقبول ، والآخر قابل للمناقشة :

١ ـ الفارق العملي الأول : هو ما إذا كان عندنا عام ، ومخصص مجمل مفهوما مردد بين متباينين ، ثمّ جاءنا مخصّص منفصل تفصيلي غير مجمل ولا مردد ، بل تعيّني في أحد طرفي ذلك المخصص الإجمالي ، كما إذا قال : «أكرم كلّ فقير» ، ثم ورد مخصص مجمل يقول : «لا تكرم زيدا الفقير» ، وتردّد أمر زيد بين زيدين ، ثم ورد مخصص تفصيلي آخر. يقول : «لا تكرم زيدا الثاني». إذن فمورد هذا المخصّص الأخير هو أحد فردي المخصّص الإجمالي الأول.

وحينئذ يقال : إنّ الصناعة تقتضي الفرق بين ما إذا كان المخصص المجمل متصلا ، وبين ما إذا كان منفصلا ، فإذا كان المخصص المجمل منفصلا ، فحينئذ ، يصح التمسك بالعام في غير مورد المخصص المنفصل الثاني ـ أي في زيد الأول الذي لم يشمله هذا المخصّص ـ وذلك لأنّ العام ، لمّا لم يتصل به المخصص ـ حسب الفرض ـ انعقد له ظهور في كل من الفردين ، زيد الأول ، وزيد الثاني ، ثم إنّه لمّا جاء المخصّص المجمل المنفصل الدائر أمره بين المتباينين ، وقال : «لا تكرم زيدا» ، المردّد بين

١٨١

زيدين ، فهذا المخصص يزاحم مع حجيّة ظهور العام ، باعتبار انّه يشكّل علما إجماليا بأنّ أحد الفردين خارج عن العام ، وهذا العام الإجمالي أوجب سقوط الحجيّة في كل من الفردين ، كما تقدّم تفصيله ، لكن لمّا جاء بعده المخصص التفصيلي الثاني وعيّن خروج أحد الفردين بعينه ، بقوله : «لا تكرم زيدا الثاني» ، فحينئذ ، ينحل ذلك العلم الإجمالي بهذا العلم التفصيلي ، وهو خروج زيد الثاني عن العموم ، ومن المعلوم أنّه متى ما حصل علم إجمالي بأحد شيئين ، ثم حصل علم تفصيلي بأحدهما المعيّن ، فإنّه ينحل هذا العلم الإجمالي ، ومع انحلاله ، نشك بدوا في خروج الفرد الآخر ، ومعه لا مانع من التمسك بظهور العام في زيد الأول ، لأنّ المقتضي ـ وهو الظهور ـ موجود ، والمانع مفقود ، أمّا وجود المقتضي ، فهو أصل الظهور ، وهو هنا فعليّ في كلا الزيدين ، باعتبار أنّ المخصص الإجمالي منفصل ، فلا ينهدم به أصل الظهور ، وأمّا عدم المانع ، فلأنّ المانع عن التمسك بظهور العام في الشمول لزيد الأول ليس إلّا التعارض الناشئ من العلم الإجمالي بكذب الظهور في أحدهما ، والمفروض انحلال هذا العلم الإجمالي ، إذن ، فلا تعارض في الحجية بين الظهورين ، وحينئذ ، يصح التمسك بالعام لوجوب إكرام زيد الأول.

وأمّا إذا فرض كون المخصص المجمل متصلا بالعام ، كما إذا ورد : «أكرم كلّ فقير» ، ولا تكرم زيدا الفقير ، بنحو الاتصال ، ثم ورد مخصص تفصيلي يقول : «لا تكرم زيدا الثاني ، فهنا لا يمكن التمسك بالعام لإثبات حكمه لزيد الأول ، لأن المقتضي لهذا التمسك غير موجود ، وذلك ، لأنّ المخصص المجمل ، وإن انحل بالعلم التفصيلي ، ولكن المفروض ان أصل المقتضي ، وهو أصل الظهور ، غير محرز ، لأن المخصص المتصل يوجب سقوط أصل الظهور في مورده ، وهذا معناه ، إنّ أصل انعقاد ظهور العام في وجوب إكرام زيد الأول مشكوك فيه من أول الأمر ، ومعه لا يصح التمسك بالعام لإثبات حكمه بوجوب الإكرام لزيد الأول ، فإنه يحتمل أن يكون المراد بالمخصص المجمل هو زيد ، والعلم التفصيلي ، بعدم وجوب إكرام زيد

١٨٢

الثاني لا يرفع هذا الاحتمال ، وهذا وحده كاف لعدم جواز التمسك بالظهور ، لأنّ المقتضي غير محرز كما تقدم.

وبهذا اتضح : انه يوجد ثمرة عمليّة بين كون المخصص المجمل متصلا ، وبين كونه منفصلا.

وهذه الفرضيّة لها مثال حي في الفقه ، والمثال هذا مأخوذ من أدلة الأصول ، وهو انّه لو كان دليل الأصل يقول : «كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه قذر» ، وكان عندنا إناءان ، نشك في طهارتهما ونجاستهما ، ثم حصل عندنا علم إجمالي بنجاسة أحدهما ، وهذا العلم الإجمالي يمنع من إجراء اصالة الطهارة في كلا الطرفين ، لأنّ جريانه فيهما يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فهذا يكون بمثابة مخصص إجمالي ، لأنه يقول : إن أحد أصلي الطهارة ساقط ، إذن ، فهنا برهان استحالة الترخيص في إجراء الأصل في كليهما يكون هو المخصّص الإجمالي.

ثم نفرض ان أحد هذين الإناءين كان له حالة سابقة ، وهي النجاسة ، وهذا معناه ، انه مشمول لدليل الاستصحاب الذي هو حاكم على دليل اصالة الطهارة ، وهذا معناه ، اننا حصلنا على مخصص تفصيلي لأحد طرفي المخصص الإجمالي ، وحينئذ ، لا إشكال انه في مقام التطبيق نقول : إن العلم الإجمالي ينحل ، ويجري استصحاب النجاسة في هذا الإناء ، وبعد ذلك تجري اصالة الطهارة في الإناء الآخر بلا معارض.

وحينئذ نقول : بأن التطبيق الفقهي للمسألة هذه على ما ذكرناه آنفا هو ، أن نقول : انّ هذا المخصص الإجمالي القائل بسقوط الأصل في أحدهما ، إن كان منفصلا عن العام ، فهذا التطبيق يكون صحيحا ، لأنّ العام ، وهو قوله : «كل شيء لك طاهر» ، استقر له ظهور في إجراء اصالة الطهارة في كل من الإناءين ، وبعده جاء المخصص المجمل المنفصل ، فمنع من جريان اصالة الطهارة في أحدهما ، وبهذا يزاحم مع حجيّة العام فيهما ، ثم جاء المخصص التفصيلي ، وحلّ العلم الإجمالي ، وبقي الشك بدويا بالنسبة إلى الآخر ، ولا

١٨٣

شكّ حينئذ ، انّ اصالة الطهارة لا تجري في الإناء الذي يجري فيه استصحاب النجاسة ، وأمّا في الإناء الآخر ، فتجري اصالة الطهارة ، لوجود المقتضي ، وهو ظهور العام ، وعدم المانع ، لانحلال العلم الإجمالي ، لأنه لو كان هناك مانع لكان هناك التعارض الناشئ من العلم الإجمالي ، والمفروض هو انحلال العلم الإجمالي ، إذن فلا تعارض.

وأمّا إذا فرض أنّ المخصص المجمل كان متصلا ، كما لو كان هذا المخصص حكما عقليا بديهيا مثلا ، فإنه حينئذ قد يقال : إنه لا يمكن التمسك بالعام ، وهو دليل اصالة الطهارة ، لإثبات الطهارة في ذلك الإناء الآخر ، لأنّ المقتضي غير محرز ، لأن دليل المخصص المتصل المجمل مفهوما هدم أصل الظهور في مورده ، ونحن لا نعلم أيّ الشيئين مورده ، وحينئذ ، لا نحرز تماميّة دليل اصالة الطهارة بالنسبة لهذا الطرف ، إذن ، فالمقتضي غير معلوم الثبوت.

والتحقيق انّ هذا الفارق غير تام ، بناء على ما تقدم من جواز التمسك بالعام في النقطة الثالثة ـ وهي جواز التمسك بالعام في موارد المخصص المجمل المردّد بين المتباينين ـ لإثبات حكمه للفرد الآخر على إجماله.

أو فقل : انّ هذا الفارق غير تام ، بناء على جواز التمسك بالعام في موارد المخصص المجمل المردد بين المتباينين لإثبات حكمه للفرد الآخر على إجماله ، وذلك ، لأن هذا الفارق يجوّز التمسك بالعام مع كون المخصص المجمل منفصلا ، وتمنع من التمسك به مع كونه متصلا ، وهذا غير صحيح ، بل الصحيح هو جواز التمسك به فيما إذا كان المخصص المجمل متصلا أيضا لإثبات حكمه للفرد الآخر.

وتوضيح الحال فيه هو : إن هذه الثمرة تقول : بأنّ المخصص الإجمالي ، إن كان منفصلا عن العام ، فسوف ينحل بالمخصّص التفصيلي ، إذن فالتمسك بالعام يكون في غير مورد المخصص التفصيلي ، وهذا صحيح.

لكن الثمرة تقول : إنه إذا كان المخصص متصلا فلا يمكن التمسك

١٨٤

بالعام لإثبات حكمه لغير مورد المخصص المتصل ، ولنفرض أنّ المخصّص التفصيلي هو «زيد الأول» ، والمخصص الإجمالي مورده «زيد» ، المردّد بين الزيدين ، «زيد الأول» ، و «زيد الثاني» ، وهذا غير صحيح.

والصحيح هو ، جواز التمسك بالعام لإثبات حكمه ـ وهو وجوب الإكرام ـ لزيد الثاني أيضا ، وذلك انّ المخصص الإجمالي الدائر أمره بين المتباينين ، تقدم انّ له حالتين.

أ ـ الحالة الأولى : هو أن يكون الخارج بالمخصص المجمل متعينا في نفس الأمر والواقع وإن كان مرددا عندنا.

ب ـ الحالة الثانية : هو أن يكون الخارج بالمخصص المجمل غير متعيّن حتى في أفق نفس المخصص وفي نفس الأمر والواقع كما تقدم.

أمّا في الحالة الأولى ، فقد قلنا في النقطة الثالثة المتقدمة ، إنه يجوز التمسك بالعام لإثبات حكمه لغير الفرد الخارج بالتخصيص ، وحينئذ ، إذا فرضنا صحة ذلك ، واستطعنا أن نثبت حكم العام لغير الفرد الخارج بالتخصيص ، حينئذ ، سوف يثبت لدينا بذلك قضيّة إجمالية ، وهي وجوب إكرام أحدهما المعيّن في الواقع المجهول عندنا ، فإذا ضممنا لذلك ، المخصّص التفصيلي القائل بعدم وجوب إكرام زيد الثاني ، فحينئذ ، يتعيّن أنّ الواجب إكرامه والمشمول للعام هو زيد الأول.

وبهذا نكون قد وصلنا إلى إثبات وجوب إكرام الفرد الأول ، بالتمسك بالعام ، عن هذا الطريق.

وأمّا في الحالة الثانية : وهي أن يكون المخصص المجمل غير متعيّن حتى في نفس الأمر والواقع ، فقد ذكرنا في النقطة الثالثة ، في مقام تصوير التمسك بالعام ، إنّا نتمسك بالعام لإثبات حكمه لكل من الفردين ، غاية الأمر هو ، إن العام لو خلّي وطبعه لكان يدل على وجوب إكرام الأول ، سواء وجب إكرام الثاني أو لا ، ويدل على وجوب إكرام الثاني ، سواء وجب إكرام

١٨٥

الأول أو لا ، وحينئذ ، بعد ورود المخصص المذكور نرفع اليد عن إطلاق دلالة العام في كل منهما ، لأنّ المخصص المجمل يقول : بأنّ أحدهما ليس بواجب ، وحينئذ ، نخصّص الإطلاق في كل منهما ، ونحكم بوجوب إكرام أحدهما على تقدير عدم وجوب إكرام الآخر.

وحينئذ ، ينتج انّ العام يولّد دلالتين مشروطتين ، دلالة على وجوب إكرام هذا ، إن كانت الدلالة على إكرام الآخر باطلة ، ودلالة على وجوب إكرام الآخر ، إن كانت الدلالة على وجوب إكرام هذا باطلة ، وحيث انّا نعلم إجمالا ، بأنّ أحدهما ليس بواجب الإكرام ، إذن نعلم حينئذ إجمالا بأنّ إحدى الدلالتين قد تحقق شرطها ، وهذا يعني ، ثبوت حكم العام لأحدهما الذي تحقق شرطه دون الآخر.

وحينئذ نأتي إلى محل الكلام ، فبعد فرض وجود هاتين الدلالتين ، نفرض انّه جاء المخصّص التفصيلي القائل ، بأنّ زيدا الثاني لا يجب إكرامه ، وهذا معناه ، انّ هذا المخصّص يحقق شرط إحدى الدلالتين ، ويعدم شرط الدلالة الأخرى ، وبذلك تصبح الدلالة التي تحقّق شرطها فعليّة ، وبهذا يرتفع شرط الدلالة الثانية ، وبهذا نتوصل إلى وجوب إكرام زيد الأول ، لأنّ إكرامه مشروط بعدم وجوب إكرام زيد الثاني ، وقد ثبت عدم وجوب إكرام زيد الثاني بالمخصص التفصيلي ، وحينئذ ، يتحقق شرط الدلالة الأولى ، وبه تنتفي الدلالة الثانية لانتفاء شرطها.

وبهذا اتضح انّه على تقدير كون المخصص المجمل متصلا ، يمكن أن نثبت بالمخصص هذا وجوب إكرام الفرد الأول أي غير من خرج بالمخصص التفصيلي.

وهذا بنفسه نطبّقه على المسألة الشرعيّة القائلة : بأنّ «كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر» فالمخصّص يقول : إنّ اصالة الطهارة في أحدهما ساقطة ، والمخصّص التفصيلي ، وهو الاستصحاب ، هنا ، حاكم على هذه القاعدة في أحدهما ، إذن فتجري اصالة الطهارة في مورد الاستصحاب ، وتجري اصالة النجاسة في الفرد الثاني بلا معارض.

١٨٦

وبهذا يتضح أيضا أنّه لا فرق بين المخصّص المتصل والمنفصل ، إذن فهذه الثمرة غير تامة.

٢ ـ الفارق الثاني : وفيه نفرض أيضا ثلاثة عناصر ، الأول : العام ، مثل «أكرم كل فقير» ، والثاني : المخصص المجمل مفهوما ، مثل ، «لا تكرم زيدا ، المردّد أمره بين زيدين» ، أي بين المتباينين ، والثالث ، وجود عام آخر معارض للعام لا مخصص تفصيلي .. بمعنى أنّا نعلم إجمالا بأنّ زيدا الثاني ، أمّا كبير ، فهو خارج من تحت عموم «أكرم كلّ فقير» ، وإمّا فقير ، فهو خارج من تحت عموم «استحباب السلام على كلّ كبير».

وحينئذ ، إذا فرضنا انّ العنصر الثاني ـ أي المخصّص المجمل كان منفصلا ، إذن سوف يكون عندنا تعارضان ثنائيّان ، الأول هو : التعارض الذي نشأ من شمول العام في «أكرم كل فقير» ، لزيد الأول ، ومن شموله لزيد الثاني ، وهذا تعارض بين ظهورين فعليّين راجعين لدليل واحد ، والتعارض الثاني هو ، تعارض نشأ من العلم الإجمالي بين شمول العام الأول لزيد الثاني ، وشمول العام الثاني ، لزيد الثاني ، وهذا تعارض ثنائي بين دليلين فعليّين مستقلّين ، وبما أنّ مقتضى القاعدة في باب التعارض هو التساقط ، إذن ، فلا تكون دلالة العام الأول على وجوب إكرام زيد الأول حجة ، ولا تكون دلالة العام الثاني على وجوب إكرام زيد الثاني حجة ، ولا دلالة العام الآخر على وجوب السلام على زيد الثاني حجة ، لأنّ هذه الظهورات كلها فعليّة ، وقد حصل علم إجمالي بالتكاذب بينها ، فتتساقط ، هذا فيما إذا فرضنا أنّ المخصص كان منفصلا.

وأمّا إذا فرضنا انّ المخصص الإجمالي كان متصلا بالعام ، كما لو قال : «أكرم كل فقير ، ولا يجب إكرام زيد الفقير» ، وتردّد أمر زيد ، بين زيد الأول ، وزيد الثاني ، وعندنا عام آخر يقول : «ابدأ بالسلام على كلّ كبير». ونعلم انّ زيدا الثاني خارج عن أحد العامين ، حينئذ ، في مثله ، لا موجب لسقوط العام الثاني عن الحجيّة في زيد الثاني ، لأنّ طرف المعارضة معه ـ وهو العام الأول

١٨٧

ـ لم يستقر له ظهور فعلي في زيد الثاني ، لأنّ ابتلائه بالمخصص المتصل أوجب عدم انعقاد ظهور له فيه ، فأخرجه من تحته ، بينما العام الثاني ، استقر له ظهور فعلي في زيد الثاني ، إذن فظهورية العام الثاني محرزة في زيد الثاني ، بينما ظهورية العام الأول غير محرزة فيه ، وحينئذ ، إذا ثبت انّ العام الثاني شامل لزيد الثاني ، إذن ، سوف يثبت انّ زيدا الثاني هذا ، خارج عن العام الأول ، لأنّا نعلم إجمالا عدم دخوله تحت العامين معا ، وإذا خرج عن العام الأول ، إذن سوف يثبت دخول زيد الأول في العام الأول ، لأنّ إكرام زيد الأول كان مشروطا بعدم إكرام زيد الثاني ، وقد ارتفع هذا الشرط ، فارتفع المشروط ، وهو إكرام زيد الثاني ، فهو لا يجب إكرامه ، فثبت حكم العام الأول ، وهو وجوب إكرام زيد الأول على فرض الاتصال ، وإن كان لا يثبت على فرض الانفصال.

والخلاصة هي : أنّه إذا كان المخصص المجمل متصلا ، فالعام الثاني لا موجب لسقوطه عن الحجيّة في زيد الثاني ، لأنّ طرف المعارضة معه ـ وهو العام الأول ـ لم يستقر له ظهور فعلي في هذا الفرد ، وذلك لأنّ ابتلائه بالمخصص المتصل يوجب عدم انعقاد ظهور له فيه ، بينما العام الثاني ، استقر ظهوره فيه ، فيكون حجة فيه ، وهذا يعني ، انّ زيدا الثاني يجب السلام عليه ، إذن فقد خرج عن العام الأول ، وتعيّن أن يكون هو الخارج بالمخصص المتصل ، ومعه لا مانع من شمول العام الأول لزيد الأول ، فيثبت له حكمه في وجوب الإكرام.

وهذا المطلب ، له تطبيق في الفقه ، حيث نفرض انّ دليل اصالة الطهارة هو العام الأول ، ثم حصل عندنا علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، وحكم العقل بعدم جواز المخالة القطعيّة هو المخصص الإجمالي ، ونفرض في المقام ، إنّ أحد الطرفين مورد لاستصحاب الطهارة ، وهذا عام آخر ، فكأنّنا علمنا إجمالا بسقوط أحد أصلي الطهارة في العام الأول ، ونعلم إجمالا إما بخروج اصالة الطهارة من العام الأول ، وإمّا بخروجها من العام الثاني ـ أي من دليل الاستصحاب ـ لأنّ جريانهما معا مخالفة قطعيّة ، فاصالة الطهارة في

١٨٨

هذا الطرف ، تكون معارضة مع اصالة الطهارة في الطرف الآخر ، وتكون معارضة خارجا مع دليل الاستصحاب ، فلو فرضنا أنّ المخصص الإجمالي كان منفصلا ، حينئذ ، تسقط الثلاثة معا.

وأمّا إذا كان المخصص المجمل متصلا بالعام ، فحينئذ استصحاب الطهارة هنا ، يجري بلا معارض ، ومعه ، يمتنع جريان اصالة الطهارة هناك.

والحاصل هو أنّ ما قلناه عند كون المخصص المجمل متصلا له تطبيق في الفقه ، فنفرض انّ دليل اصالة الطهارة ، عام أول ، ثم نفرض علما إجماليا بنجاسة أحد الإناءين ، ثم نفرض كون أحد الطرفين موردا لاستصحاب الطهارة ، فيكون دليل الاستصحاب هو ، العام الآخر.

حينئذ يقال : لمّا كان هذا الفرد معلوم الطهارة سابقا ، إذن فيشمله دليل الاستصحاب ، وحينئذ ، نعلم انّه ليس فردا من عام «كل شيء لك طاهر» ، أي ليس فردا لفرد العلم بالتعارض بينهما فيه ، أي ليس فردا للعلم المفروض بأنّه إمّا داخل في هذا الدليل ، أو في ذاك ، لأنّ المفروض أنه ثبت كونه داخلا في هذا ، إذن فعلم خروجه من تحت ذاك ، وحينئذ ، يتعيّن أن يكون هذا الفرد فردا «لكل شيء لك طاهر» ، أي فردا للعام الآخر ، لثبوت انّ الخارج بالتخصيص إنّما هو الفرد السابق ، أي الفرد الذي كان معلوم الطهارة ، فشمله دليل الاستصحاب.

والخلاصة هي : إنّه إذا كان المخصّص المجمل متصلا بالعام ، فإنّنا نحكم في المثال المذكور ، يجريان استصحاب الطهارة في أحد الطرفين من دون أن يعارضه. قاعدة الطهارة في الطرف الآخر ، لكونه مجملا بالتعارض الداخلي الموجب لإجماله.

٣ ـ التنبيه الثالث : من تنبيهات الشبهة المفهومية ، هو في بيان الميزان الفني الذي به نعيّن. أنّ الدوران ، هل هو دوران بين الأقل والأكثر ، أو هو دوران بين المتباينين ، فهل الميزان فيهما ، المفهوم ، أو الصدق والمصداق خارجا؟

١٨٩

وقد اتضح مما قدمناه في الفروع الأربعة السابقة ، أنّ هناك فارقا بين موارد دوران المخصص المجمل بين الأقل والأكثر وبين موارد دورانه بين المتباينين ، وقد عرفنا أن لكل منهما حكم يختلف به عن الآخر.

ولكن الآن ، نبحث عن الميزان الفني الذي به نعيّن انّ الدوران هو دوران بين الأقل والأكثر ، أو دوران بين المتباينين ، وهل انّ الميزان بينهما ، هو المفهوم ، أو الميزان هو الصدق والمصداق الخارجي؟.

وتوضيح ذلك هو ، أنّ إجمال المخصص المفهومي يتصور على أنحاء.

١ ـ النحو الأول : هو أنّ إجمال المفهوم في المخصّص مرجعه إلى أنّ الخارج بالتخصيص يدور أمره بين المطلق والمقيّد ، يعني إنّنا نعلم بخروج مفهوم معيّن عن العام ، ويدور أمره بين أن يكون هذا المفهوم قد خرج بمطلقه ، أو انّه خرج بمقيّده ، ومثاله : «أكرم كل فقير ، ولا تكرم فساق الفقراء» ، ونفرض انّ كلمة «فاسق» ، أمرها مردّد بين فاعل الذنب مطلقا ، أو فاعل الذنب الكبير خاصة ، وهذا معناه ، انّ الخارج بالتخصيص مفهوم واحد بعينه ، وهو فاعل الذنب ، لكن فاعل الذنب مردّد بين أن يكون قد خرج بمطلقه ، أو بمقيّده ، أي فاعل خصوص الذنب الكبير.

وهذا النحو الأول ، يدخل في الأقل والأكثر ، لأنّ مرجعه إلى أنّ فاعل الذنب الكبير خارج يقينا ، وفاعل الصغيرة مشكوك في انه خرج أو لم يخرج ، إذن فالدوران بين الأقل والأكثر.

٢ ـ النحو الثاني : هو أن يكون المخصص المجمل مردد بين مفهومين متغايرين في عالم المفهوميّة ، وهذان المفهومان نسبتهما في الخارج هي ، التباين في مقام الصدق ، كما إذا قال : «أكرم كلّ فقير» ثم قال : «ولا تكرم الفقير المولى» ، وتردد معنى المولى ، بين الفقير القريب ، وبين العبد من الأقرباء غير الأحرار ، فالمخصص هنا ، أمره دائر بين مفهومين متباينين مفهوما ومصداقا ، وهذا يدخل في مورد الدوران بين المتباينين.

١٩٠

٣ ـ النحو الثالث : هو أن يكون المخصص المجمل مفهوما دائرا أمره بين مفهومين متباينين مفهوما ، لكن النسبة بينهما في مقام الصدق الخارجي هي ، العموم من وجه ، فلهما مادة اجتماع ، ولهما مادة افتراق ، كما إذا قال : «أكرم كلّ فقير ولا تكرم المولى من الفقراء» ، ثم تردد أمر المولى بين مفهومين متباينين في عالم المفهوميّة ، أحدهما ، الوصيّ ، والآخر ، العبد ، غايته : إنّا نفترض انّ بعض العبيد أقرباء ، وبعض الأقرباء عبيد ، حينئذ ، تكون النسبة بينهما. عموم من وجه ، فيدخلان في الدوران بين المتباينين.

٤ ـ النحو الرابع : هو أن يكون المخصص المجمل مفهوما دائرا أمره بين مفهومين متباينين في عالم المفهومية ، لكن في عالم الصدق الخارجي ، أحدهما أخصّ مطلقا من الآخر.

وهذا معناه : إنّا إذا لاحظنا هذا الإجمال على مستوى عالم المفهوم ، فالدوران يكون بين المتباينين ، لأنّ المفهومين متباينان.

وإذا لاحظنا هذا الإجمال على مستوى الأفراد الخارجية ، فالدوران يكون بين الأقل والأكثر ، لأنّ أحدهما أخصّ مطلقا من الآخر.

وفي هذا النحو نحتاج لبحث ، في أنّ هذا النحو الرابع ، هل يلحق بالدوران بين المتباينين ، أو انّه يلحق بالدوران بين الأقل والأكثر؟ ومثاله : فيما إذا ورد عام يقول : «أكرم كلّ جيرانك» ، ثم ورد مخصص ودار أمره بين أن يكون قد أخرج الكافر مطلقا ، أو خصوص غير المختون من الكفار ، وهذان المفهومان متباينان في عالم المفهوميّة ، لكن في عالم الصدق الخارجي ، أحدهما أخصّ مطلقا من الآخر ، لأنّ كلّ مسلم مختون ، والكافر بعضه مختون ، وبعضه الآخر غير مختون ، وهنا ، فغير المختون خارج على كل حال ، ويبقى المختون مشكوك في أمره.

وحينئذ يقع بحث ، في انّ هذا ، هل يلحق بالدوران بين المتباينين ، أو بالدوران بين الأقل والأكثر؟

١٩١

وحينئذ ، يمكن أن يقال : بأنّه يلحق بالدوران بين الأقل والأكثر ، وهذا يعني : أنّ الميزان في تشخيص نوع هذا الدوران هو ، عالم المصداق لا عالم المفهوم. ومتى ما كان في عالم المصداق ، أمره دائر بين الأقل والأكثر ، فينطبق عليه حكم الدوران بينهما ، حتى لو كان الدوران بينهما في عالم المفهوم دورانا بين المتباينين.

وتقريبه هو أن يقال : إنّ العام ناظر ابتداء إلى الأفراد ، فالمولى في عامه هذا ، يصب حكمه على كل فرد فرد ، الفقير المسلم ، والفقير الكافر ، المختون ، وغير المختون.

وحينئذ لا يجوز رفع اليد عن دلالة العام ، إلّا بمقدار ما علمنا بخروجه بالمخصص ، ومن الواضح ، إنّا علمنا بخروج الكافر غير المختون ، لأنه مصداق لكل من المفهومين ، فهو خارج على كلا التقديرين ، سواء كان المخصص يخرج عنوان الكافر ، أو عنوان غير المختون ، وأمّا الكافر المختون فهو إن كان يحتمل انطباق المخصص عليه ، لكن لا موجب لرفع اليد عن ظهور العام فيه لمجرد هذا الاحتمال.

وبتعبير آخر هو ، انه هنا لا نتمسك بهذا ولا ذاك من ناحية العلم الإجمالي بأنّه ، إمّا هذا خارج ، وإمّا ذاك ، وأمّا في المقام ، فنعلم بخروج أحدهما ، وهو الكافر غير المختون ، والشك البدوي إنّما هو في الكافر المختون ، وحينئذ ، نتمسك بالعام ، لإثبات حكمه للكافر المختون.

وهذا الكلام ، له علاقة بما سوف يأتي في الشبهة المصداقيّة ، فيما إذا دار أمر المخصّص بين مصداقين ، فإنّه هناك ، سوف يثار بحث من قبل المحقق النائيني «قده».

وحاصله : إنّ العام المخصّص ، هل يؤخذ نقيض الخاص في موضوع حجيّته ، أو لا يؤخذ ، كما لو قال : «أكرم كل فقير» ، ثم جاء مخصص ونفرضه منفصلا ، يقول : «لا تكرم فساق الفقراء» ، فهنا لا إشكال في انّ هذا المخصّص يهدم الحجية فقط ، وحينئذ ، هل يجعل موضوع العام ـ بعد هذا

١٩٢

التخصيص ـ مركبا من جزءين ، أحدهما الفقير ، والآخر نقيض الخاص ، وهو غير الفاسق ، فيصبح موضوع العام مركبا من جزءين بعد التخصيص؟ ، وهذا ما يعبّر عنه الميرزا «قده» ، «بأنّ العام يتعنون من ناحية الخاص».

وفي قبال هذا التعبير ، يقول المحقق العراقي «قده» ، بأنّ العام لا يتعنون ، فالعام بعد المخصص المنفصل ، لا يكون حجة لمورد المخصص ، لكن ليس معناه إنّ موضوع العام سوف يكون مركبا أي مقيّدا بغير الفاسق ، بل يبقى حكم العام على حاله ، فيبقى موضوع العام على حاله ، وهذا معناه ، انّ العام لا يتعنون ، غاية الأمر انّه بعد التخصيص لا يمكن إثبات حكمه لكل الأفراد ، وسوف يأتي توضيح هذا النزاع.

ونحن هنا إذا بنينا في تلك المسألة ، على ما ذهب إليه العراقي «قده» ، من انّ موضوع العام لا يتعنون ، ولا يتحول إلى مركب ، بل يبقى بسيطا ، حينئذ ، يكون هذا البيان المذكور في تمام الوضوح ، إذ من الواضح انّ العاقل يتعامل مع الأفراد ويصبّ حكمه عليها ، فينعقد له فيها ظهور في جميعها ، والمخصّص المنفصل في المقام ، لا يكون حجة ، إلّا فيما يتفق شموله له ، وما هو متيقّن شمول المخصّص المنفصل له ، إنّما هو «الكافر غير المختون» ، وأمّا «الكافر المختون» فغير متيقّن شمول المخصص له ، إذن فلا يرفع اليد عن العام بالنسبة للمشكوك خروجه من تحته. لأنه غير متيقن خروجه بالمخصص المنفصل. فيبقى ظهور العام فيه محفوظ.

وأمّا إذا بنينا على ما ذهب إليه المحقق النائيني «قده» ، وقلنا : إنّ العام بعد التخصيص يتحول من البساطة إلى التركيب ويصبح موضوعا مركبا من الفقير من الجيران. وغير الفاسق ، الذي هو نقيض موضوع الخاص.

وحينئذ يقال : إنّ خطاب «أكرم كلّ جيرانك» يتحول ـ بعد ورود المخصص الدائر أمره ، بين الكافر وغير المختون ـ ويصبح موضوعه مركبا من الفقير من الجيران ، ونقيض موضوع الخاص ، وهو ، إمّا الفقير غير الكافر ، وإمّا الكافر غير المختون.

١٩٣

إذن ، فمفهوم العام بعد التخصيص ، يصبح مرددا بين أن يكون هذا الخارج غير الكافر ، أو الكافر المختون ، إذن ، لا نحرز انطباقه على الكافر المختون.

وحينئذ قد يتوهم أنّ هذه المسألة مبنيّة على ذلك النزاع ، فإن قلنا بالأول ، أي انّ موضوع العام يبقى على بساطته ، إذن ، فالدوران يكون بين الأقل والأكثر ، وأمّا إذا قلنا إنّ العام يتحول ويصبح مركبا ، فيكون الدوران بين المتباينين ، ويكون موضوع العام غير محرز الانطباق على الفقير المختون ، إذن لا يصح التمسك بالعام لإثبات حكمه له.

لكن الصحيح هو إنّنا نتمسك بالعام على كلا التقديرين ، فيبقى الفقير الكافر المختون تحت العام على كل تقدير. وذلك لأنّ العام لو خلّي وطبعه فهو يدل على انّه ، لا عدم الكفر دخيل في حكمه ، ولا الختان دخيل في حكمه ، ولهذا يحكم بوجوب إكرام الفقير مطلقا قبل التخصيص ، إذ أنّ العام في نفسه له دلالتان ، الأولى ، هي أنّ عدم الكفر ليس دخيلا ، والثانية ، هي أنّ الختان ليس دخيلا ، فإذا انكشف بالمخصص انّ إحدى هاتين الدلالتين باطلة. وهي إمّا عدم الكفر له دخل ، وإمّا أنّ الختان له دخل.

وبعبارة أخرى ، إمّا الأخص دخيل ، وإمّا الأعم دخيل ، فحينئذ ، نسأل : إنّه هل يقع تعارض بين هاتين الدلالتين ، أو انّه لا يقع تعارض ، بل تسقط إحداهما بعينها دون الأخرى؟.

والصحيح هو الثاني ، وهو سقوط إحداهما بعينها ، لأنّ دلالة العام على أنّ الأخص ليس دخيلا في حكم العام ، لها أثر عملي ، وهو تعميم الحكم أكثر فأكثر ، ولكن دلالتها على أن الأعم ليس دخيل ، ليس لها أيّ أثر عملي إلّا المعارضة ، وكلّما تعارض دلالتان وكان لاحداهما أثر عملي دون الأخرى ، فتسقط ما ليس لها أثر عملي.

وهذا قانون عقلائي عام في باب الدلالات.

١٩٤

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الدلالة النافية للقيد الأعم لا يكون لها أثر عملي ، لأنه على أيّ حال ، العام لا يشمل موردها ، إمّا لأنه مقيّد بالأعم ، أو بما هو أسوأ منه ، وهو الأخص ، بخلاف الدلالة النافية للقيد الأخص وهو ، عدم الكفر ، فإنّ لها أثر عملي ، وهو إثبات حكم العام على الكافر المختون ، وحينئذ ، يكون المقام ملحقا بالدوران بين الأقل والأكثر.

ومنه يتضح ، انّ الميزان في كون الدوران بين الأقل والأكثر ، أو المتباينين ، إنّما يكون على ضوء حساب المصاديق لا المفاهيم ، وملاحظة الصدق الخارجي لا المفاهيم.

ولذلك نبني في مثل مثالنا ، على وجوب إكرام الكافر المختون.

وبهذا يتم الكلام في الشبهة المفهوميّة وفي تنبيهاتها.

القسم الثاني : الشبهة المصداقية

وهي ما إذا كان منشأ الإجمال في المخصّص هو الاشتباه في المصداق.

والكلام يتصوّر أيضا في فروع أربعة كما في الشبهة المفهومية ، لأنّه تارة ، تكون الشبهة في المخصّص المتصل ، وأخرى تكون في المخصص المنفصل ، وعلى كلا التقديرين ، تارة يكون مرجع الشبهة هو الشك بين الأقل والأكثر ، وأخرى يكون مرجعها إلى الشك بين المتباينين ، فهذه فروع أربعة.

١ ـ الفرع الأول : هو ما إذا كان المخصص المجمل مصداقا ، منفصلا ، وكان الشكّ في المصداق الزائد.

ولأجل هذا الفرع ، عقد الكلام في هذه الشبهة ، لأنّ ما يوازي هذا الفرع في الشبهة المفهوميّة هناك ، قلنا بجواز التمسك بالعام فيه ، لإثبات حكمه في الفرد المشكوك.

وهذا هو المورد الوحيد الذي قلنا بجواز التمسك فيه في مورد إجمال المخصص.

١٩٥

وحينئذ ، يقع البحث ، في انّه هنا في الشبهة المصداقيّة ، هل نتمسك بالعام في المصداق المشكوك الزائد ، كما فعلنا هناك في المخصّص المنفصل المجمل مفهوما والدائر أمره بين الأقل والأكثر ، أو لا؟ هذا هو محل الكلام الرئيسي.

وأمّا الفروع الأخرى ، فقد اتضح ممّا سبق انه لا يجوز التمسك بالعام في مورد إجمال المخصّص في الشبهة المفهوميّة فضلا عن المصداقية ، وإنّما جاز التمسك بالعام في مورد إجمال المخصص مفهوما. فيما إذا كان المخصص منفصلا ودار أمره بين الأقل والأكثر.

والخلاصة هي : انه في الفرع الأول يكون المخصص المجمل مصداقا ، منفصلا ، ودائرا أمره بين الأقل والأكثر.

وهذا الفرع ، لأجله عقد الكلام في هذه الشبهة ، لأنّا قلنا في الفرع الذي يوازيه في الشبهة المفهوميّة ، بجواز التمسك بالعام لإثبات حكمه في الفرد المشكوك ، فهل يكون الأمر في الشبهة المصداقيّة مثله ، عند ما يكون المخصص المجمل مصداقا منفصلا؟

بينما في بقية الفروع ، فقد عرفت عدم جواز التمسك بالعام فيها في الشبهة المفهوميّة ، فكذلك الحال فيما يوازيها في الشبهة المصداقية.

وسوف يقع الكلام في الفرع الأول بعد تماميّة بقيّة الفروع.

٢ ـ الفرع الثاني : وهو ما إذا كان المخصص المجمل مصداقا ، متصلا بالعام ، وكان أمره يدور بين الأقل والأكثر ، كما إذا ورد ، «أكرم كلّ فقير» ، ولا تكرم فسّاق الفقراء ، وكان مفهوم الفاسق معلوما ، إلّا انّه شكّ في زيد ، انه فاسق أو لا؟ ففي مثله ، لا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام كما عرفت في الشبهة المفهوميّة.

إلّا انّه يمكن هنا ، إثبات الحكم المشروط.

وهذا الأمر ، لم يكن ممكنا في الشبهة المفهوميّة ، لا لإثبات حكم فعلي ، ولا لإثبات حكم تقديري.

١٩٦

لكن هنا ، لو فرض انّ الشبهة مصداقيّة ، كما في المثال المذكور ، فهنا لا يجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب فعلي بإكرام «زيد» ، لكن يجوز أن نتمسك بالعام لإثبات وجوب إكرامه على تقدير أن لا يكون فاسقا ، بحيث يثبت بالعام وجوب مشروط ، هذا إذا كان لهذا الوجوب المشروط أثر ، كما لو فرض انّ الحكم كان من الأحكام التي يجب الاحتياط فيها عند الشك.

وهذا لم يكن ممكنا في الشبهة المفهوميّة.

٣ ـ الفرع الثالث : هو ما إذا كان المخصّص المجمل مصداقا متصلا بالعام ومرددا بين المتباينين ، كما إذا ورد ، «أكرم كلّ فقير» ، «ولا تكرم فسّاق الفقراء» ، وهناك فردان من الفقراء ، نعلم بفسق أحدهما ، وعدم فسق الآخر ، فدار الأمر بين المتباينين.

وهنا ، التمسك بالعام لإثبات وجوب الإكرام لكلا الفردين ، أو لإثبات وجوب إكرام لإحدهما بعنوانه التفصيلي ، واضح البطلان ، إذ انّ مثل هذا ، لم يكن ممكنا في الشبهة المفهوميّة كما تقدم ، فكيف في الشبهة المصداقيّة التي علم فيها بحدود المخصّص مفهوما ، وأمّا التمسك بالعام لإثبات حكمه لغير الفاسق منهما على إجماله ، فهو أمر صحيح ، باعتبار انّ أحدهما على إجماله فرد من العام يقينا ، وخارج عن المخصّص يقينا ، إذن فيكون العام حجة فيه ، فيثبت حكمه له.

وهنا لا نواجه تلك المشكلة التي واجهناها في الشبهة المفهوميّة ، لأنّه لا موضوع لها في الشبهة المصداقيّة ، لأنّ الخارج بالتخصيص فيها متيقّن دائما ، وهو من ينطبق عليه مفهوم الفاسق من هذين الفردين ، وهذان الفردان نعلم إجمالا بأنّ أحدهما مصداق للفاسق دون الآخر ، وحينئذ يكون غير الخارج متعينا ، إذن فكل من الخارج عن العام والداخل فيه متعيّن واقعا.

بينما في الشبهة المفهومية كنّا نواجه ، انّ الخارج بالمخصّص غير متعيّن في نفس الأمر والواقع ، وكنّا نتساءل هناك ، إنّنا نتمسك بالعام للحكم على ما ذا؟ وعند ما كان أحدهما غير متعيّن كان الآخر غير متعيّن أيضا في نفس الأمر والواقع.

١٩٧

بينما هنا ، الخارج متعيّن في نفس الأمر والواقع ، فغير الخارج متعيّن أيضا ، للعلم إجمالا ، بأنّ أحدهما مصداق للفاسق دون الآخر ، فلا يتصوّر عدم التعيّن هنا.

٤ ـ الفرع الرابع : هو ما إذا فرض انّ المخصص المجمل مصداقا كان منفصلا ، وكان أمره دائرا بين المتباينين ، وحينئذ نقول هنا : بأنّ التمسك بالعام لإثبات حكمه لكلا الفردين واضح البطلان ، كما انّ التمسك بالعام لإثبات حكمه لأحدهما بعنوانه التفصيلي ، واضح البطلان أيضا ، إذ لو بنينا في الفرع الأول ـ الذي سوف يأتي الكلام فيه ـ على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة مطلقا ، فالشبهة هنا مصداقيّة ، فيكون العام قاصرا حينئذ ، لقصور المقتضي ، فضلا عن إثبات الحكم للمصداق المشتبه.

وإن تنزّلنا هناك عن ذلك ، وقلنا بجواز التمسك بالعام في المصداقيّة ، فحينئذ نقول هنا ، ما قلناه هناك في الشبهة المفهوميّة ، من انّ التمسك في هذا الفرد بالخصوص ، ترجيح بلا مرجح ، والتمسك بالعام فيهما معا ، طرح للمخصّص المعلوم.

وأمّا التمسك بالعام لإثبات غير الفرد الخارج على إجماله ، فهو صحيح ، ولا يرد عليه تلك المشكلة ، وهي افتراض عدم التعيّن للخارج بالتخصيص ، بسبب تعارض الظهورين ، إذ بعد التعارض والتساقط لم يعد يوجد فرد أصلا ، بينما هنا لا تعارض بين الظهورين.

غاية الأمر هو ، أنّ العام لا مقتضي له للشمول ، كما سنذكره عند الكلام على الفرع الأول.

وهذا بخلافه في الشبهة المفهوميّة ، فإنّه في موارد التمسك بالعام في المخصّص المنفصل فيها ، كان المقتضي لشمول العام لهذه الموارد موجودا ، ولذا يقع التعارض بين شموله لهذا الفرد ، وشموله لذاك ، وحينئذ ، يسأل عن الفرد الداخل تحت العام بعد فرض تساقط ظهور العام فيهما بالتعارض ، وحينئذ ، ترد المشكلة ، وأمّا هنا فلا ترد ، وحينئذ ، يتمسّك بالعام لإثبات حكمه لغير الفرد الخارج.

١٩٨

إذن عمدة المسألة هو الفرع الأول ، ونتكلم فيه عبر صيغ.

١ ـ الصيغة الأولى : هي أن يقال بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، بنفس البيان الذي تقدم في الشبهة المفهوميّة ، فيما إذا كان المخصّص منفصلا ودار أمره بين الأقل والأكثر.

وحاصل هذه الصيغة هو ، أن يقال : انّ هذا المخصص المجمل مصداقا ، حيث انّه منفصل عن العام ، فلا يهدم ظهوره ، وعليه فالعام ظهوره فعلي في كل فرد من أفراده ، بما فيهم زيدا المشكوك فسقه ، كما تقدم في الأصل الموضوعي ، وهذا معناه ، إنّ المقتضي للشمول موجود ، وهو ظهور العام في كل أفراده ، بما فيها هذا الفرد المشكوك في فسقه ، وأمّا المانع فهو المخصّص ، والمخصّص لا يعقل أن يكون مانعا هنا ، لأنّه ليس حجة في زيد المشكوك فسقه ، لأنّ موضوع المخصّص هو الفاسق ، ونحن نشك في صدق هذا الموضوع على زيد ، ولا يعقل التمسك بدليل مع الشك في موضوعه ، وحينئذ ، لا يعقل حجيّة المخصص في زيد المشكوك ، وحينئذ ، لا يكون مانعا عن انطباق ما يكون حجة ، إذن ، فالمقتضي موجود ، والمانع مفقود ، وعليه ، يجوز التمسك بالعام لإثبات حكمه لهذا الفرد.

وفي مقام مناقشة هذا البيان ، يمكن أن يقال : إنّ ظهور العام وإن كان فعليا ، لكن المخصّص المنفصل يهدم الحجية وإن لم يهدم ظهور العام ، كما عرفت ، وهذا يعني : إنّ المخصص المنفصل يصنّف ظهور العام إلى ما هو حجة ، وإلى ما هو غير حجة ، والحجة منهما هو ، ما دلّ على وجوب إكرام العدول ، وغير الحجة هو ، الظهور الدال على وجوب إكرام الفساق.

وحينئذ نقول : إنّ ظهور العام في زيد المشكوك ، وإن كان موجودا ، لكن هذا الظهور هل هو داخل في الصنف الحجة ، أو في الصنف غير الحجة؟ إذن فهو ظهور لم تحرز حجيّته لتردّده بين الصنفين ، وهذا شبهة مصداقية لنفس حجية الظهور ، وحينئذ لا يمكن التمسك به لأنه غير معلوم الحجيّة.

١٩٩

٢ ـ الصيغة الثانية : هي أن يقال : بأنّ هذا التصنيف لظهور العام اعتباطي غير صحيح ، بل الصحيح هو ، أنّ العام ليس له ظهوران ، بل له ظهورات متعدّدة بعدد أفراده ، ومقتضى القاعدة ، حجيّة كل هذه الظهورات ، إلّا إذا قام علم أو علمي على كذب هذا الظهور.

وحينئذ يقال : بأنه لا يوجد علم أو علمي إلّا هذا المخصّص ، وهذا المخصّص يجب أن يقارن بظهورات الأفراد ، فبقدر ما يكذب منها. يسقط عن الحجية ، وما لا يعلم بتكذيبه يبقى على الحجية ، وهذا المخصص لا يعلم بهدمه لحجيّة ظهور العام في زيد المشكوك ، وإن احتمل ذلك ، فمجرد احتمال أن يكون المخصص مكذبا لهذا الظهور في زيد المشكوك لا يكفي ، إذن فنبقى على الجزم بظهور العام في الفرد المشكوك ، وحينئذ ، يجوز التمسك بالعام بالنسبة لهذا الفرد ، وبذلك نكون قد رجعنا إلى الصيغة الأولى ، وهي جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

٣ ـ الصيغة الثالثة : وهي أنّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، وهذه الدعوى منسوبة للمحقق النائيني (قده) (١).

وموجز هذه الدعوى هو ، أنّ العام له ظهورات بعدد أفراده ، والفرد الفقير المشكوك في فسقه هو من أفراده ، وظهور العام حجة فيه ما لم يقم حجة على الخلاف.

ونحن لو سلّمنا بأنّ العام له ظهورات بعدد أفراده ، ومنها الفرد المشكوك خروجه بالمخصص ، وانّ هذه الظهورات كلها حجة ما لم يقم حجة على الخلاف.

لكن هنا نسأل : بأنّه ما هو الوجوب الذي يراد إثباته بظهور العام في الفرد المشكوك؟ هل تريدون أن تثبتوا له وجوب إكرام على الإطلاق ، أي سواء كان عادلا ، أو فاسقا؟ أم انّكم تريدون بهذا ، إثبات وجوب مشروط

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ص ٤٥٩ ـ ٤٦٠.

٢٠٠