بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وأمّا انحلال المحذور الثاني ، لأنّ الاستيعاب الثاني أجزائي يطرأ على المستوعب الأفرادي ، ويكون سنخ أحدهما غير سنخ الآخر.

والخلاصة هي ، انّ أداة العموم إذا دخلت على المعرّف باللّام ، تدل على الاستيعاب الأجزائي ، كما ذكرنا ذلك في التمييز بين العموم المجموعي والعموم الاستغراقي ، وفي المقام ، أيضا تدل الأداة على الاستيعاب الأجزائي لمدخولها ، وهو الجمع المحلّى باللّام ، لأنّ الأفراد التي استوعبها الجمع المحلّى واستغرقها ، ببركة دخول اللّام عليه ، يصبح كل منها بمثابة جزء من ذلك المعنى الواحد ، وحينئذ ، تدل الأداة على استيعاب تمام تلك الأجزاء ، إذن فالاستيعاب المستفاد من الجمع المحلّى ، غير الاستيعاب المستفاد من أداة «كل» ، وبهذا لا يلزم المحذور الإثباتي ، وهو ، التكرار ، كما أنّه لا يلزم المحذور الثبوتي ، وهو دخول الأداة على الجمع المحلّى ، والمسمّى بقبول المماثل للمماثل ، أو المستغرق لاستغراق آخر.

ثم إنّ هناك وجوها أخرى نستعرضها يستدلّ بها لإثبات أنّ «الجمع المحلّى باللام» يدلّ على العموم ، ومن خلالها ، يتضح الحقيقة ، والمختار.

١ ـ الوجه الأول : هو صحة الاستثناء منه ، كما في قولك : «أكرم العلماء إلّا زيدا» ومعنى الاستثناء هو ، إخراج ما لو لا الاستثناء لدخل.

وحينئذ نقول : انّ هذا الفرد المستثنى ، والذي كان داخلا في معنى كلمة «العلماء» ، هل هو داخل في المدلول الوضعي للكلمة ، أم في المدلول الناشئ من مقدمات الحكمة والإطلاق ،؟ والثاني باطل ، فيتعيّن الأول.

وأمّا بطلان الثاني ، فلأنّ مقدمات الحكمة ، ترجع إلى مرحلة المدلول الاستعمالي ، وهذا يعني أنّ المستثنى داخل في المدلول الوضعي لكلمة «العلماء» ، وبه يثبت أنّ «الجمع المعرّف باللّام» موضوع للعموم ، لأنّ المدلول الإطلاقي الحكمي مدلول تصديقي جدّي لا يكون إلّا في موارد وجود الإرادة التصديقية ، بينما صحة الاستثناء هذا ، غير موقوف على ذلك.

والجواب عن هذا الوجه ، نقضا وحلا.

٦١

أمّا نقضا ، فيقال : بأنّ هذا الاستثناء كما يصح من «الجمع المعرّف باللام» ، فإنّه يصح من «المفرد المعرّف باللّام» ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) ولو تمّ ما ذكرتم ، لزم أن نلتزم بقول من قال : بأن المفرد المعرف باللام ، يدل على العموم وضعا ، ولا وجه للفرق بين الجمع المعرف باللام ، وبين المفرد المعرف بها. هذا أولا ، وللزم ثانيا مخالفة المشهور القائلين بعدم دلالة «المفرد المعرّف باللام» على العموم ، فإن ادّعي أن الوجدان يشهد على الفرق بين الاستثناءين. حيث انّ دلالة الاستثناء من المفرد على العموم تحتاج إلى عناية ، بينما دلالة الاستثناء من الجمع على العموم لا تحتاج إليها ، قلنا : أولا ، هذا قياس ، فلا ينبغي قياس أحدهما على الآخر. وثانيا ، ينقض عليهم بالجمع المضاف كما في قولهم : أكرم علماء البلد ، فإنه لا إشكال في صحة الاستثناء منه بلا عناية مع أن المشهور عدم دلالتها على العموم.

وأمّا ما يجاب عن الوجه الأول حلا فهو : إنّ الاستثناء وإن كان معناه إخراج ما كان داخلا لولاه ، إلّا أنّ الأمر لا يدور في الدخول ، بين الدخول تحت المدلول التصوري الوضعي للمستثنى منه ، أو المدلول الجدّي ، بل هناك شق ثالث ، وهو الدخول تحت المدلول الاستعمالي للجمع ، إذ أنه لا إشكال في أن كلمة «العلماء» ـ الجمع ـ يصح استعمالها في كل مرتبة من مراتب الجمع بتمامه ، بنحو يكون المراد ، كلا منها بتمامها وكمالها ، ولا مجاز في ذلك ، لأنّ الواضع عند ما وضع هيئة الجمع لما يزيد عن اثنين ، إنّما وضع هذا ، كعنوان مشير إلى واقع الكثرات ، وحينئذ ، تكون الثلاثة مصداقا لهذا العنوان بتمامه ، وهكذا تكون الأربعة والخمسة مصداقا له ، ويكون صدقه عليها على حد واحد.

وبناء عليه نقول : إذا قال المتكلم : «أكرم العلماء إلّا زيدا» ، فإنّنا نستكشف أنّ زيدا داخل في المراد الاستعمالي من العلماء ، أي أنّ غاية ما يلزم من صحة الاستثناء هو دخول المستثنى في المراد الاستعمالي من المستثنى منه ، وهو الجمع المحلّى ، فيكشف عن أنّه قد استعمله في العشرة

٦٢

المشتملة على المستثنى لا التسعة ، وهذا لا كلام في صحته وكونه استعمالا حقيقيا حتى عند المنكرين لدلالة الجمع على العموم.

لكن السؤال حينئذ هو ، هل انّه يوجد في الكلام ظهور يقتضي كون المراد الاستعمالي فيه هو العشرة؟ ولو كان لفظ العلماء موضوعا للعموم ، لتعيّن أن يكون المراد ذلك.

والخلاصة هي : إنّ الكلام إنّما هو في أنّه هل يتعيّن استعماله فيه كي يمكننا إثباته باصالة الحقيقة ، أو انّه لا يتعيّن فيه ، بل يمكن استعماله كذلك في الأقل ، إذن ، فصحة الاستثناء لا يبرهن إلّا على أنّ المستثنى كان داخلا في المراد الاستعمالي من المستثنى منه لو لا الاستثناء ، وهذا لا يدل إلّا على جواز استعمال اللفظ في العشرة حقيقة ، وهذا لا خلاف فيه ، وإنّما محل الخلاف ، في جواز استعماله في غيره حقيقة وعدم جواز ذلك ، ونحن نريد إثبات عدم جوازه في غيره إلّا مجازا ، وهذا لا يثبت بهذا البرهان ، فإنه يصح أن نقول : «أكرم علماء البلد إلّا زيدا» ، بلا عناية ، مع انّ لفظ علماء البلد ، «الجمع المضاف» لا دلالة فيه على العموم ، وهذا منبّه للوجدان ، إلى أنّ صحة الاستثناء لا تكون برهانا على وضع اللفظ للعموم.

الوجه الثاني : هو أنّه لا شكّ في دلالة قوله : «أكرم كل العلماء» على العموم ، ولو لا كلمة ، «كل» ، لكان ذلك موردا للنزاع ، وقد استدللنا به سابقا على نفي دلالة الجمع المعرّف على العموم.

وتقريب الاستدلال به على العموم هو ، أنّ «كل» ، إذا دخلت على المعرفة ، يكون مفادها الاستيعاب الأجزائي والتأكيد على أنّ الحكم ثابت لتمام أجزاء المدخول ، فهي لا تحدد ماهيّة أجزاء المدخول بحسب الوضع ، بل ماهيّته ، تتحدّد من قبل نفس المدلول الاستعمالي للفظ المدخول ، وهذا يعني : أنّ لفظ «العلماء» في المثال ، يدل بنفسه ضمنا على أنّ كل فرد من أفراد «العلماء» يشكل جزءا من مدخول «كل» ، وهذا معنى العموم.

وهذا الوجه يبطل نقضا وحلا.

٦٣

أمّا إبطاله نقضا : فبما تقدم في النقض على الوجه السابق ، من لزوم دعوى دلالة الجمع المضاف على العموم أيضا «علماء البلد» عند من يرى فرقا بينه وبين المعرّف الواقع مدخولا «لكل» ، «كل العلماء» فإنّ نفس هذا الدليل يجري فيه ، إذ لا إشكال في استفادة العموم منه عند دخول الأداة عليه ، كما في قولهم : «أكرم كل علماء البلد» ، حيث يدل على العموم الأجزائي ، لأنه حينئذ ، لا بدّ من افتراض أنّ كل فرد هو جزء من المدخول ، وهذا يعني ، أنّ «علماء البلد» وضع للدلالة على هذه الأفراد ، وهو معنى العموم.

أمّا إبطاله حلا ، فيكون بأحد طريقين :

١ ـ الطريق الأول : هو أن يقال بأنه صحيح أنّ «كل» التي تفيد العموم الأجزائي لا تضيف إلى مدخولها معنى جديدا ، بل تنظر إلى المعنى المستعمل فيه المدخول ، وتقول : إنّه أريد بتمام أجزائه. وفي المقام فإن المعنى المستعمل فيه المدخول ، معنى مرنا قابلا لأن يكون ثلاثة ، وأربعة ، وخمسة ، إلخ ... وبما أنّ «كل» لا تدل على أكثر من استيعاب تمام أفراد المرتبة المرادة من الجمع المعرّف ، كانت لا تدل على العموم إلّا إذا أريد من الجمع الواقع مدخولا لها ، المرتبة العليا ، وأمّا تعيينها بالخصوص من بين المراتب ، فهو يحتاج إلى دليل.

وقد يقال : بأنّ هناك قرينة تجعلنا نفهم العموم من الجمع في المقام ، وتلك القرينة هي دلالة الاقتضاء ، فإنّه لو كان المتكلم قد أتى «بكل» على ذلك النحو ، لزم اللغو ، لأنّ الإتيان بها حينئذ ، لا يفيد ثمرة معتدا بها عرفا في مقام إفادة المقصود ، إذ مع الإتيان بها ، نفهم أنّ هناك مرتبة من الجمع أرادها المتكلم ، ومع عدمه ، نفهم نفس المعنى لأنّها حسب الفرض لا تضيف معنى جديدا.

إذن كي لا يلزم اللّغوية ، يكون الإتيان بها من المتكلم قرينة على أنّ غرضه إرادة المرتبة العليا ، وبذلك يتحصل معنى العموم.

والخلاصة هي : انّ استفادة العموم عند دخول الأداة ، إنّما يكون بدلالة

٦٤

الاقتضاء التي هي من الدلالات العرفية ، فإنّ استعمال الأداة مع عدم إرادة العموم ، يكون باللغو أشبه عرفا.

٢ ـ الطريق الثاني : هو أنّ الجمع المعرّف ، له مدلول استعمالي ، وهو متعيّن في مرتبة من مراتب الجمع ، ومدلول وضعي ، وهو غير متعيّن ، لأنّه معنى مرن قابل للتعيين في كل موارد الكثرة.

وحينئذ نقول : إنّ «كل» ، إن كانت موضوعة لاستيعاب تمام أجزاء المراد الاستعمالي ، فالإشكال يكون واردا ، وهو أنّها تابعة لمدخولها ، فيجب معرفة المراد منه قبلا لتستوعبه بتمامه ، وإن كانت موضوعة لاستيعاب أجزاء تمام ما يمكن أن يكون جزءا للمدلول الوضعي للمدخول ، فحينئذ ، كل ما يمكن كونه جزءا من المدلول واحتمل دخله ، يثبت له الحكم ، فالرابع مثلا ، يمكن كونه جزءا من المدلول ، لإمكان تعيّن المدلول الوضعي في أربعة ، وكذلك الخامس ، لإمكان تعيّنه في خمسة ، وهكذا.

وبناء عليه : يثبت دلالة «كل» على العموم بنفسها ، بلا حاجة إلى قرينة خارجية وبلا حاجة إلى افتراض أنّ المدخول دال على أعلى المراتب.

وبهذا البيان : نستطيع تفسير استفادة العموم من الجمع المحلّى عند دخول الأداة عليه ، حتى في موارد عدم وجود إرادة استعمالية في الكلام ، بخلافه على البيان السابق.

٣ ـ الوجه الثالث : وهو محاولة تكميل وتصحيح المسلك الثاني المتقدم في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم ، وحاصله : انّه لا إشكال في دلالة اللام عرفا على التعيين وكما يذهب علماء العربية إلى ذلك أيضا ، إذن فلا بدّ وأن يكون مفاد مدخولها متعيّنا بنحو من أنحاء التعيين ، فإن لم يكن عهد في البين ، فإنها تحمل على التعيين الجنسي أو النوعي ، وإن كان عهد ذهني أو خارجي أو ذكري حملت عليه.

وهذا الحال ثابت فيها حتى مع دخولها على الجمع ، حيث انّها لا تنسلخ عن مفادها.

٦٥

ومن هنا ، فهي تدل على التعيين عند دخولها على الجمع ـ علماء ـ. وهذا التعيين المحتمل في مورد دخول اللام على الجمع يتصور بأحد أنحاء.

١ ـ النحو الأول : هو أن يكون عهديا ، وهذا التعيين معقول في نفسه ، وفي كل مورد يكون هناك عهد كما لو كان هناك علماء معهودين ، لا إشكال في عدم دلالته على العموم ، إذن فعدم التعيين العهدي يؤخذ كأصل في موضوع دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم كمصادرة على المطلوب.

٢ ـ النحو الثاني : هو ان يكون تعيينا جنسيا : وهذا النحو وإن كان معقولا في نفسه ومحتمل أيضا. لكن هناك قرينة نوعية قائمة على خلافه ، وذلك لأن هيئة الجمع غالبا ما تلحظ آلة لإرادة ذوات الأفراد لا عنوان الجمع والجماعة ، ولذلك قلنا إن الأصل في العموم الاستغراقية ولذا قلنا باستفادة الاستغراقية من الجمع المحلّى باللام بناء على استفادة العموم منها ، وهذه الحالة الجمعية تسقط في المراد الجدي ، فيسقط الاحتمال.

٣ ـ النحو الثالث : وهو تعيين لا ينفع اللغوي ، وإنّما ينفع الفقيه ، حيث يعرف به الحكم.

وهذا التعيين بالنتيجة تعيين بدلي للكلّي لا يفيد تعيينا في مرحلة مدلول الكلام ، لأنّ الإطلاق البدلي لا يضيف نحوا من التعيين إلى الماهية ، لا في مرحلة تقرّرها الذهني ، ولا في مرحلة انطباقها الخارجي على مصاديقها ، وإنما هو تعيين أصولي وليس عرفيا ، لأنّ البدليّة لا تقتضي تعيينا في مرحلة انطباقها الخارجي على مصاديقها ، ولا في مرحلة تقررها الماهوي ، حيث لا تضيف شيئا ماهويا إلى المعنى كما عرفت. وإذا انتفت هذه الاحتمالات الثلاث تعيّن النحو الرابع.

٤ ـ النحو الرابع : وهو تعيين كون «اللام» الداخلة على الجمع ، دالة على العموم والاستغراق.

وبعد استبعاد الاحتمالات الثلاثة ، بتعيّن الاحتمال الرابع ، فيدل دخول

٦٦

«اللام» على الجمع ، على إرادة المرتبة المتعيّنة صدقا من مدلول المادة ، كما هي في الاحتمال الرابع لأنّ أيّ مرتبة أخرى غيرها ، لا تكون متعيّنة.

لكن هذا الوجه غير تام أيضا في إثبات العموم ، لأنّه وإن كانت «اللام» تدل على التعيين الصدقي ، لكن هل هذا يكفي في إثبات العموم المطلوب بالوضع؟ أم أنّه لا بدّ من قرينة أخرى تثبت ذلك؟

وبيان ذلك هو ، أنّه لو قال المولى : «أكرم العلماء» ، فإنّه بمقتضى القول بدلالة «اللام» على التعيين ، نعرف انّه ليس المراد نصف العلماء ، ولا ثلثهم ونحوه ، إذ لو أريد ذلك لسألنا حينئذ انّه أيّ نصف أو ثلث أريد؟

ومن الواضح أنّ هذا خلاف التعيين ، لأنّ التعيين يقتضي إرادة تمام الأفراد.

ثمّ نسأل ثانية ، هل أراد تمام أفراد الطبيعة بلا قيد ، أو أنّه أرادها ضمن حصة خاصة مقيدة بها؟

قد يقال بأنّ كلتا الحصتين من الطبيعة معقول ومحفوظ فيه التعيين ، ولكن «اللام» لا تعيّن أحدهما ، إلّا أن يدّعى أنّ «اللام» تدل على استغراق المطلق من مدخولها ، ولكن هذا أمر إضافي ، لا بدّ له من دليل ، ونفس «اللام» لا تقتضيه.

إذن ، بعد دلالة «اللام» على التعيين وتردّده بين المطلق والمقيّد ، تأتي مقدمات الحكمة ، وتثبت أنّه المطلق.

وهكذا يكون العموم استفيد تلفيقا من «اللام» ومقدمات الحكمة.

وإن شئت قلت : إنّ غاية ما يثبت بهذا الوجه هو ، دلالة «اللام» على استيعاب الطبيعة للمرتبة المستوعبة من الأفراد ، باعتبارها هي المتعيّنة صدقا ، ولكن السؤال هو ، هل أنّ الطبيعة المستوعبة ، هي الطبيعة المطلقة ، أو المقيدة منها؟

ومن الواضح ، انّ «اللام» لا يمكنها أن تعيّن واحدة منهما ، لأنه كما

٦٧

تكون جميع أفراد الطبيعة المطلقة متعيّنة صدقا ، كذلك جميع أفراد الطبيعة المقيّدة تكون متعيّنة صدقا.

وبناء على هذا ، فإننا نحتاج إلى دال آخر لإثبات كون الطبيعة المستوعبة المستغرقة هي المطلقة لا المقيدة ، لأنّ «اللام» الدالة على التعيين لا تقتضي إلّا نفي احتمال كون المستوعب بعض أفراد الطبيعة المطلقة.

إذن فكل قيد يطرأ على طبيعة العالم ، يكون مقيدا للمقدمات ، وليس تصرفا في مدلول «اللام».

وعليه يكون نتيجة تقييد المعرّف «باللام» ، كنتيجة تقييد المطلقات ، أي انّ القيد يعرض على المقدمات وليس على الدلالة الوضعية للكلمة ، ولذا نشعر وجدانا أنّ تقييد «أكرم كل عالم» ، فيه عناية أكبر من العناية الموجودة في تقييد «أكرم العلماء» ، مع انّه لو كانت دلالة كل منهما على العموم بالوضع ، لاحتاج الفرق إلى تفسير ، بينما على ما ذكرنا ، فإنّ العموم المستفاد من «اللام» تدخل في مقدمات الحكمة ، والعناية في تقييدها ، أخف مئونة من تقييد العموم المستفاد من «كل» لأنّه بالوضع.

وزيادة في توضيح دفع الوجه الثالث المتقدم نقول : إنّه لا إشكال في ان الجمع له مراتب وهذه المراتب تمثل كثرات متغايرة ، بعضها أكبر من بعض ، وكل كثرة من هذه الكثرات لها محدّد به يكون قوامها ، وهذا المحدّد على قسمين ، محددات كميّة ، ومحددات نوعية. أمّا المحدد الأول : فنريد به الكثرة التي تكون محددة بعدد صحيح أو كسري ، مثل سبعة ، وثمانية ، وعشرة ، وثلث ، وربع ونصف ونحوها ، وأمّا المحدّد الثاني : فنريد به ، الكثرة المنتسبة إلى فئة خاصة ، كالعلماء العدول ، والعلماء الفقهاء ، والعلماء المؤلفين ونحو ذلك. وحينئذ ، بعد هذا نقول : إن هيئة الجمع موضوعة لمعنى اسمي ، هو هذه الكثرات ، لكن وضعها لذلك يتصور على نحوين :

أ ـ النحو الأول : هو أنها موضوعة لها بنحو لا تكون دالة على ما به تتحدد كل كثرة ، أي أنها موضوعة للقدر المشترك بين هذه الكثرات ، وحينئذ ، لو أريد كثرة بعينها لزم أن يكون حدّها الكمّي أو النوعي مبينا بدال آخر.

٦٨

ب ـ النحو الثاني : هو أنها موضوعة لها بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص ، فيتصوّر الواضع الجامع بينها ثمّ يجعله مشيرا إلى واقع هذه الكثرات بحدودها الذاتية التي يتميز بها كلّ كثرة عن الأخرى ، ووضع الهيئة لأشخاص تلك الكثرات ، وحينئذ تكون كلّ كثرة بحدها الكمّي أو النوعي مدلولا للهيئة على نحو البدل ، كالمشترك اللفظي ، غاية الأمر انّه يختلف عن المشترك اللفظي بأنّه بوضع واحد ، بينما المشترك اللفظي بوضعين ، كما ذكرنا سابقا ، وهذه ميزة هذا القسم من الوضع ، وعليه يكون استعمال هيئة الجمع في كلّ كثرة بحدّها صحيحا وحقيقة.

وبناء على القسم الثاني ، فإنّ كلمة «علماء» يصح استعمالها في أيّ كثرة ، فيجوز للمستعمل لها ، أن يقول : إني أردت الكثرة الفلانيّة ، ويكون ذلك صحيحا ولا اعتراض عليه ، نعم يكون مجملا في مقام التفهيم والتفهم لو قال : «أكرم علماء» ، وسكت ، ولكن لو أدخل «اللام» فقال : «أكرم العلماء» ، فحينئذ نقول : إنّه لا بدّ وأن يكون قد أراد كثرة محدّدة ، لكن تلك الكثرة ، لو كان حدّها كميّا لا تكون ذات تعيّن صدقي ، حتى لو صرّح به المتكلم فقال : أردت سبعة مثلا ، لأنّه لا ندري أيّ سبعة أراد ، إذ أنّ السبعة قابلة للصدق على سبعات متعددة ، بينما لو كان حدّها نوعيا فحينئذ ، تكون متعيّنة صدقا. لأنّها تستوعب تمام الأفراد ، سواء أكان باعتبار أصل الطبيعة ، ويسمّى بالاستغراق الكامل ، أم كان باعتبار صفة من الصفات الطارئة عليها ، «كالعدالة» ، فإنّ هذا المحدّد متعيّن الصدق خارجا ، وحينئذ الكثرة ، مدخول «اللام» الدالة على التعيين ، لم يرد منها كثرة محدّدها كميا ، أي ، «كثرة متناهية» ، بل أريد منها كثرة محدّدها نوعيا ، أي ، «كثرة غير متناهية» ، وهذه يعبّر عنها أصوليا بالاستغراق.

ولمّا كانت الحدود النوعيّة متعدّدة ، حينئذ نسأل : إنّه أيّ كثرة محدّدة نوعيا أرادها المتكلم؟

والجواب : إنّ «اللام» تثبت التعين ، والتعين الصدقي موجود في جميع

٦٩

الكثرات المحدّدة نوعيا ، لأنّ أيّ مرتبة منها إذا علمناها ، تكون متعيّنة صدقا.

لكن أيّا منها أريد ، فهذا أمر غير متعيّن فيها جميعا ، حتى في مرتبة الاستغراق المطلق ، لأنّه لا دليل يدل على ذلك.

وهذا يعني ، أنّ دلالة «اللام» على التعين لا تفيد العموم ، بل نحتاج في إثبات دلالتها على العموم إلى دال آخر ، سواء أكان مقدمات الحكمة أم غيرها.

٤ ـ الوجه الرابع : هو أنّه لا إشكال في فهم الفقيه ، العموم ، من مثل ، «أكرم العلماء» ، ولذا يفتي بوجوب الإكرام على نحو الموجبة الكلية.

ولكن الكلام في مدرك هذا العموم المفهوم ، فهل هو ، لأنّ الجمع المعرّف موضوع للعموم؟

وهذا يعني أنّ العموم يكون مدلولا لفظيا للكلام ، بحيث انّ لفظ «العلماء» لو استعمل في غير العموم ، كان مجازا ، أم أنّ المدرك هو ، مقدمات الحكمة ، ويكون العموم مدلولا جدّيا للكلام؟ ، لأنّ مقدمات الحكمة تنظر إلى المراد الجدي.

وبناء عليه لا يكون استعمال لفظ «العلماء» في الخصوص مجازا لعدم أخذ العموم في المدلول الوضعي.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو ، هل أنّ مقدمات الحكمة تصلح أن تفسّر لنا استفادة العموم من لفظ «العلماء» أم لا تصلح؟.

وعلى الأول ، تبقى المسألة مجملة.

وعلى الثاني ، يتعيّن كون المدرك لهذا الانفهام هو الوضع.

وقد ذكر لنفي صلاحيّة مقدمات الحكمة لإثبات العموم تقريبان (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ٢ ص ٤٤٦ ـ ٤٤٧.

٧٠

١ ـ التقريب الأول : هو أنّنا قد بيّنّا في صدر البحث ، أنّ هناك فرقا بين العموم المستفاد من الأداة ، وبين العموم المستفاد من مقدمات الحكمة مع اشتراكهما في سراية الحكم إلى تمام الأفراد ، وذلك الفرق هو أنّه في المطلقات ، مثل ، «أكرم العالم» ، المنظور إليه في مرحلة اللفظ. هو نفس الطبيعة ، ومقدمات الحكمة تنفي القيود عنها ، ثمّ إنّ ذلك الحكم المتعلق بها يسري منها إلى الأفراد ، لأنّ انطباقها عليها ضروري.

بينما في العمومات الوضعيّة ، مثل ، «أكرم كلّ عالم» ، المنظور إليه في مرحلة اللفظ هو نفس الأفراد ، بمعنى أنّ المتكلم قد حشرها تحت المدلول اللفظي للكلام ، ثم صبّ الحكم عليهم.

وبناء على هذا نقول : إنّه في المقام ، لو قال المولى ، «أكرم علماء» ، فإنّ مفاد الجمع هنا ، جماعة لا بشرط من حيث سائر الحصص. وهذا قد يلحقه تنوين التنكير ، وبعد دخول «اللام» ، يصير معرفة نحويا.

وحينئذ ، لو بقينا نحن ومقدمات الحكمة ، فإنّها غاية ما تثبت لنا هو ، عين ما تثبته في قولنا : «أكرم العالم» ، حيث أنّ لفظ «علماء» لم يضف إليها قيدا أصلا ، ولا يمكن أن ترينا الأفراد بتمامهم ولو بنحو إجمالي ، وإنّما ترينا عنوانا ، ولكن من باب أنّه بلا قيد ، فإنه ينطبق على تمام الأفراد.

بينما الوجدان ، قاض بخلاف ذلك ، حيث انّه في قولنا : «أكرم العلماء» ، نرى الأفراد بصورة إجماليّة ، وكم فرق ، بين «أكرم العلماء» ، وبين «أكرم العالم» ، إذ في الثاني ، الحكم انصبّ على الطبيعة ثم سرى منها إلى الأفراد ، بينما في الأول ، الحكم انصبّ على الأفراد مباشرة.

وهذا لا يمكن تفسيره على أساس مقدمات الحكمة ، إذن فينبغي تفسيره على أساس الوضع.

وهذا الوجه يمكن الإجابة عليه نقضا وحلا.

أمّا نقضا ، فإنكم إن كنتم لا تقولون بدلالة الجمع المضاف على

٧١

العموم ، فإنّ نفس الكلام يجري هنا فيه ، فإنّ العموم هنا لو كان بمقدمات الحكمة ، لكان قولنا : «أكرم علماء البلد» ، من قبيل قولنا : «أكرم عالم البلد» ، والمنظور إليه حينئذ طبيعة الجمع ، والمقدمات تنفي القيد ويسري الحكم حينئذ إلى تمام الأفراد عن طريق الانحلال ، بينما الوجدان قاض بأنّه في قولنا : «أكرم علماء البلد» ، يستحضر القائل الأفراد ، ثم يحكم.

إذن لا مورد لمقدمات الحكمة.

وأمّا الإجابة عنه حلا : فإنّه بناء على ما حقّقناه سابقا من دلالة «اللام» على التعيين ، يكون تفسير هذه الظاهرة واضحا ، وذلك لأنّ دلالة «اللام» على التعيين تقتضي الاستغراق ، أي كثرة ذات محدّد نوعي ، لا كمّي ـ وإن كانت لا تثبت ماهيّة ذلك المحدّد النوعي ـ وذلك لأنّ هذه الكثرة لها تعيّن صدقي ، وكلّ كثرة من هذا القبيل ، لها ذلك التعيّن ، ولذا لا يختلف حال أيّ محدّد نوعي عن محدّد نوعي آخر ، وتبقى «اللام» حياديّة من ناحية تعيّن شخصيّة ذلك المحدّد النوعي ، وحينئذ لو فرض أنّه وجدت قرينة نسمّيها مقدمات الحكمة ، ودلّت على أنّ ذلك المحدّد النوعي ، هو أوسع المحدّدات ، فنضم دلالة «اللام» على الاستغراق إلى القرينة المعيّنة والمشخّصة للمحدّد النوعي ، فيتكوّن لدينا رؤية لجميع الأفراد بنحو الإجمال.

ومن هنا ، لا يقاس «أكرم عالم» ، على «أكرم العلماء» ، فإنّ الأول تعلّق الحكم فيه بالطبيعة ولا نظر له في مرحلة الكلام إلى الأفراد ، ولذا لا دال عليها.

بينما الثاني ، الحكم فيه تعلّق بتمام الأفراد لوجود دليل وضعي يدل على الاستغراق ، لكنه مهمل من ناحية حدّه النوعي ، ودليل آخر عرفي ، بشخص ذلك المحدّد النوعي ، وحينئذ فسوف تتكوّن لدينا نظرة إجمالية إلى تمام الأفراد في مرحلة الكلام.

وهذا سر الوجدان الذي نشعر به بالفرق ، ولا حاجة معه لفرض أنّ «اللام» موضوعة مباشرة للعموم.

٧٢

لكن يبقى سؤال وهو ، أنّه ما هي تلك القرينة الحكمية التي تثبت أنّ المحدّد النوعي هو أوسع المحدّدات دون غيره.

٢ ـ التقريب الثاني : ومرجعه إلى إنكار جريان مقدمات الحكمة في المقام ، حتى بالنحو الذي تجري فيه في مثل أحلّ الله البيع.

وبيانه مبنيّ على ما تقدم ، من أنّ هيئة الجمع موضوعة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص ، يعني أنّ الموضوع له هو كلّ كثرة كثرة من الكثرات المتغايرة بالمحدّدات النوعية والكمية ، وبناء عليه ، لو فرضنا ، أنّ لفظ «العلماء» في قولنا : «أكرم العلماء» ، لا دلالة فيه على العموم ، فحينئذ نبقى مردّدين بين إرادة هذه الكثرة ذات المحدّد النوعي الأضيق ، وبين إرادة تلك الكثرة ذات المحدّد النوعي الأوسع ، وهذا يصير من باب الإجمال اللفظي ، لأنّ استعمال اللفظ في كلّ منها على نحو الحقيقة ، ويكون من قبيل المشترك اللفظي إذا استعمل في أحد معنييه دون قرينة معينة لذلك ، ومجرد ذلك لا يعني أنّه استعمل في المعنى الأوسع ، ومقدمات الحكمة لا تجري حينئذ لأنّه ليس من شأنها تعيين أحد معنيي المشترك.

بينما لا إشكال في استفادة الإطلاق ، ولا منشأ لذلك إلّا كون الجمع المعرّف «باللام» موضوعا للعموم.

والجواب عن هذا الوجه هو ، أنّه في الوضع العام والموضوع له الخاص ، يحتاج دائما إلى أن يتصور الواضع عند الوضع عنوانا كليا يجعله مرآة وحاكيا عن الأفراد ، ويضع بواسطته اللفظ لها ، وهذا العنوان الكلّي المتصوّر على قسمين :

أ ـ القسم الأول : هو أنّه تارة يكون بنفسه مصداقا لنفسه.

ب ـ القسم الثاني : هو أن لا يكون كذلك ، وهذا ليس بأمر غريب ، فقد تقدّم في المنطق ، انّ بعض المفاهيم تكون بنفسها مصداقا لنفسها ، كمفهوم الكلّي ، فإنّه بنفسه كلّي ومصداق لنفسه.

٧٣

وبعض المفاهيم ليس كذلك ، كمفهوم الجزئي ، فإنّه ليس جزئيا ، أي ليس مصداقا لنفسه.

وعند ما لا يكون ذلك العنوان الكلّي مصداقا بنفسه لنفسه ، فاللفظ الموضوع له ، يجب استعماله في الأفراد ولا يجوز استعماله في الكلّي ، لأنّ اللفظ وضع لأفراده ، وهو ليس من أفراد نفسه ، ومثاله ، «الحرف» ، فإنّه موضوع «للنسبة» ، بالوضع العام والموضوع له الخاص ، ونفس مفهوم «النسبة» ليس مصداقا بنفسه لنفسه ، ولذا نعبّر عنه «بالاسم» ، فكلمة «في» لا يصحّ استعمالها في مفهوم «النسبة الظرفية» لأنها موضوعة لأفرادها ، ونفس النسبة الظرفيّة ليست من أفراد نفسها.

وأمّا إذا كان ذلك العنوان الكلّي مصداقا بنفسه لنفسه ، كما لو وضعنا لفظا للكلّيات بتوسط الكلي ، فبما أنّ الكلّي هو أحد الكليّات ، فحينئذ ، يصح استعمال اللفظ في نفس مفهوم الكلّي.

ومن هنا نخلص إلى قاعدة مفادها : إنّه في موارد القسم الثالث من الوضع لا بدّ من تصور عنوان كلي يشير به الواضع إلى الأفراد ، وهذا العنوان ، إن كان بنفسه فردا لنفسه ، فإنّه يصح حينئذ استعمال اللفظ الموضوع فيه ، بل يكون هو المنصرف من اللفظ ، باعتبار أنّ العلقة الوضعيّة وإن تحققت في غيره من الأفراد ، لكنّها في هذا الفرد لها وجه تأكد في الجملة ، وهي به أحق ، وإلّا لم يصح.

وإذا أردنا تطبيق ذلك في المقام نقول : إنّه لو سلّمنا أنّ هيئة الجمع موضوعة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص ، فإنّ الواضع احتاج عند الوضع إلى تصور مفهوم كلّي يشير به إلى الكثرات المتعدّدة ، وهذا المفهوم ، هو نفس مفهوم الجمع والكثرة ، ومفهوم الجمع ، جمع ، أي إنّه يصح استعمال اللفظ الموضوع فيه ، لأنّه يصح أن يكون مصداقا بنفسه لنفسه ، بل يكون هو المنصرف من اللفظ ، وحينئذ ، فإذا قيل «أكرم العلماء» ، يحمل ذلك على كلّي الجمع ، لأنّه أحد أفراد نفسه التي وضع اللفظ لها ، وحينئذ لا مانع

٧٤

من جريان مقدمات الحكمة لنفي القيود الزائدة ، وإثبات أنّ هذا الكلّي وقع موضوعا للحكم على إطلاقه كما تجري في كلّي البيع إذا وقع موضوعا للحكم بالحليّة.

وكنّا قد ذكرنا في آخر التقريب الأول من الوجه الرابع ، أنّه بقي سؤال ، مفاده هو ، أنّه ما هي تلك القرينة الحكميّة التي تثبت أنّ المحدّد النوعي هو أوسع المحدّدات دون غيره؟.

وهنا ، نعطي الجواب عن هذا السؤال فنقول : إنّ مفاد الجمع على ما بينّا سابقا ، هو كلّي الكثرة القابلة للتعيين في أيّ حد ، ووظيفة مقدمات الحكمة ، هي نفي الحدود ، لكن تارة ، يكون نفي الحدود عن ذوات الأفراد المتكوّن منها الكثرة ، وأخرى يكون نفيها ، عن نفس الكثرة بما هي.

والأول : مرجعه إلى نفي لحاظ الأوصاف والخصوصيّات الطارئة على الفرد ، وحينئذ فإنّ غاية ما ينتج إجراء مقدمات الحكمة هو ، إطلاق الأحول بالنسبة إلى هذه الأفراد ، وهذا لا يعطينا نظرة أشمل للأفراد ، بل يعطينا نحو تعرية لها من القيود.

ومن هنا ، نشأ الإشكال.

والثاني ، مرجعه إلى نفي القيود ـ وهي المحدّدات الكميّة والنوعية ـ عن الكثرة ، وهذا يعني ، أنّ الكثرة التي تشكل موضوعا للحكم في مقام الإثبات ، لم يؤخذ معها محدّد من المحدّدات ، إلّا ذات مدلول المادة.

فمثلا لفظ «العلماء» ، لا يمكن شموله ـ «للجهال» ـ وبمقتضى اصالة التطابق بين مقامي الثبوت ، والإثبات ، يثبت أنّ المحدّد المأخوذ في مقام الثبوت وهو «العلم» في المثال ، أي المحدّد النوعي الذي هو أوسع المحددات النوعية أيضا هو مدلول المادة فقط ، وهذا معناه ، الاستغراق.

إذن أيّ محدّد آخر يزيد على ذلك هو ، منفيّ بمقدمات الحكمة واصالة التطابق ، ولذا نرى كثرة ، محدّدها «العالميّة» ـ في المثال ـ فقط ، وهي كثرة استغراقيّة ، وهكذا تثبت المقدمات الرؤية الأوسع للأفراد.

٧٥

وبهذا ، تتضح نكتة رؤيتنا للأفراد ، حتى في غير مورد ثبوت «اللام» ، كما في الجمع المضاف ، مثل ، «أكرم علماء البلد».

والخلاصة : هي أنّ البرهان على وضع «اللام» للعموم ابتداء أو بتوسط التعيين ، إمّا لمّيّ ، كتصريح الواضع ، وإمّا إنّيّ ، وهو أن يكون عندنا وجدان بدلالتها على ذلك ، ولا نستطيع تفسيره ، إلّا على أساس الوضع.

لكن قد عرفت ، انّ هذا الوجدان يمكن تفسيره على أساس مقدمات الحكمة ، إذن فدلالتها على العموم ، لم تكن لوضعها له ، حيث انّه لم يثبت وضعها له ، لا ابتداء ، ولا بتوسط دلالتها على التعيين ، بل لعلّه من المطمئن به هو عدم كلام الأمرين.

أمّا دلالتها عليه وضعا بتوسط دلالتها على التعيين ، وذلك بأن يراد من التعيين ، التعيين الصدقي ، ولا تعيين صدقي إلّا بالاستغراق.

فيرد عليه ، مضافا إلى ما ذكرنا ، من أنّ هذا يثبت الاستغراق ، لكنّه لا يثبت الحدّ النوعي لهذا الاستغراق ، فنحتاج إلى قرينة تثبت أنّ التعيين لا ينحصر بالتعيين الصدقي ، بل التعيين الذهني والتعيين الجنسي كلّ منهما معقول في الجمع المعرّف ، كالمفرد المعرّف.

والشاهد هو ، صحة قولنا : «أكرم الكثير من العلماء» من دون عناية ، بينما هو غير متعيّن صدقا.

وغاية ما يقتضيه ذلك القول هو ، إكرام أكثر عدد منهم ، مع أنّ «اللام» هي «اللّام» ، والتعيين الذي تعطيه لكلمة كثير ، هو نفسه الذي تعطيه لهيئة الجمع.

وما ذكرنا في مقام تلفيق وجه للاستدلال على العموم ، من أنّ التعيين الذهني غير مناسب ، لأنّ الجمع يلحظ مرآة للأفراد ، ومعه لا يناسب التعيين يجاب عنه :

بأنّ التعيين إنّما هو في مرحلة اللحاظ الاستعمالي ، وملاحظته مرآة ،

٧٦

إنّما هو في مرحلة تعليق الحكم عليه ، والمتعيّن بعد تعيينه يلحظ مرآة ، ولا منافاة بين الأمرين.

وعليه ، فدلالة «اللام» على التعيين ، غير موجبة لدلالتها على العموم وضعا.

وأمّا دلالتها على العموم ابتداء للوضع ، فهو بعيد ، بدليل انّ الجمع المعرّف يطرأ عليه المقيّد المتصل ، مثل ، «أكرم العلماء العدول» دون عناية أو تجوز في إرادتنا منه خصوص العدول.

وحينئذ ، نقول : إنّ «اللام» تدل على استغراق هيئة الجمع في مدخولها.

ولكن ما هو مدخولها؟ هل هو خصوص علماء ، أم علماء العدول؟.

المتعين هو الأول ، لأن لفظ «العدول» وصف «للعلماء» بعد دخول «اللام» عليه ، إذن ، فهو في طوله ، لأنّ الوصف دائما في طول الموصوف ، وكلمة «علماء» لم تستوعب كل أفرادها.

وهذا هو الفرق بين «اللام» ، ولفظة «كل» ، فإنّ «كل» ، في قولنا : «أكرم كل عالم عادل» ، دخلت على المجموع المركب من مفهوم «عالم وعادل».

إذن مدخول «اللام» لم يستغرق كل أفراده ، ولذا كان استعماله في خصوص العدول بلا تجوز ولا عناية ، وإلّا للزم التجوز والعناية.

وقد يقال : إنّ «اللام» تدل على استغراق مدخولها لأفراده بالقدر الذي لا يوجد ما ينفيه ويخرجه من الكلام.

وحينئذ يندفع هذا الإشكال ، حيث انّ «اللام» تكون دالة على استغراق المدخول في كل أفراده التي لم يقم دليل في الكلام على نفيها وإخراجها ، ولمّا قال : «العدول» ، يكون قد نفى «الفسّاق» ، وحينئذ يبقى الاستغراق ، لكنه أضيق دائرة.

٧٧

ولكن هذا بعيد ، لأنه يعني أنّ كلمة «عدول» لم تعد محصّصة «للعلماء» ، بل كاشفة عن حدّها حقيقة ، والظاهر أنها محصّصة كما في قولنا «أكرم العالم العادل».

وهذا نحو مقرّب لعدم دلالة «اللام» على العموم وضعا.

وملخصه : هو أنّه لو كانت «اللام» دالة عليه ، فإمّا أن تكون دالة على الاستغراق في المدخول ، وهذا حينئذ ، ينافيه تقييده «بالعدول» ، لأنّ مدخوله «ذات العلماء».

وامّا أن تكون دالة عليه ، ولكن المدخول هو مجموع «علماء عدول».

وهذا غير صحيح كما عرفنا سابقا.

وأمّا أن تكون دالة على استغراق ناقص ، وهو استغراق المدخول فيما لا قرينة على تعيينه.

وهو ، وإن كان معقولا لكنه بعيد.

وهذا البيان لا يرد على من يقول بدلالتها على العموم بتوسط دلالتها على التعيين ، لأنّ هذا القائل يقول بدلالتها على الحصة المتعينة للمدخول ، وإذا لم يرد قيد فالحصة المتعينة هي الاستغراق ، وإلّا فالمقيدة هي المتعيّنة.

ومن هنا كان هذا المبعّد يختص بافتراض دلالتها على العموم ابتداء.

والخلاصة : انه يوجد هنا ثلاثة احتمالات :

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون القيد خارجا عن مدخول اللام.

وهذا بعيد جدا بحسب المنهج العرفي في التراكيب اللفظية عند علماء اللغة العربية.

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون القيد خارجا عن مدخول «اللام» ، ويكون القيد منافيا مع عموم المقيد ، ولكنه يقدم عليه في مقام الكشف عن المراد.

٧٨

وهذا أيضا خلاف الوجدان العرفي ، فإنه شاهد على عدم العناية في مرحلة المدلول التصوري الوضعي قبل مرحلة كشف المدلول التصديقي.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يكون المدخول هو «العلماء» بشرط أن لا يأتي بعد ذلك بما يقيّده ويضيّقه.

وهذا أيضا خلاف الوجدان القاضي ، بأن الإتيان بالقيد تقييد لسعة المقيد كما في المفرد ، لا أنّه تقيد بحيث وجد مقيدا كما هو مقتضى هذا الاحتمال.

وهذا المبعّد ليس إبطالا لقول من يقول ، بدلالة «اللام» على العموم بتوسط دلالتها على التعيين ، لوضوح كون التقييد بالعدول أو بغيره لا ينافي مع التعيين الصدقي الذي لا بدّ منه لإشباع حاجة «اللام» الوضعية.

ومن هنا كان هذا المبعّد إبطالا للمسلك الآخر القائل بدلالة «اللام» على العموم ابتداء.

٣ ـ وأمّا المقام الثالث : وهو تحقيق أنّ العموم الدال عليه ، هل هو استغراقي أم مجموعي؟

فقد اتضح مما تقدم ، أنّ مقتضى الطبع الأولي وإن كان دلالة الجمع على أمر موحد ثابت في مرتبة سابقة على دخول «اللام» ، إلّا انه مع ذلك ولنكتة زائدة أشرنا إليها سابقا ، تلغى هذه الوحدة ، ويكون العموم المستفاد من دخول «اللام» هو ، العموم الاستغراقي ، بناء على استفادة أصل العموم منه.

٧٩

النكرة في سياق النفي أو النهي

ومما ادّعي كونه من صيغ العموم ، وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي.

وكأن منشأ هذه الدعوى هو ، ملاحظتهم بأنّ النكرة إذا وقعت في سياق الإثبات ، مثل ، «أكرم نحويا» فإنّها لا تدل على شمول الحكم لكل أفراد النحويّين ، ولذا يكتفى بإكرام فرد واحد في مقام الامتثال ، بخلاف ما إذا وقعت بعينها في سياق النفي أو النهي ، فإنّها تدل على شمول الحكم لكل أفراد الطبيعة كما لو قال : «لا تكرم فاسقا» ، أو «لا تشرب خمرا» ، فإنّها تشمل كل أفراد الفساق أو كل أنواع الخمر ، لأنّ انتفاء الطبيعة لا يكون إلّا بانتفاء جميع أفرادها ، وبهذه القرينة العقلية جعل وقوعها في هذا السياق من صيغ العموم.

ولنا حول هذه الدعوى تعليقات.

١ ـ التعليق الأول : هو أنّ هذه الاستغراقية ، ليست من شئون ورود النكرة في سياق النفي أو النهي ، بل هي من شئون كون المورد مورد النفي أو النهي ، ولذا إذا وقعت المعرفة في هذا السياق ، استفيد الاستغراقية أيضا ، كما لو قال : «لا تكرم الفاسق» ، فإنّه يدل على إعدام إكرام كل فرد من أفراد الفاسق ، بخلاف قوله : «اكرم العادل» ، فإنّه يكتفى فيه بالامتثال بإكرام فرد واحد من أفراد العادل.

ومن هنا نرى أنّ نفس الفارق الملحوظ بين النكرة المأمور بها ، والنكرة

٨٠