بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وهو كالسابق ، لا يمكن الاستدلال به إلّا بعد الفراغ عن عدم حجيّة العام قبل الفحص ، وإلّا ، فمع فرض حجية العام ، لا نستحق ذما ، لأننا حينئذ لم نترك السؤال ، غاية الأمر انّنا سألنا من العام ، إذن ، فالروايات الذامة لتارك السؤال لا تشملنا.

وإن كان مع فرض عدم حجيته ، يجب السؤال والتفقّه بمقتضى هذه الأخبار ، لكن ، لا علاقة لها حينئذ بوجوب الفحص عن المخصص.

٣ ـ اللسان الثالث : وهو لسان الرواية التي يقال فيها للمكلّف يوم الحساب ، هلّا عملت؟ فيقول المكلف : لم أعلم ، فيقال له ، هلّا تعلّمت؟ الخ ..

فإنه إذا فرض إطلاق في دليل حجية العام ، بحيث يشمل حجيته قبل الفحص ، إذن سيقول المكلف للمولى : قد تعلّمت من العام ، لأنك أنت عبدتني بحجيته ، فيكون المكلف بعمله على طبق العام معذورا وخارجا تخصصا من تحت هذا الخبر.

وهذا اللسان يختص بمن لم يتعلم لا من العام ولا من الخاص.

إذن فهذه الأخبار لا يمكن الاستدلال بها في المقام.

نعم الاستدلال بهذه الأخبار على وجوب الفحص قبل العمل بالبراءة في محله ، لأنها مسوقة لبيان أنّ مجرد الشك والاحتمال ليس مؤمّنا ومعذرا ، بينما التمسك بها لإثبات وجوب الفحص قبل العمل بالعام غير تام. إذن فقياس المقام بباب الأصول العملية في الاستدلال بهذه الروايات في غير محله.

٢ ـ الوجه الثاني : هو انه عندنا علم إجمالي بورود مخصصات ومقيّدات لبعض عمومات الكتاب والسنة ، فلو عملنا بتلك العمومات قبل الفحص ، لوقعنا في مخالفة هذا العلم الإجمالي ، بينما مقتضى تنجيز هذا العلم ، أن لا يعمل بعام إلّا بعد الفحص عن مخصص أو مقيّد له ، ليخرج

٣٠١

بذلك عن كونه طرفا لهذا العلم الإجمالي ، وقد اعترض على هذا الوجه باعتراضين.

١ ـ الاعتراض الأول : هو ، انّ هذا العلم الإجمالي ، إذا كان منجزا ، إذن هو يقتضي عدم جواز العمل بالعام حتى بعد الفحص عن المخصص وعدم وجدانه ، وذلك لأنّ مجرد الفحص عن المخصص وعدم وجدانه في الكتب الواصلة إلينا لا يوجب حصول اليقين لنا بعدم وجود المخصص واقعا ، إذ من المحتمل أن يكون موجودا ، ولكن لم يصل إلينا ، وعليه : فيبقى احتمال أن يكون هذا العام أحد العمومات المخصّصة على حاله ، ويبقى طرفا للعلم الإجمالي.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض ، بافتراض وجود علمين إجماليين في المقام ، ينحل كبيرهما بصغيرهما ، وحينئذ ، الفحص عن المخصص وعدم وجدانه يوجب القطع بخروجه عن الطرفية للعلم الإجمالي الصغير.

وتوضيحه : هو أنه يوجد عندنا علمان ، أحدهما يسمّى بالعلم الإجمالي الكبير وهو العلم بوجود مخصصات بمقدار خمسين مخصصا مثلا مرددة بين ألف عام مثلا ، من دون أن يتقيّد هذا العلم بالنظر إلى الكتب الأربعة ، ولكن بعد الرجوع إلى الكتب الأربعة يحصل لنا علم إجمالي بأنّ خمسين رواية على الأقل من الروايات المخصصة في هذه الكتب الأربعة صادرة عن المعصوم ، وحينئذ ، في مثل ذلك ينحل العلم الإجمالي الكبير الأول بالعلم الإجمالي الثاني الصغير ، لأنّ العلم الإجمالي الكبير حتى لو فرض وجوده في دائرة أضيق من أطرافه ، فهذا يوجب انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير ، وحينئذ ، لم يبق عندنا إلّا العلم الإجمالي الصغير ، وهو العلم بورود خمسين مخصصا في الكتب الأربعة ، لكن لا ندري انّها متوجهة إلى أيّ عام ، فإذا راجعنا الكتب الأربعة ولم نجد مخصصات أخرى غيرها ، حينئذ نجزم بأن هذا العام الكبير ليس من موارد تلك المخصصات الخمسين إذ لا موجب لافتراض العلم بوجود مخصصات أكثر ممّا يعلم إجمالا بوجوده في الكتب الأربعة ، إذن

٣٠٢

فينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير من أول الأمر لتساوي المعلومين بالإجمال فيهما ، فيكون مرجعه إلى العلم الإجمالي بوجود مخصصات في الكتب الأربعة والشك البدوي بوجود مخصص آخر ورائها ، فإذا لم نجد في حق عام مخصصا في الكتب الأربعة ، خرج هذا العام بذلك عن الطرفية للعلم الإجمالي.

وإن شئت قلت : إنه لو فرضنا انه عندنا ألف عام ، ونعلم إجمالا بتخصيص خمسين منها ، فينشأ عندنا علم إجمالي بتخصيص هذه العمومات ، ولكن بعد الاطلاع على الكتب الأربعة ، علمنا بوجود خمسين مخصصا يقينا ، مخصصة لتلك العمومات ، وهذا علم إجمالي ثاني ، بأنّ هذه المخصصات مخصصة لقسم من تلك العمومات ، وحينئذ ، ينحل العلم الإجمالي الأول بالعلم الإجمالي الثاني ، ونصبح على يقين من تخصيص الأطراف التي اطلعنا على تخصيصها ، وشك بدوي في تخصيص الأطراف الأخرى ، وحينئذ ، لم يبق عندنا بعد الانحلال إلّا العلم الإجمالي الثاني ـ أي الصغير ـ وحينئذ إذا ورد إلينا العام ، ينبغي ان نفتش له عن مخصص في المخصصات التي اطلعنا عليها في الكتب الأربعة ، فإن عثرنا له على مخصص ، فبها ونعمت ، وإلّا فنعلم حينئذ انّ هذا العام ليس من موارد تلك العمومات المخصّصة ، إذن ، فالفحص هنا يوجب القطع بخروج هذا الطرف عن طرفيته للعلم الإجمالي.

٢ ـ الاعتراض الثاني : هو أن يقال : بأنّ العلم الإجمالي المفروض ـ وهو العلم بوجود خمسين مخصصا في مجموع العمومات ـ إذا فرض انه كان هو المنجز والمقتضي لوجوب الفحص ، إذن ، سوف يبقى مقتضيا لوجوب الفحص ما دام هذا العلم الإجمالي موجودا ، وحينئذ ، إذا فحص الفقيه عن المخصص ، فعثر على خمسين مخصص مثلا ، فينحل العلم الإجمالي المذكور بهذا العلم التفصيلي بهذه المخصصات الخمسين ، وبعد هذا ، لا يبقى علم إجمالي.

وعليه : فلا يبقى ملزم للفحص عن المخصص في العمومات الباقية ،

٣٠٣

بل باستطاعة الفقيه ، أن يعمل بعدئذ بما بقي من العمومات لو صادفها ، مع انّ المطلوب إثباته هو وجوب الفحص مطلقا (١).

إذن فالبيان المذكور تام ، ما دام العلم الإجمالي موجودا فقط.

وهذا الكلام يشبه جواب الأصوليين للأخباريين الذين استدلوا في بحث البراءة على وجوب الاحتياط ، بالعلم الإجمالي ، بوجود تكاليف في المتبقّي من العام بعد الانحلال ، حيث وإن أصبح الشك في هذا الباقي شكا بدويا ، لكن مقتضى الاحتياط هو الاحتياط باتيانه ، دون أن تجري فيه البراءة.

بينما كان الأصولي يجيب الأخباري ، بأنّ هذا العلم الإجمالي يكون منجزا ما دام موجودا ، فإذا انحل بعلم تفصيلي ببعض الأحكام ، يصبح الشك في المتبقي من هذا العلم الإجمالي شكا بدويا فتجري فيه البراءة حينئذ.

وقد تصدّى المحقق العراقي (قده) (٢) للإشكال على دفع الأصوليين هذا ، بأنّ العلم الإجمالي في المقام ، لا يسقط عن المنجزية بعد حصول العلم التفصيلي ، وحاصل ما أفاده ، نبرزه في مقدمتين.

أ ـ المقدمة الأولى : في بيان معنى الانحلال الحكمي ، والانحلال الحقيقي ، حيث يقال : انّ العلم التفصيلي في أمثال المقام لا يوجب الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي ، بل يوجب الانحلال الحكمي.

ب ـ المقدمة الثانية : هي انّه كلّ ما يوجب الانحلال الحكمي ، فهو إنّما يحل العلم الإجمالي لو قارنه ، وأمّا إذا تأخر عنه فلا يوجب انحلاله.

ولتوضيح ذلك ، نتكلم في جهتين :

١ ـ الجهة الأولى : في معنى الانحلال الحقيقي والحكمي ، فنقول : إنّ هناك ثلاث حالات لفرض العلم الإجمالي.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

(٢) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ٢ ـ ص ٥٢ ـ ٥٣.

٣٠٤

١ ـ الحالة الأولى : هي أن يكون العلم التفصيلي ناظرا إلى العلم الإجمالي ، وذلك : كما لو علمنا إجمالا بوجود نجاسة في أحد الإناءين ، ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ تلك النجاسة كانت قد وقعت في هذا الإناء المعيّن بحيث انّ العلم التفصيلي تأخّر عن المعلوم الإجمالي ، وحينئذ ، في هذه الحالة ، لا إشكال في إنّ العلم التفصيلي موجب لانحلال العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا.

٢ ـ الحالة الثانية : هي أن يكون العلم الإجمالي متعلقا بعنوان مخصوص لم يؤخذ في العلم التفصيلي ، وذلك : كما علمنا إجمالا إن نجاسة معنونة بعنوان إنها «قطرة دم» أو «بول» وقعت في أحد الإناءين ، ثم علمنا تفصيلا بأنّ هذا الإناء المعيّن نجس ، لكن بنجاسة غير معلومة ، إنها «دم» ، أو غيره ، في هذه الحالة ، لا إشكال في عدم الانحلال الحقيقي فيها.

٣ ـ الحالة الثالثة : هي حالة وسط بين الحالتين السابقتين ، وهي أن نفرض انّ العلم التفصيلي غير ناظر إلى العلم الإجمالي ، كما لو كنا نعلم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين بلا عنوان إنّها نجاسة دم أو بول ، ثم نعلم تفصيلا بنجاسة مهملة في هذا الإناء بعينه بنحو لا يكون علمنا هذا ناظرا إلى تلك النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي سنخ عنوان وجامع منطبق على العلم التفصيلي يقينا. كما لو علمنا بنجاسة أحد الإنائين بنحو مهمل ثم علمنا تفصيلا بنجاسة مهملة في هذا الإناء بعينه ، فهذا العلم التفصيلي غير ناظر إلى ذاك العلم الإجمالي لكن ليس المعلوم بالإجمال معنون بعنوان زائد على ما عنون به العلم التفصيلي.

وحينئذ ، يقع الكلام ، في انّ هذا العلم ينحل كما عن المحقق النائيني (قده) (١) ، أم لا ينحل كما عن العراقي (قده) (٢)؟

ويدخل في الحالة الثالثة ، ما لو علمنا إجمالا بنجاسة بالدم ، ثم علمنا

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ٢ ـ ص ٤٨٢.

(٢) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

٣٠٥

تفصيلا بنجاسة الثوب هذا بالدم أيضا ، لكن من دون أن يكون للعلم التفصيلي نظر إلى العلم الإجمالي.

ومقامنا من قبيل الحالة الثالثة ومصداقها ، لأننا نعلم إجمالا بوجود مخصصات لمجموع العمومات موجودة في الكتب الأربعة ، ثم علمنا تفصيلا بوجود مقدار من المخصصات الموجودة في الكتب الأربعة يساوي ذلك المعلوم بالإجمال ، لكن علمنا الإجمالي هذا لم يكن له عنوان زائد على العلم التفصيلي ، كما إن العلم التفصيلي غير ناظر إلى هذا العلم الإجمالي ولا مشير إليه.

ومن مصاديق الحالة الثالثة أيضا ، النزاع المعروف بين الإخباريين والأصوليين في موارد البراءة وأمثالها.

إذن فمقامنا من قبيل الحالة الثالثة ومصداقها ، وحينئذ ، فمن يبني على الانحلال الحقيقي ـ كما هو الصحيح ـ لا يفرّق بين أن يكون العلم التفصيلي الموجب للانحلال متأخرا زمانا عن العلم الإجمالي أو مقارنا ، كما حقّق في محله.

وبناء على ذلك ، لا يكون الاعتراض الأول واردا على هذا الوجه الثاني ، فلا إشكال في المقام.

وما سجّل من انحلال العلم الإجمالي يكون واردا ، وكذا في النزاع الجاري بين الأصوليين والإخباريين.

وأمّا إذا بني على الانحلال الحكمي ، أي سقوط العلم الإجمالي عن المنجزيّة مع بقائه في أفق النفس ، كما لو حصل العلم الإجمالي أولا ونجّز تمام أطرافه من دون أن يكون مقارنا للعلم التفصيلي ، وبعد ذلك ، حصل ما يوجب الانحلال في بعض أطراف المعلوم بالإجمال ، فإنّ ذلك لا يجدي في حل العلم الإجمالي ، وذلك لأنهم اشترطوا في انحلال العلم الإجمالي أن يكون العلم التفصيلي مقارنا له.

٣٠٦

إذن فلا انحلال ، لأنّ العلم التفصيلي جاء متأخرا عن العلم الإجمالي لأنه إنّما يعلم بهذه المخصصات تفصيلا بحسب نمو معلوماته ، وذلك لا يتم إلّا بالتدريج.

والحاصل : إن محل كلامنا هو ، الحالة الثالثة ، لأننا نعلم إجمالا بوجود مخصصات لهذه العمومات موجودة في الكتب الأربعة ، ثم علمنا تفصيلا بالمخصصات الموجودة في الكتب الأربعة ، وكان العلم الإجمالي سنخ عنوان وجامع منطبق على العلم التفصيلي دون أن يؤخذ في المعلوم الإجمالي عنوان زائد على المعلوم التفصيلي ، كما انّ المعلوم التفصيلي غير ناظر إلى المعلوم الإجمالي.

وحينئذ ، من يبني على الانحلال الحقيقي ، لا يفرق بين كون العلم التفصيلي مقارنا أو متأخرا عن العلم الإجمالي كما عرفت.

وأمّا من يبني في المقام على الانحلال الحكمي ، فإنّه يدّعي التفصيل بين صورتي مقارنة العلم الموجب لانحلال العلم الإجمالي وتأخره عنه كما فعل المحقق العراقي (قده) (١) ، حيث انّ الميزان عنده (قده) مقارنة نفس العلم وتأخره لا المعلوم ، فإن كان مقارنا فيحلّه ، وإن كان متأخرا فلا.

وحينئذ ، إذا سلّمنا بهذا التفصيل من العراقي (قده) فإنه ينتج لا محالة عدم انحلال العلم الإجمالي ، لأنّ العلم التفصيلي جاء متأخرا عنه.

وعليه : فيبقى العلم الإجمالي على حاله ، وبهذا يتم الدليل على وجوب الفحص عن المخصص ، كما انه يتم دليل الأخباري في البراءة ، ومن هنا وقع العراقي (قده) في مشكلة النزاع بين الأصوليين والإخباريين ، لكن هذا ليس محل بحثه الآن ، فإنّ له موضع آخر.

لكن لا بدّ من الكلام بمقدار ما يناسب هذه المسألة فنقول : إنّ دعوى

__________________

(١) مقالات الأصول ـ المحقق العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

٣٠٧

التفصيل من المحقق العراقي إذا تمت ـ كما هو الصحيح ـ إلّا انّ مقامنا ليس من مواردها وإن انطبقت على النزاع المذكور بين الأصوليين والإخباريين بالنسبة إلى البراءة.

والتكلم على المباني المختلفة ، موكول إلى محله ، لكن بشكل إجمالي نقول : إنه إذا فرضنا انّ العلم التفصيلي تعلّق بمقدار ما تعلّق به العلم الإجمالي ، وكان التفصيلي متأخرا عنه زمانا بحيث كان يوجب الانحلال الحكمي ، فحينئذ يبقى العلم الإجمالي على منجزيته ، ومثاله : ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين عند طلوع الفجر ، ثم حصل له عند طلوع الشمس ما يوجب الانحلال الحكمي ، من قيام إمارة في أحد الطرفين ، وحينئذ يقال : هل يسقط العلم الإجمالي الأول عن منجزيته أو لا؟

ومعنى انّه يسقط ، هو أن نرجع إلى اصالة الطهارة أو البراءة من التكليف في الطرف الآخر ، ومعنى انّه لا يسقط ، أي لا نرجع إلى اصالة الطهارة أو البراءة.

وحينئذ يقال : بأنه بعد تعارض الأصول وسقوطها في الزمن الأول لا يمكن أن ترجع أو يرجع بعضها في الزمن الثاني فإن الميّت لا يعود بعد موته ، وعليه : فنرجع إلى الاحتياط.

وهذا معناه : بقاء منجزية العلم الإجمالي.

وإذا أردنا أن نعمق هذه الصيغة أكثر فنقول : ان هذا العلم التفصيلي المتأخر لو وجد مقارنا للعلم الإجمالي ، فإنه يوجب انحلاله باعتباره انّه كان هو المنجز لهذا الطرف.

وبتعبير آخر يقال : إن العلم التفصيلي لو حدث مقارنا للعلم الإجمالي لأسقط العلم الإجمالي عن المنجزية وصار هو المنجز لهذا الطرف ، ومعه ينحل ، إذ يشترط في كونه منجزا ، أن يكون منجزا لكلا الطرفين ، والمفروض انّه لم يبق له إلّا طرف واحد والطرف الآخر صار متعذرا ، إذن فالعلم الإجمالي يسقط كلية.

٣٠٨

وأمّا لو حدث العلم التفصيلي متأخرا ، فحينئذ ، ينجز طرفه من حين حصوله وحدوثه ، وعليه : فهذا الطرف قبل حدوث العلم التفصيلي لا منجز له إلّا العلم الإجمالي ، إذن فالعلم الإجمالي صالح للمنجزية في هذه الفترة ، إذن ، صلاحيته للتنجيز في الطرفين باقية على حالها لتأخر العلم التفصيلي عنه ، وبهذا يبقى العلم الإجمالي على منجزيته.

وهذا البيان ، قد يفيد في موارد النزاع بين الإخباريين والأصوليين في موارد جريان البراءة ، فيقال : إنّ العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية كان منجزا ثم تعارضت الأصول ـ كاصالة البراءة ـ في أطرافه فتساقطت ، ثم بعد ذلك حدث العلم التفصيلي ببعض الأحكام ، حينئذ ، لا يصح الرجوع إلى البراءة في الباقي لأنها قد سقطت.

وهذا الكلام لو تمّ هنا في مسألة البراءة ، فإنه لا يتم في محل كلامنا ، لأنه في مقامنا هنا لا يوجد تعارض بين الأصول وتساقط ليقال : إنّ الأصول بعد تساقطها لا تعود ، إذ الأصول هنا غير الأصول هناك ، فالأصل في مقامنا هو اصالة العموم ، والأصل هناك هو الأصول العملية ، واصالة العموم لا معارض لها ، وإنّما تتعارض لو كان دليل الحجية تام الاقتضاء لكلا الطرفين.

فتعارض اصالة العموم فرع أن يكون دليل الحجية اقتضاؤه تام للطرفين ، وإنّما يمنعه عن التأثير العلم الإجمالي ، وهذا صحيح في باب البراءة ، وهو غير صحيح في المقام ، لأنّ دليل حجية ظهور العام لم يبق موضوعه محفوظا مع العلم الإجمالي ، لأنّ حجية العام مقيّدة بعدم وجود مخصص معلوم ولو إجمالا.

ومن الواضح انّه مع وصول المخصص المعلوم ولو بالعلم الإجمالي لا مقتضي لحجية العام والعمل به.

كما انّ السيرة العقلائية التي هي دليل حجيته هي مقيدة بعدم العلم بالمخصص ولو إجمالا ، وحينئذ ، فمع العلم الإجمالي بوجود مخصصات ، إذن فنحن نعلم بأن مواردها خارجة عن دليل الحجية من أول الأمر ، والاشتباه

٣٠٩

يكون حينئذ ، من باب اشتباه الحجة باللّاحجة ، لا من قبيل تعارض الحجتين ، كي يسقط عن الحجية.

وعند ما يحصل عندنا منجز يوجب إسقاط جملة من هذه العمومات ، حينئذ ، لا بأس بالرجوع إلى اصالة العموم في الباقي ، لأنها لم تسقط بالمعارضة. فهذه نكتة الفرق بين المقام وبين موارد نزاع الإخباريين والأصوليين.

وعليه فكلام العراقي (قده) غير تام ، وهذا الإشكال على التمسك بالعلم الإجمالي في المقام وارد.

وعليه : فلا بدّ من مدرك آخر لوجوب الفحص ، وهذا المدرك يتمثل في الوجه الثالث.

٣ ـ الوجه الثالث : وهو ما استدلّ به صاحب الكفاية (قده) على عدم جواز العمل بالعمومات إلّا بعد الفحص عن المخصص ، وقد بيّن فيه ، إن العمومات الواردة في لسان الشارع تختلف عن العمومات العرفية ، فإن الشارع كثيرا ما استعمل طريقة المخصّص المنفصل فيها ، بحيث أصبحت هذه العمومات في معرض التخصيص دائما ، ومن هنا قيل : ما من عام إلّا وقد خصّ.

وهذا بخلاف العمومات الواردة في لسان العرف العام ، حيث لا يكون هذا العام في معرض التخصيص ، وذلك لعدم بناء العرف على الاعتماد على المخصصات المنفصلة وإن اتفق ذلك صدفة أو نادرا ، ولذا لا يجب الفحص عن مخصصات العمومات الواردة في لسانهم.

ومن هنا ، نشأت حالة في العمومات الواردة في لسان الشارع ، سمّاها صاحب الكفاية ، بحالة المعرضيّة ، أي المعرضيّة لطرو التخصيص ، لأنّ ديدن الشارع على ذلك ، ومثل هذه العمومات يجب الفحص فيها عن المخصص قبل العمل بها.

٣١٠

وهذه النكتة التي أبرزها صاحب الكفاية (قده) ، يمكن تخريج المدّعى على أساسها ، وتقريب الاستدلال بها ، بأحد تقريبين مختلفين بحسب طرز الإثبات ، وإن كانا معا منتجين لعدم جواز العمل بالعام قبل الفحص.

١ ـ التقريب الأول : هو أن يقال : إن الدليل على حجية العموم إنّما هو السيرة العقلائية ، وهذه السيرة لا تقتضي حجية عموم صدر عن متكلم جرت عادته على أن يعتمد على القرائن المنفصلة ، وإذا لم يمكن إثبات حجية عموم بالسيرة لما ذكر ، فمقتضى القاعدة ، انّ عمومات الشارع ليست بحجة ، لأنّ دليل الحجية الذي هو السيرة لا يشملها.

نعم يمكن إثبات حجية عمومات الشارع من باب دليل سيرة المتشرعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليه‌السلام ، فإنّ ديدنهم كان على التمسك بالعمومات الواردة عنهم واستنباط الأحكام منها ، ولكن حينئذ ، هذه السيرة المتشرعة غير محرزة إلّا بعد الفحص عن المخصص ، إذن فلا يجوز العمل بالعام قبل الفحص.

بقي علينا أن نوضح كيفية عدم شمول السيرة العقلائية لعمومات الشارع لكون عادته جرت على التخصيص بالمنفصلات.

وتوضيحه يكون بأحد وجوه ثلاثة.

١ ـ الوجه الأول : هو ، انّ هذا المتكلم الذي انعقد بناؤه على الاعتماد على مخصّصاته المنفصلة ، قد صارت مخصصاته المنفصلة هذه بحكم المتصلة ، وذلك بإلغاء الفاصل الزمني ، وحينئذ ، يكون احتمال المخصص المنفصل بقوة ومثابة المخصص المتصل.

ومن الواضح ـ كما عرفت سابقا ـ إنّ احتمال المخصص المتصل يوجب الإجمال ما لم يقم دليل على نفيه ، فكذلك المنفصل ، وهذا كاف لإجمال العام.

وعلى هذا الأساس ، تخرج عمومات الشارع تخصصا عن موضوع

٣١١

الحجيّة ، لأن موضوعها هو ظهور العموم ، ولكن بعد فرض إنّ منفصلاته بمنزلة متصلاته ، والمتصل يوجب انهدام أصل الظهور ، إذن فاحتمال المخصص ولو منفصلا ، احتمال لانهدام أصل الظهور ، ومعه لا يكون مشمولا للسيرة العقلائية.

وهذا الوجه ، يمكن الخدشة فيه ، وذلك بأن يقال : بأنه صحيح إنّ استقرار بناء الشارع على الاعتماد على المخصصات المنفصلة ، لكن لم يثبت دليل من قبله بتنزيل المخصص المنفصل منزلة المتصل ، بل كان الاعتماد على المخصص المنفصل لحكم ومصالح تقتضي تأجيل البيان أحيانا.

وهذا الوجه كما ترى ، فإنه موقوف على قيام دليل على قيام المنفصل مقام المتصل ، وحينئذ ، يتم ، وإلّا فبدونه يبطل.

هذا مضافا إلى أن ما يتراءى في بادئ الأمر ، من اعتماد الشارع على المخصصات المنفصلة ، هو أمر مبالغ فيه. بهذا المقدار ، لأن النقل بالمعنى وخفاء كثير من المخصصات لأسباب عديدة. لعلّه هو السبب في طمس جملة من المخصصات التي كان يعتمد عليها الشارع في الكلام من دون إفراط في هذا الاعتماد ، بل لعلّ اعتمادهم على كثير من القرائن والمرتكزات العقلائية هو سبب هذه التصور وهذه الدعوى ، وعليه ، فهذا الوجه غير تام.

٢ ـ الوجه الثاني : هو انّ الاستدلال بالسيرة العقلائية ، إنّما يصح فيما إذا فرض انه كانت هناك حالات مماثلة عند العقلاء لنرى أنّهم هل يبنون على حجية عمومات المتكلمين الذين يكثرون من الاعتماد على المخصصات المنفصلة أم لا ، ومثل هذا غير موجود خارجا ، فإنّ العقلاء لا يعتمدون على المخصص المنفصل إلّا قليلا ، وحينئذ ، فمن أين لنا أن نثبت انعقاد بناء العقلاء على حجية مثل هذه الظهورات ، لأنه لا يوجد في العقلاء من تكون ظهوراته من هذا القبيل ليستقر منهم عمل بعموماته ليكون من بعد ذلك حجة في عمومات الشارع ، إذن لو بقينا نحن والسيرة ، لما كانت مثل هذه العمومات الشرعية حجة ، لا قبل الفحص ولا بعده.

٣١٢

ولعلّ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام قد عملوا بهذه العمومات باعتبار كونهم متشرعة وليس باعتبار كونهم عقلاء ، والقدر المتيقن من حجية هذه العمومات حينئذ ، هو ما لو فحص عن المخصص ولم يجده. وهذا الوجه يختلف عن الوجه الأول ، حيث انّ الأول كان يدّعي تنزيل المخصص المنفصل منزلة المخصص المتصل ، بينما يدّعي هذا الوجه ، انّه لا يوجد موقف للعقلاء يبنون فيه على حجية عمومات المتكلمين الذين يكثرون من الاعتماد على المخصصات المنفصلة ، لا سيّما وانّهم لا يعتمدون على المخصصات المنفصلة إلّا نادرا ، ومعه ، فلا حجية لعموماتهم لا قبل الفحص ولا بعده.

وهذا الوجه ، يتناسب مع مختار المحقق الأصفهاني (قده) في السيرة العقلائية ، حيث انّ الاستدلال بالسيرة العقلائية فيه مسلكان.

١ ـ المسلك الأول : وهو مسلك الأصفهاني (قده) (١) حيث ادّعى انّ الاستدلال بالسيرة ، دائما يكون بسلوك العقلاء نفسه ، وتصرفهم الخارجي في مقام العمل بنحو القضية الخارجية الفعلية ولم يردعهم الشارع عن ذلك.

٢ ـ المسلك الثاني : وهو المختار عندنا ، وحاصله هو ، إن العبرة بحجية السيرة ، ليس بالسلوك ولا بالبناء العملي والتصرف الخارجي للعقلاء ، وإنما العبرة بحجية السيرة هي ، بما يستبطنه هذا السلوك العقلائي من تشريعات وإمضاءات للعقلاء.

وهذا الخلاف ، يترتب عليه ثمرات مهمة وكثيرة ، ذكرناها في بحث السيرة ، لكن نذكر منها : إن عقليّة السيرة كانت قائمة على أن من حاز شيئا ملكه ، وانّ الشارع أمضى هذا البناء.

فهنا ، على مسلك المحقق الأصفهاني (قده) ، يختص هذا الإمضاء بحيازة ما كان متعارفا حيازته ، أو ما سلك حيازته العقلاء في الزمن السابق من

__________________

(١) نهاية الدراية ـ ج ٢ ـ الأصفهاني ـ ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

٣١٣

الحطب والماء ونحوهما ، كما لو قطع شجرا من الغابة فإنّه يملكه ، أمّا حيازة الأشياء التي لم تكن موجودة ولم يمارسها العقلاء ، كالحيازة على الطاقة الكهربائية من الماء ، فهو غير معلوم الإمضاء من الشارع ، وذلك لأنّ مثل هذا العمل لم يمارسه العقلاء ، ومعه يكون غير حائز ، إذن فهو لا يملك.

بينما على مسلكنا لا نفرق بين من يجوز الخشب من الغابة وبين من يستخرج الطاقة الكهربائية من النهر ، وذلك لأنّ النكتة التي من أجلها يملك الحطب من حازه ، موجودة في حيازة الطاقة من الماء أيضا ، وعليه فالإمضاء إنّما كان إمضاء لمضمون المسلك والنكتة ، لا لمادة أو موضوع سلوكهم الخارجي.

وهذا الوجه الثاني إن بنينا على مسلك الأصفهاني (قده) يكون تاما ، لأنه بحسب الخارج لم يوجد أشخاص عقلاء يعتمدون كثيرا على المخصصات المنفصلة لنعرف سيرة العقلاء على ضوء سيرتهم.

وإن بنينا على المسلك الثاني ، فلا ، لأنّ مجرد انّ هذا المسلك لم يوجد خارجا لا يكفي لإبطال السيرة ، بل لا بدّ من ملاحظة السيرة والنكتة المركوزة في أذهان العقلاء ، لنرى انّ هذه النكتة وهذه السيرة هل تشمل هذا المورد أو لا تشمل ، إذن فهذا الوجه غير كاف.

٣ ـ الوجه الثالث : في عدم شمول السيرة العقلائية لعمومات الشارع ، هو أن يقال : بأن السيرة العقلائية لا تشمل محل الكلام لتثبيت حجيته باعتبار انّ معرضية هذا العموم للتخصيص توجب ثلم كاشفيته ، والمفروض انّ نكتة الحجية هي الكاشفية ، ومع ثلمها لا تكون النكتة محفوظة فيه.

وهذا الوجه غير تام ، وذلك لأنه إن أريد بهذا انّ نكتة الحجية في النظر العقلائي تنثلم في هذه العمومات قبل الفحص وتوجد فيما بعد الفحص ، إذن ، فهذا خروج عن هذا الوجه إلى وجه آخر. وإن أريد انّ نكتة الحجية غير موجودة في هذا العموم أصلا وهي منثلمة قبل الفحص وبعده ، وانّه إنّما كان حجة بالسيرة المتشرعية لا العقلائية ، فهذا خلاف الوجدان لمرتكزاتنا

٣١٤

العقلائية ، لأنّ المعرضية في المقام حتى لو فرض انّ احتمال المخصص كان موجودا بعد الفحص ، فمع هذا ، فإن نكتة السيرة العقلائية محفوظة في هذا العموم ، لأن نكتة السيرة العقلائية هي إدانة المتكلم في كلامه وجعله مسئولا عنه «حتى المولى» ولهذا قلنا بأن الظهور لا يشترط في حجيته الظن الفعلي على طبقه ، بل حتى عدم الظن الفعلي على خلافه ، غاية الأمر ، انّه بعد ضم فحص سائر كلماته وما يتعلّق بكلامه ولم يجد مخصصا ، فحينئذ ، تبرأ ذمة المكلف عند العقلاء ، ويكون معذورا حتى لو كان المخصص موجودا في الواقع ، لأن النكتة ـ الإدانة ـ محفوظة ، وبهذا ، يظهر انّ هذا الوجه بتقريباته الثلاثة غير تام.

٢ ـ التقريب الثاني : لتخريج مدّعى صاحب الكفاية ـ حالة المعرضيّة ـ هو ، انّ حالة معرضيّة العموم للتخصيص بالمنفصل ، توجب التبعيض في الحجيّة ، وفي السيرة العقلائية ، لا انّه يوجب خروجه كلّه ، بل يوجب التبعيض ، وذلك بالتفريق بين ما يكون قبل الفحص ، وبين ما يكون بعد الفحص ، حيث انّ العقلاء يرون انّ المتكلم يدان بكلامه بعد الفحص وعدم وجدان المخصص ، وأمّا قبل الفحص ، فلا يدان ، فيرجع هذا التقريب إلى تضييق في دائرة الحجيّة.

وهذا التقريب صحيح وتام ، وهو المعول عليه في وجوب الفحص عن المخصص وعدم جواز العمل بالعام قبله.

وفرق هذا التقريب عن التقريب السابق هو ، إنّ المعرضيّة في السابق كانت توجب سقوط السيرة العقلائية مطلقا عن الحجية ، بينما هنا في التقريب الثاني فهي توجب تفصيلا فيها.

بعد ان تبيّن أنّه يجب الفحص عن المخصص ، بقيت في هذه المسألة ملاحظة ، حاصلها هو ، انّه من المطمئن به ، انّ أصحاب الأئمة عليهم‌السلام الذين كانوا يسمعون منهم العمومات والمطلقات لم يكونوا يفحصون عن المخصصات فحصا عرضيا ، بمعنى انّ الشخص منهم لم يكن ليسأل ممّن هو

٣١٥

في طبقته عن المخصص ، فزرارة «رض» لم يكن ليفحص عن المخصص عند محمد بن مسلم (رض) ونحوه. وإن ادّعي انّ سيرة المتشرعة على الفحص طوليا ، وذلك بفحص المتأخرين لاصول المتقدمين ، فمن المظنون قويا انّ يونس بن عبد الرحمن إذا اطّلع على عام من الإمام عليه‌السلام كان يكتفي به ، بل يفحص عن المخصص في أصل زرارة وغيره من الأصول المتقدمة ، ومثل هذا ، قد يجعل دليلا على عدم وجوب الفحص رأسا عن المخصصات ويقال : بأنّ السيرة العقلائية منعقدة على هذا ، فحتى لو فرض ضيق في دائرة السيرة العقلائية بحيث انّها لا تشمل ما كان في معرض التخصيص من العمومات ، فمع هذا ، فإنّ سيرة المتشرعة تشملها.

وإمّا أن يجعل هذا دليلا على التفصيل بين خصوص الراوي الذي سمع الكلام من الإمام مباشرة وبين من لم يسمع منه كذلك ، فيقال : إنه في الأول لا يجب عليه الفحص ، وإنما يجب الفحص عن المخصص على الثاني.

وهذا التفصيل ، القدر المتيقن منه هو ، إنّ نفس الراوي السامع من الإمام مباشرة ، لا يجب عليه الفحص ، وهذا لا يمكن جعله دليلا على حجية العام قبل الفحص في حق كل راوي ، فإنّ الراوي غير المباشر عن الإمام ، يتمكن من الفحص ، فلا يكون ما رواه من عمومات حجة قبل الفحص ، وإلّا فلو وجب الفحص على من سمع مباشرة عن الإمام ، لوجدت حركة استنساخ فيما بين السامعين مباشرة من الأئمة ولنقلت إلينا ، لأنها ظاهرة ونقطة حساسة.

وأمّا غير السامعين مباشرة من الأئمة عليهم‌السلام ، فلا يمكن الجزم به ، ولذلك نقتصر في وجوب الفحص على القدر المتيقن. إذن فلا يجعل هذا دليلا على حجية العام قبل الفحص في حق كل راوي.

وحينئذ ، فما هو الميزان في حجية العام قبل الفحص بالنسبة لمن روى مباشرة ، هل لأنّهم المخاطبون به ، أم لأن العام قطعيّ الصدور بالنسبة إليهم؟ فإن كان الميزان هو الأول ، أي لكونهم مخاطبين مباشرة ، فهذا معناه إنّ حجية العام تختص بهم ، ولا يمكن تسريتها إلى غير المخاطبين مباشرة ،

٣١٦

بحيث انّا نحن غير المخاطبين مباشرة حتى لو قطعنا بصدور العام من الإمام عليه‌السلام ، فمع هذا لا يمكن أن نجعل حالنا كحالهم.

وإن كان الميزان في حجية العام هو الثاني ، أي لكونه قطعي الصدور ، فحينئذ ، إذا قطعنا نحن غير المباشرين بصدور عام من الأئمة عليهم‌السلام ، فينبغي أن نقول بعدم وجوب الفحص عن المخصص ، حيث يصبح حالنا حالهم.

والصحيح هو ، إنّ ظاهرة عدم فحص الرواة المباشرين عن المخصص عند الآخرين ، هذه الظاهرة ، يمكن تفسيرها بطرح عدة احتمالات ، ومع تردد التفسير فيما بين هذه الاحتمالات ، لا يمكن حينئذ أن نبني على أحدها.

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون ذلك بسبب انّ العمومات الصادرة عن الإمام عليه‌السلام ، تكون بالنسبة لمن كان حاضرا في مجلس التخاطب ليست في معرض التخصيص ، بمعنى انّ المعرضيّة للتخصيصات المنفصلة ، إنّما نشأت بعد مضي زمان على هذه العمومات وفقدانها لمخصصاتها المتصلة ، بحيث نجد عاما يصدر من إمام عليه‌السلام ومخصّصا يصدر من إمام آخر بعده ، ولكن لعلّ هذه العمومات لم تكن في معرض التخصيص حين صدورها بالنسبة لمن كان حاضرا مجلس التخاطب هذا ، زائدا عمّا كان يدركه هذا المخاطب.

وبعبارة أخرى : إنّ هذه المعرضيّة إنّما نشأت بعد مرور زمن على العمومات ، وفقدان الكثير من القرائن المتصلة التي ضاعت خلال مئات السنين ، إذ لعلّنا لو فرضنا انّا سألنا زرارة نفسه عن عمله بالعمومات دون الاعتماد على المخصصات المنفصلة لأجاب : بأنّي سمعت هذا العام مع مخصّصه من الإمام عليه‌السلام ، ولكن بعد الزمن بينكم وبينه هو الذي سبّب ضياع هذا المخصص.

إذن فغير معلوم إنّ السامع مباشرة من نفس الإمام عليه‌السلام كان يراه كثيرا ما يعتمد على المخصصات المنفصلة ، بل لعلّ هذه المعرضية نشأت من مرور السنين ، لا انّ الإمام عليه‌السلام كان يتقصد ذلك.

٣١٧

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يقال : بأنّ هذه العمومات التي سمعها هؤلاء ، لم يكونوا يفحصون عن المخصص لها. باعتبار أنّهم كانوا يرون أنفسهم انّهم القدر المتيقن للعام الذي لا يقبل التخصيص ، يعني أنّ العام له قدر متيقن ، وهو ما وقع في مجلس التخاطب ، والتخصيص يخص غير هذا القدر المتيقن ، وبما إنّه القدر المتيقن ، فحينئذ ، لا يجب عليه الفحص عن المخصص ، وهذا بخلافه بالنسبة لنا ، فإنّ العموم لا يشكّل قدرا متيقنا بالنسبة لنا ، بمعنى انّه لا يشملنا ، وإنّما يشمل المخاطب فقط.

وهذا التفسير يحتوي على نكتة صحيحة ، إلّا انّها ليست نافعة ، لأنّ زرارة وأمثاله ، لم يكونوا يعملون بهذه العمومات لأنفسهم فقط ، بل كانوا يفتون الآخرين بمضمونها ، مع كونهم القدر المتيقن ، إذن فهذه النكتة لا تفسّر المدّعى.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو انّ العام وإن كان في معرض التخصيص ، إلّا انّ السامع مباشرة بهذا العام ـ أي الرواة من الطبقة الأولى ـ كان فحصهم عن المخصصات العرضية موجبا للعسر والحرج أو مخالفا للتقية ، بينما غيرهم ممن تأخّر عنهم ، ولم يكن مخاطبا مباشرة ، ليس كذلك ، كيونس بن عبد الرحمن ، فإنّ التفتيش عن المخصص في عصره لم يكن يشكل عليه أيّ عسر أو حرج بل قد يقال : بأنه لم يكن موجبا للتقية ، ومن هنا اختلف حكمهم عن غيرهم ممّن بعدهم.

وعليه : فعدم وجوب الفحص كان لحكم اقتضى تنزيل فحص الخالي من الحرج منزلة فحصنا ، كما اقتضى تنزيل عدم الفحص المرافق للحرج منزلة الخالي من الحرج.

٤ ـ الاحتمال الرابع : هو أن يقال : إنّ كلّ كلام يصدر عن المعصوم عليه‌السلام له مفادان.

الأول منهما ، مفاد ظاهر بارز ، وبه يكون بيان الحكم الواقعي الأولي ، وهذا هو الذي ترد عليه المخصصات.

٣١٨

والثاني منهما ، مفاد منطوي خفي ، وبه يكون تشخيص الوظيفة الشرعية الفعليّة للسائل المخاطب ، بحيث انّا نلتزم بوجود مصلحة ولو سلوكيّة تقتضي كون وظيفة السائل هي ظاهر هذا الكلام والعمل على طبقه ، حتى لو فرض إنّه كان خارجا بالتخصيص عن العام.

فيرجع هذا ، إلى ان الخطاب هذا له مدلولان ، مدلول بحسب قواعد اللغة ، ومدلول ضمني يفهم من الإمام عليه‌السلام بالقرائن.

وبناء عليه : يعلم هذا المكلف السائل ، إنّ وظيفته الفعليّة هي العمل بالعام سواء كان هناك مخصص أو لم يكن ، إذ انّ الفحص غير واجب عليه لعدم احتمال التخصيص بلحاظه.

وبناء عليه ، لا يكون لهذا المطلب أثر عملي بالنسبة لنا ، كما السابق أيضا مثله.

إذن ، فهذه الظاهرة لا يمكن أن تكون دليلا على خلاف ما قلناه من وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام.

المقام الثاني : وأما مقدار الفحص اللازم. فهو الفحص بمقدار تنتفي به المعرضية للتخصيص كما ذكره صاحب الكفاية (قده). هذا إذا كان مدرك لزوم الفحص الوجه الثالث ، وأمّا إذا كان مدرك الفحص هو العلم الإجمالي بالتخصيص في ما وصل إلينا من الأحاديث ، فلا بدّ من الفحص عن المخصص فيها بحيث به تنتفي المعرضية للتخصيص أيضا.

اختصاص الخطاب بالمشافهين وعدمه.

ثم في الموجودين ، هل تخص الحاضرين مجلس التخاطب أم أنّها تعم الغائبين؟

وقد ذكر المحقق النائيني (قده) (١) ، انّ هذا البحث ينحل إلى نزاعين ، أحدهما نزاع في مسألة عقلية ، والثاني نزاع في مسألة لفظية.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ٢ ـ ص ٤٨٩ ـ ٤٩٠.

٣١٩

أمّا النزاع الأول : فيتمثل في إمكان مخاطبة المعدومين والغائبين ، بمعنى انّ مخاطبة المعدوم أو الغائب ، هل هي معقولة أم لا؟ وهذا بحث عقلي.

وأمّا النزاع الثاني : فهو لفظي ، بمعنى انّ أدوات الخطاب ، هل هي موضوعة لخصوص المخاطبين الموجودين زمن صدورها ، أم للأعم منهم ومن المعدومين؟.

وقد اعترض السيد الخوئي (قده) (١) على هذا التحرير لمحل النزاع وقال : إنّ النزاع ينحصر في الثاني فقط ، لأنّ الأول لا يحتمل وقوعه عادة بين العلماء لوضوح المسألة ، فإنّ التخاطب إن أريد به التخاطب الجدّي ، فمن البديهي عدم معقوليته مع المعدوم والغائب ، وإن أريد به التخاطب الإنشائي فهو معقول وممكن ، بل هو واقع ، كخطاب «الليل والطير» ونحوه كثير كما في كتب الأدب ، إذن فالنزاع الأول غير صحيح ، وإنّما الصحيح هو النزاع اللفظي ، وهو انّ أدوات الخطاب ، هل هي موضوعة للخطاب الحقيقي لتختص بالحاضرين ، أم انّها موضوعة للخطاب الإنشائي ، فتعم الموجودين والغائبين؟

والصحيح هو ما أفاده السيد الخوئي (قده) سلبا ، حيث ذهب إلى انّ التخاطب الحقيقي مع المعدومين والغائبين لا معنى للنزاع في استحالته ، وذلك لوضوح استحالته.

وأمّا التخاطب الإنشائي ، فلم يدّع أحد نفيه ، وذلك لوضوح إمكانه.

لكن رغم هذا ، يبقى النزاع في انّ أدوات الخطاب ، هل هي موضوعة للخطاب الحقيقي ، أم انّها موضوعة للخطاب الإنشائي؟

وكأنّ القائلين بأنّ الخطابات تختص بالمشافهين ، مرجع قولهم إلى

__________________

(١) محاضرات فياض ـ ج ٥ ـ ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٣٢٠