بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

يقدم على إطلاق المفهوم ، سواء كان متصلا ، لأنّه يوجب انهدام الإطلاق في المفهوم ، أم كان منفصلا عنه ، فإنه يقدّم عليه أيضا للأقوائية.

٢ ـ الصورة الثانية : هي أن يفرض إنّ العام كان عمومه بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وحينئذ يقال : بأنّه لا موجب لتقديم أحد المطلقين على الآخر ، لأنّ كلا منهما ثابت بمقدمات الحكمة ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر لا في فرض الاتصال ولا في فرض الانفصال ، اللهم ، إلّا أن يستظهر الفقيه نكتة من الدليل في مورد خاص ، فيحسب حسابها ، دون الأصولي ، لأنّه لا ضابط كلّي لديه في المقام كما عرفت.

وفي قبال هذا الكلام شبهتان.

الشبهة الأولى : هي أن يقال : بأنّه يقدّم ظهور العام ولو كان بمقدمات الحكمة ، لأنه منطوقي ، على إطلاق المفهوم ، لأنه مفهومي ، والمنطوقي أقوى.

والجواب : هو انّ هذا الكلام ظاهري ، لأنّ التعارض هنا بين منطوقين في الحقيقة ، وذلك لأنّ المفهوم في الشرطيّة هنا هو مدلول التزامي لحيثية مأخوذة في منطوق الجملة الشرطية ، وحينئذ ، فالعموم المعارض مع اللازم ، معارض مع الملزوم ، وعليه تسري المعارضة إلى الحيثية المأخوذة في المنطوق.

ومن هنا قلنا : بأنّ المعارضة بين المنطوقين بحسب الحقيقة ، إذن فلا بدّ من ملاحظة ميزان كل من الدلالتين.

الشبهة الثانية : هي انّه قد يتوهم بناء على هذا التعيين ، ضرورة تكافؤ عموم العام ، وإطلاق المفهوم دائما ، لأنّ كلا منهما مسببا عن مقدمات الحكمة ، وهي واحدة دائما ، وما ذكر من انّ الفقيه قد يستظهر الأقوائيّة في أحدهما ، فهو غير معقول ، إذ لا معنى لأقوائيّة أحدهما في خصوص مورد ، وأقوائيّة الآخر في مورد آخر ولو صدفة ، لما عرفت.

والجواب هو : إنّه صحيح انّ مقدمات الحكمة دائما على وتيرة واحدة

٣٨١

وحدّ واحد ، لكن نفس مقدمات الحكمة تحتاج إلى ما يدل عليها ، وحينئذ ، لو كان ثبوت المقدمات قطعيا دائما فلا بأس بأن يقال حينئذ ، إنّ نتيجتها واحدة ، لكن إحدى المقدمات ، وهي كون المولى إنه في مقام البيان ، وانّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، هذه المقدمة لا بدّ لها من دليل دال عليها ، وقد يكون الدليل عليها هو ظهور حالي في المتكلم نسمّيه باصالة كونه في مقام البيان ، وهذا الظهور الحالي قابل للشدة والضعف ، إذن ، فالاختلاف ينشأ من اختلاف الدال على مقدمات الحكمة.

والخلاصة هي انّه إذا كان عموم العام وإطلاق المفهوم ثابتان بمقدمات الحكمة ، فلا موجب لتقديم أحدهما على الآخر إلّا لنكتة يستظهرها الفقيه ويشخصها في أحدهما كما عرفت.

٢ ـ الفرض الثاني : وهو ما إذا كان العام معارض مع أصل مفهوم المخالفة ، كما لو ورد ، «أكرم كلّ عالم» ثم ورد ، «إذا كان العالم عادلا فأكرمه» ، فهنا : لو قدّمنا عموم «أكرم كل عالم» ، على مفهوم «إذا كان العالم عادلا فأكرمه» ، والتزمنا بوجوب إكرام كل عالم ، سواء كان عادلا أم فاسقا ، لزم إلغاء المفهوم رأسا ، وهذا معنى كونه معارض لأصل المفهوم ، وهنا فرضيتان.

الفرضية الأولى : هي أن يفترض انّ دلالة الجملة الشرطية على أصل المفهوم قد ثبتت بالوضع ، وذلك ، إمّا بدعوى ، إنّ أداة الشرط موضوعة للعليّة الانحصاريّة لترتب الجزاء على الشرط ، ترتب المعلول على علته المنحصرة ، كما هو بعض المسالك في المفهوم ، وإمّا بدعوى انّ مفهوم الشرط يثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

الفرضية الثانية : هي أن يفترض انّ مفهوم الشرط يثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

والمعالجة ، تارة تكون على أساس الفرضية الأولى ، وأخرى على أساس الفرضية الثانية.

٣٨٢

أمّا الفرضية الأولى : فيقال : بأنه لا إشكال في تقديم المفهوم على عموم العام ، سواء كان عموم العام بالوضع أو بمقدمات الحكمة ، وسواء كان العام متصلا بالشرطية أو منفصلا عنها ، وذلك للأخصيّة في المفهوم ، لأنّ دلالة الجملة الشرطية على أصل المفهوم ، دلالة كلاميّة ، وهي أخص من عموم العام.

ومعنى هذا ، إنّ تقديم العام يستوجب إلغاء دلالة الجملة الشرطية على المفهوم.

وهذا بخلاف تقديم المفهوم ، فإنّه لا يستوجب إلغاء العام ، بل نرفع اليد عن عمومه فقط.

هذا مضافا إلى نكات أخرى قد تقترن بالكلام وتستوجب تقديم المفهوم.

منها ما لو كان عموم العام ثابت بالإطلاق ، وكان متصلا بالشرطية ، فإنّه حينئذ ، يكون المفهوم مانعا من انعقاد مقدمات الحكمة ، ومعه ، يمنع من انعقاد ظهور للعام في الإطلاق ، لعدم تماميّة مقدمات الحكمة.

وأمّا الفرضية الثانية : وهي ما إذا كانت الجملة الشرطية ، تدل على المفهوم بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وليس بالوضع ، فإنّه حينئذ ، قد يستشكل في تقديم المفهوم على عموم العام ، حيث يقال : بأنّ عموم العام إذا كان ثابتا إطلاقه بمقدمات الحكمة ، وكان أصل ثبوت المفهوم أيضا ثابت بالإطلاق المقابل للتقييد ـ كإطلاق الشرط المقابل للتقييد «بأو» ـ إذن ، فالتعارض يكون بين ظهورين كل منهما نتيجة مقدمات الحكمة ، إذن فالأمر دائر بين تقييدين ، بين تقييد العام وتخصيص الوجوب بالعالم العادل ، وبين تقييد إطلاق الشرط بحيث يسقط المفهوم لسقوط دلالة الشرطية حينئذ على العليّة الانحصارية ، وحينئذ ، لا موجب لتقديم أحد هذين التقيدين على الآخر ، بل مقتضى القاعدة عند التعارض هو تساقطهما.

٣٨٣

وأمّا إذا كان عموم العام ثابتا بالوضع ، فحينئذ ، قد يقال بتقديم عموم العام على أصل المفهوم ، لأنّ أصل المفهوم كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وكان عموم العام بالوضع ، وقد يجعل هذا التقسيم قرينة على بطلان الفرضية الثانية ، أي قرينة على أنّ الشرطية تدل على المفهوم وضعا لا بمقدمات الحكمة وتعيّن الفرضيّة الأولى ، وذلك لأنه إذا صوّر مثل ذينك الخطابين خارجا ، فإنّ العرف لا يشك في لزوم تقديم المفهوم على العموم كما في مثالنا ، وإذا لم يكن مسوّغ لتقديمه إلّا الأخصيّة ـ الفرضية الأولى ـ يستكشف إنا عن صحتها وبطلان الثانية.

ولو تنزلنا وقلنا بأنّ الشرطية تدل على المفهوم بمقدمات الحكمة والإطلاق فما يمكن أن يقال حينئذ في تفسير تقديم المفهوم على عموم العام على أساس الفرضية الثانية أحد وجوه.

١ ـ الوجه الأول : هو ان دلالة الجملة الشرطية على المفهوم حينئذ لها معنيان.

أ ـ المعنى الأول : دلالة الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء ولو بالجملة.

ب ـ المعنى الثاني : دلالة الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء بقول مطلق.

وحينئذ ، بناء على الأول ، يبقى احتمال انّ الوجوب ثابت على مطلق العالم ، وهذا الاحتمال ، لا تنفيه مقدمات الحكمة ، بل بنفس ظهور العنوان.

وحينئذ ، لو فرضنا انّا قدّمنا عموم «أكرم العالم» على المفهوم ، وحكمنا بوجوب إكرام كلّ عالم ، عادلا كان أم فاسقا ، فهذا معناه : إلغاء دخل الشرط رأسا ، ويكون هذا تصرفا في ظهور لفظي لا في إطلاق حكمي.

وأمّا بناء على الثاني : وهو ما إذا كانت دلالة الشرطيّة على الانتفاء بقول مطلق ، فإنّه يقال : إنّ مقتضى الإطلاق ، وعدم التقييد «بأو» ـ حيث انّه لم

٣٨٤

يقيّد بها ـ هو انّ الهاشمية لا تعوض عن العدالة ، فهنا حينئذ عندنا دلالتان.

دلالة على نفي كون المطلق على إطلاقه ، موضوعا للحكم ، وهذا يرجع إلى ظهور لفظي حتى عند أصحاب الفرضية الثانية.

ودلالة على أنّ العدالة لا يعوّض عنها الأشياء الأخرى المحتملة ، فهذا يكون بالإطلاق.

وفي المقام ، لو إنّنا قدّمنا العام على المفهوم ، للزم هدم الدلالة الأولى دون الثانية ، أي انّه يلزم كون المطلق موضوعا للحكم ، وهذا على خلاف الدلالة الأولى ، فيقدّم مفهوم المخالفة لا محالة.

وإن شئت قلت : إنه بناء على المعنى الثاني يقال : إنّ مقتضى الإطلاق وعدم التقييد «بأو» ـ حيث لم يقيّد بها ـ إن الهاشمية لا تعوّض عن العدالة ، فهنا حينئذ دلالتان ، وتقديم العام يلزم منه هدم الدلالة الأولى لا الثانية ، وهي كون المطلق موضوعا للحكم ، وهو على خلاف الأولى ، فيتقدم المفهوم على العام حينئذ.

وهذا التقريب وإن كان في نفسه صحيح ، لكنه في المقام لا ينتج فنيا تمام المطلوب ، لأنّه ينتج تقديم الدلالة الأولى للمفهوم على العام وهو انّ المطلق على إطلاقه ليس موضوعا لوجوب الإكرام ، إذن ، فيلتزم بوجود قيد فيه ، ومعه ، يلتزم بوجوب تقديمه.

لكن لو فرض انّ هذا كان له قدر متيقن ، فحينئذ ، كيف نستطيع تقديمه بالدلالة الثانية ، بأن نرفع اليد عن تمام المطلق.

إذن فغاية ما يقتضيه البيان المذكور هو ، انّ العالم ، على إطلاقه لم يقع موضوعا لوجوب الإكرام ، لكن في مثل رفع اليد عن وجوب إكرام العالم الفاسق الهاشمي وجاره ، في هؤلاء لو عملنا بإطلاق المطلق بالنسبة لهم ، فإنّ ذلك لم يوجب إلغاء الدلالة الأولى ، بل يوجب إلغاء الدلالة الثانية ، فلا يقتضى هذا إلّا التقديم بمقدار الدلالة الثانية على العام ، ويكفي في مقام حفظ

٣٨٥

الدلالة الأولى وتقديمها ، رفع اليد عن إطلاق المطلق بالنسبة لغير من يحتمل فيه هذه الخواص ، وأمّا من يحتمل فيه فيكون عموم العام ثابتا فيه.

٢ ـ الوجه الثاني : في تفسير تقديم المفهوم على عموم العام على أساس الفرضية الثانية هو أن يقال : إنّ التعارض وإن كان بين إطلاقين ، لكن أحد الإطلاقين وهو إطلاق «أكرم العالم» ، في جانب الموضوع ، أي إنه مأخوذ في مرتبة الموضوع ، والآخر محمولي ، أي انّه مأخوذ في جانب المحمول ، وهو إطلاق الشرطية ، لأنّ موضوعه حصة من موضوع العام.

وحينئذ : ففي مثله ، أي كلّما كان التعارض بين هكذا إطلاقين يقدم الإطلاق في جانب المحمول على الإطلاق في جانب الموضوع لأنه أخص مطلقا من موضوع العام فيقدم عليه ، فإنّ الإطلاق في «أكرم العالم» ، موضوعي حيث انّه مأخوذ في مرتبة الموضوع ، لأنّ موضوع وجوب الإكرام هو طبيعي العالم ، بينما الإطلاق في الشرطية هو في المحمول ، لأنّ موضوعها هو حصة من موضوع العالم ، وهو العالم حين العدالة ، إذن ، فمن حيث الموضوع أحدهما أخص من الآخر ، وإن كان من ناحية المحمول ، العام أعم ، لكن العبرة بالموضوع.

وهذه قاعدة تطبّق على موارد كثيرة في الفقه.

منها : ما ورد من قوله : اغسل يديك من أبوال ما لا يؤكل لحمه مرتين ، ثم ورد ، اغسل من بول الصبي ، فهذان الدليلان لوحظ الموضوع فيهما ، فإنّ أحدهما أخصّ مطلقا من الآخر ، لأنّ موضوع الأول مطلق البول ، وموضوع الثاني ، بول الصبي ، لكن لو لوحظ المحمول ، فهو مطلق من حيث التعدد وعدمه ، بل يدل على عدم وجوب التعدّد بالإطلاق. وحينئذ قد يقال هنا : إنّ التعارض بين إطلاق الموضوع في الدليل الأول ، وإطلاق المحمول في الدليل الثاني ، ولا موجب لتقديم أحدهما على الآخر.

وقد يقال : بتقديم الثاني ، لأنّه أخص مطلقا من حيث الموضوع ، وإن كان أعم من حيث المحمول.

٣٨٦

وقد قلنا : إنّ الميزان في التقديم بالأخصيّة ، هو الأخصيّة في الموضوع ، وحينئذ ، لو فرضنا انّا بنينا على أنّ الميزان في القرينيّة هو الأخصيّة في الموضوع مطلقا ، وفسّرنا الموضوع ، بأنه ما أخذ مفروض الوجود ، حينئذ ، تكون الجملة الثانية أخص موضوعا من الأولى مطلقا ، أي يكون مفهوم الشرط أخصّ مطلقا من العام موضوعا ، فيقدّم عليه.

لكن ذكرنا في الفقه : إنه لا موجب لملاحظة الأخصيّة بلحاظ الموضوع فقط ، بل الأخصيّة تلحظ بين مدلولي هذا الكلام بمجموعه الجملي الوحداني ، وتلحظ النسبة بينهما بما هما كذلك ، لا بين الأجزاء التحليليّة ، وبعد ذلك ، فما كان منهما أخصّ قدّم على الآخر.

٣ ـ الوجه الثالث : في تفسير تقديم عموم العام على المفهوم ، على أساس الفرضية الثانية هو أن يقال : إنّ الإطلاق في الشرطية إنّما قدم على عموم العام ، لأنه ينتج التعيين في فرد ، وهذا الفرد يكون أخص مطلقا من العام.

وتوضيحه هو : إنّ الإطلاق وعدم ذكر القيد تارة يوجب التوسعة ، وأخرى ، يوجب الانصراف إلى الفرد الأشهر والأعرف ، فمثلا : لو قال : «أكرم عالم البلد» ، بنحو القضية الحقيقية ، فهذا الإطلاق يوجب التوسعة ، حيث نفهم منه وجوب إكرام كل من يصدق عليه هذا العنوان ، لكن لو قال : «أكرم عالم البلد» بنحو القضية الخارجية ، ولم ينصب قرينة على الخلاف ، فإنه حينئذ ، ينصرف إلى الفرد الأشهر والأعرف ، فهنا هذا مطلق أيضا ، لكنه أوجب الانصراف إلى الفرد الأشهر ، وحينئذ ، لو فرض انّ هذا الفرد الأشهر ، كان مشمولا لإطلاق يوجب عدم وجوب إكرامه ، فحينئذ ، يقع التعارض بين الكلامين ، وحينئذ هل نعاملهما معاملة المتعارضين المتكافئين ، أم نخصص أحدهما بالآخر؟ ولا إشكال في انّ قوله : «أكرم عالم البلد» ، يخصّص ذلك الإطلاق الآخر ـ «لا تكرم بني فلان» ـ وذلك لأنّ الإطلاق في قوله : «أكرم عالم البلد» ، شأنه يقتضي تضييق «لا تكرم بني فلان» ، وحينئذ ، فيقدم عليه

٣٨٧

بالتخصيص ، لأنه كلّما كان نتيجة الإطلاق التعيين في الفرد ، كان أخص مطلقا ، والعرق إنّما يأخذ النتيجة النهائية للإطلاقين ، وهو تخصيص إطلاق بني فلان ، بإطلاق أكرم عالم البلد بعد تعيينه في زيد ، لأنه أخص منه ، فيقدم عليه. وحينئذ ، نطبق هذه النكتة على تخصيص العموم النافي للوجوب في «لا تكرم أحدا من بني فلان» ، «بأكرم فلانا» ، بناء على أنّ صيغة «افعل» تدل على الوجوب بالإطلاق والانصراف إلى أكمل الأفراد ، وحينئذ ، لا نقول : بأنّ هنا تعارضا بين إطلاقين ، بل نقول : بتحكيم «أكرم فلانا» في «لا تكرم بني فلان» ، باعتبار أنّ الإطلاق الأول ينتج التعيين ، فيكون أخص مطلقا.

ونفس هذا الكلام نطبقه في محل الكلام ، فيقال : إنّ إطلاق الشرطية هنا ، يقتضي تعيين العليّة الانحصاريّة ، وحينئذ ، نأخذ النتيجة النهائية ونقول : انّ هذا أخصّ مطلقا من ذاك ، فيقدم عليه.

إلّا أنّ هذا الكلام ، كلّه تقدير في تقدير ، وإنّما الصحيح هو الفرضيّة الأولى ، وهي انّ الشرطية تدل على المفهوم بالوضع ، ومعه تكون النتيجة هي تقديم المفهوم لأنه أخص مطلقا على عموم العام ، سواء كان عموم العام بالوضع أو بالإطلاق ، متصلا أو منفصلا.

وأمّا إذا فرضنا انّ دلالة الشرطية على أصل مفهوم المخالفة كانت بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فحينئذ ، قد يستشكل في تقديم المفهوم على العام ، فيما إذا كان عموم العام ثابتا بمقدمات الحكمة والإطلاق أيضا ، وذلك للتكافؤ بينهما حينئذ.

وكنّا قد ذكرنا ثلاثة حلول لتفسير تقديم المفهوم على العام ، وقد عرفت انّا لم نرتض الأول وكذلك الثاني ، ثم بيّنا الحل الثالث وسكتنا عنه ، ولكن أيضا لا يمكن الالتزام به لتفسير تقديم المفهوم.

وذلك لأنّ هذا الحل كان مبنيا على مقدمة حاصلها : هو أنّ الإطلاق على قسمين.

٣٨٨

أ ـ القسم الأول : هو أن يكون الإطلاق منتجا للتوسعة ، مثل : «أكرم العالم».

ب ـ القسم الثاني : هو أن يكون الإطلاق منتجا للتضييق والتعيين ، مثل : «أكرم عالم البلد» ـ بنحو القضية الخارجية ـ ومثال الإطلاق في الأول يقتضي عدم اختصاص الإكرام بشخص معيّن ، بينما مثال الإطلاق في الثاني ، يقتضي الانصراف إلى أكمل وأشهر الأفراد ، وحينئذ ، لو فرض أن تعارض إطلاقان وكانا من قبيل القسم الأول ، يكونان متكافئين لأنهما معا بالإطلاق ، وإذا فرض أنه تعارض إطلاقان وكان كلاهما من قبيل القسم الثاني ، فأيضا يتكافئان فيتعارضان ، كما في «أكرم عالم البلد» ، و «لا تكرم الشيخ» ، وكان كل منهما ينصرف إلى عين ما ينصرف إليه الآخر ، وثالثة ، يفرض انّ أحد الإطلاقين من القسم الأول ، والآخر من القسم الثاني ، وكان أحدهما موجبا للتوسعة ، والآخر موجبا للتضييق ، كما لو قال : «لا تكرم بني فلان» ، ثم قال : «أكرم عالم البلد» ، وكان عالم البلد ينصرف إلى الأكمل ، وكان هذا الأكمل من بني فلان ، وحينئذ ، يكون التعارض بين إطلاقين ، ويكون هذا الفرد الأكمل مشمولا لكلا الإطلاقين فيتعارضان فيه.

وهنا يتعامل العرف مع الدليلين معاملة الخاص والعام ، ويكون الأول ـ «أكرم عالم البلد» ـ واردا على الثاني ـ «لا تكرم بني فلان» ـ فيخرج هذا الفرد تخصيصا من عموم ـ «لا تكرم بني فلان» ـ باعتبار انّ العرف عند ما يريد أن يشخص القرينة من ذي القرينة ، يلحظ النتيجة النهائية المعطاة لكل من الدليلين ، فإذا لاحظ النسبة بينهما ، فيرى انّها نسبة العموم والخصوص المطلق ، فيقدم الخاص ، وبهذا صحّت قرينيّة الكلام الثاني على الأول.

وهذه مقدمة كليّة صحيحة في نفسها ، وقد ذكرنا لها مثالا فقهيا في باب الوجوب ، ثم طبقناها على التقريب الثالث من محل الكلام حيث قلنا : إنّ إطلاق «أكرم العالم» يقتضي التوسعة ، وأمّا إطلاق الترتب في الشرطيّة في قوله : «إذا كان العالم عادلا فأكرمه» ، فإنه يقتضي التعيين لا التوسعة ، وهذان

٣٨٩

الإطلاقان ، إذا تعارضا نطبّق عليهما الكلام الوارد في المقدمة ، فنخصّص إطلاق العام الظاهر في التوسعة ، بإطلاق الشرطيّة الظاهر في التعيين.

وما قلناه في البحث السابق ، وسكتنا عنه ، صحيح لو كان الإطلاق المدّعى في الشرطيّة إطلاقا يقتضي ترتب الجزاء على الشرط في الفرد الأكمل ، فحينذاك ، يكون إطلاقا نتيجته التضييق ، ومن ثمّ التعيين ، ومن ثمّ يصبح أخصّ من الإطلاق الأول الذي يقتضي التوسعة.

وأمّا لو فرض انّ هذا الإطلاق ليس انصرافيا ، بل هو إطلاق سيق لشيء آخر ، سواء سبقه شيء آخر أم لا ، فحينئذ من الواضح انّه لا يكون له مدلول عرفي أخص ، كي نقدمه على عموم ذلك العام.

إذن فالإشكال من هذه الناحية ، يبقى واردا على الفرضيّة الثانية القائلة بأنّ دلالة الشرطيّة على المفهوم تكون بالإطلاق واخترنا نحن أن تكون دلالة الشرطيّة على المفهوم بالوضع ، لأنّ أداة الشرط نفسها موضوعة لإفادة التعليق ، فحينئذ ، الإشكال يبقى ، لأنّ هذا التقريب إنما ينجح في موارد أخرى ، ومقامنا ليس منها.

وكذلك ، فكما انّ هذا التقريب الثالث غير تام ، وإن تمّ على بعض مسالك الإطلاق ، فكذلك مبنى كون الجملة الشرطية انّه تدل على المفهوم بالوضع ، لا يفيدنا وحده في علاج هذه المشكلة ، لأنّا ذكرنا في بحث مفهوم الشرط إنّ أداة الشرط تدل على تعليق الجزاء على الشرط بنحو يستوجب الانتفاء عند الانتفاء.

ولكن مع هذا ، فإنّ هذا التعليق ، حتى يشكّل سالبة كليّة فإنه يحتاج إلى ضم إطلاقين إليه ، أحدهما ، إطلاق المعلّق ، لإثبات انّ هذا المعلّق هو سنخ الحكم لا شخصه ، وكون المعلّق سنخ الحكم ، لا يثبت بالوضع ، وإنّما يثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة في مفاد الجزاء ، والإطلاق الآخر ، هو إطلاق التعليق ، فإنّ أداة الشرط موضوعة للتعليق ، لكن ليست موضوعة له بقيد أن تكون مطلقة ، بل أعم من ذلك وهذا يلائم التعليق في بعض الأحوال ، كما

٣٩٠

يلائم التعليق في جميع الأحوال ، لكن إثبات كونه تعليقا في جميع الأحوال ، أي مطلقا ، لا يكون إلّا بمقدمات الحكمة ، إذن فنرجع مرة أخرى إلى مقدمات الحكمة ، وحينئذ نسأل : إنّه لما ذا نطرح عموم العام ونقدم المفهوم؟ مع انّ تمام المفهوم لا يثبت إلّا بمقدمات الحكمة.

وجواب هذه المشكلة هو ، دعوى انّ المفهوم يكون في المقام حاكما على عموم العام ، ومع الحكومة لا يلتفت إلى النسبة بينهما ، وانّها العموم من وجه.

وتوضيحه : إنّا تارة ، نحرز من الخارج وحدة الحكم المجعول في الخطابين ، خطاب ، «أكرم العالم» ، وخطاب «أكرم العالم إذا كان عادلا» ، وحينئذ ، تكون الحكومة واضحة ، لأنّ قوله : «إذا كان العالم عادلا فأكرمه» ، يعتبر تقييدا للحكم المجعول في قوله «أكرم العالم» ، والتقييد ناظر إلى المقيّد ، وان هذا المقيّد غير ذاك العام ، فيقدم عليه.

وأخرى ، يفرض إنّا لم نحرز ذلك من الخارج ، وإنّما وقع التعارض بين المفهوم وعموم العام باعتبار انّ المفهوم يدل على انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشرط ، ومن هنا وقع التعارض بينه وبين العام ، لأنّ الشرطيّة تعارضها مع العام لا يتوقف على إحراز وحدة الحكم من الخارج ، بل يكفي أن تدل على نفي سنخ الحكم فتتعارض مع العام.

وهذا بخلاف الجملة الوصفية أو التقييديّة ، فإنّه لمّا لم يكن لها مفهوم لا تعارض العام ، ما لم نحرز وحدة الحكم المجعول من الخارج ، وحينئذ ، إذا احتملنا إنّ الحكم المجعول في هذا الخطاب غيره في العام ، فهنا تقع المعارضة بين المفهوم والعام بإجراء مقدمات الحكمة لإثبات انّ هذا القيد قيد لسنخ الحكم في الشرطية لا لشخصه ، إذ بمقدمات الحكمة والإطلاق نثبت إنّ النظر إلى سنخ الحكم في مقام التقييد ، وهذا يعني ، انّ هذا الدليل سوف يكون ناظرا ببركة مقدمات الحكمة إلى سنخ الحكم الشامل للحكم المجعول في العام ، وحينئذ ، لا ينظر إلى النسبة ما بين الدليل الحاكم والمحكوم ، إذ

٣٩١

النسبة وإن كانت هي العموم من وجه ، لكن مع هذا ، يكون هذا الإطلاق مقدّما باعتباره حاكما ، لأنّ التقييد ناظر إلى المقيّد ، ومقدمات الحكمة توسع من دائرة المقيّد المنظور إليه ، فيقدّم هذا بالحكومة على ذاك ، فدليل «أكرم العالم إذا كان عادلا» ، ناظر إلى الحكم بوجوب الإكرام ، لكن إلى سنخ الوجوب وتمام أفراده ، فيكون ناظرا حينئذ للوجوب المجعول في العام فيقدّم عليه بالحكومة.

٣٩٢

تعقب الاستثناء لجمل متعددة

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة ، فحينئذ ، هل يرجع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، ويتمسك بإطلاق الجمل السابقة؟ أو انّه يرجع إلى الجميع؟ أو أنه يرجع إلى الأخيرة ، وما قبلها يكون مجملا فلا يتمسك فيها بشيء لا بالعموم ولا بالاستثناء؟

وتحقيق الكلام في المقام هو أن يقال : إن الجمل المتكررة ، تارة يفرض فيها تكرر الموضوع والمحمول ، وأخرى يفرض تكرر المحمول فقط ، وثالثة يفرض تكرر الموضوع فقط.

أمّا في الصورة الأولى ، وهي ما إذا تعدّدت الجمل بتعدد الموضوع والمحمول ، كما لو قال : «أكرم العلماء ، وأكرم الشيوخ ، وأكرم الهاشميين إلّا الفساق» فهنا : تارة يكون الاستثناء بالحرف «إلّا» كما في المثال ، وأخرى يكون بالاسم كما لو قال : «أستثني» الفساق أو «مستثنيا» الفساق.

فإن كان الأول ، أي استثناء بنحو المعنى الحرفي ، فالظاهر هو تعيّن رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة. ويبقى ما عداها على إطلاقه ما لم تقم قرينة على رجوعه إلى تمام الجمل.

والدليل على ذلك هو ، انّه لو قال : «أكرم العلماء ، وأكرم الشيوخ ، وأكرم الهاشميين إلّا الفساق» ، فحينئذ نقول : إنّ أداة الاستثناء استعملت في النسبة الاستثنائية ، والنسبة تتقوم بطرفيها ، وهما المستثنى ، والمستثنى منه ، ومعنى هذا ، إن أحد هذين الطرفين لو كان متعددا لأوجب تعدد النسبة لا

٣٩٣

محالة ، بمقتضى اندكاكيّتها في طرفيها ، إذ يستحيل مع تعدد الطرف وحدة النسبة ، لأنّ النسبة معنى اندكاكي تابع للطرفين ، إن اتحد الطرف اتّحدت ، وإن تكثّر تكثرت ، وحينئذ ، لا يخلو أمر هذا المستعمل من أحد وجوه ثلاثة وكلها باطلة.

١ ـ الوجه الأول : هو أن يبقى المستثنى منه على كثرته ، فيتعامل معه كثلاث جماعات ، وحينئذ ، لا محالة يكون عندنا ثلاث استثناءات ، لكل جماعة نسبة استثنائية ومن دون أن يعمل أيّ توحيد اعتباري عنائي بينها ، وحينئذ ، إذا أراد المستعمل أن يستعمل الحرف ابتداء في مجموع هذه النسب الثلاث ، فيكون هذا استعمالا للفظ في أكثر من معنى ، وهو باطل.

٢ ـ الوجه الثاني : هو انّ المستعمل ، لو أراد استعمال الحرف ـ «إلّا» ـ في الجامع بينها ، وهو يريد جدا الأطراف الثلاثة في المستثنى منه ، فهو خلف وضع الحرف ، إذ الوضع في الحرف خاص ، والمستعمل فيه خاص ، ومرادنا بالخصوصية ليس هو الجزئية الذهنية أو الخارجية ، بل تشخّص النسبة بطرفيها ، ولا يمكن أن يكون الحرف موضوعا للجامع بين نسبتين متغايرتي الأطراف ، إذ لا جامع بين ذلك كما برهنّا عليه في محله ، إذ استعمال اللفظ في جامع مفروض هو خلف الجزئية الطرفية ، إذن فهذا الوجه غير تام.

٣ ـ الوجه الثالث : هو أن يفرض انّ المستعمل أعمل عناية ، فجمع الأطراف الثلاثة للمستثنى منه ، وجعلها طرفا واحدا ، ثم جعل هذا الطرف طرفا للنسبة ، فتكون النسبة الاستثنائية حينئذ واحدة ، وحينئذ يكون استعمال ـ «إلّا» ـ في النسبة الاستثنائية معقولا ، لكنّه خلاف الظاهر إثباتا ، لأنّ مثل هذا التوحيد والاستعمال ، يحتاج إلى نصب قرينة عليه ، ومع عدم القرينة ، تنفى تلك العناية بالإطلاق.

ومع بطلان هذه الوجوه الثلاث ، يتعيّن إرجاع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة في عقد المستثنى منه ، هذا إذا كانت أداة الاستثناء حرفا.

وأمّا إذا كانت أداة الاستثناء ـ «اسما» ـ فالبرهان المتقدم لا يأتي ، لأنّه

٣٩٤

يمكن اختيار الوجه الثاني ، حيث انّه يمكن استعمال الإسم في الجامع ، وإرادة الأطراف الثلاثة للمستثنى منه حينئذ ، لأنّ هذا الاستعمال حينئذ لا ينافي وضع الإسم ، ومعه ، يكون الاستثناء ، قابلا للرجوع إلى الجملة الأخيرة ، وإلى الجميع ، وعلى ضوء هذه القابلية في الإسم ، حينئذ ، يقال :

بأنّ الأخيرة قدر متيقّن ، ويبقى الإجمال فيما قبل الأخيرة مشكوك فيه ومجمل ، إلّا أن يدّعى بأنّ نفس تأخير الاستثناء وإلحاقه بالأخيرة ، يكون قرينة سياقيّة عرفيّة على تخصيصه بالأخيرة ، وحينئذ ، ينتفي الإجمال عمّا قبلها ، فيتمسك بإطلاقها ، أو عمومها ، وهذه القرينة لو تمّت هنا لجرت في موارد الاستثناء الحرفي كذلك.

وأمّا في الصورة الثانية : وهي ما لو فرض انّ الموضوع لم يتكرر ، وإنّما استعين بالضمير ، وكان المتكرر هو المحمول كما في قوله : «أكرم العلماء وقلدهم إلّا الفساق» ، أو ، «أستثني الفساق».

وفي هذه الصورة ، فإنّ ظاهر القضية فنا ، هو الرجوع إلى جميع الجمل ، سواء كان الاستثناء بالحرف ، أو بالاسم ، والنكتة في ذلك ، يمكن استخلاصها ممّا بيّناه في مسألة رجوع الضمير إلى بعض أفراد العام ، حيث قلنا : إنّ الضمير لا يعطي معنى جديدا ، وإنّما هو مجرد مشير إلى الصورة التي يحدثها المرجع في الذهن ، ومن هنا كان لا بدّ وأن يتطابق الضمير مع العام ـ المرجع ـ وعليه ، لا يكون عندنا إلّا صورة واحدة «للعلماء» ، وحينئذ ، لا بدّ أن يكون الاستثناء من هذه الصورة الواحدة ، ومعه تنثلم الصورة ، ولا يبقى إطلاق لا في «أكرم العلماء» ، ولا في «قلدهم» لأنّ كلا الدليلين يعتمد على صورة واحدة وشخصية فاردة ، ومع انثلامها لا يبقى إطلاق في كلا الحكمين ، ولو أراد إرجاع الاستثناء إلى خصوص الأخير لاحتاج إلى القرينة ، وهذا على خلاف الظاهر ، مضافا إلى أنّه يلزم من ذلك أن يكون الضمير قد استعمل في تكرار الموضوع وإعطاء صورة مستقلة جديدة له.

٣٩٥

وقد عرفت انّ هذا خلاف وضع الضمير ، حيث انّه لمجرّد الإشارة إلى الصورة الذهنية الأولى المعطاة بالمرجع ، وحينئذ ، لا بدّ من رجوع الاستثناء إليه ، وبذلك يتخصص الجميع.

أمّا في الصورة الثالثة : وهي أن يفرض انّ التكرار في جانب الموضوع كما لو قال : «أكرم العلماء ، والشيوخ والهاشميين ، إلّا الفسّاق» ، أو «أستثني الفساق» ، فهنا أيضا نقول : إنّ مقتضى ظاهر الدليل إثباتا هو الرجوع إلى الجميع ، وذلك لأنّ هيئة «أكرم» تدل على النسبة الطلبية ، وهذه النسبة قائمة بين ثلاثة أطراف : هم ، «المكرم» ـ الفاعل ـ و «الإكرام» ـ الفعل ـ و «المكرم» المفعول به ، وحينئذ ، نطبق الكلام الذي ذكرناه في الصورة الأولى على المقام فنقول : إنّ الطرف الثالث ـ المفعول به في المقام ـ مؤلف من ثلاثة أفراد ، وهذه الأفراد يستحيل أن تكون أطرافا ثلاثة للنسبة ، لأنّ معناه حينئذ ، انّ لدينا ثلاث نسب ، والمفروض انّه ليس لدينا إلّا نسبة واحدة ، إذن فلا بدّ أن يفرض انّ هناك عناية قد أعملت لتوحيد هذه الجماعات الثلاث في مجموعة واحدة لتكون طرفا واحدا للنسبة ، أي إنّ المفعول يصبح عبارة عن مجموع العلماء والشيوخ والهاشميين طرفا واحدا للنسبة ، لا كل واحد واحد منهم ، وإلّا لكان عندنا ثلاث نسب.

وهذه قرينة على أنّ المتكلم لاحظ هذه الأطراف الثلاثة كمجموعة واحدة قبل الاستثناء.

وحينئذ يقال : إنّه بعد الاستثناء ، إن فرض أنّه يرجع إلى هذه المجموعات بنفس اللحاظ الذي كان قبل الاستثناء ، إذن فقد حصل التطابق بين صدر الكلام وعجزه ، أي ما بين اللحاظ في جانب المستثنى والمستثنى منه.

وإن فرض انّ المتكلم نظر إلى كل واحد من الأطراف الثلاثة بمفرده ، فهذا عدول عن اللحاظ الأول ، وهو بنفسه عناية ، لأنّ ما وحّده أولا ، فرّقه أخيرا ، فيحتاج إلى نصب قرينة تدل عليه ، ومع عدم القرينة ، يكون هذا قرينة

٣٩٦

على الرجوع إلى اللحاظ الأول ، أي إلى الجميع ، وبهذا نكون قد فسّرنا تمام مدّعيات القوم الذين توصلوا إلى نفس هذه النتائج.

ثم نستعرض هنا كلاما للمحقق العراقي (قده) له علاقة بمحل الكلام ، يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل ، نتكلم عن كل مرحلة منها مع مناقشتها.

١ ـ المرحلة الأولى : هي انّ المحقق العراقي (قده) لم يفرّق بين الاستثناء بالحرف ، والاستثناء بالاسم ، لا إثباتا ولا ثبوتا ، ثم استعرض ما أشرنا إليه في الصورة الأولى ، من الفرق الثبوتي بين الاستثناء بالحرف وبين الاستثناء بالاسم (١) ، على أساس إنّه إن كان الاستثناء بالحرف ـ والحرف يكون الموضوع له والمستعمل فيه خاص ـ فلا بدّ أن يكون مستعملا في نسبة إخراجيّة معيّنة ، وحينئذ ، لا يمكن أن يراد منها الإخراج من الجميع ، وإن كان الاستثناء بالاسم ، ـ والموضوع له فيه عام ، والمستعمل فيه عام ـ فلا بأس أن يكون مستعملا في كلّي الإخراج ، ويراد منه حينئذ ، الإخراج من الجميع ، ثم إنه (قده) ، اعترض على هذه الصيغة المجملة باعتراضين.

الاعتراض الأول : هو انّه لو سلّم اختلاف الحرف عن الإسم من حيث الموضوع له والمستعمل فيه ، فهو لا يضر بالمقصود ، إذ مع هذا يمكن افتراض انّه قد أراد من الحرف حينئذ الإخراج من الجميع ، لأنّ الإخراج مفهوم كلي ، وله أفراد ، وهذا الإخراج من الجميع أحد أفراد هذا الكلي ، فلم يخرج بهذا عن كون الموضوع له خاصا.

وكذلك يقال في الإخراج من الجملة الأولى. لكن دون أن يختص بواحدة منها فقط فأداة الاستثناء مستعملة في الخاص والفرد ، وعليه : فلا فرق بين كون أداة الاستثناء الحرفية مستعملة في أيّ واحد من أفراد الإخراج لعدم منافاة هذا لجزئية المعنى الحرفي ، حيث انّ الاستثناء من الجميع فرد من أفراد كلّي الاستثناء فهو كالاستثناء من الجملة الأخيرة فقط.

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٥٩.

٣٩٧

٢ ـ الاعتراض الثاني : وهو مبنائي ، فإنّ هذا الكلام مبني على أنّ الموضوع له في الحروف خاص ، وقد حقّقنا في بحث المعاني الحرفية انّ الموضوع له في الحروف عام وليس خاص ، وبناء عليه حينئذ ، لا فرق بين كون أداة الاستثناء اسما أو حرفا في مقام الإثبات.

وفيه انّه قد اتضح ممّا ذكرنا سابقا انه لا فرق إثباتا بين كون الاستثناء بالحرف أو بالاسم ، وأمّا بحسب مقام الثبوت فقد بيّنا سابقا وجود فرق ، وعليه لا بدّ من دفع كلا الاعتراضين.

أمّا دفع الاعتراض الأول : ففيه ، إنّ الإخراج من الجميع يكون على نحوين ، إذ تارة يلحظ الإخراج من الجميع بواسطة أداة الاستثناء بعد تحويل الجميع إلى شيء واحد ، وذلك بإعمال عناية الوحدة الاعتبارية بين كل هذه الجماعات الواقعة في طرف المستثنى منه ، وحينئذ ، نخرج منهم الفساق بما هم جماعة واحدة.

وأخرى يلحظ الإخراج من الجميع بالاستثناء ، مع إبقاء تلك الجماعات على حالها ، ثلاث جماعات ، ونخرج منهم الفساق بما هم ثلاث جماعات.

أمّا على الأول : فصحيح ، انّه ليس عندنا إلّا إخراج واحد ، لشيء واحد ، من شيء واحد ، ولا تكون أداة الاستثناء مستعملة إلّا في نسبة إخراجيّة واحدة.

ولكن هذا كما عرفت سابقا يحتاج إلى عناية لتوحيد هذه الجماعات الثلاث ، وهذه العناية معقولة ثبوتا ، لكن تحتاج إلى دليل أو قرينة إثباتا ، ومع عدم الدليل أو القرينة فلا موجب للالتزام بها.

وأمّا على الثاني : وهو الإخراج من الجميع بما هم ثلاث جماعات وبلا عناية توحيد ، ففيه ، إنّه يستحيل القول بأنّ هذا إخراج واحد ، وذلك لأنّ الإخراج نسبة قائمة بين المخرج منه ، والمخرج ، والنسبة تتكثر بتكثر طرفها في أحد الجانبين ، والمفروض هنا ، انّ المخرج منه متعدد في مقام الإخراج ،

٣٩٨

وما دام انّ هذا الطرف متعدد ، وقد لوحظ كذلك ، فإنّه يستحيل إسباغ شكل الوحدة عليها اعتبارا ، ما دام انّ أطراف النسبة الإخراجية متعددا ، وقد استعمل الإخراج ولوحظ بنحو المعنى الحرفي ، والنسبة القائمة بين الكثير والكثير تكون نسبا كثيرة ، وهذا هو نكتة ما قلناه من الفرق في تحقيق المسألة بين كون أداة الاستثناء اسما أو حرفا.

وأمّا دفع الاعتراض الثاني الذي كان يرجع إلى اعتراض مبنائي ، فلنا عليه تعليقان.

أ ـ التعليق الأول : وهو مبنائي كذلك ، حيث انّ الصحيح ، أنّ الموضوع له خاص في باب الحروف وليس عاما ، كما برهنّا على عدم معقوليته.

ب ـ التعليق الثاني : هو أنّ ما ذكره من الخلاف المبنائي ، وإن كان يفيد صاحب الكفاية (قده) لكنه لا يفيد العراقي (قده).

وتوضيحه هو ، إن صاحب الكفاية يخالف مشهور المحققين في مسألة إنّ المعنى الحرفي والمعنى الاسمي هل هما متحدان ذاتا ، أم متغايران ذاتا؟ وقد ذهب المشهور ـ كما هو الصحيح ـ إلى تغايرهما ذاتا حتى بقطع النظر عن اللحاظ.

وذهب صاحب الكفاية (قده) إلى انّهما متحدان (١) ذاتا ومعنى ، بل كلاهما موضوعان لمفهوم واحد ، غايته انّهما متغايران باللحاظ ، من حيث الآلية والاستقلالية فقط ، فما وضعت له «إلّا» ، وضعت له كلمة «استثناء» ، وإنّما يختلفان باللحاظ ، حيث يستعمل «إلّا» مع لحاظ المعنى آليا ، ويستعمل لفظ «أستثني» مع لحاظ المعنى استقلاليا ، لأنّ الموضوع له والمستعمل فيه فيهما عاما ، عند الآخوند (قده) ، وعليه يكون الحرف كالاسم ، ومعه يمكن أن يرجع الاستثناء إلى الجميع ، سواء كانت أداة الاستثناء حرفا أو اسما ، لأنّ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ١٣ ـ ١٤.

٣٩٩

كونها كذلك لا يغيّر من طبيعة المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه ، لأنّ كليهما موضوعان لطبيعي الإخراج ومعه ، قد يراد به واحد ، وقد يراد به أكثر من واحد ، غايته انّه يختلف من حيث اللحاظ الآلي والاستقلالي.

وأمّا على بناء العراقي (قده) حيث وافق المشهور في الجملة على أنّ المعاني الحرفية معاني نسبية تغاير في حقيقتها وسنخيّتها المعاني الاسمية ، «فمن» تدل على النسبة الابتدائية ، و «إلّا» تدل على النسبة الإخراجية ، لكنه يختلف عنهم ، حيث انّ المشهور يقولون انّه لا يمكن تعقل جامع بين النسب ، حتى ولو كانت نسبتين متماثلتين ، ليكون هو الموضوع له الحرف ، بل لا محالة يكون موضوعا لنفس الأفراد والجزئيات ، أي لكل نسبة نسبة ، وسمّوا ذلك بالوضع العام والموضوع له خاص ، ومعه ، يكون المستعمل فيه خاص أيضا لا محالة ، كل ذلك ، باعتبار انّ النسب الحرفية لا يوجد جامع فيما بينها يوضع له الحرف ولو كانت نسبا متماثلة كما عرفت ذلك.

وحينئذ قالوا : بأنّ استعمال الحرف في الفرد يختلف عن استعمال الإسم في الفرد ، فإن لفظة «رجل» لم يوضع لفرد حتى يستعمل فيه مباشرة ، بل وضعت للمعنى العام ، فتستعمل في ذلك المعنى الذي وضعت له ، وحينئذ ، إذا أريد استعمالها في الخاص ، «زيد مثلا» ، ينبغي أن يكون بنحو تعدد الدال والمدلول ، لأنها لم توضع «لزيد» ، إذن ، فإرادة زيد منها يحتاج إلى قرينة ، أي إنّ خصوصية الفرد منها تحتاج إلى قرينة أخرى تدل عليها.

وأمّا في باب الحروف ، فإنّه لمّا كان الموضوع له فيها خاص ، فإنّ الخاص يراد بنفس اللفظ ، لأنّ اللفظ موضوع له.

وهذا صحيح كما برهنا عليه في محله.

ولكن المحقق العراقي (قده) رغم انّه وافق المشهور في انّ المعاني الحرفية تغاير المعاني الاسمية سنخا وذاتا ، فقد ذهب (١) إلى انّ الوضع في

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٥٩.

٤٠٠