بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

الحروف عام والموضوع له عام بدعوى وجود جامع بين النسب الابتدائية ، وجامع بين النسب الإخراجيّة وهكذا ، مع اعترافه مع المشهور بأنه سنخ جامع لا يعقل تصوره مستقلا في عالم الذهن وإنّما دائما يحضر في الذهن في ضمن الفرد ، لأنه إذا حضر مستقلا انقلب عن كونه نسبة ، لأنّ النسبة لا تلائم الاستقلالية ، ومن هنا اعترف وفاقا للمشهور ، بأنّ المستعمل فيه الحرف دائما خاص ، لكن يبقى الفرق بين العراقي والمشهور ، هو انّ المستعمل فيه خاص عند المشهور لا بنحو تعدد الدال والمدلول ، بينما المستعمل فيه عند العراقي هو الخاص ، لكن بنحو تعدد الدال والمدلول ، لأنه موضوع للجامع ، إذن بحسب النتيجة كلاهما يسلّم انّ المستعمل فيه الحرف خاص ويستحيل أن يكون هو الجامع على إطلاقه ، إذ جامعيته خلف كونه نسبيا.

وحينئذ ، لا يظهر أثر لما ذكره العراقي من كون الموضوع له عاما أو خاصا ، فإنه على كلا التقديرين ، المستعمل فيه في الحرف خاص.

إذن ، فهذا المبنى لا يفيد العراقي في دفع الإشكال ، وإنّما يدفع الإشكال مبنى المحقق الخراساني (قده) ، هذه هي المرحلة الأولى من كلام المحقق العراقي (قده).

وقد اتضح مما ذكرنا في مناقشتها ، انّ ما أفاده (قده) من عدم الفرق الثبوتي بين كون أداة الاستثناء اسما أو حرفا ، غير صحيح.

وأمّا ما قد يقال من انّ العطف في قوة التكرار ، فإنه لا يفيد شيئا في المقام ، وذلك لأنه إنّما يكون كذلك عند ما نحذف أمرا كان لو لا العطف ممّا لا ينبغي حذفه كما في مثل : «أكرم زيدا وعمروا» ، وهذا لا ينطبق على الصورة الأولى حينما نقول : «أكرم العلماء ، وأكرم الشيوخ ، وأكرم الهاشميين إلّا الفسّاق» ، حيث لا يوجد محذوف على الإطلاق ، بل العطف هنا مجرد ضمّ جملة إلى جملة أخرى وإيجاد صلة بينهما ، وهذا ليس في قوة التكرار.

نعم ، العطف الذي يكون في قوة التكرار إنّما هو العطف الذي يستغنى به عن شيء كما لو قال : «أكرم زيدا وعمروا وخالدا» ، كما في الصورة

٤٠١

الثالثة ، فهنا معناه : «أكرم زيدا ، وأكرم عمروا» الخ. نعم ، لو قيل هذا في قوة التكرار لكان أمرا معقولا ، وعليه : فهنا ينطبق ما ذكرناه.

نعم في الصورة الثالثة وهي ما إذا فرض انّ المحمول لم يتكرر ، وإنّما المتكرر هو الموضوع كما لو قال : «أكرم العلماء والهاشميين والشيوخ» ، فهنا لو قيل : انّ العطف في قوة التكرار ، بمعنى رجوع ذلك إلى «أكرم العلماء ، وأكرم الشيوخ ، وأكرم الهاشميين» ، لكان أمرا معقولا.

لكن حينئذ يصاغ من ذلك إشكال حاصله : أنّه يكون حكم الصورة الثالثة كحكم الصورة الأولى ، حيث انّه في الصورة الأولى صرّح فيها بالموضوع والمحمول ، وهنا في الصورة الثالثة صرّح فيها بالموضوع وقدّر المحمول ، وعليه : فيجب أن يسري حكم الصورة الأولى إلى الصورة الثالثة ، لأنه حينئذ لا فرق أساسي بينهما باعتبار ، انّ المقدّر كالمذكور صريحا ويترتب عليه ، ان يعطى حكم الأولى للثالثة.

ونحن كنّا نقول في الصورة الأولى بأنّ الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط إذا كانت أداة الاستثناء حرفا ، ولكن في الصورة الثالثة كنّا نقول : إنه يرجع إلى الجميع ولو كان حرفا ، وحينئذ ، بناء على ما ذكر من كون العطف في قوة التكرار ، فإنّ الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط كالصورة الأولى.

بينما ذكرنا انّ الاستثناء في الصورة الثالثة يرجع إلى الجميع ، لأنّ إرجاعه إلى الأخيرة فقط معناه التوجه إلى «أكرم» المقدّرة مستقلا ، مع انّ فرض كونها مقدّرة ومنزّلة على ما هو مصرح به ، يعني هذا تعويلا على ما صرّح به ، ومعنى هذا ، انّ هذا التقدير هو إلغاء لما صرّح به ، وهذه التبعية في مقام البيان ، تستدعي في مقام الإرجاع أيضا ، أن يكون إرجاع الاستثناء إليها بنحو التبعية ، وذلك بإلباس ثوب الوحدة للجماعات الثلاثة ، لكي يتطابق النظر إليها في مقام الاستثناء مع النظر إليها في مقام البيان ، هذا كلّه لو سلّم انّ العطف في قوة التكرار عرفا ، وإن كان هو كنظرية نحوية لا أكثر.

٤٠٢

٢ ـ المرحلة الثانية : من كلام المحقق العراقي (قده) ، وهو أغرب من كلامه الأول ، حيث يقول (١) هنا : إنه لا إشكال في انّ هذا المستثنى يهدم الإطلاق في الجملة الأخيرة ـ ولنفرض إنّ الأخير هي جماعة «الهاشميين» ـ ولذا نرفع اليد عن الإطلاق فيها ، وأمّا الإطلاق في الجملة الأولى وكذا الثانية ، فإن النسبة بينه وبين الإطلاق المستثنى ، هي العموم من وجه.

وتوضيحه : هو إن مقتضى الإطلاق في قوله ، «أكرم العلماء ، وأكرم الشيوخ» ، إنّه يشمل العدول والفسّاق من هذه الجماعات في عقد المستثنى ومقتضى الإطلاق في قوله «إلّا الفساق» ، يشمل فسّاق هذه الجماعات نفسها وفساق غيرها ، إذن فهنا إطلاقان متعارضان بنحو العموم من وجه ، ومعه ، فلا بدّ من تطبيق قواعد باب التعارض على ما يأتي في كلامه الثالث.

وهذا الكلام من العراقي غريب.

أمّا أولا ، فلأنّ كلمة «الفاسق» ـ المستثنى ـ وإن كانت في نفسها لها إطلاق يشمل الفاسق من «العلماء والشيوخ والهاشميين وغيرهم» ممّن لم يقع في عقد المستثنى منه ، إلّا انّه بعد أن وقعت كلمة الفساق مدخوله لأداة الاستثناء وفي سياقه ، حينئذ يكون الاستثناء قرينة متصلة على تحديد دائرة «الفاسق» في ضمن دائرة المستثنى منه ، وحينئذ يصبح المستثنى منه مجملا ومرددا بين الجملة الأخيرة وبين الجماعات الثلاث ، فإنه حينئذ ، يصبح المستثنى أيضا مجملا ومعه ، يستحيل أن يبقى «للفاسق» أيّ إطلاق ، لأنّ هذا الإطلاق فرع أن يكون دائرة المستثنى منه أوسع ، وهذا لم يحرز كما عرفت.

إذن ، فكأنّ المحقق العراقي (قده) ملتفت إلى الإطلاق الذاتي لكلمة «فاسق» بقطع النظر عن وقوعه في سياق الاستثناء.

والخلاصة : هي انّ الإجمال في المستثنى منه يوجب الإجمال في

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٥٩.

٤٠٣

المستثنى ، فلا ينعقد إطلاق في دائرة المستثنى ليجعل ذلك معارضا مع الإطلاق في المستثنى منه.

وأمّا ما يرد عليه ثانيا ، هو أن يقال : إنّه لو سلّمنا تماميّة هذين الإطلاقين ، فإنّه لا تصل النوبة إلى تعارضهما ، بل يتعيّن تقديم إطلاق المستثنى على المستثنى منه ، لأنه حاكم عليه ، وذلك لأن الاستثناء له نظر تحديدي وتضييقي في دائرة المستثنى منه ، فيكون حاكما عليه ، ومعه لا تكافؤ بين الإطلاقين ليرجع إلى قواعد باب التعارض.

٣ ـ المرحلة الثالثة : من كلام المحقق العراقي (قده) ، هو انّه بعد أن افترض هذين الإطلاقين ، وافترض تعارضهما ، قال : بأنّ هذين الإطلاقين كلاهما غير ثابت في نفسه ، لا لأنّ أحدهما يمنع عن ثبوت الآخر ، بل لأنّ كلا منهما في نفسه غير ثابت ، والسبب عنده ، هو أنّ كلا الظهورين دوريّ ، حيث انّ ظهور المستثنى منه في الإطلاق متوقف على عدم تماميّة ظهور المستثنى في الإطلاق ، إذ لو تمّ ظهوره فيه لكان قرينة عليه ، وعدم تماميّة ظهور المستثنى في الإطلاق ، متوقف على ظهور المستثنى منه في الإطلاق ، وهذا يعني : توقف ظهور المستثنى منه في الإطلاق على ظهوره في الإطلاق ، وكذا لو أخذنا جانب المستثنى ، فإنّ ظهوره في الإطلاق متوقف على عدم تماميّة ظهور المستثنى منه في الإطلاق ، وعدم تماميّة ظهور المستثنى منه في الإطلاق ، متوقف على ظهور المستثنى في الإطلاق وهكذا فإنّ كلا منهما يكون متوقفا على نفسه ، ومعه يستحيل وجودهما.

وهذا الكلام من العراقي (قده) مظهر من مظاهر تصور عام عند القوم حينما يريدون إبطال شيء بالدور ، فيقولون : إنّه متوقف على كذا ، وكلّ متوقف على نفسه يستحيل وجوده.

وهذا النوع من التفكير غير تام في نفسه ، لأنّ ما هو المستحيل هو نفس توقف الشيء على نفسه ، لا وجود المتوقف خارجا بعد التسليم بتوقفه على نفسه ، ثم بعد ذلك نقول ، انّ هذا لا يوجد.

٤٠٤

وفرق بينهما ، إذ تارة نقول : انّ هذا الشيء متوقف على نفسه ، وحيث انّه كذلك فلا يوجد لأنه دوري ، وأخرى نقول : يستحيل توقف الشيء على نفسه ولأجل ذلك يستحيل وجوده ، والصحيح هو الثاني.

وكأنّ العراقي هنا فرض انّ هذا الظهور متوقف على نفسه ، وفرض الظهور الآخر كذلك ، وبعد ذلك قال : ولأجل ذلك لا يوجدان ، بينما هذا مستحيل لأنه لا يتوقف الظهور على نفسه.

وإن شئت قلت : إنّ محذور الدور لا يندفع بمنع وجود الموقوف والموقوف عليه خارجا وإن كان دائرا ، وإنّما يندفع بإبطال أحد التوقفين في نفسهما ، فإنّ المستحيل هو عليّة الشيء لنفسه في عالم العليّة والملازمات ، أي في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود الخارجي ، فاستحالة الدور ليست من شئون عالم الوجود الخارجي لكي نكتفي في دفع عائلة الدور في المقام ، بمنع انعقاد الإطلاقين خارجا في مورد تعارضهما ، بل لا بدّ من إبطال أحد التوقفين ، لأنّ المستحيل هو نفس توقف الشيء على نفسه.

ومن هنا ، فإنّا بحاجة لحل هذه الشبهة.

وحلّها ، هو أن يقال إن كلا من الإطلاقين متوقف على عدم الظهور الشأني للآخر في الإطلاق وليس على عدم الظهور الفعلي للآخر في الإطلاق ، مع انّ الظهور الشأني لكل منهما في الإطلاق موجود ، والظهور الفعلي لكل منهما غير موجود ، إذن ، فهدم الظهور الفعلي في أحدهما متوقف على عدم الظهور الشأني في الآخر لا الظهور الفعلي ، وعدم الظهور الشأني في ذاك ، متوقف على الظهور الفعلي في الآخر ، وكذلك يقال في الظهور الآخر ، إذن فالظهور الفعلي في كل منهما غير موجود لوجود الظهور الشأني في قباله ، إذن ، فلا دور ، لا في مرحلة الظهورين الشأنيين ولا في مرحلة الظهورين الفعليين.

أمّا في مرحلة الظهورين الشأنيين الاقتضائيين فلأنّ كلاهما موجود ، وكل منهما لا يتوقف على عدم الآخر.

٤٠٥

وأمّا في مرحلة الظهورين الفعليين ، فلأنّ فعليّة كل منهما متوقف على عدم الظهور الشأني في الآخر ، لا على عدم فعلية الآخر ليلزم المحذور ، وعليه فالتنافي في كليهما غير ثابت ، لأنّ الشأنية ثابت فيهما وهي تمنع من ثبوت الإطلاق الفعلي فيهما ، وعليه فلا يكون أيّ منهما فعليا ، ويكون حالهما حال كل ضدين ، فإنّ وجود أحد الضدين لا يتوقف على عدم الوجود الفعلي للضد الآخر ، بل على عدم المقتضي للآخر ، وكذلك هنا ، فإنّ فعلية كل من الظهورين يتوقف على عدم المقتضي للفعليّة في الآخر ، وحيث انّ المقتضي للفعليّة في الآخر موجود ، فلا ظهور في الفعليّة هنا كما لا ظهور للفعلية هناك للتمانع.

هذا تمام الكلام في المرحلة الثالثة من كلام المحقق العراقي ، وفيها اتضح إنّ كلامه غير صحيح.

وكل ما تقدّم من الكلام في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط أم إلى كل الجمل ، كان المنظور فيه قابليّة نفس الاستثناء ، وانّه ما هي حدود قابليته.

وبقي علينا أن نبيّن الحال بالنسبة إلى قابلية نفس المستثنى ، إذ قد يتعذر إرجاع الاستثناء إلى الجميع ، لا لقصور في الاستثناء ، بل لقصور في نفس المستثنى ، كما في قوله : «أكرم العلماء وأكرم الهاشميين إلّا الجهال» ، حيث انّ عنوان الجهّال لا معنى لاستثنائه من العلماء ، لعدم انقسامهم إلى جهال وغير جهال.

وتوضيح الحال في ذلك هو ، إنّ العنوان المذكور في المستثنى المدخول لأداة الاستثناء يتصور على عدة أنحاء.

١ ـ النحو الأول : هو أن يكون له معنى واحد ، وهذا المعنى قابل لأن يخرج من جميع الدوائر والجمل السابقة على الاستثناء ، وحينئذ ، لا يكون في ناحية المستثنى قصور ، فيبقى البحث في قابلية نفس الاستثناء في الرجوع إلى الجميع وعدمه.

٤٠٦

٢ ـ النحو الثاني : هو أن يكون له معنى واحد وهو لا يصلح لأن يخرج إلّا من الجملة الأخيرة كما في المثال المتقدم ، فإنّ الجهّال لو كان معناه لغة هو من لا يعلم ، فمن الواضح انّ هذا العنوان لا يخرج من العلماء ، إذن ، فيتعيّن رجوعه إلى الجملة الأخيرة وذلك لضيق في المستثنى.

٣ ـ النحو الثالث : هو أن يفرض أنّ العنوان المستثنى مشترك لفظي بين معنيين ، أحدهما قابل للإخراج من الجميع ، والآخر غير قابل ، ولم تقم قرينة على تعيين أحد المعنيين ، كما لو قال : «أكرم العلماء والهاشميين إلّا الجهال» ، وفرض انّ كلمة الجاهل مشتركة لفظيا بين من لا يعلم ، وبين من ليس برشيد ، إذ بناء على الأول لا يمكن رجوعه إلى الجميع ، وبناء على الثاني ، يمكن رجوعه إلى الجميع ، ولكن لا قرينة على تعيين أحدهما.

وحينئذ ، إن فرض انّ الاستثناء كان من الصورة الأولى دون الثانية والثالثة من الصور السابقة ، فلا أثر لهذا البحث بلحاظ ما قبل الأخيرة ، إذ سواء أريد من المستثنى معنى يقبل الإرجاع إلى الجميع أم أريد منه معنى يقبل الإرجاع إلى الأخيرة فقط ، فعلى أيّ حال ، سوف يتعيّن بالأخيرة ، ولا أثر عملي بلحاظ ما قبل الأخيرة ، لأنّه على التقديرين ، يتعيّن التمسك بإطلاق ما قبل الأخيرة.

وإن فرض انّ الاستثناء كان من الصورة الثانية أو الثالثة ، فحينئذ ، سوف يكون له أثر ، لأنّ المستثنى إن كان معنى يقبل الإخراج من الجميع ، فسوف يرجع إلى الجميع ، وإن كان معنى لا يقبل الإخراج من الجميع ، إذن ، فسوف يخرج من الأخيرة فقط ، وهذا يصير من موارد إجمال ما قبل الأخيرة ، لأنه متصل بما يحتمل قرينيّته.

٤ ـ النحو الرابع : هو أن يكون للمستثنى معنيان ، لكن لا بنحو الاشتراك اللفظي ، بل بنحو الحقيقة والمجاز كما في المثال نفسه ، لو قلنا بأن المعنى الحقيقي للجاهل هو من لا يعلم شيئا والمعنى المجازي له هو من ليس برشيد ، فحينئذ ، إن كان المعنى الحقيقي يقبل الإرجاع إلى الجميع ،

٤٠٧

فالحال كما تقدم ، وإن كان المعنى المجازي هو القابل للإرجاع دون الحقيقي ، حينئذ ، بإجراء اصالة الحقيقة في المستثنى يتعين انّه لا يرجع إلى الجميع ، لأنه بعد جريان اصالة الحقيقة يتعين في المعنى الذي لا يمكن إرجاعه إلى الجميع ، فيختص بالأخيرة ، وبهذا تمّ البحث في هذه المسألة.

٤٠٨

تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد

هل يجوز تخصيص العام القطعي الصدور بخبر الواحد ، أو لا يجوز؟.

وهذا البحث ينبغي أن يفرغ فيه عن تقديم الخاص على العام ، أو كون الخاص قرينة على العام بمقتضى قوانين الجمع العرفي.

لكن الإشكال في انّه إذا كان ذو القرينة ، ـ وهو العام ـ قطعي السند ، وكانت القرينة ـ وهي الخاص ـ ظنيّة السند ، فهل إنّ القرينة تبقى على حالها من القرينيّة على العام ، أم أنها تتعطل قرينيّتها ، فلا تكون قرينة عليه.

وهنا بعد الفراغ عن أصل قرينيّة الخاص على العام ، يكون الاستشكال ، في انّ الخاص الظني السند ، هل يخصّص العام الكتابي أو مطلق الدليل العام القطعي السند؟

وهذا الإشكال ، بحسب الدقة ، ينحل إلى جهتين من الاستشكال ، لكل منهما حيثيّتها الخاصة.

١ ـ الجهة الأولى : هي أنّه قد يقال : بأنّ خبر الواحد إنّما نعمل به ونجعله قرينة ، إذا تمّ الدليل على التعبّد بسنده.

وحينئذ يقال : بأنّ دليل حجية خبر الواحد لا إطلاق فيه لموارد معارضة خبر الواحد للعام القطعي السند ، كتابيا كان أو سنة متواترة.

فهنا ، حيثيّة الاستشكال إذن ، هي المناقشة في إطلاق دليل الحجية الذي يكون مفاده التقييد بالسند ، حيث يقال حينئذ ، إنّ دليل الحجية في

٤٠٩

الخبر ، ليس فيه إطلاق لأخبار الآحاد المخالفة لدليل قطعي ، حتى لو كانت المخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق ، وهذا الاستشكال له تقريبان.

١ ـ التقريب الأول : هو أن يقال : إنّ دليل الحجية قاصر ذاتا عن الشمول لخبر الواحد ، بدعوى ، إنّ دليل الحجية هو الإجماع أو سيرة المتشرعة ، والقدر المتيقن منهما هو ، مورد عدم المعارضة مع العام القطعي ولو بنحو العموم والخصوص المطلق ، وحينئذ لا يكون عندنا في مورد المعارضة مع العام القطعي دليل على حجيّة الخبر.

٢ ـ التقريب الثاني : هو أن يقال : إنّه لو سلّمنا انّ الإطلاق في دليل حجية الخبر يقتضي انّ خبر الواحد حجة ، سواء خالف العام القطعي السند أم لا ، لكن هذا الدليل على الحجيّة سقط إطلاقه بمقيّد ، والمقيّد هو الأخبار الواردة عن أئمة الهدى عليهم‌السلام ، القائلة : بأنّ «ما خالف كتاب الله فهو زخرف أو باطل ، أو لم نقله ، أو ، أضرب به عرض الجدار» ونحو ذلك ، وحينئذ ، فهذه الروايات مقيّدة لإطلاق دليل حجية الخبر ومعه لا يبقى دليل حجية الخبر شامل لمورد مخالفة الخبر للعام القطعي السند.

وكلا التقريبين مرجعهما إلى استشكال واحد ، حاصله : إنه لا دليل على حجيّة الخبر في هذا المورد.

والحيثية الأولى بحثناها مفصلا في موردين ، أحدهما ، في بحث حجية خبر الواحد ، لأنّ مرجع هذا الكلام إلى التفصيل في حجية خبر الواحد ، والثاني في بحث تعارض الأدلة ، لأنّ التقريب الثاني للاستشكال يجعل الأمر كأنّه تعارض بين الخبر والكتاب.

٢ ـ الجهة الثانية : من الإشكال هي : إنه بعد الفراغ عن انّ دليل حجية خبر الواحد له إطلاق في نفسه ، ولم يقيّد هذا الإطلاق بمقيّد ، ومقتضى إطلاقه حينئذ ، حجيّة خبر الثقة الذي يكون أخص مطلقا من العام الكتابي ، فلو أخبر ثقة بأنّ عقد المزابنة باطل ، فيكون ذلك تخصيصا للعام الكتابي ، «أوفوا بالعقود».

٤١٠

ولكن حينئذ سوف نواجه دليلين ينبغي أن نحسب حساب التوفيق بينهما.

وتوضيح ذلك هو ، إنّنا تارة ننظر إلى خطاب «أوفوا بالعقود» الناظر إلى الحكم الواقعي القطعي ، وإلى خطاب ، «عقد المزابنة باطل» ، الناظر للحكم الواقعي الواصل بالظن ، فنرى انّ هذين الخطابين ليسا متعارضين ، لأنّ أحدهما قرينة ، والآخر ، ذو قرينة ، وفي مقام الكشف عن الواقع لا تعارض القرينة ذا القرينة ، بل تقدم عليه.

وأخرى ننظر إلى دليل الحجية في كل منهما ، فنرى انّ خطاب «أوفوا بالعهود» ، إنّما تمسكنا بعمومه ببركة دليل حجية الظهور الراجع إلى اصالة العموم وعدم التخصيص ، كما انّ الخبر القائل بأنّ عقد المزابنة باطل ، إنّما تمسّكنا به لأجل دليل حجية الخبر الواحد الذي عبّدنا بصدور هذا الخبر عن المعصوم عليه‌السلام.

إذن ، أمامنا حينئذ دليلان ، دليل حجية العموم ، ودليل حجية السند ، فلا بدّ من أن نرى ميزان هذين الدليلين.

وهذان الدليلان وإن كان كل منهما حجة بالفعل ، لكن لا يعقل إعمالهما معا ، كما هو واضح ، بل لا بدّ من سقوط أحدهما ، إذن ، فهنا لا معنى للتمسك بمسألة القرينة وذي القرينة ، لأنه لا أخصيّة بين هذين الدليلين ليكون أحدهما قرينة على الآخر بالأخصيّة ، وإنّما الأخصيّة هنا بين نفس الخطابين لا بين دليلهما ، إذن فنحتاج إلى حساب جديد غير حساب الأخصيّة لنرى أيّ الدليلين يقدم على الآخر ، حيث انّه قد يقال : إن دليل حجية العموم ـ وهو اصالة عدم التخصيص واصالة العموم ـ يكذّب دليل حجية السند ، لأنّه يقول حسب الفرض ، الأصل عدم التخصيص ، ودليل حجيّة خبر الثقة ، يقول : ورد مخصّص ، إذن فهنا أمارتان متعارضتان ، وكل منهما حجة في نفسه ، ولا معنى للقرينية هنا ، وحينئذ ، يتعارضان ويتساقطان.

وهذه الحيثيّة قد عالجناها في بحث الجمع العرفي في تعارض الأدلة

٤١١

حيث قلنا : إنّه لو كان سند القرينة ظنيا ، وسند ذي القرينة قطعيا فإنه حينئذ نواجه هذه المشكلة.

وقد يقال : إنه لا موجب لإثارة هذه المشكلة ، وذلك لأنّ دليل حجية العموم مقيّد بعدم قيام القرينة على الخلاف ، ودليل التعبّد بالخبر الواحد يتعبّدنا بصدق هذا الخبر ، أي بصدور القرينة من المولى ، وحينئذ ، يكون دليل حجية الخبر رافعا لموضوع دليل حجية العموم بالحكومة ، وحينئذ ، لا معارضة بين دليل حجية العام ودليل حجية الخبر.

لكن هذا الكلام غير تام ، لأنّ دليل حجية العموم ليس مقيّدا بعدم وجود القرينة واقعا على الخلاف ، وإنّما هو مقيّد بعدم إحراز القرينة على الخلاف ، لأنّه من الواضح انّه لو احتملت القرينة المنفصلة على الخلاف والتخصيص في مورد آخر ، لكنّا ننفي هذا المخصّص المنفصل باصالة العموم ، وهذا يعني ، انّ المخصص المنفصل بوجوده الواقعي ليس هو الهادم لموضوع دليل حجية العموم ، كيف؟ وهو في موارد الشك في وجوده ، ينفى باصالة العموم ، ومعه لا يعقل دعوى انّ دليل حجية العموم مقيّد بعدم المخصص المنفصل بوجوده الواقعي ، بل هو مقيّد بعدم إحراز المخصص على الخلاف وبعدم العلم به.

والفرق هو ، انّه إذا قلنا بأنّ دليل حجية العموم مقيّد بعدم وجود المخصص والقرينة واقعا ، فدليل حجية الخبر يثبت لنا تعبدا صدور الخبر المخصص واقعا ، وهذا يعني ، انّ دليل حجية الخبر يكون نافيا لموضوع حجية العموم ، ويكون حاكما عليه بحكومة ظاهرية كما تقدم ، لأنّ دليل حجية العموم مشروط بعدم المخصص واقعا ، ودليل حجية الخبر يثبت المخصص ظاهرا ، وهذا معنى الحكومة ظاهرا ، ولا تعارض حينئذ بين العموم والخبر أصلا.

لكن الأمر ليس كذلك ، لأنّ موضوع دليل حجية العموم ليس مقيّدا بذلك ، بل هو مقيّد بعدم إحراز المخصص أو العلم به.

٤١٢

وهنا قد ينشأ توهّم آخر ويقال : إنّه لا إشكال في هذه القضيّة ، وذلك لأنّه بناء على أنّ الإمارات منزّلة منزلة القطع الموضوعي ، فإنّ دليل حجية العموم ، موضوعه ، عدم العلم بالمخصّص ، وخبر الواحد علم تعبّدي بالمخصص ، لأنّ دليل حجيته ، مفاده انّ هذا علم ، لأنّه منزّل للإمارة منزلة العلم ، فيكون دليل حجيته حاكما على دليل حجية العموم أيضا ، لكن الحكومة هذه حكومة واقعيّة لأنّها تنزيل لفرد أجنبي منزلة الفرد المأخوذ غاية في دليل موضوع الحجية.

وهذا الكلام غير تام أيضا ، وذلك لأنّه لو سلّم انّ أدلة الحجية في المقام كانت أدلة قابلة لأن يكون فيها حاكم ومحكوم ، فإنّه إذا لم ندخل مصادرة جديدة ، فالقضيّة لا تنحل على القاعدة وذلك ، لإمكان أن نقول ، بأنّ العكس ـ وهو حكومة دليل حجية العموم على دليل حجيّة الخبر ـ هو الصحيح ، لأنّه كما انّ دليل حجيّة العموم أخذ في موضوعه عدم العلم بالمخصّص ، وخبر الواحد علم تعبدا ، فكذلك نقول : إنّ دليل حجية الخبر ـ صدّق العادل ـ أخذ في موضوعه عدم العلم بكذب العادل ، وشهادة العام بكذب العادل تعبّدنا بكذبه ، فتكون اصالة العموم حاكمة على دليل حجية الخبر ، إذن ، كل من الطرفين يشكل علما تعبّديا يحقق غاية الحجية في الآخر.

وعليه : فالمسألة بحاجة إلى علاج كل من الدليلين في نفسه وبحسب ذاته ، لنرى أيّهما يقدم على الآخر بلا ضم أيّ عناية ، فعلى القاعدة ، مجرد قوانين الحكومة الظاهرية أو الواقعية لا تكفي في كون هذا الدليل مقدما على ذلك بلا ضم عناية.

والصحيح هو أن يقال في علاج هذه الشبهة ، انّ دليل الحجيّة في كل من الموردين هو السيرة العقلائية ، والاستدلال بالسيرة له منهجان كما تقدم.

١ ـ المنهج الأول : وقد سلكه المحقق الأصفهاني (قده) (١) وحاصله :

__________________

(١) نهاية الدراية ـ ج ٣ ـ الأصفهاني ـ ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٤١٣

إنّ الاستدلال بالسيرة يكون على أساس انّ معنى السيرة هو السلوك والعمل المجسّد بسلوك وعمل العقلاء خارجا.

ومن نتائج هذا النهج ، الاقتصار في الحجيّة على خصوص ما مارسه العقلاء في حياتهم العملية ، فمثلا ، لا يمكن الاستدلال بسيرة العقلاء على قضية ـ «إن من حاز ملك» ـ لأنّ العقلاء لم يمارسوا هذا.

٢ ـ المنهج الثاني : هو الاستدلال بالسيرة ، بمعنى خلفيات السيرة والمضمون والمحتوى الارتكازي لها ، وهو أمر يكون وراء سلوك العقلاء في حياتهم العملية ، وبهذا المعنى ، يكون للسيرة مدلول أوسع ، لأنّ خلفيّات السيرة ومحتواها الارتكازي الموجود وراء السلوك لا يحدّده ما يحدّد السلوك الخارجي للعقلاء كما يحدث لهم في ظروف معيّنة.

وحينئذ ، إذا فرضنا أن بنينا على حجية السيرة بالمنهج الأول ، فهذا معناه ، إنّ الاستدلال بالسيرة يكون استدلالا بالقضايا الخارجية التي مارسها العقلاء ، وحينئذ ، من الواضح انّه إذا كان دليل حجية كل من العموم والخبر هي السيرة ، ونظرنا إلى العموم والخبر كقضيتين خارجيتين ، فلا يعقل انعقاد سيرة العقلاء على العمل بهما معا ، كما لا يعقل أن يقدّم العقلاء أحدهما على الآخر في سيرته ، بل لا بدّ من العمل على طبق أحدهما فقط ، ولذا لا تصل النوبة إلى إيقاع التعارض بينهما والتساؤل عن المقدّم منهما ، لأنّ معنى تماميّة كل من الدليلين ، إنّ العقلاء عملوا فعلا بالخبر وعملوا بالعموم ، وهذا غير معقول ، لأنّهما متنافيان ، إذن فلا بدّ أن يكون عملهم على طبق أحدهما.

وعلى هذا الأساس ، لا بدّ من تغيير صيغة البحث ، فبدلا عن القول بأنّ دليل الحجية في كل منهما تام في نفسه ، وأنّ أيّهما يقدم على الآخر ، بدلا عن هذا نقول : إنّ دليل الحجية يستحيل أن يتم فيهما معا ، بل العقلاء إمّا أن يعملوا بهذا فقط ، أو بذاك فقط ، وعليه : حينئذ ينبغي الرجوع إلى العقلاء ، لنرى انّهم في هذه الحالة ، بأيّ الدليلين يعملون؟

وهنا ندّعي أنّ السيرة العقلائية قائمة على العمل بخبر الثقة ، وتخصيص العام به.

٤١٤

وأمّا إذا فرض ان بنينا على حجية السيرة بالمنهج الثاني للاستدلال بالسيرة ، فحينئذ ، يجب أن نتصوّر قضيّتين كليّتين شرطيّتين لا تهافت بينهما ، وهاتان القضيتان أيضا ندّعي فيهما انّ حجية العموم مشروطة بعدم قيام الحجة على القرينة المنفصلة ، وحينئذ ، تكون حجيّة خبر الواحد رافعة لموضوع تلك القضية المشروطة ، وهذا يعني ، إنّ دليل حجية الخبر يكون واردا على الأول ورافعا لموضوعه من باب الورود ، وليس من باب الحكومة ، لأنّ الحكومة في السيرة غير معقولة ، لأنّ مرجع الحكومة بحسب الروح إلى التخصيص ، والتخصيص في السيرة العقلائية غير معقول ، لأنّ السيرة ليست دليلا لفظيا ، إذن فلا بدّ من رفع التهافت بالورود حيث به نرفع الموضوع ، وعليه ، فيقدم خبر الواحد على العام ، وعليه نبني على تخصيص العام القطعي بخبر الواحد.

بقي شيء ، وهو أن يقال : إذا ابتلينا بالمعارضة بين دليل حجية خبر الواحد ، ودليل حجية العموم ، فمع قطع النظر عمّا ذكرنا ، يمكن القول : بأنّ دليل حجية خبر الواحد أخصّ مطلقا من دليل حجية العموم ، فيتقدم عليه بالأخصيّة ، بدعوى ، إنّ خبر الواحد دائما أو غالبا يكون على خلاف إطلاقات القرآن وعموماته ، وحينئذ ، فلو التزمنا بتقديم العموم الكتابي ، فهذا يعني إلغاء حجيّة الخبر دائما ، وهذا معنى الأخصيّة في دليل حجيّة الخبر.

وهذا الكلام غير تام ، مبنى وبناء : أمّا مبنى : فلأنّ أدلة الحجية في المقام ليست لفظية ليتصور فيها الأخصيّة ، بل دليلها السيرة العقلائية التي لا يعقل فيها التهافت فيما بينها ، والتخصيص معناه ، الاعتراف بوجود التهافت فيها ، إذن فيكون علاجه بالتخصص كما تقدم.

وأمّا بناء ، فلأنه لو سلّمنا انّ أدلة الحجيّة في المقام لفظيّة ، لكن لا نسلم بأنّ أغلب أخبار الآحاد يكون على خلافها عمومات قرآنية ، حتى لو أريد بالعموم ما يشمل الإطلاقات ، إذ هناك أحكام فقهية كثيرة لا يوجد تعرض لها في كتاب الله ، وإنّما ثبتت وبيّنت باخبار الآحاد ، ولو فرض أن وجد ، ولكن لا يكون معارضا ، خصوصا بناء على الإجمال في ألفاظ

٤١٥

وجد ، ولكن لا يكون معارضا ، خصوصا بناء على الإجمال في ألفاظ العبادات.

وقد اتضح ممّا ذكرناه ، انّ تخصيص العام القطعي بخبر الواحد ، ليس مسألة مبرهنة ومستخرجة من نظرية الحكومة ، كما تقدمه المدارس التقليدية في الأصول ، وإنّما هي مسألة ترجع إلى مصادرة وجدانيّة بالتحليل الذي تقدم ، لأنّ ما ذكر في بيانات متقدمة لتخريج ذلك على القاعدة ، لا يصلح أن يكون دليلا على المدّعى.

نعم ، هي بعد ثبوت المدّعى ، تكون هذه البيانات صياغات له وليست براهين على تقديم الخاص المنقول بالخبر على العام الكتابي ، وهذا ما أوجب صدمة وبلبلة ، تستوجب أن نذكر بعض الشواهد للمدّعى ، ممّا استقرّ عليه البناء في الفقه.

١ ـ الشاهد الأول : هو انّه عند ما نقول بأن السيرة العقلائية انعقدت على تقديم الخاص المنقول بخبر الثقة على العام الكتابي ، ينبغي أن يعلم بأنّ السيرة العقلائية التي ادّعي انعقادها على ذلك مقترنة بأمرين.

الأمر الأول : هو أنّ هذه العمومات هي بطبعها في معرض التخصيص بالمنفصل ـ وليست كالعمومات الصادرة من العقلاء والتي لم يبتن أمرها على الاعتماد على القرائن المنفصلة.

الأمر الثاني : هو انّ هذا خبر الواحد الذي جاء ليخصّص العام ، لو لم نبن على حجيته لما كنّا نعمل بالعام أيضا في المقام ، ولذا لو فرض انّه لم يثبت دليل على حجية هذه الأخبار المخصصة للعمومات الكتابية ، فإنّه مع هذا لا يجوز أن يفترض العمل بتلك العمومات بديلا عن الخبر ، وذلك للعلم الإجمالي بأنّ هذه العمومات مخصّصة ، إذ العلم الإجمالي بوجود مخصّصات لها ، يوجب عدم جواز إجراء اصالة العموم في هذا العام بعينه وفي ذاك بعينه ، وإن كان المعلوم بالإجمال من هذه المخصصات أقل ممّا هو موجود في أخبار الآحاد ، لكن مع هذا ، فالعلم الإجمالي يوجب عدم جريان

٤١٦

المعلوم على المخصّصات على إجماله.

إذن بلحاظ العناوين التفصيلية ، يكون كلّ عام عام طرفا للعلم الإجمالي بالتخصيص.

وقد كنا نقول سابقا بانحلال هذا العلم الإجمالي باعتبار حجية خبر الواحد ، وأمّا إذا لم نقل بحجية خبر الواحد فلا ينحل هذا العلم الإجمالي ، لأنّنا نعلم ـ زائدا على المخصصات القطعية ـ بوجود مخصصات ضمن أخبار الآحاد ، وحينئذ ، مع فرض عدم حجية خبر الواحد لا يجوز إعمال اصالة العموم في هذا العام بعنوانه وفي ذاك بعنوانه وإن أمكن إعمال اصالة العموم في العنوان الإجمالي إذا كان له أثر ، وهذا في الحقيقة أمر آخر ينبغي أخذه بعين الاعتبار في مقام عدم استبعاد قيام السيرة العقلائية على العمل بأخبار الآحاد في مقابل العمومات القطعية والعمل بها ، هذا المؤيّد الأول للوجدان.

الشاهد الثاني : وهو مبني على بحث أشرنا إليه سابقا ، حيث قلنا هناك ، إنّ العمومات الواردة عن المعصوم عليه‌السلام أو في الكتاب الكريم ، لمّا كانت في معرض التخصيص فإنها لا تشملها السيرة العقلائية ، ولذا لا يكون ظهورها حجة بالسيرة ، لأنها صادرة من قول غير متعارف ، وليس له أمثلة ليرى انعقاد السيرة العقلائية على حجية هذا القول ، بل يقال : إنّ كونها في معرض التخصيص يوجب هدم وثلم أماريّتها وكاشفيّتها.

وحينئذ ، فإمّا أن يقال : بأنّ هذه الظواهر التي هي في معرض التخصيص ساقطة عن الحجية رأسا ، وحينئذ ، إنّما نثبت حجيتها بالجملة ، وبعد الفحص عن المخصص ، نثبت ذلك بالسيرة المتشرعيّة لأصحاب الأئمة عليهم‌السلام لا بالسيرة العقلائيّة.

ومن الواضح انّ السيرة المتشرعية ، القدر المتيقن من حجيتها هو مورد عدم وجود خبر واحد مخصّص للعام أو مقيّد للمطلق.

وإما أن يقال : إنّ هذه المعرضيّة توجب ثلم الحجية وسقوطها ما لم

٤١٧

نخرج العام عن هذه المعرضيّة ونصيّره عاما نثبت بالفحص انّه ليس في معرض التخصيص ، وذلك بعد الفحص عن المخصص وعدم وجدانه.

وحينئذ ، ينبغي أن نتنبّه أيضا إلى أنّ هذا الإخراج عن المعرضيّة للتخصيص بالفحص ـ مع انّ المخصصات بطبعها لا توجد عادة إلّا في ضمن أخبار الآحاد ـ لا يكون خبرا عاما سالما عن التخصيص عادة إلّا بعد عدم وجدان المخصّص في ضمن أخبار الآحاد.

إذن ، نكتة حجيّة هذا العام عقلائيا غير متوفرة إلّا في حال عدم وجود مخصّص له في ضمن أخبار الآحاد ، إذ بذلك نخرج العام عن المعرضيّة للتخصيص ، وبدون ذلك ، لا يمكن أن يقال بأنّ هذا العام المخصّص بخبر الواحد قد أخرجناه عن المعرضيّة بدعوى عدم وجدان مخصّص له في أخبار الآحاد ، إذ مع وجود مخصّص له من ضمن أخبار الآحاد لا يبقى هذا العام على حجيته في الظهور في العموم.

الشاهد الثالث : هو أن نبني على أنّ الدليل على حجية خبر الواحد هو السيرة العقلائية ، وإنّ الأدلة اللفظية التي يستدل بها على حجيته هي مسوقة مساق إمضاء السيرة العقلائية ، ولذا ركّزنا الكلام على السيرة ولم نركزه على الدليل اللفظي ، ولكن مع هذا ، فإنّ الدليل اللفظي ينفع في الجملة ، وذلك ، انّه تارة نفرض انّ إنسانا يجزم بوجدانه بما هو وجداننا ، بأنّ السيرة العقلائية منعقدة على العمل بأخبار الآحاد المخصّصة للعمومات ، ومعه لا نحتاج إلى عناية ، وأخرى نفرض انّه يجزم بالعكس أو يحتمل العكس أي بأنّ السيرة منعقدة على خلاف ذلك وعلى إلغاء خبر الواحد المعارض للعموم ، ومثل هذا الأخير لا ينفعه الدليل اللفظي أيضا ، لأنّ انعقاد السيرة على خلافه ـ كما هو المفروض ـ يوجب أن تكون نفس السيرة هذه ، كالقرينة الموجبة لانصراف الدليل اللفظي عن مثل هذا المورد.

وثالثة ، نفرض انّ إنسانا آخر يرى انّ العقلاء ليس لهم قرار معيّن وارتكاز مقرّر على أيّ من النحوين ، بل المواقف عندهم تختلف باختلاف

٤١٨

الأذواق والظروف المعاشة ، وحينئذ ، مثل هذا الإنسان يفيده الدليل اللفظي فيتمسك بإطلاقه لحجية خبر الثقة ، حيث انّ خبر الثقة يوجد دليل لفظي على حجيته ، بخلاف حجية الظهور حيث لا دليل لفظي عليها ، وهذا الدليل اللفظي لحجية خبر الثقة إنّما يتمسك بإطلاقه لأنه لا يوجد جهة أخرى ينصرف إليها هذا الإطلاق كما انّه لا يوجد احتمال ارتكاز على خلافه ليكون موجبا لانصرافه وظهوره في انّه إمضاء لما عليه العقلاء ، إذ لا يجب أن يتطابق مع ما عليه العقلاء ، بحدّه لأنّ الشارع حينما يمضي ما عليه العقلاء قد يوسّع من دائرته بمقدار ما ، وكونه يوسّع من دائرته بمقدار لا ينافي ارتكاز العقلاء ، لا ينافي كونه إمضاء ، إذن فدليل إطلاق الحجية نافع أيضا في المقام.

٤١٩

دوران الأمر بين النسخ والتخصيص

إذا دار أمر دليل بين أن يكون ناسخا للدليل الآخر أو مخصصا ، أو دار الأمر بين أن يكون هذا الدليل ناسخا لذلك ، أو ذاك مخصصا لهذا ، فما هو الحكم؟

والحاصل : هو انّه إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص ، سواء كان بلحاظ دليل واحد أو بلحاظ دليلين.

وهذه المسألة بحاجة لمقدمة ، حتى يتضح انّه متى يكون النسخ ممكنا ومتى يكون التخصيص ممكنا ، وعلى ضوء ذلك ، بعدئذ ، نعرف انّه إذا دار الأمر بينهما أيّهما الذي ينبغي أن يقدّم.

أما التخصيص ، فهناك كلام معروف حاصله ، انّ التخصيص عبارة عن بيان موانع المراد ، وحينئذ ، لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ، لأنّ تأخيره حينئذ يكون تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وهو قبيح.

إذن ، فالمخصص لا يعقل أن يكون مخصصا إلّا بشرط مجيئه قبل وقت الحاجة والعمل بالعام ، أمّا إذا جاء بعد مضي فترة من الحاجة والعمل بالعام ، فيكون تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح.

وهذا الكلام صوريّ ، لأنّ المقصود من قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، إن كان قبح ذلك باعتباره مفوتا للملاكات الواقعية والمصالح النفس الأمريّة التي يهتم بها المولى ، فهذا عبارة أخرى عن شبهة «ابن قبة» في مقام

٤٢٠