بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

أريد إيصال الكبرى بنفس هذا الدليل على الحكم الظاهري ، يلزم الدور ، وإن أريد إيصالها بغيره ، فليس هنا أمر آخر غير الحكم الظاهري يدل على الكبرى ويوصل إليها.

إذن فلا يمكن حمل شمول دليل العام لزيد على الحكم الظاهري ، ولا بدّ من حمله على الواقعي.

٢ ـ الأمر الثاني : هو أنه يلزم الجمع بين جعلين في كلام واحد ، لأنّ الحكم بالنسبة لزيد ، سوف يكون حكما ظاهريا ، وبالنسبة لغيره من غير المشكوكين سوف يكون حكما واقعيا ، والحكم الظاهري والواقعي متباينان موضوعا ، لأن موضوع أحدهما العنوان الأولي ، وموضوع الآخر العنوان الثانوي ، ومع التباين موضوعا يتباينان جعلا.

إذن فلا تكون الجملة ذات جعل واحد ، بل ذات جعلين ، وحينئذ ، تتحول الجملة من الإنشائية إلى الخبرية ، وهذا باطل كما تقدم.

وأمّا إبطال النحو الرابع : وقد كان هذا النحو الرابع للتمسك بالعام بالنسبة لزيد المشكوك ، بلحاظ إثبات جعل شخصي على نحو القضية الخارجية الشخصية في زيد ، لا بلحاظ شمول ذلك الجعل الكلّي الثابت على نحو القضية الحقيقية ، والذي يثبت تعنون موضوعه ببرهان الميرزا «قده» ، ولا مجعول ذلك الجعل ، ولا حكم ظاهري ، بل المراد به إثبات جعل آخر بشمول العام لزيد وراء ذلك الجعل ، كما لو فرض صدور خطاب خاص من المولى في حق زيد يقول : «أكرم زيدا» ، ففي مثله نستكشف جعلا شخصيا قائما على زيد بالخصوص ، نستكشف ذلك بالعموم.

وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمرين لهما دخل في فهم المطلب.

١ ـ الأمر الأول : هو أنه إذا ثبت دخل قيد من القيود في ملاك الحكم ، وانه بدونه لا ملاك للحكم ، فهذا القيد يكون التحفظ عليه من قبل المولى بأحد وجهين.

٢٢١

أ ـ الوجه الأول : هو أن يجعل الحكم ويقيّده بحالة وجود هذا القيد ، فيقول : «إذا كان زيد عادلا فأكرمه» ، فتكون العدالة دخيلة في ملاك الحكم ، فيجعل الحكم بوجوب الإكرام مقيدا بالعدالة ، وفي مثله ، لا يتحمل المولى مسئوليّة إحراز وجود هذا القيد ، بل المكلّف هو الذي لا بدّ أن يتصدّى بنفسه لإحراز وجود هذا القيد أو إحراز عدمه.

ب ـ الوجه الثاني : هو انّ المولى قبل جعل الحكم ، يفحص عن زيد فتثبت لديه عدالته ، حينئذ ، يجعل وجوب الإكرام عليه مطلقا بدون تقييد.

وهذا الإطلاق لا يضرّ به ، لأنّ المولى هو بنفسه قد ضمن وجود هذا القيد.

٢ ـ الأمر الثاني : هو انّ المولى ، تارة ، يجعل الحكم على وجه كلّي على نهج القضيّة الحقيقيّة ، التي مرجعها إلى افتراض الموضوع ، مقدّر الوجود ، وإنشاء الحكم له كقضيّة شرطيّة ، من قبيل : «أكرم كلّ فقير» ، فإنّ مرجع هذا القول إلى ، انّه «كلّما كان إنسان فقير فأكرمه».

وتارة أخرى : يجعل الحكم على وجه شخصي على نهج القضية الخارجية ، من قبيل أن يعيّن أشخاصا محدّدين موجودين بالفعل ثم يقول : «اكرم هؤلاء» ، وحينئذ ، إذا فرض انه ثبت انّ قيدا ما دخيلا في الملاك ، وانّه لا ملاك في وجوب الإكرام إلّا مع افتراض العدالة ، فإن كان الجعل الذي يريد جعله المولى من القسم الأول ـ وهو الجعل على وجه كلّي على نهج القضية الحقيقية ـ إذن فيتعيّن على المولى حفظ التحفظ المولوي على هذا القيد بالطريقة الأولى كما تقدمت في الأمر الأول ، وذلك بأن يأخذ هذا القيد قيدا في الوجوب فيقول : «أكرم كلّ فقير إذا كان عادلا» ، وحينئذ ، لا يمكن للمولى التحفظ على هذا القيد بالطريقة الثانية ، وهي أن يتصدّى المولى بنفسه لإحراز وجود هذا القيد في تمام أفراد موضوع القضية الحقيقية ، لأنّ القضيّة الحقيقية ، موضوعها هو ، الجامع بين مقدّر الوجود ، ومحقّق الوجود.

ومن الواضح ، انّ المولى لو فرض ان لديه علم الأولين والآخرين ، فغاية ما يقتضيه علمه هو انه يحيط علما بحال من هو موجود بالفعل من

٢٢٢

الفقراء ، لكن هذا لا يكفي في القضية الحقيقية ، لأن موضوعها هو الجامع بين من هو موجود بالفعل ، وبين من سوف يوجد في المستقبل ، والأفراد التي سوف توجد ، يمكن أن تكون عادلة ، ويمكن أن تكون غير عادلة ، وحينئذ ، لكي يكون الجعل مطابقا للملاك ، فلا بدّ من تضييق دائرة الموضوع وأخذ العدالة قيدا فيه.

وبهذا يتضح عدم إمكان إحراز القيد بالنحو الثاني ، فإنه إن ضمن إحراز عالم الواقع وإحراز القيد فيه ، فإنه لا يمكنه ضمان عالم الإمكان.

وإن كان الجعل جعلا للحكم على نهج القضية الشخصيّة ، بأن يجعل الحكم على أفراد موجودين فعلا في الخارج ، حينئذ ، هنا قد يمكن للمولى باستعانة علم عادي ، أو علم غيبي ، أن يتحفظ على القيد بكلتا الطريقتين ، وذلك بأن يجعله شرطا تارة ، كما في القضية الحقيقية فيقول : «أكرم من كان عادلا من هؤلاء».

وأخرى : بأن يفحص هو شخصيا ويضمن وجود القيد ، وحينئذ ، يجعل الحكم مطلقا من دون قيد ، وهذا كالمصلحة ، فإنّ المولى لا يقيّد الحكم بها ، بل هو يضمنها.

وحينئذ نأتي إلى شرح الافتراض الرابع ، محل الكلام فنقول : إنه عندنا جعل كلّي على نهج القضية الحقيقية ، وهو جعل وجوب الإكرام على كلّي الفقير ، وقد ثبت بالمخصص المنفصل ، انّ قيد العدالة دخيل في الملاك ، وهذا الجعل الكلّي لا يمكن التحفظ على القيد فيه إلّا بأخذه قيدا في موضوعه ، وهذا معناه ، انه لا بدّ من أخذ العدالة قيدا في موضوع الجعل الكلي ، فيصير موضوع هذا الجعل مركبا من الفقر والعدالة.

وهذا هو معنى التعنون الذي ادّعاه الميرزا «قده» ، ولهذا ، فإنّ كلام الميرزا «قده» هذا ، يتم في الجعول الجارية على نهج القضايا الحقيقية ، وحينئذ ، لا يمكننا التمسك بهذا الجعل ـ أي بالعام ـ في الشبهة المصداقية ، لعدم علمنا وإحرازنا لقيد العدالة في زيد.

٢٢٣

ولكن إذا كان جعلا شخصيا على نهج القضية الشخصية ، بخصوص زيد المشكوك ، فحيث انّ موضوع هذه القضيّة محدّد بزيد ، فيمكن أن يفرض حفظ القيد بالطريقة الثانية ، وهي ضمان نفس المولى للقيد ، بدون حاجة إلى أخذ القيد في موضوع الجعل مسبقا ، بل يجعل جعلا شخصيا لوجوب إكرام من دون أخذ العدالة قيدا في موضوع الوجوب ، إذن فبشمول «أكرم كل فقير» لزيد نثبت هذا الجعل الشخصي ، وهو جعل وجوب إكرام على زيد على نهج القضية الشخصية الخارجية ، ونستكشف منه إنا انّ المولى هو الضامن لقيد العدالة.

وهذا التقريب ، إنّما يتم إذا ورد من المولى خطاب خاص بزيد ، يقول :«أكرم زيدا» وعلمنا من الخارج أنّ المولى لا يجب إكرام الفاسق ، ففي مثله نقول : إنّ خطاب «أكرم زيدا» يدل على جعل شخصي ، ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقه لمجرد علمنا من الخارج بأن الفاسق لا يراد إكرامه ، إذ لعلّ المولى تحفّظ على القيد بالطريقة الثانية ، وحينئذ ، نتمسك بإطلاق «أكرم زيدا» لإثبات وجوب إكرامه ، وبالتالي لإثبات عدالته.

ولا يقال : إنّ ذلك أجنبي عن شأن المولى ، أي إثبات عدالته ، وذلك لأنّ المولى الذي يهتم بجعل الوجوب لزيد مباشرة ، من شأنه أن يفحص خصوصيات زيد من عدالة ونحوها ، وإلّا ، لو لم يفحص ، لعلّق الحكم على الكلّي الطبيعي ، ولما كان قد علّق حكمه على زيد.

لكن في المقام لم يصدر مثل هذا الخطاب الخاص من المولى بوجوب إكرام زيد ، وإنّما يدّعى تحصيل نتيجة مثل هذا الخطاب الخاص ، من عموم «أكرم كلّ فقير».

وهذا غير صحيح ، لأن مرجع ذلك إلى افتراض ان خطاب «أكرم كل فقير» ، بإزائه جعلان ، جعل كلّي على نهج القضية الحقيقية وجعل آخر على نهج القضية الشخصية الذي انصبّ على زيد ، فيكون هذا الخطاب مبرزا لجعلين ، وهذا خلاف ظاهر الجملة الإنشائية ، فإنّ ظاهر كلّ جملة إنشائية انّها في مقام إبراز جعل واحد لا جعلين.

٢٢٤

نعم لو حوّلنا الجملة الإنشائية إلى جملة خبريّة ، فلا بأس حينئذ بتعدد المجعول كما لو قلنا : «إن الله أوجب على العباد خمس فرائض» ، فنكون هنا قد جمعنا بين جعل الصبح ، وجعل الظهر ، وجعل العصر ، وهكذا المغرب والعشاء.

وبتعبير آخر هو ، إنّ كل كلام واحد له مدلول تصوري واحد ومدلول تصديقي واحد.

وبهذا يبطل هذا النحو الرابع ، وبهذا تتم لدينا صيغة البرهان على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لأنّ التمسك بالعام فيها لا بدّ أن يكون على نهج واحد من الأنحاء الأربعة ، وقد بطلت جميعها.

إذن لا يجوز التمسك بالعام فيها ، لكن بنفس هذه الطريقة التي اتضح بها عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، توضيح ان عدم جواز التمسك هذا ليس حكما مطلقا ، بل هناك حالتان يجوز فيهما التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وذلك لعدم تماميّة البرهان المذكور فيهما.

١ ـ الحالة الأولى : هي فيما إذا فرض انّ الحكم في العام كان مجعولا على نهج القضية الخارجية الشخصية ، كما لو قال : «أكرم فقراء بلدتي» ، وكان المأمور بالإكرام يعلم بأنّ المولى من ذوقه انه لا يرضى بإكرام الفساق منهم ، حينئذ ، المكلف ، يتمسك بنفس هذا العام لإكرام الفرد المشكوك فيهم ، ويثبت عدالته أيضا ، وذلك لأنّ النحو الرابع يتم فيه لأنّا نستكشف من هذا العموم جعلا واحدا على نهج القضية الخارجية الشخصية ، ويكون هذا القيد مضمونا من قبل المولى ، وفي مثله ، يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ولكن بحسب الحقيقة والدقة ، فإنّ هذا ليس بشبهة مصداقيّة ، لأنّ القيد هنا ، لم يؤخذ في عالم الجعل ، نعم ، تثبت دخالته في الملاك ، وانّ المولى جعل الوجوب مطلقا وضمن ثبوت قيد العدالة بنفسه من دون أن يأخذه في موضوع الجعل ، فيكون هذا المورد بالدقة روح الشبهة المصداقية ، وليس

٢٢٥

نفسها ، لأنّ الشبهة المصداقيّة معناها : إنّ الحكم مقيد بقيد ، ونشك في انطباقه خارجا.

ففي كل مورد ، كان الحكم مجعولا على نهج القضية الشخصية الخارجية ، وكان موضوع الحكم عدد محدود قابلا لأن يكون المولى هو المتصدي بنفسه ، والمحرز لوجود القيد فيه ، ففي مثله ، إذا صدر الخطاب مطلقا ، حينئذ لا نلتزم في كونه مقيدا ، ولا نتردد في إكرام كل فقير هو داخل تحت دائرة العام ، لأنّ المخصص المنفصل لا يعنون مثل هذا الجعل ، فهنا نتمسك بالعام ما لم ينصب المولى قرينة على انه تخلّى عن مسئولية ضمان وجود القيد ، كما لو قال : «أكرم فقراء محلتي» ، وقال في مخصص منفصل ، «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، فالمخصص هنا ، ناظر للعام ومقيّد له ، فمثل هذا المخصص ، يكون قرينة على أنّ المولى لم يتصدّ لإحراز القيد بنفسه ، بل ترك أمره إلى المكلفين.

بخلاف ما إذا لم يكن المخصّص ناظرا لذلك ، كما لو قال المخصص ، «لا أحب إكرام فاسق إطلاقا» ، فهذا المخصص ليس ناظرا إلى العام ، فلا يكون قرينة على تخلّي المولى عن مسئولية إحراز القيد بنفسه فالتمسك بالعام في الحالة الأولى في الشبهة المصداقية ، يتوقف على ثلاثة شروط.

أ ـ الشرط الأول : هو أن يكون جعل الحكم على نهج القضيّة الشخصيّة الخارجيّة.

ب ـ الشرط الثاني : هو أن لا ينصب المولى قرينة على تخلّيه عن ضمان القيد.

ج ـ الشرط الثالث : وهو أن لا يثبت من الخارج فقدان هذا القيد في بعض أفراد العام ، كما لو قال : «أكرم فقراء محلتي» ، ثم علمنا بمخصص منفصل ، انه لا يحب إكرام الفساق مطلقا ، فهنا ، نتمسك بالعام لإثبات وجوب إكرام الفرد المشكوك في عدالته ولكل أفراد هذا العام إلّا إذا علمنا بأنّ بعض أفراد هذا العام فاسق ، وأمّا إذا علمنا بفسق أحدهم فهذا معناه ان القيد

٢٢٦

قد أخذ في موضوع الجعل ، وإلّا لما حصل التحفظ عليه وللزم شمول الخطاب للفاسق بالفعل. وهذا خلاف حكم المخصص بخروج الفساق عن موضوع حكم العام ما دام هناك جعل واحد ، إلّا إذا التزمنا بجعلين ، فيعود المحذور السابق حينئذ ، وإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة. يمكن حينئذ التمسك بالعام لإثبات الحكم في المشكوك ، وبالتالي لإثبات أنّ المولى قد ضمن بنفسه وجود هذا القيد في تمام هذه الموارد. ومثال ذلك ، المثال المعروف : لعن الله بني أميّة ، حيث يقال فيه ، بأن هذا عام ، خرج منه بالمخصص اللبي العقلي. المؤمن من بني أمية ، لأنّ الإمام لا يلعن المؤمن.

وحينئذ ، إذا شككنا «بخالد بن يزيد» ، انّه مؤمن أو غير مؤمن ، فهل يمكن التمسك بنفس هذا العموم لإثبات انّ كل أموي غير مؤمن أو لا؟.

فنقول : انّ هذا العام ، من الموارد التي يجوز التمسك فيها بالعام ، لأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام لعن الله بني أميّة قاطبة ، انه قضيّة خارجية ، لا حقيقية ، ولم يرد من المولى قرينة على أنه تخلّى عن إحراز قيد الإيمان ، ولا نعلم انّ أمويا كان مؤمنا ، إذن فتمام الشروط متوفرة ، إذن فيتمسك بالعام لإثبات انّ كل أموي ليس بمؤمن. لأنّ مجرد العلم بدخل قيد الإيمان في الملاك لا يوجب انثلام ظهور الخطاب العام من عمومه. بعد ان كان حفظ القيد المذكور بالنحو الثاني كما عرفت. وهذا يقتضي التمسك بالعام وهذا روح الشبهة المصداقية لا نفسها لأنّ القيد لم يؤخذ في الجعل رغم انه أخذ في الملاك فيكون الشك في أصل التخصيص.

٢ ـ الحالة الثانية : المستثناة من عدم جواز التمسك بالعام هي ، فيما إذا كان الجعل على نهج القضية الحقيقية ، لكن كان هذا القيد المشكوك سنخ قيد راجع أمره إلى الشارع ، بحيث يمكن للشارع أن يحرز وجوده في كل أفراد العام موضوع القضية الحقيقية المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود ، كما إذا ورد عام يقول : «كل ماء مطهّر» ، فهذا حكم بالمطهريّة على كل أفراد الماء على نهج القضية الحقيقية ، ثم علمنا من الخارج بمخصص منفصل يقول : «إن

٢٢٧

الماء النجس لا يطهر» ، لكن لا ندري ، انّه هل يوجد ماء نجس في الخارج أم لا؟.

فإذا قلنا بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة هنا ، نقول حينئذ ، إنّ مقتضى عموم قوله ، «إن كل ماء مطهر» ، إنّ المطهرية ثابتة لكل أفراد المياه ، وحيث انّه لا مطهريّة بلا طهارة ، حينئذ نستكشف انّ الطهارة محفوظة في كل المياه ولو قلنا بعدم جواز التمسك بالعام هنا.

وحينئذ لو شككنا في طهارة «ماء الغسالة ونجاسته» ، حينئذ ، لا يمكن التمسك بعموم «إنّ كلّ ماء مطهر» لإثبات مطهريّة ماء الغسالة ، وذلك للعلم بخروج النجس عن هذا العموم ، ولا ندري بأنّ ماء الغسالة نجس أو طاهر ، لكن الصحيح هو ، جواز التمسك بالعام هنا في الشبهة المصداقية ، لأنّ قيد «الطهارة والمطهريّة» وإن كانت القضية حقيقيّة ، لكن هذا القيد هنا ، مرجعه إلى جعل الشارع ، وعليه فهو ، سنخ قيد يمكن للشارع أن يضمن وجوده في تمام أفراد الماء المحقّقة الوجود ، والمقدرة الوجود ، وذلك كما إذا حكم في جعل آخر على نهج القضية الحقيقيّة بأنّ «كلّ ماء طاهر» ، إذن هو قد ضمن بأنّ كلّ ماء محقّق أو مقدّر الوجود فهو مطهر ، وعليه : فنتمسك بعموم «إن كلّ ماء مطهر» ، لإثبات مطهريّة كل ماء نشك في طهارته أو نجاسته ، وهذا التمسك في هذه الصورة ، مشروط بالشرط الثاني والثالث.

وهذه الحالة هي التي يعبر عنها ، بأنّه إذا كانت الشبهة المصداقيّة للعام شبهة حكميّة في نفسها فإنه يجوز التمسك بالعام فيها ، لأنّه شك في انّ المولى جعل النجاسة على ماء الغسالة أو لا ، لكن هي مصداقيّة بالنسبة للعام.

بقي علينا التعرض لما نسب إلى الشيخ الأعظم (قده) من التفصيل في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، بين ما إذا كان المخصص المنفصل لفظيا. فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وبين ما إذا كان لبيا ، فيجوز التمسك بالعام فيها. وقد شرح المتأخرون ، كالميرزا (قده) هذا التفصيل حيث ذكروا بأن نكتة الفرق بين المخصص اللفظي والمخصص

٢٢٨

اللبي ، هي أن المخصص اللفظي يكون حجة بمقدار الظهور وملاكه ، وانّ العام يسقط عن الحجية بمقدار ما يكون المخصص حجة. والفرد المشكوك في عدالته يحتمل أن يكون مشمولا لظهور المخصص ودائرة حجيته له ، إذن فيحتمل عدم شمول حجية العام له لأن حجية العام إنما تكون في موضع لا يكون فيه حجية للمخصص ، وحجية المخصص تابعة لظهوره وظهوره محتمل الانطباق على زيد المشكوك. إذن لا يحرز انطباق حجية العام على زيد المشكوك. وأمّا المخصص اللبي ، فإن حجيته من باب القطع واليقين وليست من باب الظهور ، وحينئذ ، لا يتصور له شبهة مصداقية. لأن المخصص هو القطع ، والقطع لا معنى للشك فيه بوجوب إكرام زيد أو لا ، لأنّ المخصص هذا لا يشمله.

وهذا التقريب واضح البطلان ، لأنّ اللبي وإن كان ميزانه القطع ، ولكن هذا القطع لا ينسب إلى الأفراد كلها فردا فردا ، بل ينسب إلى العنوان الكلي وهو عنوان الفاسق شأنه في ذلك شأن الظهور ، إذ كلاهما ناظر إلى القضية الكلية. فإذا قام دليل على أنه لا يجوز إكرام الفاسق ، وشككنا في أنّ زيدا ، هل هو مصداق لهذا العنوان أو لا ، حينئذ ، إن تمّ برهان الميرزا (قده) على التعنون ، يصبح موضوع العام مركبا في المخصص اللبي أيضا ، وحينئذ ، لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

نعم يمكن أن يجعل هذا الفرق ، فرقا بين المخصص اللفظي واللبّي بلحاظ الشرط الثاني من الشروط الثلاثة لجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، في مورد يجوز فيه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، كما في الحالتين المتقدمتين ، وقد كان الشرط الثاني هو عدم نصب قرينة من قبل المولى على التخلّي عن مسئوليته في ضمان وجود القيد ، وهنا في موارد المخصص اللبّي يكون عدم نصب القرينة على التخلّي عن مسئوليته أمر واضح ، لأنّ المخصص اللبي هنا ليس كلاما للمولى ، وإنّما هو دليل من عمل العقل أو الإجماع ونحوه ، إذن فانحفاظ الشرط الثاني في غاية الوضوح. وأمّا في موارد المخصص اللفظي ، فإنّ الشرط الثاني لعله منثلم في

٢٢٩

كل مورد كان هذا المخصص أضيق دائرة من العام كما هو معنى المخصص. فلو قال : أكرم كل فقراء محلتي ، ثم قال في مخصص منفصل ، لا تكرم الفساق منهم ، فهذا الخطاب المخصص بنفسه معناه إن المولى يترقب وجود فساق في محلته وإلّا لما وجّهه ولذا يمكن اعتباره قرينة على التخلي عن إحراز هذا القيد في فقراء محلته ، إذ لو كان محرزا لعدم فسق أحد منهم ، لما صحّ منه إذن أن يأتي بالمخصص المنفصل. وبناء على هذا يكون تفصيل الشيخ الأعظم (قده) صحيحا ، لكن في إطار هاتين الصورتين المزبورتين ، حيث يكون المخصص اللبي كاشفا عن انحفاظ الشرط الثاني ، وهو عدم نصب قرينة على التخلي عن ضمان القيد ، ويكون المخصص اللفظي كاشفا عن عدم انحفاظه.

٢٣٠

في استصحاب العدم الأزلي

ويعتبر هذا البحث من توابع بحث التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لما قيل : إنه يحتاج إليه في ثلاثة مواضع ـ كما سنعرضها ـ أحدها ، بل أوّلها هو ، إحراز وتنقيح موضوع العام باستصحاب العدم الأزلي العنوان المخصص ، حيث يقال : هذا فقير بالوجدان ، وليس بفاسق بالاستصحاب ، لأنّ الفسق عنوان عارض يستصحب عدمه ، فيتنقح بذلك موضوع حكم العام حينئذ ، فيجب إكرام هذا الفرد المشكوك دخوله تحت المخصص.

ولذا فإنّه بعد الفراغ عن عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، صار الكلام إلى انّه ، هل يمكن إحراز حكم العام ـ بدلا عن التمسك باصالة العموم ـ بإجراء الاستصحاب الموضوعي ، وذلك بأن نستصحب عدم عنوان المخصص ، لأنّ حكم العام كان مرهونا بعد التخصيص بأمرين : أحدهما الفقر ، والثاني ، عدم الفسق ، والفقر حاصل بالوجدان لأنه أمر خارجي ملموس ، وعدم الفسق يحرز بالاستصحاب ، وبذلك يتنقّح موضوع حكم العام.

وهذا التعويض لا إشكال فيه لو فرض انّ الصفة التي أخذت في المخصص كانت سنخ صفة مسبوقة بالعدم مع انحفاظ موضوعها ، كما هو الحال في مثل الفسق في دليل ، «أكرم كل فقير» ، ولا تكرم فسّاق الفقراء ، فإنّ الفسق صفة مسبوقة بالعدم مع انحفاظ موضوعها ، لأنّ الإنسان لا يولد

٢٣١

فاسقا ، وإنّما يحدث له الفسق ، ففي مثله لا إشكال في جريان استصحاب عدم هذه الصفة ، ويتنقح بذلك موضوع العام.

وإنّما الكلام ، لو فرض أنّ هذه الصفة كانت سنخ صفة غير مسبوقة بالعدم ، إلّا بعدم موضوعها رأسا بنحو السالبة بانتفاء موضوعها ، كما لو كان المخصص في مثالنا ، لا تكرم الأمويين من الفقراء ، فإنّ الأموية ليس لها حالة عدم سابقة على وجود الإنسان المشكوك كونه أمويا ، بل ذلك الإنسان منذ ولادته ، إمّا أن يكون أمويا أو غير أموي ، والمثال الفقهي المعروف لهذه المسألة ، هو مسألة القرشيّة بناء على الفتوى المشهورة ، من أنّ كل امرأة تبلغ سن اليأس في الخمسين من عمرها ، وخرج من تحت هذا الحكم ، المرأة القرشية ، فإنّها تبلغ سن اليأس في الستين من عمرها ، فإذا شك في امرأة في انها قرشية أم لا؟ فهي شبهة مصداقية ، وإذا كان لا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فنرجع حينئذ إلى استصحاب العدم الأزلي ، والقرشية ليس لها عدم سابق إلّا بعدم موضوعها رأسا وهو المصطلح عليه بالعدم الأزلي ، إذن من هنا وقع الكلام في انّه هل يمكن استصحاب هذا العدم الأزلي أو لا يمكن؟

واستصحاب العدم الأزلي هذا يحتاج إليه في مواضع ثلاث.

١ ـ الموضع الأول : هو ما طرحناه أولا من انّه يحتاج إليه ، لتنقيح موضوع حكم العام ، فنجري استصحاب عدم الأمويّة لإثبات حكم العام.

٢ ـ الموضع الثاني : لا لتنقيح موضوع حكم العام ، وإنّما نجريه لنفي حكم الخاص ، كإجرائه لنفي حكم الخاص وهو حرمة إكرام الأموي.

٣ ـ الموضع الثالث : فيما لو لم يكن عندنا عام وخاص ، ولكن ورد دليل ابتداء ، وعلّق حكما على عنوان موصوف بصفة ، كما لو ورد : يستحب الائتمام بالقرشي : ثم شككنا في كون هذا الشخص انه قرشي أو لا ، حينئذ ، هل يجري استصحاب عدم كونه قرشيا لنفي الحكم المعلّق على هذا العنوان أو لا؟

٢٣٢

والكلام المشهور للميرزا (قده) ، والجدل الذي وقع بينه وبين القائلين باستصحاب العدم الأزلي ، هو ناظر إلى الموضع الأول ، كما انّ ما ذكره الميرزا (قده) من البرهان على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي ، إنّما يصبّ في الموضع الأول دون الموضعين الأخيرين.

والمحقق العراقي (قده) ، أيضا منع من جريان استصحاب العدم الأزلي ، لكن على تقدير دون تقدير ، وكلامه يشمل المواضع الثلاثة ، فهو يبرهن على عدم جريانه في المواضع الثلاثة.

نعم. ذكر الميرزا (قده) بيانا آخر ـ في رسالته في حكم اللباس المشكوك ، غير المنقول عنه في تقريرات دروسه ـ مفاده لو تمّ ، فهو يقتضي المنع عن جريان استصحاب العدم الأزلي في الموضع الثاني والثالث.

إذن ما هو مصبّ البحث إنّما هو الموضع الأول ، الذي يهمنا فعلا ، باعتباره من توابع بحث التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لأنّنا نتمسك فيه بالاستصحاب بدلا عن العموم ، لإثبات حكم العام وتنقيح موضوعه ، وهو الذي ذهب صاحب الكفاية (قده) إلى جريانه (١).

وذهب الميرزا (قده) إلى المنع من جريانه (٢) مطلقا.

وذهب المحقق العراقي (قده) إلى التفصيل (٣) ، وذهب السيد الخوئي (قده) (٤) إلى جريانه تبعا لصاحب الكفاية (قده).

وهنا في مقام إجراء هذا الاستصحاب ينبغي أن نلتفت إلى مسلكين سابقين في بحث التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

١ ـ المسلك الأول : هو مسلك الميرزا (قده) القائل بأن موضوع حكم

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ص ٣٤٦.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٣) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٥٣.

(٤) هامش أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ص ٤٦٥ ـ ٤٦٦ ـ ٤٦٧ ـ ٤٧٢.

٢٣٣

العام يتعنون بنقيض موضوع حكم الخاص. وبذلك يصبح موضوع حكم العام مركبا من جزءين. أحدهما ، موضوع العام ـ الفقر ـ والثاني ـ عدم الفسق ، وقد تقدم تفصيله.

٢ ـ المسلك الثاني : وهو مسلك المحقق العراقي القائل بإنكار التعنون ، حيث ذهب إلى أنّ المخصص المتصل بمنزلة موت بعض أفراد العام ، وهذا لا يوجب أخذه قيدا في موضوع العام ، فيبقى العام على حاله ، غايته انّه خرج بالتخصيص كأنّهم ماتوا.

وهنا أطروحة استصحاب العدم الأزلي ، يمكن تعقلها على المسلك الأول بلا إشكال ، حيث يقال : إنّ موضوع العام بعد تخصيصه بالمنفصل ، أصبح مركبا من جزءين ، الفقر ، وعدم الفسق ، والأول محرز بالوجدان ، والثاني نحرزه بالاستصحاب ، وحينئذ ، في مورد كون المخصّص صفة غير مسبوقة بالعدم ، من قبيل ، الأمويّة ، والقرشيّة ، يقع النزاع ، في انّه ، هل يجري استصحاب عدم القرشيّة أو لا.

وأمّا بناء على المسلك الثاني : فإنّ أطروحة استصحاب العدم الأزلي لا يمكن تعقلها ، لأنّ موضوع حكم العام لا يتعنون ، بل يبقى موضوعه ذات الفقير حتى بعد التخصيص ، إذن ، فعدم الخاص ـ الذي هو «عدم الفسق» أو «عدم القرشية» ـ ليس جزءا من موضوع حكم العام ، إذ لو كان جزءا من موضوع حكم العام ، لكان هذا خلف إنكار التعنون ، وحينئذ ، إذا لم يكن عدم الخاص جزءا من موضوع حكم العام ، فكيف يعقل جريان الاستصحاب في «عدم الفسق» فضلا عن «عدم القرشية».

إذن فباب الاستصحاب الموضوعي لإحراز حكم العام فسد نهائيا ، قبل وصول النوبة إلى إحراز حكم الخاص بهذا الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب إنّما يجري لإثبات حكم شرعي ، أو موضوع لحكم شرعي ، والمفروض انّ «عدم الفسق» ليس جزءا من موضوع حكم العام ، إذن فهو ليس حكما شرعيا أو موضوعا أو أثرا لحكم شرعي. والذي يبدو من صاحب الكفاية ـ وهو بصدد

٢٣٤

علاج هذه المشكلة ـ أنّه يريد تخريج جريان استصحاب عدم المخصّص. مع فرض عدم تعنون العام. فيقول : «إن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لما كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكنا. فبذلك يحكم عليه بحكم العام ، وإن لم يجز التمسك به بلا كلام».

وحاصل ما يفهم من كلام صاحب الكفاية. جوابا على هذا الإشكال هو أن يقال : إنّ العام وإن تعنون موضوع حكمه بعدم الفسق ، ولكن بحكم كونه عاما كأنه ينشئ الحكم على كل العناوين الممكنة للعام ، كالفقير ، والعادل ، وغير الفاسق ، والفقير غير العادل. فهذه العناوين كلها عناوين لموضوع الحكم. كان الحكم ثابت لها ، وبعد ورود المخصص ـ لا تكرم الفاسق ـ نريد أن نجري استصحاب عدم كون هذا الفرد فاسقا ، والمخصص عند مجيئه ، أسقط حكم العام الوارد على أحد هذه العناوين. وهو عنوان الفاسق وما يلازمه ، وهو الفقير غير العادل ، وبقي حكم العام على سائر العناوين الأخرى التي منها عنوان الفقير غير الفاسق ومنها ، الفقير العادل ، وحينئذ ، فزيد المشكوك في عدالته وفسقه ، لكي نثبت حكم العام له ـ وجوب الإكرام ـ يجب أن نطبق عليه أحد هذه العناوين الباقية تحت العام ولم يخرجها المخصص.

أمّا عنوان الفقير العادل ، فلا يمكن التطبيق عليه ، لأنه عنوان وجودي ، وعدالته غير محرزة ، وأمّا عنوان الفقير غير الفاسق ، فيمكن التطبيق عليه ، لأن الفقر محرز بالوجدان. وكونه غير فاسق ، وهو نعت عدمي ، يمكن إحرازه بالاستصحاب فيكون من العناوين الباقية تحت العام وبهذا يثبت له حكم العام.

وخلاصة هذه المحاولة هي ، انّه لا يلزم الاعتراف بأنّ الحكم المجعول في العام له موضوع كلّي وجداني ، مركب من جزءين ، أحدهما ، الفقر ، والثاني ، عدم الفسق ، كما يقول الميرزا (قده) لكي نحتاج إلى إجراء

٢٣٥

الاستصحاب في عدم الفسق ، وإنّما نقول : إنّ العام قبل مجيء المخصص ، وزّع الحكم على جميع العناوين ، وبعد مجيء المخصّص أسقط الحكم عن بعضها ، وحينئذ ، يمكن إدراج المشكوك تحت أحد العناوين الباقية تحت العام ولم يخرجها المخصص ، فيثبت لها حكمه.

إلّا أنّ هذه المحاولة غير صحيحة ، وذلك لأنّ العام حينما ورد بلسان ، «أكرم كل فقير» ، فهو وإن جعل الحكم على كلّ العناوين الممكنة له ، لكن ليس معنى هذا ، انّ هذه العناوين بما هي عناوين ، صارت موضوعات للأحكام الشرعية ، بل بمعنى انّ حكم العام عليها لا يختص بافراد هذا العنوان دون افراد ذاك العنوان ، وليس معنى عدم إكرام الفاسق ، انّه حكم بعدم إكرامه بما هو جزء ، فإنّ هذا خلف وحدة الجعل ، إذ العموم معناه عدم الاختصاص ، لا الجمع بين الاختصاصات ، إذن ، فعدم الفسق لم يقع جزءا من موضوع حكم العام لكي نجري فيه الاستصحاب ، بل إنّ لسان «أكرم كلّ فقير» يدل عمومه على أنّ الحكم غير مختص بأفراد العادل دون الفاسق ، لا أنه اختص بهذا تارة ، وبذاك أخرى ، إذن ، فبناء على أنّ العام لا يتعنون بمقتضى حكم الخاص ، فإن أمكن لصاحب هذا المسلك ، أن يتمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فهو ، وإلّا فسوف يتعذّر عليه الوصول إلى صيغة فنيّة لإجراء استصحاب موضوعي في العدم غير الأزلي ـ كعدم الفسق ـ فضلا عن العدم الأزلي ـ كعدم القرشيّة.

وبعد تحرير المسألة ، يتبيّن انّ الأقوال في المسألة ثلاثة.

١ ـ القول الأول : هو المنع من جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا ، كما ذهب إليه الميرزا (قده).

٢ ـ القول الثاني : هو القول بالتفصيل ، فيجري على بعض التقادير ، دون بعضها الآخر ، كما ذهب إليه المحقق العراقي (قده).

٣ ـ القول الثالث : هو القول بجريانه مطلقا ، كما هو مقتضى إطلاق عبارة الكفاية.

٢٣٦

وقد ذهب إلى هذا الأخير السيد الخوئي (قده) تبعا للكفاية.

ولتمحيص الأقوال ، نبدأ بالأول ، وهو عدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي مطلقا ، كما هو مختار النائيني (قده). فإن الميرزا (قده) له كلامان ، كلام مذكور في كتب مقرري بحثه ، ناظر إلى الموضع الأول ، وهو المنع من جريانه لإثبات حكم العام بعد التخصيص ، حتى إنّ المحقق العراقي (قده) عند ما اعترض عليه ، كان مصب اعتراضاته الموضعين الأخيرين ، فردّ عليه السيد الخوئي (قده) بأنّ كلامه في واد ، وكلام الميرزا (قده) في واد آخر ، حيث انّ كلا منهما تكلم في موضوع غير ما تكلم به الآخر. فالميرزا ناظر إلى الموضع الأول بينما العراقي ناظر إلى الثاني والثالث.

وللميرزا (قده) كلام آخر ذكره في رسالته المعقودة في حكم اللباس المشكوك ، حيث ذكر فيها كلاما لو تمّ ، لكان ناظرا فيه إلى الموضعين الأخيرين ، ومانعا فيه من جريان الاستصحاب المذكور فيهما.

ويقع الكلام في تحقيق الأول في جهتين.

١ ـ الجهة الأولى : هي في فرز النقاط ، لنعرف أين يقع الاختلاف بين الميرزا (قده) ، وبين السيد الخوئي والكفاية القائلين بجريانه مطلقا ، فهنا عدة نقاط.

أ ـ النقطة الأولى : وهي تتضمّن مطلبا كليا كبرويا ، وحاصله : هو أنه كلّما كان الموضوع مركبا من جزءين ، سواء كانا وجوديّين أو عدميّين ، أو أحدهما وجودي ، والآخر عدمي ، فإن كان هذا الجزء المأخوذ في الموضوع ، مأخوذا فيه بما هو هو ، وبحيال ذاته ، فحينئذ ، إن كان له بهذا الاعتبار ، حالة سابقة ، أمكن إجراء استصحاب العدم الأزلي فيه ، وحينئذ ، يحرز الموضوع بوجدان ونحوه ، فيتنقح به موضوع حكم العام.

وأمّا إذا كان هذا الجزء غير مأخوذ في الموضوع بما هو هو ، بل مأخوذ

٢٣٧

فيه بما هو نعت ووصف للجزء الآخر فحينئذ ، لكي نحرزه بالاستصحاب ، لا بدّ أن يكون له ثبوت في السابق بما هو نعت للآخر على النحو الذي أخذ به جزءا في الموضوع.

وأمّا إذا كان له ثبوت في نفسه ، وبما هو هو ، لا بما هو نعت ، حينئذ ، فاستصحاب حالته السابقة بما هو هو وبحيال ذاته ، لإثبات كونه نعتا للآخر ، لا يمكن أن ننقح به ثبوته النعتي ، لأنّ بقائه وإن كان ملازما مع نعتيّته ، ولكن هذا الاستصحاب يكون مثبتا حينئذ ، وهذا ضابط كلّي اتفق عليه الميرزا (قده) مع السيد الخوئي (قده).

٢ ـ النقطة الثانية : هي ان الميرزا (قده) ، قال : إنّه كلّما كان الموضوع مركبا من جوهرين أو من عرضين عرضيين ، سواء كانا عرضين لجوهر واحد في مرتبة واحدة ، أو كانا عرضين لجوهرين ، أو كان الموضوع مركبا من جوهر وعرض لجوهر آخر ، ففي كل هذه الأقسام لا يعقل أخذ هذا الجزء على نحو النعتية ، بل لا بدّ من أخذه بما هو هو ، لأنّ هذا الجزء بعد ان لم يكن من عوارض الجزء الآخر ، بل كان جوهرا في قبال ذاك الجوهر ، أو عرضا في قبال ذاك العرض ، إذن فلا رابط بينهما لكي يؤخذ بما هو ، نعت للآخر ، إذن ، فلا معنى لأخذه بما هو نعت ، في كل هذه الحالات والأقسام.

نعم قد يتصدّى المولى بعناية ، فيأخذ عنوان «المقارنة» ، كتقارن دخول زيد مع مطر السماء ، فدخول زيد من عوارض زيد ، ومطر السماء من عوارض السماء ، فهذان عرضان لموضوعين ، لكن المولى أخذ فيه عنوان المقارنة ، وهذا أمر معقول ، لكن هذا غير النعتيّة ، لأن المقارنة شيء ، والنعتيّة شيء آخر ، فأخذ المقارنة لا يحقّق اعتبار النعتيّة لأحدهما بالنسبة للآخر وانه ملحوظ بما هو وصف ونعت من أوصاف الآخر.

إذن في هذه الأقسام كلها ، لا تعقل النعتية ، وإنّما تعقل النعتيّة في حالة كون الموضوع مركبا من جوهر ـ محل وموضوع ـ ومن عرض قائم بذلك الجوهر إمّا بلحاظ وجود العرض ، وإمّا بلحاظ عدم العرض ، ففي مثله ،

٢٣٨

تكون النعتية معقولة ، سواء كان الجزء الثاني المشارك ، مع الجوهر ، أو مع المحل ، وجود العرض ، أو عدم العرض ، فهنا النعتيّة معقولة.

وهذه النقطة إلى هذا الحد ، لا خلاف فيها بين الميرزا (قده) ، والسيد الخوئي (قده) ، كما انّ هذه النقطة ، تمثل نحوا من البحث في صغرى النقطة الأولى ، أي تشخيص انه متى يجري الاستصحاب. ومتى لا يمكن جريانه.

٣ ـ النقطة الثالثة : وفيها يقول الميرزا (قده) ، إنّ الموضوع إذا كان مركبا من المحل ووجود العرض ، فالنعتيّة ليست فقط معقولة ، بل تكون ضروريّة ، حينئذ ، لا بدّ من أخذ الجزء ، وهو العرض ، على نحو النعتيّة في الموضوع ، كما في «الإنسان والعلم أو العدالة» فهنا ، العلم أو العدالة ، لا بدّ وأن تؤخذ بما هي وصف ونعت للإنسان العالم أو العادل ، لا بما هي شيء بحيال ذاته فقط.

وفي هذه النقطة ، الميرزا (قده) ، والسيد الخوئي (قده) متفقان.

لكن يختلفان في تفسير هذا (١) ، بمعنى أنّه كيف نبرهن على أنّ الوصف إذا كان مأخوذا في الموضوع يجب أن يؤخذ بنحو نعتي ، لا بما هو هو. ففي طريقة إثبات ذلك يوجد خلاف بينهما.

٤ ـ النقطة الرابعة : هي انه ، قد عرفت انّ الموضوع إذا كان مركبا من المحل وعدم العرض ، ـ مثل «إنسان ، وعدم العلم» ـ فالنعتية كانت معقولة بموجب النقطة الثانية.

وهنا في النقطة الرابعة ، يقول الميرزا (قده) : إنّ هذه النعتيّة ليست معقولة فقط ، بل هي ضرورية كضرورية النعتية في طرف الإثبات فيما لو فرض أخذ العرض مع محله في موضوع الحكم ، بمعنى أنّ العرض متى أخذ في الموضوع إثباتا أو نفيا ، يجب أن يؤخذ نعتا ، فالميرزا (قده) هنا يقيس

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ هامش ص ٤٦٦ ـ ٤٦٧ ـ ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ـ ٤٧١ ـ ٤٧٢.

٢٣٩

عدم العرض بثبوت العرض ، فكما ذكر في الثالثة من انّه إذا أخذ الموضوع مركبا من المحل وثبوت العرض ، فالنعتية ضرورية ، فكذلك في الرابعة ، فيما لو أخذ المحل مع عدم العرض فالنعتية ضرورية ، وذلك لأن برهان الميرزا (قده) على الثالثة سنخ برهان يشمل النقطة الرابعة ، فهو برهان يبرهن على أنّ العرض متى ما أخذ في موضوع الحكم ، سواء كان إثباتا أو نفيا ، فيجب أن يكون نعتا.

وهنا يختلف الميرزا (قده) مع الخوئي (قده) ومن سلك مسلك صاحب الكفاية (قده) من حيث إجراء استصحاب العدم الأزلي ، فإنّ السيد الخوئي (قده) هنا يقول : إنّ عدم العرض ليس كوجوده ، فإنّ العرض إذا أخذ وجوده في موضوع الحكم ، ـ «كإنسان ، وعلم» ـ فالعلم هنا لا بدّ وأن يؤخذ نعتا ، لكن إذا أخذ عدمه فيه ـ «كإنسان وعدم العلم» ـ فلا يلزم أن يكون هذا العدم نعتا ـ «كالمرأة وعدم القرشية» ـ حتى وإن كان أخذ العدم بما هو هو ، وبحيال ذاته معقولا.

وهذا الخلاف في هذه النقطة ، يؤثّر في إجراء استصحاب العدم الأزلي وعدمه.

وذلك لأنّنا إذا بنينا في النقطة الرابعة على قول الميرزا (قده) ، من أنّ «عدم القرشية» المأخوذ جزءا في الموضوع ، حاله كحال أيّ عرض وجودي «كالقرشية» نفسها ، فكما انّ القرشية أو أي عرض وجودي إذا أخذت في الموضوع يجب أن تكون نعتا ، فكذلك «عدم العلم ، أو عدم القرشية» ، حينئذ ، وبناء عليه ، ينسدّ باب استصحاب العدم الأزلي كما بيّنا في النقطة الأولى في القانون الكلّي ، من انه «إذا كان جزء الموضوع مأخوذا بما هو نعت للآخر فلا يكفي استصحاب حالته السابقة بما هو هو لإحراز هذا الجزء ولإثبات انه نعت له ، بل لا بد وأن يكون له حالة سابقة بما هو نعت للآخر».

ومن الواضح ، انّ «عدم العلم» ، و «عدم القرشية» بما هو نعت وصفة للمرأة ، ليس له حالة سابقة بما هو نعت ، وإنّما هذا العدم بما هو عدم محض

٢٤٠