بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

المنهي عنها موجود بين المعرفة المأمور بها والمعرفة المنهي عنها مع انه لم يقل أحد بدلالة المعرفة الواقعة في سياق النهي على العموم ، مع دلالته على الاستغراقية ، إذن الاستغراقية المدعاة هي من شئون المورد لا من شئون النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي ، وقد تقدم في مبحث الأوامر تفصيل هذه القرينة العقلية ، وما تقتضيه من الفرق بين وقوع الطبيعة في سياق الأمر ووقوعها في سياق النهي.

٢ ـ التعليق الثاني : هو أنّ هذه الاستغراقية المستفادة من القرينة العقليّة استدل عليها ، بأنّ النهي عن الشيء طلب لاعدامه ، وإعدام الطبيعة لا يكون إلّا بانعدام جميع أفرادها.

وهذا الدليل يدل على الاستغراقية ، سواء تعلّق النهي بنكرة أو معرفة ، لأنّ هذه الاستغراقيّة ، استغراقيّة بحسب عالم الامتثال ، أي أنّ الحكم الثابت واحد ، لكن امتثاله لا يكون إلّا بإعدام الطبيعة الذي لا يتحقق إلّا بإعدام جميع أفرادها ، وليست هي استغراقيّة بحسب عالم الحكم ، حيث لا يمكن إثبات استغراقه وانحلاله إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الطبيعة بحيث يكون لكل واحد منها عصيانه وإطاعته.

إذن ، لا يمكن إثبات استغراقية الحكم الذي هو العموم ، وانحلاله إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد ، بمثل هذه القرينة العقليّة ، وإنّما نحتاج معه إلى قرينة أخرى تثبته ، بل لو استفيدت الاستغراقيّة والعموم من النواهي ، فذلك يكون بقرينة أخرى تقدم ذكرها في مبحث النواهي ، وهي هنا خارجة عن محل النزاع.

٣ ـ التعليق الثالث : هو أن هذه الاستغراقية أجنبية عن محل الكلام ، لأن مناط عمومية العموم هو إراءة الأفراد بالمدلول اللفظي للكلام ، سواء كان الحكم عليها استغراقيا أم بدليا ، والاستغراقية قد تثبت بالعموم ، وقد تثبت بمقدمات الحكمة كما في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فإن موضوعات الأحكام دائما تجري فيها مقدمات الحكمة وتثبت فيه الاستغراقية.

٨١

والخلاصة هي ، أنّ الطبيعة في متعلق النهي أو الأمر قد تكون شموليّة ، وقد تكون بدليّة ، وهذا ليس عموما ، لأنّ مناط عموميّة العموم هو ، عبارة عن الدلالة على استيعاب أفراد الطبيعة وضعا لا مجرد كون الطبيعة ملحوظة بنحو الشموليّة ، كما هو الحال في وقوع الطبيعة موضوعا ، أيّ متعلق المتعلق للأمر ، كما في قوله ، «أكرم العالم» فإنّ موضوعات الأحكام دائما تجري فيها مقدمات الحكمة وتثبت فيها الاستغراقية.

٤ ـ التعليق الرابع : هو أنّ هذا الدليل العقلي ، لا يغني عن القرينة العقليّة المسمّاة بمقدمات الحكمة في إفادة الاستغراقيّة (١) ، لأنّ مفاده هو ، أنّ انتفاء الطبيعة لا يكون إلا بانتفاء جميع أفرادها ، وهذا صحيح ، لكنه لا يدل على أنّ التحريم تعلّق بالمطلق أو بالمقيّد في مرحلة المدلول الجدي ، وإن كان في مرحلة المدلول اللفظي تعلّق بالطبيعة بلا قيد ، لكن لا ندري ، فإن كان قد تعلق بالمطلق ، فسوف لن يحصل الامتثال إلّا بانتفاء المطلق ـ أي جميع الأفراد ـ وإن كان قد تعلق بالمقيّد ، فسوف يحصل الامتثال بانتفاء المقيّد.

ومقدمات الحكمة حينئذ ، تعيّن أنّ مصب الحكم هو المراد الجدي للكلام وهو المطلق.

إذن بواسطة مقدمات الحكمة ، يتنقح موضوع هذه الدلالة العقلية.

والخلاصة : هي أنّ القرينة العقليّة المزبورة ، غاية ما تقتضيه هو أنّ متعلق النهي أو النفي من الطبائع لا تنعدم إلّا بانعدام تمام أفرادها خارجا ، وأمّا تحديد الطبيعة المتعلق بها النهي أو النفي هل إنّها الطبيعة المطلقة أو المقيّدة ، فهذا خارج عن وظيفتها ، وإنما يتكفل بإثباته الإطلاق ومقدمات الحكمة كما ذكرنا سابقا.

٥ ـ التعليق الخامس : هو انّه ، هل صحيح ، انّ الطبيعة توجد بوجود

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٣٤.

٨٢

فرد ولا تنعدم إلا بانعدام جميع الأفراد كما ذكر المحقق الخراساني (قده)؟.

لقد استشكل في ذلك كلّ من المحقق (١) الأصفهاني والخوئي (قده) ، حيث ذكر أنّ ما ذهب إليه الخراساني (قده) غير صحيح ، وإنّما الصحيح هو أنّ الطبيعة على نحو واحد في الإثبات والنفي ، فإن لوحظت بنحو يناسب البدليّة فالأمر والنهي لا يقتضيان إلّا إيجادا واحدا أو نفيا وإعداما واحدا ، وإن لوحظت بنحو يناسب الاستغراقية ، فالأمر حينئذ يقتضي كلّ الإيجادات ، والنهي يقتضي كل الإعدامات.

وقد تعرضنا لذلك في مبحث النواهي وقلنا : بأنّ الصحيح ما عليه المشهور ، وأنّ الطبيعة لا تختلف فيهما ، وإنّما الذي يختلف ، هو محمولها ، فإن كان محمول نفي فلا يصدق إلّا بنفي تمام الأفراد ، وإن كان محمول إثبات فيصدق بوجود فرد.

وما اعترض به الأصفهاني (٢) والخوئي (قده) على الخراساني (قده) والمشهور إنّما هو خلط بين المسألة الفلسفيّة في النزاع المعروف بين ابن سينا والرجل الهمداني ، وبين ما هو الملحوظ في المسألة الأصوليّة في تحديد المفاهيم الواقعة متعلقات للأوامر والنواهي في عالم الذهن ، وبهذا ينتهي البحث عن العموم.

__________________

(١) نهاية الدراية ـ ج ٢ ـ الأصفهاني ـ ص ١٨٥.

(٢) نهاية الدراية ـ ج ٢ ـ الأصفهاني ـ ص ١٨٥.

٨٣

الفصل الثاني

في التخصيص

والبحث عنه يقع في فصول :

الفصل الأول

هو هل أنّ العام المخصّص ، حجة في الباقي بعد التخصيص ، أم لا؟

وإنما طرحت هذه المسألة بهذا الشكل ، لأنّ العمومات المخصّصة حولها مشكلتان.

١ ـ المشكلة الأولى : هي أنّه لما ذا يقدم ظهور الخاص على ظهور العام ، مع العلم أنّ كلا منهما له ظهور في نفسه ومشمول لدليل حجية الظهور ، إذ كما يمكن التصرف في العام بإرادة الخصوص منه ، فكذلك يمكن العكس ، والتصرف في ظهور الخاص في كثير من الأحيان.

والحاصل : هو ، أنّه ما دام أنّ كلا من الخاص ، والعام بعد التخصيص ، قابل للتأويل في مقابل الآخر ، إذن لما ذا يقدم ظهور الخاص على ظهور العام؟.

فمثلا لو قال : لا يجب إكرام أي عالم ، ثم قال : أكرم الفقهاء ، فهنا قد نلتزم بتخصيص العام ، فنخرج الفقهاء من تحت عدم وجوب الإكرام إلى

٨٤

وجوب الإكرام ، وهذا يعني أننا تصرفنا في عموم العام. وقد نلتزم بحمل صيغة افعل في الخاص على الاستحباب ، وهذا يعني أننا أبقينا العام على عمومه ، ولكن تصرفنا في ظهور المخصّص ، وهكذا نرى أنه يمكن التصرف في كل من الدليلين على وجه يتحفظ معه على ظهور الدليل الآخر ، وحينئذ نقول : لما ذا يقدم التصرف الأول وهو التصرف في العام لمصلحة ظهور الخاص ، مع أن لكل منهما ظهور في نفسه ، وكل منهما مشمول لدليل حجية الظهور ونسبتها إليهما على حد ونحو واحد.

فقد يقال في مقام الجواب عن ذلك : إن ظهور الخاص يفني ظهور العام ولا يبقيه ذاتا ، وهذا يعني أنه يكون واردا عليه ورافعا لموضوع حجية الظهور في العام. وقد يقال : إن ظهور الخاص حاكم على دليل حجية ظهور العام ، باعتبار أن حجية ظهور العام منوطة بعدم ورود الخاص ، إمّا لأنّ ظهور الخاص أقوى فشرطت تلك الحجية بعدم هذه ، وإمّا لأن ظهور الخاص قرينة على العام فشرطت حجية ظهوره بعدم ورود القرينة على الخلاف.

وتحقيق الحال في هذه المشكلة موكول إلى محله في بحوث تعارض الأدلة حيث يبحث هناك عن نكتة تقديم الخاص على العام ، إمّا بالورود أو بالحكومة أو بالقرينة أو غير ذلك.

٢ ـ المشكلة الثانية : هي أنّ العام بعد تخصيصه يصير مجازا في أيّ مرتبة من المراتب الباقية ومن جملتها تمام الباقي ، ولا معيّن للمرتبة المرادة ، وعليه فلا دليل على إرادة تمام الباقي لأن نسبة تمام الباقي إلى المعنى الحقيقي للفظ ، كنسبة أي مرتبة أخرى من مراتب الباقي إليه ، إذن ، فلا يكون العام حجة فيه.

ثم إن كلتا المشكلتين لا تشملان موارد التخصيص الراجع إلى تضييق دائرة المدخول من أول الأمر ، كما لو كان التخصيص متصلا بنحو انصبّ فيه العموم والاستيعاب على الخاص ابتداء ، بحيث كأنّه وجد مخصّصا ، كما في قوله «أكرم كل عالم عادل» ، إذ في مثل ذلك لا موضوع للمشكلة الأولى ، لأنّه لا يوجد من أوّل الأمر ظهوران أحدهما للعام والآخر للخاص ودلالتان

٨٥

إحداهما للعام والأخرى للخاص كي يقع التنافي بينهما ويبحث عن وجه تقديم أحدهما على الآخر ، فإنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب تمام أفراد المدخول ، والمخصّص في المثال المزبور جزء منه ، إذن فلا ظهور للكلام إلّا في الخصوص ، ولا ظهور للعام كي يفتّش عن تقديم أحدهما على الآخر.

كما انّه لا موضوع للمشكلة الثانية ، لأنّ هذه المشكلة متفرعة على طرو التخصيص على العام ، وهنا لم يطرأ تخصيص على العام ، وإنّما استعملت الأداة في الاستغراق ، غاية الأمر أنّ هذا الاستغراق ضيّق الدائرة من أول الأمر باعتبار كون الخاص هو تمام العام المستوعب بأداة العموم.

إذن لا تخصيص من أول الأمر ، بل تخصّص ، وذلك لورود التقييد في رتبة سابقة على العموم.

إذن ، فالمشكلتان إنّما تبرزان كموضوعين للبحث فيما إذا كان قد انعقدت الدلالة على العموم واستكمل العام مدخوله ، وورد الخاص مستقلا عنه ، وسواء كان هذا الخاص متصلا أم منفصلا.

ولكن من المناسب هنا ، البحث عن المشكلة الثانية التي تبحث عن وجه حجيّة العام في تمام الباقي ، مع تساوي نسبته إلى مراتبه الأخرى ، فإنّ هذه المشكلة طرحت بصيغتين مختلفتين مقصدا وغاية ، ومتفقتين مضمونا.

وتبعا لذلك يختلف أسلوب علاجهما للتمييز بينهما ، كي لا تختلط حيثيّات بحث إحداهما بحيثيات بحث الأخرى.

١ ـ الصيغة الأولى : وهي تطرح تحت عنوان التشكيك في كبرى حجية العام في الباقي حيث يقال : إنّ العام بعد التخصيص هل هو حجة في تمام الباقي أم لا؟

إذن فنحن نشك في حجيته في ذلك بعد التخصيص ولا ندري هل استقرّ بناء العقلاء على العمل بكلام المولى إذا كان عاما وخصّص؟ وإذا لم نعمل به هل نعاقب؟ وهل لنا اعتذار بانهدام حجية العام بعد تخصيصه فيما لو لم نعمل به أم لا؟.

٨٦

٢ ـ الصيغة الثانية : هي أنه ـ بعد التسليم والعلم بحجية العام المخصّص في تمام الباقي بعد التخصيص للسيرة العقلائية ـ يبحث عن كيفية تخريج هذه الحجية فنيا وبيان نكتتها ، وأنه كيف بنى العقلاء على حجية ذلك ، مع أنه ليس عندهم قرارات وتعبدات محضة ، وإنّما تثبت الحجية ببناء العقلاء ، من باب الظهور الراجع إلى اصالة الحقيقة ، والمفروض انثلام الحقيقة بالتخصيص ، حيث لم يرد بالعام الاستغراق.

إذن ، فكيف بنى العقلاء على إرادة تمام الباقي من العام وحجيته فيه.

أمّا في حل الصيغة الأولى ، فينبغي أن نرجع إلى العقلاء ، لنرى هل أنهم بنوا على الحجية أم لا ، ونتبعهم في ذلك ، فإذا عرفنا أنهم بنوا على الحجية ، ننتقل حينئذ إلى حل الصيغة الثانية ، حيث نبحث عن التخريج الفني لهذه الحجية.

وفي مقام الجواب عن هذا الإشكال ، ذكرت عدة محاولات لحل هذه المشكلة ، وبعضها يصلح لحل كلتا الصيغتين ، وبعضها يصلح لحل إحداهما فقط.

١ ـ المحاولة الأولى : هي أن يقال فيها : بأنّ هذه المشكلة غير واردة في المقام ، لأنه لا تخصيص أصلا ، إذ التخصيص المفروض ، يرجع بحسب الحقيقة إلى التخصّص ، وهذا معناه ، أنّ غاية ما يفيده ذلك المخصّص هو ، تضييق دائرة العام ، أي المدخول من أول الأمر.

وقد ذكرنا سابقا خروج مثل هذا عن هذه المشكلة كما في قوله : «أكرم كلّ عالم عادل» ، فإنّ العام فيه انعقد ضيقا من أول الأمر.

وهذه المحاولة لها عدة تقريبات.

١ ـ التقريب الأول : هو أنّ أداة العموم موضوعة للدلالة على استغراق أفراد المدلول والظهور المتحصل ببركة مقدمات الحكمة من المدخول ، لا المدلول الوضعي له ، أي لا كل ما ينطبق عليه المدخول وضعا ، وحينئذ

٨٧

ينحل الإشكال في كل مخصّص متصل ، لأنّ «كل» ، في قولنا : «أكرم كل عالم» ، ولا يجب إكرام النحويين تدل على استيعاب تمام أفراد المدلول الحكمي للفظ «عالم» ، والمفروض أنّ مقدمات الحكمة لم تتم في كلمة «عالم» باعتبار أنّ أحد شروط مقدمات الحكمة عدم ذكر القيد ، والمفروض أنّ القيد ، قد ذكر هنا ، ومع ذكره ، يكون المدلول الحكمي ، أي مدلول المقدمات ، قد ضيّق ، وانّه المقيّد لا المطلق ، وأنّ «كل» موضوعة لاستغراق هذا المدلول الذي ضيّق ، أي المقيّد ، والمفروض أنّها استغرقته ولم يرد تخصيص بعد ذلك على هذا العموم لترد المشكلة ، هذا بالنسبة للمخصصات المتصلة.

وأمّا بالنسبة للمخصّصات المنفصلة ، فإنّ انحلال الإشكال وعدمه فيها مبني على انثلام مقدمات الحكمة بواسطة المخصّص المنفصل وعدم انثلامها ذاتا ، وإن انثلمت حجية.

فإن بنينا على الانثلام ، فإنّه حينئذ ، تنحل المشكلة ، ويكون الكلام كالكلام في المخصّص المتصل ، باعتبار أنّ أداة العموم ، تكون مستعملة حينئذ فيما وضعت له ، وهو استغراق تمام المدلول الحكمي ، أي تمام ما يكون مدلولا للمقدمات ، غايته أنّ هذا المدلول تضيق بعد ان كان وسيعا ، وإن بنينا على عدم الانثلام ذاتا. وإن انثلمت حجية فقط ، فلا تنحل المشكلة ، باعتبار أنه مع عدم ذكر القيد استقرّ ظهور لمدلول مقدمات الحكمة ، أي للمدلول الحكمي فإذا جاء القيد المنفصل بعد ذلك فإنه يهدم حجيته لا أصل ظهوره ، وعليه فتبقى المشكلة على حالها لأنّ الأداة فيه موضوعة لاستيعاب تمام أفراد المدلول الحكمي. والمدلول الحكمي هو المطلق ، فإذا ورد المخصص المنفصل ، فإنه يكشف عن عدم إرادة الاستغراق في تمام المطلق ، وعليه ، فيبقى الإشكال وهو أنه لا معيّن لتمام الباقي.

٢ ـ التقريب الثاني : هو أن يقال : إنّ أداة العموم موضوعة لاستغراق

٨٨

تمام أفراد المدلول الجدي من المدخول ، وبناء عليه تنحل المشكلة في المخصصات المتصلة والمنفصلة ، لأنّ المخصص سواء أكان متصلا أو منفصلا ، فإنه يكشف عن ضيق دائرة المراد الجدي ، والمفروض أن أداة العموم موضوعة لاستغراق تمام أفراد المراد الجدي ، الذي قد يكون ضيقا تارة ، وواسعا تارة أخرى ، وعليه ، فأداة العموم لم يرد عليها تخصيص لترد المشكلة.

وكلا هذين التقريبين غير تامين ، لأنهما مبنيّان على مسلك غير صحيح في باب العمومات ، وهو كون العموم في طول جريان مقدمات الحكمة ، أو قل ، احتياج «كل» في الدلالة على العموم إلى مقدمات الحكمة ، وقد عرفت إبطاله وخلافه كما تقدم.

٣ ـ التقريب الثالث : هو أن يقال : بأنّ أداة العموم موضوعة لاستغراق تمام أفراد المدلول الوضعي للمدخول ـ كما هو الصحيح ـ لكن ، باستثناء ما يخصّص ، بحيث يكون هذا القيد ، وهو «استثناء ما يخصّص» قد أخذه الواضع قيدا في الوضع.

وبناء عليه تنحل المشكلة في المخصصات المتصلة والمنفصلة ، لأن أداة العموم حتى لو ورد مخصّص ، تكون مستعملة في معناها الموضوع له ، لأنّ الواضع وضعها ، لاستغراق كل أفراد المراد الاستعمالي للمدخول عدا ما يصدر تخصيصه في خطاب آخر متصل أو منفصل ، وحينئذ تكون الأداة مستعملة في معناها الموضوع له ، وكل مخصص أو خطاب يرد لإثبات نقيض حكم العام لبعض الأفراد ، يكون تخصصا لا تخصيصا.

وهذا التقريب غير صحيح ، إذ مضافا إلى بداهة بطلانه باعتبار عدم تقييد الواضع أداة العموم بالنحو المذكور ، يرد عليه عدة إشكالات نكتفي بذكر واحد منها ، وحاصله : هو أنّ الواضع الذي وضع الأداة لاستغراق تمام أفراد المراد الاستعمالي ، عدا ما يصدر تخصيصه ، هل أنّ هذا الواضع حينما قيّد دائرة الاستغراق ، هل قيّدها بعد صدور خطاب للتخصيص بوجوده

٨٩

الواقعي ، أو أنّه قيّده بعدم ذلك الخطاب بوجوده الواصل إلى كل المكلفين ، أم بوجوده الواصل إلى بعضهم فقط؟.

فإن فرض الأول ، بأن أخذه قيدا بوجوده الواقعي ، فهذا يلزم منه ، إجمال العام في كل مورد نحتمل فيه التخصيص ، وعليه لا يمكن أن نتمسك بالعام ، لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، وهو غير جائز.

وإن فرض الثاني ، بأن أخذه قيدا بوجوده الواصل إلى الكل ، فلازمه أنّه لو وصل خطاب التخصيص إلى «زيد» فقط ، لوردت المشكلة حينئذ ، لأنّ مثل هذا المخصّص لم يقيّد أداة العموم بعدمه حين وضعها للاستغراق ، لأنّها موضوعة لاستغراق تمام الأفراد عدا ما يثبت تخصيصه عند الكل ، وهذا لم يثبت تخصيصه عند الكل ، بل عند «زيد» ، وعليه ، فلا بدّ أن تكون تلك الأفراد المخصّصة داخلة تحت العام ، مع أنّ «زيدا» يعلم بأنها غير مرادة ، إذن ، فكيف يكون العام حجة في الباقي بالنسبة إلى «زيد»؟ وعليه : فتعود المشكلة ثانية.

وإن فرض الثالث ، بأن أخذه قيدا بوجوده الواصل إلى البعض خاصة ، فلازمه عدم التمكّن من التمسك بالعام لو احتملنا وجود مخصّص واصل ولو إلى البعض ، لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، مع انّه لا إشكال في جواز التمسك بالعام في المقام بحسب المرتكزات العرفية.

وبهذا يثبت بطلان هذا التقريب.

وممّا ذكرنا ، يظهر أنّه لو لم تمّ واحد من هذه التقريبات ، لكان علاجا للمشكلة بكلتا صيغتيها ، لأنّ من كان شاكا في أصل الحجية ، فهذه التقريبات تنبّهه ، وتبرهن على الحجية ، لأنّ الظهور في العام لم ينثلم بوجه بل هو من أول الأمر منعقد بمقدار الباقي بحيث يكون هو المعنى الحقيقي للفظ ، والمفروض أنّ هذا الشاك يعلم بأنّ كل ظهور حجة ، وحينئذ يحكم بالحجيّة بعد علمه بأصل الظهور ، وبهذا يرتفع شكّه من هذه الناحية.

٩٠

وبهذا ينحل الإشكال في الصيغة الأولى.

وكذلك ، تحل المشكلة بصيغتها الثانية ، حيث لا يبقى تساؤل عن نكتة الحجيّة وملاكها ، وكيفيّة بقائها بعد انثلام العام ، إذ يصبح هذا التساؤل من باب السالبة بانتفاء موضوعها ، لأنه تبيّن أنّ الظهور في العموم على حاله لم ينثلم ، فتبقى حجيّته ، ويكون التخصيص على أساس هذه المحاولة ، من التخصّص دائما كما عرفت.

٢ ـ المحاولة الثانية : في الجواب ، لحل هذه المشكلة المتقدمة ، هي ، للمحقق الخراساني (١) (قده) ، وحاصل هذه المحاولة ، هو أن كل كلام له إرادتان.

أ ـ إرادة استعمالية : وهي إرادة المتكلم إخطار المعنى في ذهن السامع ، وهو عبارة عن مجرد تصور المعنى ، وهذا المسمّى بالمدلول الاستعمالي.

ب ـ إرادة جدية : وهي جعل الحكم في نفس المتكلم ، أو قل : إنها عبارة عن احتواء نفس المتكلم لجعل الحكم مثلا في مورد الجملة الطلبية ، أو التمني في مورده ، وهكذا ، ومحل كلامنا الجملة الطلبية.

وهاتان الإرادتان قد تنفك إحداهما عن الأخرى كما لو قال هازلا : «أكرم كل الناس» ، فهنا الإرادة الاستعمالية موجودة ، لكن الإرادة الجدية غير موجودة ، لأنه لا يوجد حكم حقيقي بوجوب الإكرام ، ولأجل هذا صحّ القول : بأنّ الكلام له دلالتان تصديقيتان وراء الدلالة التصورية الوضعية البحتة التي هي أبسط الدلالات ، والتي هي عبارة عن انتقاش المعنى في الذهن لمجرد سماعه حتى لو سمع من اصطكاك حجرين ، وملاك هذه الدلالة الوضع ، لأنها من شئونه.

وهاتان الدلالتان هما : الدلالة التصديقيّة الاستعمالية : وهي عبارة عن

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

٩١

ظهور الكلام وكشفه عن الإرادة الاستعمالية للمتكلم فإننا نستظهر من كلامه ، انّه لا يقوله ، مجرد لقلقة لسان ، وإنّما يقوله ليخطر في ذهننا معنى من المعاني ، وإنّما سمّيت تصديقيّة ، لأنّنا نصدّق ونستكشف أمرا واقعيا في نفس المتكلم ، فننتقل من التصور البحت إلى التصديق.

ومرجع هذه الدلالة إلى ما يسمى باصالة الحقيقة ، لأنّ عملها تعيين المراد الاستعمالي ، وانه هو المعنى الموضوع له ، لأنّ الأصل في الكلام انه ظاهر في أنّ المستعمل إنّما استعمله في المعنى الحقيقي.

والدلالة الثانية : هي الدلالة التصديقيّة في مرحلة المراد الجدّي ، أي ظهور الكلام في أن هذا الذي أخطر في ذهننا ، مراد للمتكلم حقيقة وجدا ، فمرجع هذه الدلالة إلى ما يسمى باصالة الجد ، أو اصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت ، لأنّ الأصل أنّ كلّ ما يذكره المتكلم إثباتا هو ، واقع في صميم نفسه ثبوتا.

إذن ، هناك ثلاث دلالات ، تصورية ، وتصديقيّة استعمالية ، وتصديقية جديّة.

وبناء على هذا ، إذا قال المولى : «أكرم كل عالم» ، ثم ورد مخصص وهو «لا تكرم العلماء النحويين» ، فنرى أنّ هذا المخصص لا يزاحم العام في أي مرحلة من هذه الدلالات الثلاث.

أمّا عدم مزاحمته مع الدلالة الأولى ، فلوضوح أنّ المتكلم عند ما قال «أكرم كلّ عالم» ، فقد وقع في ذهننا العموم والاستغراق.

وأمّا عدم مزاحمته الدلالة الثانية ، أي الدلالة التصديقيّة الاستعمالية ، فلأنّ المتكلم يجوز له استعمال اللفظ في العموم مريدا إخطاره ، ولكن مع هذا ، لا يريد العموم جدا ، وهذا معقول ، لما عرفت من أنّ الإرادة الجديّة قد تنفك عن الإرادة الاستعمالية ، والمخصص لا ينفي أن يكون مرادا بالإرادة الاستعمالية ، وإنّما ينفي أن يكون مرادا بالإرادة الجديّة.

٩٢

وعليه ، فهذا المخصّص لا يزاحم مع هذه المرحلة.

وإنّما تقع المعارضة وتستفحل بلحاظ الدلالة التصديقيّة في مرحلة المراد الجدي ، إذ لو تمّت هذه الدلالة في العام ، لكان المخصّص كاذبا.

إذن فالمخصص يزاحم هذه الدلالة ويكشف عن عدم مطابقتها للواقع ، وحينئذ تأتي عمليّة الجمع بين العام والخاص ليندفع الإشكال ، وذلك لأنّ هذه المشكلة التي نعالجها ، افترضت أنّ المخصص أوجب التجوز في العام ، أي أنّها أوجبت إبطال ظهوره في المعنى الحقيقي ، فهو يخطئ الدلالة التصديقيّة في مرحلة المراد الاستعمالي ويوجب أن يكون المراد الاستعمالي هو غير العموم ، وهذا يعني ، أنّه أسقط اصالة الحقيقة.

ومن هنا يقع الإشكال ، وهو أنّه ما هو المراد الاستعمالي إذن؟ هل هو تمام الباقي ، وذلك لسقوط اصالة الحقيقة وثبوت التجوز ، أو أنه غيره؟ مع ان نسبته إليهما على حد واحد.

هذا ما افترضه صاحب المشكلة.

أمّا بناء على مدرستنا ، فإنّنا نقول : إنّ المخصّص لم يعارض مع هذه الدلالة ، إذ لا مانع من أن يكون اللفظ مستعملا في العموم ، إذن فهو لم يهدم اصالة الحقيقة ، حيث لا يلزم من استعمال اللفظ في العموم منافاة المخصّص.

وإنّما المخصّص بحسب الحقيقة ، يزاحم الدلالة الثالثة ، أي الدلالة التصديقيّة في مرحلة الجد ، أي اصالة التطابق.

إذن فالدلالة الثانية باقية على حالها ، واللفظ مستعمل في العموم ، ولسنا بحاجة لمعرفة الحد المستعمل فيه اللفظ ، فإنه مستعمل في العموم بمقتضى اصالة الحقيقة.

ثمّ نجيء إلى الدلالة الثالثة ، فنرى أنّ كل ما قيل إثباتا هو محفوظ ثبوتا ، ومراد جدا ، وهنا يقع الثلم ، لكن هذا الثلم يقع بمقدار المخصّص ، حيث لم يثبت لنا أنّ تمام المراد الاستعمالي لم يرد جدا ، بل بعضه.

٩٣

وحينئذ نقول : بأنه في مقام الإثبات ذكر أمران : الأول : هو أنّ «النحويين لا يجب إكرامهم» ، والثاني : هو أن «العلماء يجب إكرامهم».

وأحد هذين الأمرين ثبت أنّه غير مراد جدا ، فنرفع اليد عن الدلالة الثالثة بمقدار المخصص ، أي انّنا نرفع اليد بواسطة المخصص عن حجية اصالة التطابق بهذا المقدار ، وأمّا الأمر الثاني وهو : «العلماء» المذكور إثباتا أيضا ، فلم يثبت أنّه لم يرد جدا ، إذن لا موجب لرفع اليد عنه ، أي لا موجب لرفع اليد عن ظهور الدلالة التصديقية في غير ما أخرج بالتخصيص ، وهذا هو معنى كون العام حجة في الباقي.

وتحقيق الحال في هذا البيان هو : انّنا نريد أن نعرف انّ هذا البيان ، هل يعالج كلتا الصيغتين للمشكلة؟.

فنقول : إنّنا ننتزع مما ذكره المحقق الخراساني (قده) صيغة تصلح تخريجا فنيا في مقام علاج ذلك ، وذلك هو أنّ المخصص في المقام لو كان يزاحم ويكذب الدلالة الثانية من الدلالات الثلاث ، وهي الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الاستعمالي ، إذن يكون ما تقولونه صحيح ، لأن الظهور هنا واحد ، وهو اصالة الحقيقة ، وهو الاستغراق بالأحرى ، لأن الحقيقة لا تتعدد ، فإذا خرج واحد منها خرجت عن كونها حقيقة وبالتالي خرج هذا الخارج عن كونه مستغرقا وخرجت الحقيقة عن كونها مستغرقة ، وحينئذ ، لم يبق عندنا ما يدل على أنّ اللفظ أريد به تمام الباقي ، حتى يقال : إنّ العقلاء يبنون على الحجية لاصالة الظهور ، لأنّ حجية الظهور قد سقطت في المقام بسقوط اصالة الحقيقة لعدم استعمال اللفظ في الاستغراق وحينئذ فلا ظهور.

ولكن نحن نقول : إنّ المعارضة تنصب على الدلالة الثالثة دون الثانية ، والظهور فيها متعدد ومنحل إلى ظهورات متعددة بعدد التطابقات بين مقامي الثبوت والإثبات لأنّ الدلالة الثالثة تفيد بأنّ كل ما هو مذكور في مقام الإثبات مراد في مقام الثبوت ، فتعدد ما هو مذكور ، يوجد ظهورات متعددة بعدده.

وحينئذ يتضح فذلكة الجواب وسرّ بناء العقلاء ، فإنهم حينما رأوا

٩٤

ظهورات عديدة وقد بطل ظهور بعضها ، أبقوا أيديهم على بقية الظهورات لأن بطلان ظهور واحد لا يوجب بطلان بقية الظهورات.

وبهذا تنحل المشكلة بصيغتها الأولى باعتبار أنّ كون الكلام ظاهر في وجوب إكرام الفقهاء والنحويين ، منبّه على الحجيّة ، باعتبار أنه لا شك في حجية الظهور.

وهذا البيان للخراساني (قده) منبه لوجود ظهورين كما عرفت.

وكذا تنحلّ المشكلة بصيغتها الثانية المفروض فيها الشك الراجع إلى الشك في تخريج الحجية وبناء العقلاء عليها فإننا حينئذ نقول :

إنّ جواب المحقق الخراساني (قده) يزوّدنا بصيغة تكون منبهة لرفع الشك وذلك لأننا حينما نشك ، لا نشك في كبرى حجية الظهور ، وإنما الشك في التطبيق ، لأنّ هذا البيان يقول : بأنّه عندنا صغرى لكبرى حجية الظهور أيّ أنّه في هذه المرحلة يوجد عدة ظهورات ، تشكّل صغريات لكبرى حجية الظهور ، بمعنى أنّ هذا الجواب يرفع الشك ، لأنّه يبيّن لنا أنّ بناء العقلاء على الحجية بالنسبة للباقي باعتبار أنّ الظهور فيه الذي هو حجة ، لم يبطل ، ولم يوجد ما يوجب رفع اليد عنه.

وإن شئت قلت : إنّ جواب المحقق الخراساني (قده) يزوّدنا بصيغة تكون منبّهة لنا لرفع هذا الشك ، لأنّ منشأ شكّنا هو ، الشك في التطبيق ، وهذا البيان ينقّح لنا صغرى لكبرى حجية الظهور التي لم تنثلم ، وقد عرفت أنّ في الدلالة الثالثة ظهورات متعددة ، وقد بطل جملة منها ، والباقي ظهورات صغريات لتلك الكبرى ، ولا موجب لرفع اليد عنها.

وبهذا يرتفع الشك عنها ويثبت أنّ العام حجة في الباقي.

إلّا أنّ التحقيق ، عدم صحة هذه المحاولة التي ذكرها صاحب الكفاية (قده).

وسوف نتكلم في بيان ذلك على مستوى كلتا الصيغتين.

٩٥

أمّا بناء على مستوى الصيغة الأولى ، وهي ما لو فرض أنّا شاكّون في أصل حجيّة العام في الباقي ، فقد ذكرنا سابقا أنّ بيان المحقق الخراساني (قده) ينفع في إقناع الإنسان نفسه ، أو خصمه ، بأنّ العام حجة في الباقي لكون بيانه ينقح صغرى لكبرى حجية الظهور ، باعتبار أن للكلام ظهورات متعددة بعدد التطابقات بين مقامي الثبوت والإثبات ، وقد سقط بعضها. فيبقى البعض الآخر ، وبهذا يتنقح صغريات لتلك الكبرى ، فينتج حجية العام في الباقي.

وإن شئت قلت : إنّ جواب المحقق الخراساني (قده) يرفع شكّنا عن أصل حجية العام في الباقي لأنه يبين لنا أن بناء العقلاء ، على حجية العام في الباقي بعد التخصيص إنما هو باعتبار أن الظهور فيه لم يبطل ولم يوجد ما يوجب رفع اليد عنه ، إذن فيبقى العام حجة فيه.

وهذا هو معنى كون العام حجة في الباقي بعد التخصيص.

ولكنّ هذا البيان ليس صحيحا.

وفيه أنّه بعد تسليم هذا المبنى ، وهو كون الظهورات متعددة ، وأنّ سقوط بعضها عن الحجية لا يستلزم سقوط البعض الآخر ، إلّا انّنا نقول :

إنّ البناء على حجيّة ظهور العام في الباقي ، بدعوى أنّ العام له ظهوران ، ظهور في الباقي ، وظهور في الخارج ، وانّ الثاني يسقط عن الحجيّة ، والأول لم يعلم بطلانه.

هذه الدعوى لا يمكن أن ندّعيها بلا رجوع إلى السيرة العقلائية والتأكد من انّ بنائهم منعقد على العمل في الباقي.

ومع الرجوع إليها ، يكون ما ذكره الخراساني (قده) بلا موجب ومستأنفا ، لأنّ ما ذكر في البيان المذكور ، وإن كان منبها إلى وجود بعض الظهورات التي لم تسقط فيكون بذلك منقحا لصغرى كبرى حجية الظهور ، ولكن تمامية هذا الظهور فرع كون المتكلم قد استعمل لفظ العام في تمام العام.

٩٦

ورغم أنّ صاحب الكفاية (قده) أثبت أنّه مستعمل في تمام العام باصالة الحقيقة ، كما أثبت انّ العموم مراد له جدا باصالة التطابق ، غايته أنّه سقطت بعض الظهورات بالمخصّص فيبقى الباقي ، ويكون مرادا له ، وبذلك أثبت صاحب الكفاية (قده) ظهور العام في الباقي.

ولكنّا نقول : انّ هذا الظهور في إرادة الباقي ، يوجد ظهور آخر يعارضه ، لأنّ هذا المتكلم ، إمّا أن يفرض أنه استعمل اللفظ في العام وأراد البعض جدا ، وإمّا أن يفرض انّه استعمل اللفظ في البعض وأراد البعض جدا ، وكلا هذين الفرضين محتمل ، ويدعم الفرض الأول الذي يتم معه كلام صاحب الكفاية ، اصالة الحقيقة ، ويدعم الفرض الثاني اصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت الراجعة إلى أن ظاهر حال المتكلم أنه لا يفهم بكلامه ما لا يريده جدا ، وقد ثبت أنه لا يريد إكرام النحويين ، فيثبت أنه غير قاصد لإكرامهم.

وهذا يدعم كون اللفظ مستعملا في البعض ، أي في الخصوص من الأول.

وهذان ظهوران متعارضان ، وكلام صاحب الكفاية (قده) إنّما يتم بناء على تقديم الظهور الأول بالنحو الذي عرفت ، لأنه لو قدمنا الظهور الثاني وبنينا على أن المتكلم استعمل كلامه في الخصوص من الأول لكان هذا الاستعمال مجازيا ، ومعه لا تجري اصالة التطابق ، وحينئذ فلا يتم ظهور اللفظ في الباقي وكونه مرادا جدا للمتكلم ، وعليه فلا بد من الرجوع إلى السيرة العقلائية لنرى هل أنها انعقدت على تقديم الأول أو الثاني ، وبهذا يثبت أن بيان صاحب الكفاية (قده) لا يتم بدون الرجوع إلى السيرة العقلائية ، ومع الرجوع إليها فلا حاجة إلى هذا البيان.

وإن شئت قلت : إن بيان المحقق الخراساني (قده) ينفع في رفع المشكلة بصيغتها الثانية حيث ينقح لنا صغرى لكبرى حجية الظهور باعتبار أن هناك ظهورات متعددة بعدد التطابقات بين مقامي الثبوت والإثبات ، وقد سقط

٩٧

بعضها فيبقى البعض الآخر ، وبهذا يتنقح صغريات لتلك الكبرى ، فينتج حجية العام في الباقي.

ولكن هذا ليس صحيحا ، وذلك لأنه حتى لو سلمنا بأن الظهورات متعددة وان سقوط بعضها عن الحجية لا يوجب سقوط البعض الآخر بدعوى أنّا لم نعلم سقوطها ، فإن هذه دعوى لا يمكن أن ندعيها بلا رجوع إلى السيرة العقلائية والتأكد من أن بنائهم منعقد على العمل في الباقي.

وعند ما نرجع إلى سيرتهم هذه ، نجد أنّ هذا الحديث بلا موجب ومستأنفا لأنه ان وجدنا السيرة منعقدة على ذلك ، فإن المطلب يتم على مستوى الصيغة الأولى من دون حاجة إلى هذه الدعوى ، وإلّا فما ذكر لا يفي بإثباتها.

أمّا أنّ المطلب يتم بدون حاجة إلى هذه الدعوى فبيانه : انّه إذا قال المولى لعبده : أكرم جيراني ، ثم خصّصه ، ولم يعمل العبد بالعام في تمام الباقي ، فهل يصح للمولى عقابه أو للعبد الاعتذار؟ وحينئذ إن رجعنا إلى السيرة العقلائية وتأكدنا أنّ بناء العقلاء على ذلك إذن ، فقد تمّت حجيّة العام في الباقي من دون حاجة إلى هذا البيان.

وإن لم نجد بناء العقلاء منعقد على ذلك ، وإنّ ما ذكر لا يفي في إثبات دعوى بناء العقلاء على ذلك ، فلأنه قد نبهنا سابقا إلى أن العام في المدلول الجدي له ظهور لم يسقط ، وهو ظهور الكلام في أنه أراد تمام الباقي جدا ـ ولكن هذا الظهور إنما يوجد وتتم صغراه فيما إذا ثبت أن لفظ العام مستعمل فيما يشمل تمام الباقي ، «إمّا في تمام العام ، كمدعى الآخوند (قده) ، وإمّا تمام الباقي» ، أمّا لو فرض استعماله في جزء من الباقي ، فإن اصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت لا محل لها حينئذ ، لأنه بعد أن ثبت استعماله فيه ، ثبت كونه جديا. فاصالة الجد فرع ثبوت الاستعمال ، ومن هنا تمسك صاحب الكفاية (قده) باصالة الحقيقة لإثبات أن العام مستعمل في العموم ، ثم ذكر بعد هذا انه يتمسك باصالة التطابق لإثبات أن العام مراد منه تمام الباقي.

٩٨

إذن فهذا البيان ، متوقف على ظهورين ، أحدهما ظهور اللفظ انه استعمل في العموم حقيقة ، والثاني ، ظهور الكلام في أنّ المستعمل فيه هو مراد جدا للمتكلم.

ونحن هنا نرى أنّ الظهور الثاني ـ بعد ورود المخصص ـ يكون مبتلى بالمعارض ، ولا بد من إجراء حساب هذا التعارض ، وحينئذ يقال : انّ هذا المتكلم إمّا انّه استعمل اللفظ في العموم وأراد البعض جدا ، وإما انه استعمله في البعض وأراد البعض جدا ، وكل من هذين مطابق مع ظهور من ظهورات كلام المولى ، لأنه إن كان قد استعمل اللفظ في العموم ، فهو مطابق لاصالة الحقيقة ، ومقتضاها أن العام استعمل في العموم حقيقة ، لكنه أريد منه البعض جدا ، وإن كان قد استعمله ابتداء في الخصوص فهو على طبق اصالة التطابق لأن ظاهر حال المتكلم أنه لا يفهم بكلامه شيئا لا يريده جدا.

ونرى أن هذا الظهور انثلم في الاحتمال الأول ، كما أن اصالة الحقيقة انثلمت في الاحتمال الثاني.

وحينئذ ، لا بد من رفع اليد عن أحد هذين الظهورين ، امّا رفع اليد عن الظهور الأول ، فنقول : إن اللفظ استعمل في البعض وأريد منه تمام ما استعمل فيه ، فهو على خلاف مصلحة المحقق الخراساني (قده) ، وأمّا رفعها عن الظهور الثاني ، وهو التطابق المطلق ، فنقول : إنه لم يتطابق مقامي الثبوت والإثبات من جميع الجهات ، وهذا معناه وجود تعارض بين ظهورين ومجرد وجود كبرى حجية الظهور لا يحل المشكلة ، بل يجب أن نعرف ما ذا يصنع العقلاء في المقام ، إذن فلا بدّ من الرجوع إليهم ، وبدونه لا يفي هذا البيان بحل المشكلة ، فكم فرق بين المقام وبين الموارد التي يمكن فيها أن نثبت ببيان ما صغرى لكبرى حجية الظهور ، كمفهوم الشرط وغيره.

وأحسن ما يمكن أن يجاب على إشكالنا على صاحب الكفاية (قده) ـ بحيث لو تمّ هذا الجواب لتمّت محاولة صاحب الكفاية (قده) في الجواب عن هذه المشكلة.

٩٩

فيقال : إنه لا تعارض بين هذين الظهورين.

وتوضيح ذلك أن يقال : إنّه يوجد عندنا نظريتان بالنسبة لهذين الظهورين.

أ ـ النظرية الأولى :

تقول : إن هذين الظهورين عرضيّان.

ب ـ النظرية الثانية :

تقول : إنهما طوليان.

وعلى كلا الحالين ، يمكن تصوير جواب عن الإشكال الذي أورد على صاحب الكفاية (قده) ، غاية الأمر ، انّه بناء على العرضيّة ، يكون دفع الإشكال حينئذ أوضح.

ونحن نتكلم بناء على كلتا هاتين النظريتين.

أمّا بناء على النظرية الأولى القائلة : بأنّ الظهورين المذكورين عرضيّان ، فحينئذ يمكن أن نجري اصالة التطابق بين الظهور الأول الراجع إلى الدلالة الأولى ، والتي ترجع بدورها إلى اصالة الحقيقة كما عرفت ، وبين الظهور الثالث الراجع إلى الدلالة الثالثة ، والتي ترجع بدورها إلى اصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، فتتكون نتيجة لذلك بين الظهورين الأول والثالث ، انّ كل ما هو مراد استعمالا هو مراد جدا ، وبما أنّه قد ثبت بواسطة الظهور الأول الراجع إلى اصالة الحقيقة ، إن اللفظ مستعمل في العموم ، فيثبت حينئذ ، إرادة العموم جدا باصالة التطابق المذكورة ، وحيث انّا نعلم من الخارج ببطلان بعض الظهورات بالنسبة للعموم ـ وهو النحوي كما في مثالنا ـ حينئذ ، تبقى بقية الظهورات على حالها ، وتكون حجة ، وبذلك يتم كلام صاحب الكفاية ، هذا بناء على النظرية الأولى.

لكن بما أنّ الصحيح كما سيأتي تحقيقه في محله ، هو النظرية الثانية القائلة : بأن هذين الظهورين الأول والثاني طوليان وليسا عرضيين.

١٠٠