بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

إذن فنحن نصب تحقيق الكلام بناء على هذه النظرية الثانية ، فنصوّر كيفيّة الجواب عن صاحب الكفاية (قده) ثم نتعرض لتحقيق هذا الجواب.

أمّا تصوير الجواب فحاصله : أن لا معارضة بين هذين الظهورين ، بدليل أنّهما طوليان ، لأنّ الظهور الثاني قد أخذ في موضوعه مدلول الظهور الأول ، وذلك ، لأنّ الأول يقول : إنّ اللفظ قد استعمل في المعنى الموضوع له ، باعتبار اصالة الحقيقة كما عرفت ، والظهور الثاني يقول : بنحو القضيّة الشرطيّة ، إنّ كلّ ما كان داخلا في المعنى المستعمل فيه فهو داخل في المراد الجدي ، إذن ، فالظهور الثاني مترتب على الأول ، وهذا الظهور الثاني قد سقط ، إمّا تخصيصا أو تخصصا ، لأنّ «النحوي» كما في مثالنا ، إن لم يكن مرادا استعمالا فهو خارج تخصصا عن المراد الجدي الذي هو الظهور الثاني ، وإن كان مرادا استعمالا ، فهو خارج تخصيصا عن المراد الجدي ، بواسطة المخصّص الذي هو وجداني.

وعليه فالظهور الثاني قد انثلم ، بينما الظهور القائل ، بأنّ اللفظ قد استعمل في العموم ، لم يعلم بانثلامه ، ومعه لا تبقى أيّ معارضة بينهما ، وحينئذ ، لا يرد الإشكال المذكور على المحقّق الآخوند (قده).

والخلاصة : هي أنّ هذا الكلام مبنيّ على ما هو الصحيح والمختار ، من كون الظهور الثاني في طول الظهور الأول ، لأنّ الظهور الأول هو ، ظهور اللفظ في أنّه مستعمل فيما وضع له ، أي أنّ المدلول التصوري هو المراد الاستعمالي ، والمفروض انّ المدلول التصوري هو الموضوع له اللفظ ، إذن ، فيكون مرجعه إلى أنّ المدلول الأول هو الثاني ، بينما الظهور الثاني هو ظهور اللفظ في كون المراد استعمالا هو المراد جدا ، لاصالة التطابق بين المرادين ، إذن فالثاني مترتب على الأول كما عرفت ذلك في مباحث الحجيّة.

هذا ، ولو قلنا بأنّ هذين الظهورين عرضيّان ، بمعنى أنّ اصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات تقتضي التطابق بين المدلول التصوري والمراد الجدّي ابتداء ، فحينئذ ، يكون المحقق الآخوند (قده) أحسن حالا في

١٠١

دعواه ، وذلك لأنّ هذا الأصل حينئذ ، يكون مفاده جدّية المدلول التصوري ، فيكون النحوي داخل فيه ، فيكون مرادا جدا ، مع أنّا نعلم وجدانا بعدم دخوله في المراد الجدي ، فيبطل ويسقط عن الحجية ، وهذا بخلاف فرض الطوليّة بين الظهورين ، لأنّ الظهور الثاني ـ بناء على الطوليّة ـ مرجعه إلى ، أنّه إن كان هذا مرادا استعماليا فهو مراد جدي ، وهذه الشرطية بما هي شرطية ، غير معلومة الكذب ، نعم أحد طرفيها كاذب وجدانا ، لكن هذا لا يستلزم العلم بكذبها ، لأن أحد طرفي هذا العلم كذب الشرط ، وكذبه غير كذب الشرطية.

إذن فالظهور الثاني قد سقط إمّا تخصيصا أو تخصصا ، لأنّ ـ النحوي في مثالنا ـ إن لم يكن مرادا استعمالا فهو خارجا تخصصا عن المراد الجدي الذي هو الظهور الثاني ، وإن كان مرادا استعمالا ، فهو خارج تخصيصا عن المراد الجدي بواسطة المخصّص الذي هو وجداني.

وعليه ، فالظهور الثاني قد انثلم ، بينما الظهور القائل بكون اللفظ قد استعمل في العموم ، لم يعلم انثلامه.

ومعه لا تبقى أيّ معارضة بين الظهورين.

وبهذا ينتصر لصاحب الكفاية (قده) حيث انّ الظهورين طوليان ، وبهذا يندفع الإشكال المذكور عنه (قده).

إلّا أنّ التحقيق عدم تماميّة هذا الانتصار على أساس النظرية الثانية ، ويرد عليه إشكالان.

١ ـ الإشكال الأول :

هو أن يقال : إنّ التعارض مستحكم بين الظهورين. وذلك لأن الظهور الثاني يقول : إنّ كل ما هو مراد استعمالا فهو مراد جدا ، وهذا يدل بالدلالة الالتزامية الراجعة إلى عكس النقيض ، على أن كل ما ليس بمراد جدا ، فهو ليس بمراد استعمالا ، وبما أنّ النحوي غير مراد جدا ، فمقتضى عكس النقيض المذكور انه ليس بمراد استعمالا أي أنه خارج تخصصا لا تخصيصا من تحت

١٠٢

العام ، وبذلك يكون هذا الظهور بمقتضى عكس نقيضه معارضا مع الظهور الأول ، لأنّ مقتضى الظهور الأول ان النحوي مرادا استعمالا كما عرفت ، إذن ، فنفس الظهور الثاني الدائر أمره بين التخصيص والتخصص يكون دليلا على نفي التخصيص وإثبات التخصص ، وبذلك تقع المعارضة بين الظهورين.

فإن قيل : ما دام انّه بقانون عكس النقيض يثبت انّ النحوي خارج تخصصا من تحت العام ، فلما ذا يلتزمون بسقوط العام عن الحجية في كل مورد يدور الأمر فيه بين التخصيص والتخصص ، مع أنه يمكن إجراء نفس البيان المتقدم حيث يقال : مثلا ، لو قال المولى أكرم كل عالم ، ثم قال : لا تكرم زيدا ، وشككنا في خروجه تخصصا لأنه ليس بعالم أو تخصيصا لأنّ المولى لا يريد إكرامه رغم انه عالم ، فهنا يمكن تشكيل قضية موجبة كلية تقول : كلما كان إنسان عالما يجب إكرامه ، وتنعكس بعكس النقيض إلى انه كلما لم يجب إكرام إنسان فهو ليس بعالم ، فيثبت أنّ زيدا خرج تخصصا عن وجوب الإكرام ، ويبقى العام حجة في غيره ولا داعي لسقوطه عن الحجية.

قلنا : إنّ النكتة الموجبة لصحة جريان هذا البيان في مقامنا غير موجودة في مثال «أكرم كل عالم» كي تكون موجبة لخروج «زيد» تخصصا ، وبقاء العام على حجيته ، وتوضيح ذلك من خلال بيانات.

١ ـ البيان الأول :

هو ما ذكره المحقق العراقي (١) (قده) ، وحاصله : إن وظيفة المولى هي بيان الأحكام وتشريعها ، وأمّا كون زيد عالما أو ليس بعالم ، فهو من وظيفة المكلف نفسه ، فهو الذي يشخّص ذلك ، وكلّ قضية ليس بيانها من وظائف المولى وشئونه لا يمكن استنتاجها من كلامه لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية.

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٥٣ ـ ١٥٤.

١٠٣

ففي هذا المثال المذكور ، ليست وظيفة المولى بيان انّ زيدا عالم أو غير عالم ، ولا يمكن استفادة ذلك من كلامه بدلالة الالتزام بالنحو الذي عرفت ، لأنّ المولى ليس بصدد بيان ذلك ، أو إفادته من كلامه ، لأنه ليس من وظيفته.

إلا أن هذا البيان المانع من التمسك بالعام ، لو تمّ ، فهو لا يجري فيما نحن فيه ، لأن عكس نقيض الظهور الثاني الدائر أمره بين التخصيص والتخصّص والقائل إن كلّ ما ليس مراد جدا ليس مراد استعمالا ، إنما هو من شئون المولى ووظيفته ، وليس هو من المصاديق والتطبيقات الخارجية التي هي وظيفة من وظائف الناس المكلفين وشئونهم.

وحينئذ فلا مانع من استفادة ذلك من كلام المولى بالدلالة الالتزامية بواسطة قانون عكس النقيض كما عرفت.

٢ ـ البيان الثاني :

هو للمحقق الخراساني (١) (قده) : وحاصله : إنّ حجيّة الظهور ثابتة بواسطة السيرة العقلائية ، فإن العقلاء تبانوا على حجيّة الظهور الذي له دخل في تحقيق المقصود من الكلام ، وأمّا ما ليس له مثل هذا الدخل فلم يتبانوا على حجيته ، فإثبات كون زيد عالما وعدمه كما في المثال المذكور ليس له دخل في تحديد المراد من قوله : «أكرم كل عالم» ، بعد أن علمنا بعدم وجوب إكرام زيد.

هذا حاصل ما ذكره صاحب الكفاية (قده).

وهذا البيان لا يجري في محل كلامنا ، لأنّ إثبات كون النحوي ليس مرادا استعماليا له دخل في تحديد المراد من كلام المولى ، وهو «أكرم كل عالم» لأنه إذا أثبتنا أنه غير مراد استعمالا ، تتضيّق بذلك دائرة العموم في كلام المولى.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

١٠٤

وإلى هنا ، ثبت أنه يمكن إجراء هذه القاعدة في محل كلامنا ، ونثبت بعكس نقيض الظهور الثاني ، إنّ النحوي غير مراد استعمالا ، إذن فهو خارج تخصصا.

وبذلك يكون هذا الظهور معارضا مع الظهور الأول الراجع إلى اصالة الحقيقة والذي يثبت استعمال اللفظ في العموم ، بحيث يكون النحوي مرادا استعمالا.

هذا حاصل الإشكال الأول على ما أجيب به عن الإشكال الذي أوردناه على صاحب الكفاية (قده).

وإن شئت قلت : إن حاصل البيان الثاني المنسوب لصاحب الكفاية هو : أنه في قولنا «أكرم كل عالم» لا يصح التمسك بعكس النقيض لإثبات أنّ زيدا الخارج ليس بعالم ، لأنه لا يؤثر في تشخيص «كل» في المراد الجدّي والاستعمالي ، حيث انّ الأول لا يشمل زيدا ، للمخصّص ، والثاني يشمله ، سواء قيل بالتخصيص أم بالتخصص في الجدّي.

وبناء عليه ، يكون التمسك بعكس النقيض لإثبات انه خارج تخصصا غير مفيد عقلائيا.

وهذا بخلاف الظهور الثاني القائل : إنه كلّما كان شيء مرادا استعمالا ، فهو مراد جدا ، فإن التمسك بعكس نقيضه يكون مؤثرا في تحديد المراد الاستعمالي ، لأنه يقول : كلما لم يكن الشيء مرادا جدا لا يكون مرادا استعمالا ، وهو يعني خروجه تخصصا عن موضوع العام.

وحينئذ نقول : إنّ الرجوع الى تلك النكتة في قولنا : «أكرم كل عالم» ، هل هو بعد افتراض أنّ مدلول العام الاستعمالي هو العموم ، أم قبله؟.

فإن كان بعد فرض علمنا بأن المراد الاستعمالي هو العموم ، وأن المراد الجدّي هو الخصوص لخروج زيد تخصيصا ، فهو خلف ، لأنه بعد فرض أن المراد الاستعمالي هو العموم على كل حال ، فهو يعني انه في المرتبة السابقة

١٠٥

على تلك النكتة أجرينا التعارض بين الظهورين ، وقدّمنا الظهور الأول على الثاني ، وليس معناه إلّا الرجوع إلى العقلاء ، ومعه لا حاجة لنا إلى الرجوع إلى نكتة أخرى ، لأن كل ما نريده هو إثبات تمامية الظهور الأول ، وقد ثبت.

وإن كان قبل فرض علمنا بأن المراد الاستعمالي هو العموم ـ كما هو الصحيح ـ إذن فتلك النكتة لا تجري ، لأنها تقول بأن عكس النقيض لا يؤثر في تشخيص أي المرادين.

أمّا في مقامنا ، فإنه يؤثر في تشخيص المراد الاستعمالي كما عرفت.

٣ ـ البيان الثالث :

على عدم جريان تلك القاعدة هو أن يقال :

إن نكتة عدم حجية العام في عكس النقيض وهي أوسع من ذلك حيث يقال :

إن كل عموم لا يكون مؤثرا في تشخيص المراد الجدي لا يكون حجة.

وفرقه عن السابق هو ، أنّه هناك ، يكفي في عدم حجية العام ، عدم كونه مؤثرا في تشخيص أيّ المرادين.

أمّا هنا فهو ، في خصوص تشخيص المراد الجدي.

وهذه النكتة لو تمّت فإنها تشمل محل الكلام ، لأنه فيه ، فإن عكس النقيض للظهور الثاني لمثال «أكرم كل عالم» ، لا يكون مؤثرا في المراد الجدي للمتكلم ، للعلم بخروج زيد عن مراده بواسطة المخصّص ، لكنه مؤثر في تشخيص المراد الاستعمالي ، حيث ينفي إرادته استعمالا.

وقد اشترطنا في الحجية انّ الظهور لا يكون حجة إلا إذا كان مؤثرا في تشخيص المراد الجدي ، وحينئذ ، فيسقط عن الحجية في المراد الاستعمالي ببركة عكس النقيض.

وحاصل هذا البيان الثالث هو : أنّ كل ما لم يكن له دخل في تشخيص

١٠٦

المراد الجدي للمولى ، فلا يمكن التمسك بعكس نقيض الظهور الثاني في مقام إثباته.

وهذا البيان يشمل محل الكلام ، لأن النحوي في مثالنا ، يعلم بعدم إرادته جدا ، ومعه لا يمكن التمسك بعكس النقيض للظهور الثاني في مثالنا ، بل يسقط عن الحجية ، ومعه لا يبقى معارض للظهور الأول ، وحينئذ يتم كلام صاحب الكفاية (قده).

لكن هذا البيان في الحقيقة تخصيص في حجية اصالة الظهور ، لأن مرجعه إلى أنّ الظهور ثابت ، غايته أنّه ساقط عن الحجية ، لأنه بدلالته الالتزامية لا يراه العقلاء انه حجة ، فهذا البيان يكون مخصصا لحجية اصالة الظهور ، وهذا التخصيص بهذه الدائرة الواسعة لا بدّ في مقام إثباته من الرجوع إلى السيرة العقلائية في موارد افتراق البيان الثاني عن الثالث ، لنرى أنّ العقلاء هل يبنون على حجية هذا الظهور وهذا التخصيص بدائرته الواسعة أم بدائرته الضيقة؟.

ومعه لا يكفي مجرد الصناعة الفنية ، ومعه لا حاجة لما ذكره صاحب الكفاية (قده) لما عرفت.

هذا كله ، بناء على سقوط ظهور العام عن الحجيّة في موارد دوران أمره بين التخصيص ، والتخصّص كما هو المشهور.

ولكن التحقيق خلاف ذلك حيث نقول بأنه حجة في المقام لأجل عكس النقيض.

نعم ، المطلق إذا دار أمره بينهما ، لا يكون حجة فيه ، لأجل ذلك حيث لا يصح التمسك بالمطلق لنفي التقييد وإثبات التقييد.

والتطبيقات العمليّة في الفقه ، إنّما هي في الإطلاقات لا في العمومات ، ونكات المسألة موكولة إلى محلها.

هذا حاصل الكلام في الإشكال الأول على ما أجيب به انتصارا لصاحب الكفاية.

١٠٧

٢ ـ الإشكال الثاني :

على ما انتصر به لصاحب الكفاية ، وحاصله : هو أنه لو سلّمنا انّ ظهور العام يسقط عن الحجية كلّما دار أمره بين التخصيص والتخصص ، وكذلك سلّمنا انّ النكتة في ذلك هي ما ذكرناه أخيرا من البيان الثالث الشامل لمحل الكلام.

إلّا انّا نقول : إنّ سقوط الظهور عن الحجية في محل كلامنا إنّما يتم إذا كان المخصص منفصلا دون المتصل وذلك لأنه في المخصص المنفصل يكون قد استقر للعام ظهوران طوليان قبل التخصص أولهما ظهوره في انه أريد منه استعمالا ، العموم ، وثانيهما ، ظهور الكلام في أن ما أريد استعمالا قد أريد جدا وذلك لعدم القرينة المتصلة ولعدم التعارض بينهما وبعد ورود المخصص المنفصل نعلم إجمالا بكذب أحد هذين الظهورين ، وبما أن هذا العلم الإجمالي بكذب أحدهما كان منفصلا فهو لا يوجب التنافي بين أصل الظهورين وإنما يوجب التنافي بين حجية كل منهما مع حجية الآخر كما هو الحال في كل تعارض يطرأ على الظهورين ، ولكن بما أن العقلاء هم الذين تبانوا على جعل الحجية للظهور ، وقد خصّصوها بما إذا لم يكن أمر الظهور دائرا بين التخصص والتخصيص ، فلا تكون حجية الظهور الأول حينئذ معارضة لسقوط حجية الظهور الثاني باعتبار أنّ أمره دائر بين التخصيص والتخصص لأن زيدا خارج إمّا تخصصا وإما تخصيصا ، إذن فظهور الكلام في إرادة تمام الأفراد جدا ، وإن كان منعقدا إلّا أنه ليس بحجة عند العقلاء حيث انّهم لم يجعلوا له الحجية في صورة الدوران هذه ، وبهذا يتم ما انتصر به لصاحب الكفاية (قده). وأمّا إذا كان المخصص متصلا ، فلا يتم هذا الانتصار لصاحب الكفاية (قده) لأنه في صورة اتصال المخصص لا يستقر الظهوران الطوليان ، بل هذا المخصص يوجب علما إجماليا متصلا بكذب نفس أحد الظهورين في العموم لا حجيّته فقط فيصير من التعارض المتصل ، ومثله موجب للإجمال الذاتي لا السقوط عن الحجية فقط.

وحينئذ فمجرد أنّ العقلاء لا يحكمون بحجية الظهور الثاني لا يكفي

١٠٨

لحل العلم الإجمالي المذكور ، لأن المسألة ليست مسألة جعلهم للحجية وعدمها ، وإنّما المسألة هي ، أن هذا الظهور اقترن بما يكذبه ، وحينئذ فلا بدّ في مقام تقديم أحدهما ، من أن نعلم أنّ أيّهما الأقوى ليكون قرينة على رفع اليد عن الآخر أو ، لا.

ولمعرفة ذلك ، لا بدّ من الرجوع إلى العقلاء ، ومعه لا حاجة لمحاولة صاحب الكفاية لأنّ هذا غير مسألة أنّ العقلاء جعلوا الحجية أم لا ، فإنّ هذا إنما ينفع بعد استقرار الظهورين.

هذا حاصل الكلام في الإشكال الثاني.

وبهذا ثبت انّ ما أجيب به عن الإشكال الذي أوردناه على محاولة صاحب الكفاية لحل هذه المشكلة غير تام.

ثم إن هناك دليلا آخر يثبت احتياج ما ذكره صاحب الكفاية (قده) من البيان لحل المشكلة إلى السيرة العقلائية بعد الغض عمّا أوردناه عليه.

وحاصل هذا الدليل هو ، أن صاحب الكفاية (قده) تمسك بظهورين طوليين ، وكان الأول منهما هو ، ظهور اللفظ في كونه مستعملا في معناه الحقيقي وهو العموم ، ومثل هذا الظهور في محل كلامنا ، لا بدّ فيه من الرجوع إلى السيرة العقلائية لإثبات حجيته ، والوجه في ذلك هو أن الظهورات على قسمين :

الأول منها هو ، الظهورات الاعتيادية التي يرجع لها دائما ، وهذه مفروغ عن حجيتها ، فبمجرد إثباتها نطبق عليها كبرى حجية اصالة الظهور الثابتة بسيرة العقلاء.

والقسم الثاني هو ، الظهورات التي تكون مشتملة على خصوصية ، ونحتمل أن يكون العقلاء قد خصّصوا كبرى حجية الظهور وأخرجوا مثل هذه الظهورات من تحتها من أجل تلك الخصوصية كما خصّصوا الحجية بغير الظهورات التي يدور أمرها بين التخصيص والتخصص على بعض المذاهب.

١٠٩

ومقامنا من قبيل القسم الثاني لأنّ الظهور الأول مشتمل على خصوصيّة يحتمل لأجلها أن يكون العقلاء قد أخرجوه من تحت حجية الظهور ، وهذه الخصوصيّة هي أنّ هذا الظهور لا يوصل إلى المراد الجدي بلحاظ تمام موارده ، وإنما يوصل بلحاظ بعض دون بعض ، وذلك لأنا نعلم انّ النحوي غير مراد جدا سواء استعمل اللفظ في العموم أم لا ، مع العلم انه مراد استعمالا بمقتضى هذا الظهور الأول.

ومن هنا كان يوجد بين المقام وبين الظهورات التي يدور أمرها بين التخصيص والتخصص نحو شباهة ، فإنه في الظهور الدائر أمره بين التخصيص والتخصص لمّا كان لا يقع في طريق إثبات المراد الجدي ، كانت هذه الخصوصية موجبة لخروجه من تحت الحجية ، أمّا هنا فإنه يقع في طريق إثبات المراد الجدي غايته أنه يقع بلحاظ بعض مدلوله ، وهذه خصوصية لا وجود لها إلّا في ظهورات العمومات المخصصة ، وعليه لا يكون هذا الظهور بمجرد تشخيصه مصداقا لتلك الكبرى لاحتمال أنهم كما خصصوا دليل بناء الحجية وأخرجوا منه موارد الدوران بين التخصيص والتخصص باعتبار أن الظهور لا ينفع إلّا في الإيصال إلى المراد الجدي ، كذا في المقام لاحتمال انه لا يوصل إلى تمام أفراد المراد الجدي بلحاظ تمام مدلوله ، ومن هنا نحتمل إخراجه من تحت الحجية ، وحينئذ لا بدّ من الرجوع إلى السيرة العقلائية لإثبات حجية العام في الباقي ومعه لا حاجة لبيان صاحب الكفاية (قده).

ومن هنا كان الأولى أن يكون طريق علاج هذه الصيغة هو الرجوع إلى السيرة العقلائية لنرى أنّه عند ما يصدر عام من المولى ثم يخصص ، فهل يجب على العبد أن يتمسك بالعام في تمام الباقي ، بحيث انّه لو لم يمتثله فيه يصح عقابه من المولى ولومه ، أم أنّه لا يجب ، فيصح منه الاعتذار؟

والعقلاء في المقام ، يبنون على صحة اللوم ولا يقبلون عذر العبد في ترك إكرام البعض ، بدعوى أنّ العام بعد تخصيصه لا ينطبق على تمام الباقي.

وهذا معناه ، حجية العام في تمام الباقي.

١١٠

ويبقى هناك ، معرفة انّه كيف بنى العقلاء على حجيّة العام في تمام الباقي.

والحاصل هو : أنه من مجموع ما ذكرنا تبين ان الصحيح في مقام علاج هذه المشكلة بصيغتها الأولى ـ وهي ما لو كنّا شاكين في حجيّة العام في الباقي ـ هو أن نرجع إلى السيرة العقلائية لرفع هذا الشك.

وبيان صاحب الكفاية (قده) ينبغي أن يورد في مقام علاج هذه المشكلة بصيغتها الثانية ، أي في تخريج الحجية كما سيأتي تحقيق ذلك ومدى صحية هذا البيان في هذا المقام.

ثم إنه لو تجاوزنا عن التقريبين السابقين ، فسوف يصح حينئذ كلام صاحب الكفاية في العمومات الاستغراقية دون المجموعية ، وذلك لأنه في الاستغراقية نجري أولا اصالة الحقيقة لإثبات استعمال اللفظ في العموم ، ثم نقول إن مقتضى اصالة التطابق هو أنه بقدر ما يمكن نفترض التطابق ، وبقدر ما لا يمكن نرفع اليد عنه ، ويصح ذلك فيه ، لأن الحكم المتعلق بالعام الاستغراقي ينحل إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد ، فيبقى بعضها ونرفع اليد عن بعضها الآخر ، ولا منافاة.

بينما الحكم المتعلق بالعام المجموعي هو وجوب واحد استقلالي متعلق بالمجموع ، وينحل إلى وجوبات ضمنيّة تتعلق بالأجزاء.

وبعد التخصيص ، نسأل عن ماهيّة الوجوب المتعلق بتمام الباقي فيه ، هل هو وجوب استقلالي ، أم ضمني؟

والأول : لم يدل عليه اللفظ ، لأنّه ليس جزءا من مدلوله ، بل هو مباين للوجوبات الضمنيّة الثابتة في الباقي ، فاستعمال اللفظ فيه يحتاج إلى قرينة ، والمفروض أنّه لا يوجد قرينة ، والثاني : خلف ، لأنّ وجوب الباقي الضمني لا يعقل من دون وجوب الجميع الاستقلالي ، مع العلم ، أنّ بعض أجزاء الواجب الاستقلالي ليس بواجب ، يقينا ، لإخراج المخصص له عن كونه

١١١

واجبا حسب الفرض ، وعليه : فالعموم المجموعي ليس فيه إلّا حكم واحد ، فإمّا أن يثبت ، وإمّا أن يسقط ، ولا يمكن فيه التجزئة كالاستغراقي ، ولذا لا يتم فيه ما ذكره صاحب الكفاية.

والحاصل هو : أنه لو أغمضنا النظر عن جميع ما ذكرنا في مقام الإيراد على محاولة صاحب الكفاية (قده) ، فإنه يرد عليه ان هذه المحاولة إنما تتم في العمومات الاستغراقية دون العمومات المجموعية ، وذلك لأن النكتة في محاولة صاحب الكفاية هي ، أن الظهورات متعددة ، وسقوط بعضها لا يوجب سقوط البعض الآخر كما عرفت.

وهذه النكتة إنما تتم في العمومات الاستغراقية ، لأن الحكم فيها ينحل إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد ، فيمكن فيها حينئذ تعدد الظهورات ، وأمّا العمومات المجموعية فلا يتعدد الحكم فيها ، بل هو واحد متعلق بمركب يشمل جميع الأفراد ، ومعه لا يتصور تعدد الظهورات ليتم كلام صاحب الكفاية (قده).

والخلاصة هي : أنّ معالجة المشكلة بصيغتها الأولى يكون بمراجعة السيرة العقلائية ، ومن راجعها ، يرى أنها قائمة على حجيّة العام في الباقي ، وبذلك يرتفع الشك في أصل الحجية ، وتنحل المشكلة بصيغتها الأولى.

والآن نتكلم في بيان صاحب الكفاية ونلاحظه على أساس الصيغة الثانية ، وهي في تخريج الحجية بعد أن انتهينا من فرض كون العام حجة في الباقي ، بمعنى أن العقلاء لم يبنوا على حجية العام في الباقي من باب التعبد البحت ، بل من باب إعمال ظهور ، كإبراز الظهورين الطوليين كما ذكره صاحب الكفاية (قده) ، وحينئذ لا يرد عليه شيء ممّا اعترضنا به سابقا ، فلا يقال مثلا ، إن الظهورين متعارضين ولو بعكس النقيض ، لأن المفروض في المقام انّا فرغنا عن حجية العام في الباقي ببناء العقلاء ، وهذا معناه ، أن العقلاء التزموا بتقديم أحد الظهورين على الآخر ، إمّا لاقوائيته ، وإمّا لأن الآخر يدور أمره بين التخصيص والتخصص ، فيسقط عن الحجية مثلا.

١١٢

كما أنه لا يرد على صاحب الكفاية حينئذ ، بأن اصالة الحقيقة هنا لا تجري ، لأن جزءا من المعنى الموضوع له غير مراد جدا ، أو لا أقل من أنه لا يعلم بكونه مراد جديا.

كما لا يرد عليه النقض بالعموم المجموعي ، وبأنه حكم واحد متعلق بالمجموع فلا يقبل التعدد مثلا.

كل هذا لا يرد عليه ، لأننا في مقام تفسير بناء العقلاء ، لا في مقام إنشاء بناء ، إذ لعلّ العقلاء تعاملوا مع وجوب الباقي معاملة الأقل والأكثر ، وإن كان ـ بحسب الوضع ـ وجوب الباقي مباين مع وجوب الكل ، لكن بحسب النظر العرفي ، يرى أنّ الباقي كأنّه جزء من الكل ، كما هو الحال فيما يدّعى أن العرف يرى أن المطلق والمقيد من باب الأقل والأكثر ، أي أنّ المقيّد أزيد مئونة من المطلق ، مع انه بحسب النظر الدقي ، فإن المطلق والمقيّد متباينان ، لأن الإطلاق من باب اللابشرط ، وهو مباين مع المقيد ، الذي هو من باب البشرطشيء ، لكن حيث انّ اللّابشرطية أمر عرفي ، لهذا يرى العرف بأن المقيد يزيد على المطلق ، وكأنّ المطلق جزء من المقيد ، ولهذا يثبتون الإطلاق عند عدم ذكر القيد. لأن المقيد يحتاج إلى البيان الزائد.

وقد يكون سنخ هذا التفسير في بناء العقلاء ، فيقال بأنهم يرون الاستقلالية كالإطلاق ، والضمنية كالتقييد فكأنّ وجوب التسعة الاستقلالية جزء من وجوب العشرة ، فوجوب العشرة هو وجوب التسعة مع زيادة ، وهكذا ، فإنه بعناية من مثل هذه العنايات يتم المطلب في العام المجموعي أيضا لأننا في مقام تفسير بناء العقلاء.

وهذا الافتراض يكفي في مقام التفسير.

إذن فتمام تلك الإشكالات لا ترد في مقام تفسير بناء العقلاء.

نعم من الناحية الفنية ، لا بدّ وأن نتساءل انه هل يوجد تفسير آخر لبناء العقلاء غير هذا أو لا؟ بحيث لو فرض أنه لا يوجد تفسير آخر غير هذا التفسير ، حينئذ لا بدّ من الأخذ بهذا التفسير.

١١٣

أمّا لو فرض أنه يوجد تفسير آخر معقول ، حينئذ ، لا بدّ من المقارنة بين التفسيرين لنرى أيهما أقرب إلى مرتكزات العقلاء ، هكذا يجب أن تكون منهجة البحث إذا تعددت التفسيرات.

وهذا ما نؤجله إلى الجواب الثالث المنسوب إلى الشيخ الأنصاري والذي تعرض له صاحب الكفاية (قده).

والآن ننظر إلى بيان صاحب الكفاية (قده) على أساس كلتا الصيغتين مجتمعتين ، إذ أنه يوجد في تفسيرنا لكلام الآخوند (قده) أصل موضوعي افترضناه ، وبدونه لا يتم جواب الآخوند (قده) لا على أساس الصيغة الأولى ولا على أساس الصيغة الثانية.

ونقد هذا الأصل ، يشكل إشكالا على كلتا الصيغتين.

وهذا الأصل الموضوعي هو ، دعوى انّ الظهور الطولي الثاني ـ أيّ ظهور التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي ـ ظهور انحلالي ـ أي أنّه عبارة عن ظهورات متعددة.

ومن الواضح ، ان هذا الأصل الموضوعي لو لم يتم ، وكان الظهور في مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدي ظهور واحد له ثبوت واحد أو سقوط واحد ، فإنه حينئذ لا يتم هذا الجواب ، وذلك باعتبار أن الظهور الواحد يصير حاله حال الظهور الواحد في مرحلة المراد الاستعمالي الذي كان هو منظور صاحب الشبهة ، ووحدة المنظور في مرحلة المراد الاستعمالي هو ، الذي أوجب نشوء هذه الشبهة ، بدعوى ان ظهور اللفظ في انه استعمل في المعنى الموضوع له ظهور واحد في مطلب واحد وهو أنه استعمل فيما وضع له.

وقد انكشف بطلان ذلك ، ومعه ، لا يبقى ظهور آخر.

ونفس الشيء نقوله على مستوى الظهور الثاني الواقع في مرحلة المراد الجدي ، فلو كان واحد بمعنى أنّ تمام مدلول الكلام جدي ، وقد ثبت أنّ تمام مدلول الكلام ليس بجدّي ، إذن فلا ظهور بعد هذا.

١١٤

إذن نكتة الجواب الذي استبطن الطّفرة من الظهور الأول إلى الظهور الثاني ، هو دعوى الانحلاليّة في مرحلة ظهور التطابق بين المراد الجدي والمراد الاستعمالي ، بحيث لو لم يكن هناك تعدّد وتكثّر في الظهور في هذه المرحلة ، لما تمّ كلام صاحب الكفاية ، لا على الصيغة الأولى ، لأنه لم ينقح صغرى لكبرى حجية الظهور حتى يقنعنا بالحجية ، لأنّ الصغرى ظهور وجداني سقط بالمخصّص ولا يوجد صغرى غيرها.

والحاصل هو : أن هناك أصلا موضوعيا مفترضا ، وبدونه لا يتم كلام صاحب الكفاية (قده) على أساس كلتا الصيغتين.

ونقد هذا الأصل يشكّل إشكالا على الجواب ، على أساسا الصيغتين معا.

وهذا الأصل الموضوعي هو ، دعوى أنّ الظهور الثاني ، أي التطابق ، هو ظهور انحلالي متكثر بتكثر التطابقات ، إذ لو كان واحدا لما أمكن أن يتم هذا الجواب ، لأنه حينئذ ، إمّا أن يثبت بتمام خصوصياته ، وإمّا أن يسقط بسقوط خصوصيّة ، ولا يمكن فيه التبعيض.

وحينئذ نقول : إنّ الظهور في مرحلة المراد الجدي ، هل هو متكثر أم واحد؟. قد يقال : بأنه متكثر ، باعتبار أنّ ظاهر حال المتكلم أن يكون مراده الاستعمالي غير مخالف لمراده الجدي ، وانّ أيّ مخالفة في أيّ فرد تحتاج إلى عناية ، والاصل عدمها.

وعليه فلو قال : «أكرم كل عالم» ، وعرفنا أنّه استعمل لفظ «كل» في العموم ، فلو لم يكن أراد زيدا جدا ، فهذه مخالفة ، ولو لم يكن أراد عمروا جدا ، فهذه مخالفة ثانية وهكذا بكر وخالد ، وكلّ مخالفة هي خلاف الأصل ـ التطابق ـ لأنّ الأصل أن لا يتخالف هذا مع ذاك ، إذن ، فهنا أصول عقلائيّة بعدد التطابقات الخارجية ، فإذا ثبتت إحدى هذه المخالفات ، سقطت اصالة التطابق ـ الأصل ـ بلحاظه ، ويبقى غيرها من الأصول على حالها ، أي انّ اصالة عدم المخالفة الأخرى تجري على حالها.

١١٥

لكن هذا البيان يمكن الاستشكال عليه ضمن تقريبين فنّيّين.

١ ـ التقريب الأول : هو أن يقال : إنّ كون الظهور انحلاليا ومتكثرا في مرحلة المراد الجدّي ، بحيث يسقط بعض عن الحجية ويبقى البعض الآخر ، فإنّ هذا لو كان صحيحا وكان هو التفسير المعقول لباب العمومات ، إذن لا نطبق على باب الأعداد والمركبات حرفا بحرف ، فالمتكلم قد يقول : «أكرم العلماء الأربعة أو الخمسة» ، فإنّه هنا أيضا عندنا مراد استعمالي ، وهو قصد تفهيم وجوب إكرام هذا العدد المخصوص ، وعندنا أيضا مراد جدّي ، وهو انّه حقيقة ، أراد إكرام هؤلاء الخمسة ، فلو فرض أن جاء دليل من الخارج وقال : «لا يجب إكرام زيد» ، الذي هو أحد الأربعة ، فمقتضى بيان صاحب الكفاية (قده) انّنا أيضا نقول بحجية العام في الباقي بنفس ذلك البيان ، وذلك بأن نقول : إنّ مقتضى اصالة الحقيقة هو ، أنّ كلمة الأربعة استعملت في الأربعة ، غاية الأمر ، انّ مسألة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت انحلاليّة ، لأنه في الحقيقة ، عندنا أربعة تطابقات بعدد الأربعة ، غاية الأمر ، هو أنّ التطابق الأول سقط ، وبقيت ثلاثة تطابقات ، فمقتضى ، القاعدة في المقام هو ، الالتزام بحجية العام في الباقي ، مع انّنا نرى بالوجدان ، إنّ هناك فرقا كبيرا بين هذا وذاك ، بمعنى انّ العرف لا يتحمل هنا ، الجمع بين أكرم الأربعة ، ولا تكرم زيدا الذي هو أحد الأربعة ، كما يتحمل الجمع بين «أكرم كل عالم» ، و «لا تكرم زيدا» ، وهذا الفرق ، بناء على مسلك صاحب الكفاية (قده) ، لا يمكن تفسيره.

ولكن لو بنينا في باب العمومات ، على أنها مستعملة في الباقي ابتداء ، أي على أنّ المخصّص يكشف عن الفرق في مرحلة المراد الاستعمالي ، وانّ اللفظ مستعمل في الخاص رأسا ، وان استعمال أداة العموم في الباقي ، صحيح عرفا ، ولو مجازا ، لكن استعمال الأربعة وإرادة ثلاثة غير صحيح ولو مجازا.

فهذا بنفسه يصير قرينة على أن تقبّل التخصيص هناك وعدم تقبّله هنا ،

١١٦

ليس تقبله هناك على أساس انحلاليّة الظواهر في مرحلة المراد الجدي ، بل التخصيص دائما يؤثر في مرحلة المراد الاستعمالي ، فإن كان المراد الاستعمالي أبيا عن الحمل على غير الأربعة ، بأن يأبى عن الثلاثة مثلا ، إذن ، المخصص يكون معارضا ، وإذا كان لا يأبى عن ذلك ، فإنه حينئذ ، لا معارضة.

فهذا الفارق بين الموردين يكشف عن أن المسألة ليست مسألة ظهور الإرادة الجدية ، وإنما مسألة الظهور في الإرادة الاستعمالية.

وهذا الكلام ، وإن كان معقولا صورة ، إلّا أنّه غير تام ، لأنّ هذا الإنسان الذي استعمل العام وسكت عن المخصص في قوله ، «أكرم كل عالم» ، هو جاد بمقدار ، وهازل بمقدار ، والجدّ والهزل ، لا بدّ من الرجوع فيهما إلى فعل المكلّف والمتكلم ، إذن فلا بدّ أن يكون له فعلان ، أحدهما النطق بالعام ، والآخر السكوت عن المخصص.

لكن ما ذا نقول ، لو نطق بعام لا يقبل التخصيص ، وكان يريد بعض أفراد هذا العام ، وهم «العدول» ، مثلا فإنه هنا أيضا قد وقع منه جد في الجملة وهزل فيها أيضا.

وهنا لا يمكن أن يقال : بأنّ الجدّ هو صدور العام ، والهزل هو السكوت عن المخصص ، وذلك ، لأنّ العام هنا لا يقبل التخصيص حسب الفرض ، إذن الجد والهزل اجتمعا على نفس صدور العام منه.

فهذا البيان لا يصح جوابا في مقام فرضيّة الانحلاليّة.

٢ ـ التقريب الثاني : هو أن يقال : بأنّ الجدّ والهزل وإن كانا من شئون أفعال المتكلم ، لكن الفعل الواحد قد يتعنون بعناوين متعددة ، ويكون بلحاظ بعضها هزلا ، وبلحاظ بعضها الآخر جدا ، فمثلا ، القيام الواحد ، يمكن أن يكون لتعظيم أحد شخصين ، وللاستهزاء بالآخر ، والقيام فعل واحد ، لكن يختلف بحسب اللحاظ والحيثيات القائمة في الفعل الواحد.

ومن هنا ، فحالهما حال الصدق والكذب ، فقد يجتمعا في كلام واحد

١١٧

كما في قوله : زارني الحسنان ، والمفروض أن الزائر أحد الحسنين ، فهذا الكلام ، باعتبار الزائر صدقا ، وباعتبار الآخر كذبا.

وهنا إذا قال المتكلم : «أكرم كل عالم» ، وفرضنا أنه لا يقبل التخصيص ، فنقول : انّ هذا الكلام الواحد ، بما هو كاشف عن وجوب إكرام العدول ، فهو جد ، وبما هو كاشف عن غير ذلك ، هو هزل ، فاجتمع فيه عنوانان ، بلحاظ أحدهما ، هو جد ، وبلحاظ الآخر هزل ، ولا مانع من ذلك ، ويكون معنى الجد والهزل ، انّ إرادة واحدة تتعلق بواحد منهما دون الآخر ، وبهذا نتصور الانحلالية في الجد والهزل.

لكنّ هذه الفرضية يدعيها صاحب الانحلال في مقابل الإشكال الثاني الذي لم يكن يقبل الانحلال ، فيكون هذا وفقا للشبهة وليس برهانا على دعوى الانحلال ، بل تبقى دعوى الانحلال في عهدة الوجدان.

ويبقى إذن علينا ، أن نحل الإشكال الأول الذي يشكّل نقضا ، وعليه فنقول : لو قال قائل ، بأنّنا نسلّم بأنّ الظهور الثاني انحلالي ، ففي مرحلة المدلول التصديقي يوجد ظهورات متعددة ، وكل واحد منها حجة ، فإذا فرض أن ثبت خارجا إنّ واحدا منها كان غير جدّي ، فحينئذ ، مقتضى القاعدة في الانحلال ، انّ بقية الظهورات تبقى على حالها من الحجية ، لأنّ بطلان أحد الظهورين ، ليس معناه بطلان آخر ، ولكن هنا حينئذ يتوالد ظهور آخر يعارض ويزاحم مع الظهور الباقي ، وهو من قبيل ما نسمّيه بوحدة السياق ، إذ انّ من جملة الدلالات ، وحدة السياق ، وتقريبه هو أنّه لا إشكال انّنا إذا رأينا إنسانا جديا في جميع تصرفاته ، فهنا يحصل لنا وثوق عادي بكل ما يصدر عنه ، ولكن إذا رأيناه جديا تارة وهزليا أخرى ، فحينئذ ، ظهور كلام هذا الإنسان في الجدّ يضعف ، بل لو ضيّقنا الدائرة أكثر ، كما لو فرض أنّه في جلسة واحدة كثرت منه الكلمات التقيّة ، ثم صدر منه بعد ذلك كلمة ، وشككنا في أنّها تقية أو لا؟ فهنا احتمال التقية يصبح أكثر باعتبار التقارب ، بل لو صعّدنا وضيّقنا الدائرة أكثر وقلنا : لو فرض أنّه في كلام واحد تكلّم بكلام ، وكان أكثره هزلا ، وشككنا في البعض الآخر ، فهنا باعتبار شدّة التصاق الكلام بعضه

١١٨

ببعض ، حينئذ هزليّة الكلام الأول يصبح قرينة وإمارة نحتمل بها هزليّة الكلام الآخر ، بل لو ضيّقنا الدائرة أكثر ، كما لو فرضنا في لفظ واحد ، كما لو قال : أكرمهما ، فهو بالعين اليمنى يتّقي ، وبالعين اليسرى يجدّ.

وهنا أيضا ، باعتبار شدة الالتصاق ، فسوف تشكّل هزليّة الأول إمارة على هزليّة الآخر ، وحينئذ ، لو قال قائل : إنه في جميع ذلك أماريّة الهزل على هزليّة الآخر لا يقبلهما العقلاء ، بحيث يبقى ظهور الجديّة على حاله في الآخر ، لكن لو التصق الهزل والجدّ في كلام واحد بالنحو الآخر ، فظهور الآخر وإن كان موجودا لكن مبتلى بمعارض ، وهو أماريّة هزل النظر الأول على النظر الثاني.

وحينئذ : لو أردنا أن نفسّر «أكرم الأربعة» بمثل ذلك ، فبعد ان ثبت هزله بواحد ، فهذا بنفسه يشكّل قرينة ، وهي وحدة السياق ، وهذا ظهور حالي ، يشكّل ما يعارض ذلك الظهور ، أو ما يوجب إجماله ، ومن هنا لا يتمسك بدليل الأربعة في الباقي ، فلو قال إنسان بيانا من هذا القبيل في مقام تفسير عدم حجيّة الأربعة في الباقي لسألناه : انّ هذا البيان ، هل يختص بالأعداد أو أنّه يجري في كل عام ، وحينئذ ، من المحتمل ان يجيب بأنّه يوجد فرق بين الأعداد وبقيّة العمومات ، لأنّه في «أكرم الأربعة» ، الدليل مباشرة ينظر لهذا أو ذاك ، بينما في «أكرم كل عالم» ، الكلام هنا ، ليس صريحا في النظر لكل فرد ، فلعلّ زيدا الذي لم يرده ، كان المتكلم غافلا عن فرديته للعام ، فهذا الاحتمال يوجب عدم وحدة السياق ، بخلاف الأول.

وكلّما كان الكلام أدلّ في التوجه لكلا الجزءين ، كان ظهور وحدة السياق أشدّ في المقام ، وحينئذ ، يكون دليل «الأربعة» ليس حجة في الباقي ، ودليل «أكرم كل عالم» حجة في الباقي.

وبناء على هذا ، يمكن دفع النقض على الانحلالية ولو قال الآخوند هذا الكلام في دفع النقض عليه لما أمكن لنا دفعه.

هذا تمام الكلام في مطلب صاحب الكفاية (قده).

١١٩

٣ ـ المحاولة الثالثة : في الجواب ، عن تخريج حجيّة العام في الباقي ، هي المحاولة المنسوبة إلى الشيخ الأنصاري (١) (قده) وحاصلها : هو أن نطبّق نفس التبعيض الذي صنعه الجواب السابق ، حينما بعّض في الحجيّة.

لكن السابق أعمل التبعيض في الحجيّة في الظهور الثاني ، وهو الظهور الجدّي ، بينما هنا ، يعمل التبعيض في مرحلة الظهور في المراد الاستعمالي.

وحاصل تقريبه هو ، أن يقال : إن خطاب «أكرم كل عالم» ، يدل على دخول ، «زيد ، وبكر ، وخالد» ، في المراد الاستعمالي وهكذا بقيّة أفراد العلماء ، وهذه دلالات متعددة في مرحلة تشخيص المراد الاستعمالي بعدد أفراد العام ، وقد يعبّر عن هذه الدلالات ، بالدلالات التضمنيّة ، وحينئذ ، فإنّ مقتضى القاعدة هنا هو ، حجيّة كل هذه الدلالات ، لأنّ كل واحدة منها ظهور ، فيكون حجة ، ولكن عند ما ورد المخصص ، علم بأنّ «زيدا» الذي ورد عليه المخصص ، ليس مرادا استعماليا للعام ، ولهذا تسقط دلالة العام على كون «زيد» داخلا في المراد الاستعمالي ، ولكن هذا لا يوجب سقوط بقيّة الدلالات الأخرى بالنسبة لبقيّة الأفراد ، فتبقى تلك الدلالات على الحجية ، وبذلك يكون العام حجة في الباقي ، وهذا الجواب ، يفترض ان المخصص يزاحم العام في مرحلة المراد الاستعمالي ، وبهذا يختلف عن الجواب السابق ، لأنه في الجواب السابق. كان المخصص يزاحم العام في مرحلة المراد الجدي لا الاستعمالي كما تقدم.

ولذا ، فإنه لو تمّ هذا الجواب الثالث هنا ولم يرد عليه شيء فسوف يكون بمقدوره أن يقدم لنا تفسيرا واضحا للنقض الذي وجهناه إلى المحاولة السابقة والذي تمحلنا تمحلات كثيرة للدفاع عنه ، حيث كنّا نتساءل هناك عن انّه ما الذي فرّق بين دليل العام في «أكرم الأربعة» وعدم حجيته في الباقي إذا علم بخروج واحد منه ، وبين دليل العام في «أكرم كل عالم» وحجيّته في الباقي حتى لو خرج واحد منه بالتخصيص.

__________________

(١) مطارح الأنظار ـ أبو القاسم النوري الرازي ـ تقريرات الشيخ الأعظم ـ ص ١٩٣ ـ ١٩٤ ـ ١٩٥.

١٢٠