بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

لو قال : «أكرم عالما واحدا» ، أو «واحدا من العلماء» ، فإنّ هذا معقول ، وإذا كان كل منهما ممكنا ، فلما فهم العرف الشمولية دون البدلية في المثال؟ وهذا يكشف أنّ الفذلكة ليست هي بإضافة إحدى تلك المقدمتين ، إذ قد يفرض إمكانهما مع أنّ العرف يعيّن أحدهما فقط ، إذن فيبقى السؤال ، لما ذا اختلفت النتيجة في مقدمات الحكمة؟ إذن يوجد نكتة أخرى غير ما ذكر.

٢ ـ المسلك الثاني : هو المستفاد من كلمات المحقق العراقي (١) (قده).

وحاصله : هو انّ مقدمات الحكمة لو خليت وطبعها لكانت تنتج دائما الإطلاق البدلي ، والإطلاق الشمولي عناية زائدة ثبوتا يحتاج إلى قرينة أخرى وراء مقدمات الحكمة إثباتا.

وتوضيح ذلك : هو انّ مقدمات الحكمة تثبت انّ مصب الحكم وموضوعه هو الطبيعة بلا قيد زائد عليها ، وهذا معناه : انّ ما هو موضوع الحكم هو الطبيعة بين القليل والكثير أو الواحد والمتعدد ، إذن ، فهي بهذا المعنى تصدق على كل منهما. وهذا معناه كفاية الإتيان بفرد واحد في مقام الامتثال لأنّه محقّق للجامع الذي وقع موضوعا للحكم.

والاكتفاء بواحد في مقام الامتثال ، يعني : انّ الإطلاق بدلي ، إذ ليس معنى البدليّة إلّا ما يكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد واحد ، وهنا : مقدمات الحكمة تقتضي هذه النتيجة ، لأنّها تثبت انّ متعلق الحكم هو الجامع بين الواحد والأكثر ، وهذا معنى الإطلاق البدلي ، فلو أراد المولى حينئذ إلزام المكلّف بأن يأتي بتمام الافراد ، إذن ، لا بدّ له من أن يلحظ الطبيعة فانية وسارية إلى تمام الافراد ، وهذه عناية زائدة تحتاج إلى قرينة ، فإن دلّت قرينة خاصة عليها فهي ، وإلّا فمقتضى الأصل والطبع الأولي لمقدمات الحكمة هو الإطلاق البدلي.

وهذا المسلك غير تام ، وذلك :

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٦٩.

٥٢١

أولا : لما تقدم من انّ الطبيعة في موارد الإطلاق لا ينظر فيها إلى الأفراد ، لا على سبيل البدل ، ولا على سبيل الشمول والاستيعاب ، بل الملحوظ فيها هو ذات الطبيعة ، إذن ، فافتراض انّ الشمولية تحتاج إلى عناية ثبوتية زائدة ـ وهي ملاحظة الطبيعة سارية إلى تمام الأفراد بحيث يرى فيها كل الأفراد ـ غير صحيح ، لأنّ الأفراد كثرة ، وهذه الكثرة لا ترى بالمفهوم الواحد المنتزع من الحيثية المشتركة بين سائر الأفراد ، وإلّا رجع المطلق إلى العموم الأداتي وكان مثله.

وثانيا : إنّ ما افترضه من احتياج الإطلاق الشمولي إثباتا إلى قرينة إضافية تضاف إلى مقدمات الحكمة ، فهذا أيضا خلاف الواقع خارجا ، إذ أيّ قرينة تثبت أنّ «العالم» في قوله : «أكرم العالم» مطلق إطلاقا شموليا ، مع انّه ليس عندنا إلّا مقدمات الحكمة ، إذن كيف فهمنا الشمولية؟

٣ ـ المسلك الثالث : في تفسير هذه الظاهرة هو ، المستفاد من كلمات المحقق الأصفهاني (قده) ، وحاصله : عكس ما ذكره العراقي (قده) ، أي أنّ مقدمات الحكمة لو خلّيت ونفسها لاقتضت الإطلاق الشمولي دائما ، فالشمولية هي الأصل في الإطلاق وانّ البدلية هي التي تحتاج إلى عناية زائدة ثبوتا ، وإلى قرينة خاصة إثباتا.

وتوضيحه : هو انّه في موارد الإطلاق حينما تجري مقدمات الحكمة يثبت بها انّ هذا الحكم رتّب على هذا الموضوع ، «أكرم العالم».

ومن الواضح : انّ هذا العنوان الذي أخذ موضوعا ومصبا للحكم ، لم يؤخذ بما هو أمر ذهني ، بل أخذ بما هو مرآة وفان في الخارج ، وحينئذ ، فأيّ خارج يكون منطبقا عليه ومرئيا به يثبت له الحكم ، فحينما نقول : «الخمر حرام» ، فالخمر هنا ، ملاحظ بما هو فان ومرآة للخارج ، إذن ، فأيّ خارج ينطبق عليه هذا العنوان وهذه المرآة ، يكون محرما ، وهذا هو معنى الإطلاق الشمولي.

وأمّا الإطلاق البدلي ، فيحتاج إلى عناية زائدة ثبوتا ، وهي تقييد هذه

٥٢٢

الطبيعة بقيد الوجود الأول ، ففي قولنا : «الخمر حرام» ، نثبت الشمولية ، ولكن حينما نقول : «الصلاة واجبة» ونحن نريد البدلية ، فلا بدّ من إعمال عناية ثبوتية ، وهي تقييد قولنا هذا ، «بالوجود الأول» ، فنقول : «الوجود الأول للصلاة واجب» ، وحينئذ ، من المعلوم أنّ الوجود الثاني لا يكون واجبا ، باعتبار عدم انطباق العنوان الثابت له الحكم عليه ، إذن ، فالبدلي بلحاظ الأفراد الطوليّة يكون بتقييد الطبيعة بالوجود الأول ، وهذا عناية زائدة ثبوتا ، وبحاجة إلى قرينة خاصة إثباتا.

وهذا المسلك غير تام أيضا ، لأنّ الإطلاق البدلي في مورده ليس بحاجة إلى عناية ومئونة زائدة ثبوتا ، ولا إلى قرينة خاصة إثباتا.

وكأنّ هذه المسالك المتقابلة في الأجوبة على تلك الظاهرة ، ناتجة عن عدم وضع اليد على فذلكة المطلب التي بها يتم تفسير إنتاج مقدمات الحكمة ، للإطلاق الشمولي تارة ، وللإطلاق البدلي تارة أخرى.

وحلّ السؤال ، وتحقيق الحال ، يتوقف على بيان مقدمة ، حاصلها : هو انّ البدلية والشمولية لها معنيان :

١ ـ المعنى الأول : هو أن تكون الشمولية والبدليّة بحسب عالم الحكم ، بمعنى انّ الإطلاق البدلي يراد به ، انّ هناك حكما واحدا ، والشمولي يراد به انّ هناك أحكاما متعددة ، ولكل واحد منها عصيان وامتثال مستقل ، كما في قوله : «أكرم العالم» ، و «لا تشرب الخمر» ، وهذا هو محلّ الكلام.

٢ ـ المعنى الثاني : هو أن تكونا ـ بعد الفراغ عن كون الحكم واحدا ـ بحسب عالم الامتثال والخروج عن عهدة هذا الحكم الواحد ، فيكون في قوله : «صلّ» ، الحكم واحد. وكذلك في قوله «لا تشرب الخمر» ـ لو فرضنا انّ الحكم واحد ـ فمع هذا نقول :

إنّ امتثال الأمر بدلي ، وامتثال النهي شمولي ، لأنّ إيجاد الطبيعة يكون بفرد واحد في امتثال الأمر ، بينما في امتثال النهي ، لا يكون إعدام الطبيعة إلّا بانعدام جميع أفرادها ، كما هو الصحيح ، وكما ذهب إليه صاحب

٥٢٣

الكفاية (قده) في تفسير هذا الاختلاف في بحث الأوامر حيث قال : إنّ هذا مربوط بنكتة عقلية وهي ، انّ الطبيعة في الأوامر توجد بفرد واحد ، بينما امتثال طلب إعدامها في النواهي لا يكون إلّا بإعدام جميع أفرادها ، وإن ناقش في ذلك السيد الخوئي (قده) والمحقق الأصفهاني (قده) ، وقد ناقشناهما في محلّه ، وبرهنّا على صحة ما ذكره في الكفاية.

ولكن الكلام ليس هنا ، وإنّما الكلام في المعنى الأول أي في معنى البدليّة والشموليّة في وحدة الحكم وتعدّده ، حيث يكفي في المعنى الثاني ما ذكره صاحب الكفاية كما نقلناه إليك.

وأمّا البدلية والشمولية بالمعنى الأول فنقول : إنّ الأصل في كل إطلاق بلحاظ الموضوع ، ان يكون شموليا إلّا إذا قامت قرينة على البدليّة ، وانّ الأصل في كل إطلاق بلحاظ المتعلّق أن يكون بدليا إلّا إذا قامت قرينة على الشمولية ، ففي قوله : «أكرم العالم» ، موضوع ، هو «العالم» ، ومتعلّق ، وهو «الإكرام» ، فإطلاقه من ناحية «العالم» ، الأصل فيه الشمولية ، وإطلاقه من ناحية «الإكرام» ، الأصل فيه البدليّة.

وهنا لنا كلامان :

الكلام الأول : هو انّ الأصل في علاقة الحكم بموضوعه أن يكون ارتباطه به شموليا.

وتوضيحه : هو ، انّ كلّ حكم بالنسبة إلى موضوعه يشكّل قضية حقيقية ، يعني انّ الموضوع يكون مفروض الوجود ، فالعلاقة بين «أكرم» ، و «العالم» ، في قوله : «أكرم العالم» ، مرجعها إلى قضية حقيقية يكون موضوعها مقدّر الوجود ، وكلّ قضية حقيقية يكون موضوعها هكذا ، ترجع ـ كما مرّ معنا ـ إلى قضية شرطية ، شرطها تقدير وجود الموضوع ، وجزاؤها ، المحمول ، وهو الحكم ، إذن فمرجع قضية «أكرم العالم» ، إلى قولنا : إذا وجد عالم فأكرمه ، وكلّ قضية حقيقية شرطية يكون موضوعها مقدّر الوجود ، يكون لها عالمان أو مرحلتان.

٥٢٤

العالم الأول : هو عالم تقرير نفس القضية ، كقضية كقضية حقيقية شرطية.

العالم الثاني : هو عالم فعليّة هذا المحمول في هذه القضية بتبع فعليّة الموضوع.

ففي المرحلة الأولى : يكون المحمول ثابتا ثبوتا تقديريا تبعا لتقديريّة موضوعه ، على نهج القضية الشرطية ، وهذا الترابط بين المحمول والموضوع في هذه المرحلة الثانية ، يؤدّي إلى الترابط في عالم الفعليّة ، فإذا فرض تحقّق الموضوع المقدّر الوجود خارجا وصيرورته فعليا ، صار المحمول فعلي الوجود أيضا.

وهذه القضية بحسب العالم الأول ، هي قضية واحدة لوحدة التقدير ، ولكن بحسب العالم الثاني ، تكون انحلاليّة متكثّرة ، لأنّ هذا الموضوع المقدّر الوجود يكون في الخارج فعليّا بفعليات كثيرة ، ونسبة هذه الفعليات كلّها إلى هذا التقدير في المرحلة الأولى على حدّ واحد.

إذن ، ففي عالم الفعليّة ـ العالم الثاني ـ تكون هناك قضايا متعددة بعدد فعليات الموضوع المقدّر الوجود ، بخلاف العالم الأول ، إذ في هذا العالم هناك قضية واحدة ، هذا هو طبيعة القضية الحقيقية الشرطية.

وحينئذ ، إذا أردنا أن نطبّق هذه الطبيعة على علاقة الحكم بموضوعه في قضية «أكرم العالم» ، نقول : إنّ غاية ما تثبته مقدمات الحكمة ، هو ، أنّ موضوع وجوب الإكرام في عالم الجعل الذي هو عالم عقد هذه القضية ، هو الطبيعة بلا قيد زائد ، وعليه فالشموليّة ليست مفادا لا لمقدمات الحكمة ، ولا لأيّ قرينة أخرى تضاف إلى مقدمات الحكمة في «أكرم العالم» ، وذلك لأنّ مقدمات الحكمة أو أيّ قرينة أخرى هي ، في الحقيقة دخيلة في تعيين مفاد الدليل ، ومفاد الدليل هو الجعل لا المجعول ، والشمولية أجنبية عن عالم الجعل ، لأنّه في عالم الجعل وعقد القضية ليس هناك شمولية وكثرة ، بل هناك حكم واحد وموضوع واحد مقدّر الوجود ، لكن حيث أنّ الحكم بالنسبة إلى موضوعه يشكّل قضية حقيقية شرطية ، إذن فهناك وراء عالم عقد القضية الذي هو ، عالم الجعل ، عالم فعليّة القضية ـ أي عالم المجعول ـ.

٥٢٥

وفي الحقيقة ، فإنّ التكثر والشمول إنّما يكون في العالم الثاني ، لأنّه بعد أن نفرغ من ربط أمر كلّي بأمر كلّي ، حينئذ ، نأتي إلى العالم الثاني ونقول : إنّ هذا الأمر الكلّي أصبح محقّق الوجود وضمن فعليّات عديدة ، وبمقتضى التلازم بين العاملين ، يكون المحمول فعليا لا محالة في تمام هذه الموارد ، فيتكثّر الحكم حينئذ ، إذن فتكثّر الحكم وتعدّده ليس أمرا مولويا ملحوظا للمولى ، بل هو أمر عقلي انحلالي واقع في القضية في المرحلة الثانية ، وعليه ، يكون مقتضى الأصل في كل إطلاق للحكم بالنسبة إلى موضوعه ، هو الشموليّة بلحاظ العالم الثاني ، ما لم يبذل المولى عناية إضافية تمنع هذه الشمولية ، كما يبذلها في قوله : «أكرم عالما» ، حيث يأتي بتنوين التنكير لإثبات قيد الوحدة ، حيث أخذه في الموضوع ، وحينئذ ، لا يمكن تكثّره في عالم الفعليّة ، لأنّه لوحظ شيئا واحدا.

إذن ، فالشموليّة ليست مربوطة بمقدمات الحكمة ولا بقرينة إضافية إليها ، بل هي من شئون عالم فعليّة الحكم.

ومن هذا البيان ، يتّضح حقيقة الكلام الثاني ، وهو انّ الأصل في الحكم بالنسبة إلى متعلقه انّ الإطلاق فيه بدلي ما لم تقم قرينة على الخلاف ، وذلك لأنّ الحكم بالنسبة إلى متعلقه لا يشكّل قضية حقيقية شرطية ، فإنّ «إكرام العالم» ، في قولنا : «أكرم العالم» ، بالنسبة إلى العالم تكون قضية حقيقية ، يعني إذا وجد عالم فأكرمه ، لكن بالنسبة إلى نفس «الإكرام» ليست قضية حقيقية ، فإنّ المتعلّق لا يؤخذ مقدّر الوجود كالموضوع كما عرفت ، وإلّا يصبح معناه : إنّه إذا وجد إكرامه ، فافعله ، وهو كما ترى أشبه بتحصيل الحاصل ، أو الدور. ونتيجة هذا انّ الحكم بالنسبة إلى متعلّقه لا يكون له عالم ثاني وراء عالم نفس الجعل ، وعليه ، فليس له تعدّد وكثرة ـ وهذا بخلاف نسبته إلى الموضوع ـ وذلك ، لأنّه بحسب عالم الجعل ، لا نظر للمولى إلى الأفراد ، بل له نظر واحد إلى الطبيعة في الموضوع والكلّي في الحكم ، وأمّا بحسب عالم المجعول فليس له عالم ثاني كي تحصل الكثرة والتعدّد ، ومن هنا يكون الأصل فيه وحدة الحكم ، بمعنى انّ الدليل ليس له

٥٢٦

قابلية أن يثبت تعدد الحكم إلّا إذا قامت قرينة عرفيّة من الداخل أو الخارج على انّ الحكم متعدّد كما هو الحال في النهي بالنسبة إلى متعلّقه ، فإنّ النهي بالنسبة إلى متعلّقه ، وإن كان مقتضى الأصل فيه وحدة الحكم كما في خطاب لا تشرب الخمرة ، لأنّه لو خلّي وطبعه يقتضي أن لا يثبت إلّا حكما واحدا ، لكن وجود قرينة عرفية تدلّ على الشمول والكثرة ، وهي غلبة نشوء النهي عن المفسدة ، وغلبة كون المفسدة انحلاليّة متكثّرة يشكّل قرينة عرفية على الانحلال في المقام ، ولو لا هذه القرينة لكان مقتضى الاصل هو البدلية ، ولكانت القضية في خطاب «لا تشرب الخمر» قضية حقيقية لو خليت وطبعها ، بحيث لو شرب لعوقب مرة واحدة ثم يرتفع الخطاب ، ولكن كما قدّمنا لك بيانه وحقيقة مرامه.

٤ ـ التنبيه الرابع : في الانصراف :

والانصراف حالة معينة في اللفظ قد تؤدّي إلى عدم تمامية مقدمات الحكمة ، ويقصد بالانصراف أنس الذهن بحصة خاصة من حصص الطبيعة التي وضع اللفظ لها ، وهذا الأنس يوجب انصراف اللفظ إلى تلك الحصة المأنوسة ، هذا بحسب المعنى.

وأمّا تحقيق حال الانصراف فنقول : إنّ انصراف اللفظ إلى خصوص حصة من حصص الطبيعة ، سببه أحد أمور ثلاثة.

١ ـ الأمر الأول : كثرة وجود هذه الحصة من بين سائر حصص الطبيعة خارجا ، وندرة وجود الباقي ، كما يتصور الإنسان أنّ الإنسان أسود فيما إذا كان يعيش في بلد يكثر فيه الإنسان الأسود ، وكذلك العكس ، فقد يتصوّر الإنسان أنّه لا أسود فيما إذا كان يعيش في بلد يكثر فيه الإنسان اللّاأسود ، فهذا أنس قائم على أساس كثرة الوجود خارجا ، والانصراف الذي ينشأ منه لا علاقة له باللفظ والدليل أصلا ، ولذا فهو لا أثر له في فهم المعنى من الدليل ، ولا يوجب هدم الإطلاق ، ولا إعاقة مقدمات الحكمة ، لأنّ هذا الانصراف لم يكن بسبب اللفظ ، اللهمّ إلّا إذا كانت ندرة هذا النادر الذي انصرف عنه

٥٢٧

الذهن بدرجة بحيث لا يرى عرفا انّه فرد من هذه الطبيعة ، فإنّه مثله حينئذ ينهدم الإطلاق ، لأنّه لا يكون اللفظ موضوعا للمقسم.

٢ ـ الأمر الثاني : من أسباب الانصراف هو كثرة استعمال اللفظ في خصوص حصة من بين حصص الطبيعة ، لا على نحو المجاز فقط ، بل قد يستعمل اللفظ فيها وتراد منه بنحو تعدد الدال والمدلول ، وحينئذ ، هذا الاستعمال الكثير والاقتران المتكرر بين اللفظ وهذه الحصة ، يوجب حدوث أنس ذهني بين اللفظ وتلك الحصة ، وهذا الأنس بدوره يوجب انصراف الذهن إليها عند الإطلاق ، فمثلا : لفظة «إمام» ، معناها لغة : كلّ من يقتدى به ، لكنها استعملت كثيرا في من يقتدى به في الصلاة ، وأريد منها هذا المعنى كثيرا ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، فحصل بينه وبين هذه الحصة أنس أوجب الانصراف عند استعماله ، وهذا الأنس الذهني لفظي ، لأنّه حصل بسبب اللفظ ، وهذا الأنس الذي نشأ من كثرة الاستعمال هو الذي يؤدي إلى الوضع التعيني في مرتبة من مراتبه ـ كما ألمحنا إلى ذلك في بحث الوضع ـ وعليه : فهذا الأنس له مراتب بعضها أشدّ من بعض ، بحيث تصل إلى مرتبة نسميها بالوضع التعيني ، ومن الواضح انّ هذا الأنس إذا وصل إلى هذه المرتبة من دون هجر المعنى الأول ، فسوف يصبح اللفظ حينئذ مشتركا لفظيا بين المعنى الأعمّ والحصة الخاصة ، وحينئذ ، إذا أطلق اللفظ بعد ذلك وتردّد بين المعنيين ، يكون مجملا ، كما هو الحال في كل مشترك إذا أطلق ولم يعيّن أحد معنييه بقرينة ونحوها ، وأمّا إذا لم يصل إلى هذه المرتبة ، وإنّما كان قريبا منها جدا ، فحينئذ سوف تحصل مرتبة معتدّ بها من الأنس ـ وإن لم تصلح للوضع ـ فهي تصلح لأن يعتمد عليها المتكلّم في مقام بيان إرادة الحصة الخاصة ، ولا يكون الاعتماد عليها حينئذ خارجا عن ذلك الظهور الحالي السياقي الذي هو الأساس في مقدمات الحكمة ، وحينئذ ، يمكن القول : إنّ إرادة المتكلّم للمقيّد مع هذه المرتبة من العلاقة بين اللفظ والحصة لا يلزم منه خلف ذلك الظهور ، لأنّ البيان الذي يجب على المتكلّم أن يوفّره ، ليس بأقوى من ذلك ، وحينئذ ، يكون هذا الانصراف موجبا للخلل في مقدمات الحكمة ، كما يوجب إجمال الكلام.

٥٢٨

٣ ـ الأمر الثالث : من أسباب الانصراف هو ، مناسبات الحكم والموضوع العرفيّة الموجودة في الخطاب ، وذلك بأن يفرض انّ الخطاب متعرّض لعملية أو تشريع ، وهذه العملية عرفيّة لها تطبيق عرفي أو تشريع له جذور عرفية ، والعرف بما هو مركوز عنده من مناسبات ، له نحو استيناس بمقدار هذه العمليّة وبحدود هذا التشريع ، وحيث انّ استيناسه يكون بين الحكم وبين حصة معينة ، لذلك ينصرف ذهنه إلى الحصة الخاصة ، مثلا : إذا قيل : «الماء مطهّر» ، فالمطهريّة حكم له منشأ عرفي ، والمركوز في ذهن العرف ، انّ الماء المطهّر يجب أن لا يكون قذرا في نفسه ، فيفهم من دليل المطهّريّة بمناسبة الحكم والموضوع ، انّ المراد من الماء المطهّر هو ، الماء الطاهر في نفسه لا النجس ، فينصرف لفظ الماء إلى هذه الحصة الخاصة ، وهذا الانصراف نشأ من مناسبات الحكم والموضوع ، ولذا لو تغيّر الحكم تغيّر الانصراف ، فمثلا : لو ثبت كراهة نظر المحرم إلى الماء ، فإنّه حينئذ لا ينصرف الذهن إلى الماء الطاهر ، ولذا يتمسّك حينئذ بإطلاق الماء ، فيشمل الطاهر والنجس ، ومثله قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فبما انّ مسح الرأس عملية عرفية لها تطبيق عرفي خارجا ، حيث أنّ أيّ إنسان إذا أراد مسح رأسه ، مسحه بكفه ، فيوجب انصراف المسح إلى المسح باليد.

وهذا الانصراف حجة ، ويكون هادما لمقدمات الحكمة ومانعا لها من الدلالة على الإطلاق ، لأنّه يوجب ظهورا في الدليل في إرادة المقيّد ، لأنّ مناسبات الحكم والموضوع قرائن لبّية متصلة تكتنف الدليل وتشارك في ظهوره في مرحلة المدلول التصديقي ، وإذا تمّ ظهوره في المقيّد لم يتمّ الإطلاق حينئذ.

٥ ـ التنبيه الخامس :

من تنبيهات مقدمات الحكمة هو ، في التمييز بين الإطلاق الحكمي الثابت بمقدمات الحكمة ، والإطلاق المقامي ، وهذان الإطلاقان مختلفان جوهرا وأساسا ، وذلك انّ التقييد المحتمل في موارد الإطلاق الحكمي والذي

٥٢٩

يراد رفعه ونفيه بالإطلاق هو شيء ، على فرض ثبوته ، يكون قيدا في المدلول الجدّي للفظ وموجبا لتضييق دائرة هذا المدلول الجدّي ، فالإطلاق الحكمي ينفي القيد بظهور عام ولا يحتاج إلى قرينة في مورده ، فهو غير ذاك الظهور الحالي السياقي المتقدم ، ومن هنا كان الإطلاق الحكمي هو مقتضى الأصل ، فمثلا : حينما يقول : «أكرم الفقير» ، فهنا الكلام مطلق ، ولكن يحتمل أن يكون مقيدا بالعدالة ، وهي على فرض دخالتها في مراد المولى ، تكون مقيدة ومضيّقة لهذا المراد ، وفي مثل ذلك ، المراد الجدّي «لأكرم الفقير» ، يدور أمر العدالة فيه ، بين كونها دخيلة في موضوعه ضمنا أم لا ، وحينئذ ، بالإطلاق الحكمي ، نثبت عدم دخالتها بهذا الظهور العام من دون حاجة إلى قرينة في مورده ، بل بذاك الظهور العام الذي هو غير ذاك الظهور الحالي السياقي المتقدم.

وأمّا الإطلاق المقامي ، فهو شيء نريد أن ننفي به أمرا محمّلا ، وهذا الأمر المحمّل على تقدير ثبوته لا يكون قيدا في المرام الجدّي للكلام الذي بين أيدينا ، وإنّما يكون مراما آخر في مقابل هذا المرام ، فمثلا : إذا قال الإمام عليه‌السلام ـ في مقام بيان الوضوء ـ : «ألا أعلّمكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ثم قال عليه‌السلام : «غسل الوجه جزء من الوضوء ، وغسل اليدين جزء ، ومسح الرأس والقدمين كلّ منهما جزء ...» ، الخ.

فهنا تارة نشكّ بأنّ غسل الوجه الذي هو جزء ، هل هو غسل الوجه كيفما اتّفق ، أم غسله من أعلى إلى أسفل؟ فهنا تجري مقدمات الحكمة ، ونتمسك بالإطلاق الحكمي لإثبات أنّ الغسل جزء كيفما وقع ، لأنّه لو كانت الجزئية مخصوصة بخصوص حصة خاصة من غسل الوجه ، وهي من أعلى مثلا ، لكان هذا قيدا زائدا في المرام الجدّي من كلامه ، فيجب بيانه ، ولكن المفروض أنّ الكلام لا يقتضيه ، فننفيه بالإطلاق الحكمي ويتعيّن بمقتضى ذلك الظهور الحالي ، انّ ما هو جزء إنّما هو طبيعي غسل الوجه ثبوتا ، لأنّه هو المبيّن إثباتا ، إذن فالمرجع هنا هو الإطلاق الحكمي.

٥٣٠

وتارة أخرى ، نحمّل جزئية أمر آخر برأسه ، كما لو احتملنا وجوب المضمضة ، وكان قد سكت عنها في سياق ما سمّاه من أجزاء ، فهنا لا يمكن إعمال مقدمات الحكمة والتمسّك بالإطلاق الحكمي ، وذلك لأنّ المضمضة المحتمل وجوبها ، هي على فرض ثبوت جزئيتها في الواقع ، لا تكون قيدا في موضوع غسل الوجه ـ أي المراد الجدّي في الدليل ـ سواء كانت جزءا أو لم تكن ، وبهذا ، لا يكون كلامه دائرا بين المطلق والمقيّد.

وكون المتكلم انّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، لا ينافي ان يكون له حكم آخر وراء هذا الحكم ، وإنّما يمكن التمسّك بالإطلاق المقامي فيما إذا ثبت انّ المتكلّم في مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء وقد سكت عن جزئية المضمضة ، لأنّ نفس الدليل الذي يدلّ على أنّه في مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء ، مع سكوته عن جزئية المضمضة ، يدلّ بالالتزام على أنّ ما سكت عنه ليس جزءا ، وإلّا لكان خلف الدليل الدالّ على أنّه في مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء.

ولكن الدليل الذي يدلّ على أنّ المتكلّم في مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء اتفاقي قد يحصل ، وقد لا يحصل ، كما لو قال : «غسل الوجه جزء من الوضوء» ، فليس ثمّة ما يدل على أنّه في مقام استيفاء تمام أجزاء الموضوع ، وهذا بخلاف الظهور الحالي السياقي الذي هو الأساس للإطلاق الحكمي ، فإنّه ثابت على القاعدة في كل مورد تصدّى فيه المتكلّم لإبراز تمام موضوع الحكم المدلول بكلامه ، فإنّ ظاهر حاله أنّه بيّن تمام موضوع ذلك الحكم ، ولهذا يكون الإطلاق الحكمي على القاعدة ، ظهورا عاما ليس بحاجة إلى عناية خاصة.

وهذا بخلاف الإطلاق المقامي ، فإنّه باعتبار كونه مرتبطا بمرام آخر علاوة على مدلول الكلام ، يصبح بحاجة إلى عناية زائدة وقرينة على أنّه في مقام بيان ذلك المرام وتلك الحيثية والجهة التي لم يبرزها المتكلّم بكلامه الأول الذي تكلّم به ، وهذه القرينة في الإطلاق المقامي على نحوين.

٥٣١

أ ـ النحو الأول : هو أن تكون لفظية صريحة ، أو أنّها تفهم من ظاهر حال المتلفّظ ، كما لو قال الإمام : «ألا أعلّمكم الوضوء».

وهناك عبائر وكلمات أقلّ من هذه يمكن أن يستظهر منها انّه في مقام استيعاب أجزاء الوضوء ، ومعرفتها منوطة بالفقيه واستظهاره من الرواية في كلّ مورد بخصوصه ، فإن تمّ ذلك ، تمّ الإطلاق المقامي.

ب ـ النحو الثاني : هو ان تكون هذه القرينة بسبب دلالة الاقتضاء المناسبة مع شأن الشارع الأقدس ، وذلك بأن يفرض أنّ جزءا من الأجزاء كان ممّا يغفل عنه عادة ، بحيث لو لم يبيّنه الشارع لما كان يلتفت إليه ليسأل عنه بحسب نوعه.

ومنها ما لا يكون كذلك ، حتى تصورا على ذهن السامع والسائل ، وإنّما التفت إليها أصوليّون ، فإنّه في مثل هذه الموارد ، نتمسّك بالإطلاق المقامي لكلام المولى ، لنفيها ، والتمسّك هنا ، لا يكون بكلام واحد من كلماته ، بل بمجموع كلامه ، بأن يقال : إنّ مجموع الكلمات الواصلة إلينا من هذا المتكلّم ليس فيها أيّ إشارة إلى جزئية «قصد الوجه أو التمييز» ، ويضم إلى ذلك الاطمئنان بعدم وجود إشارة إليهما في رواية أخرى لعلّة لم تصلنا لاختفائها عنّا مثلا.

فإذا تمّ هذان الأمران ، حينئذ يقال : إنّه بمقتضى الإطلاق المقامي نثبت أنّ هذا ليس بجزء.

هذا حاصل الكلام في تنبيهات مقدمات الحكمة.

وإلى هنا كان الكلام في اسم الجنس ، وأنّه هو الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيد.

٥٣٢

حالات اسم الجنس

إنّ اسم الجنس يطرأ عليه حالات ثلاث ، فهو تارة يطرأ عليه التنكير ، فيكون نكرة ، وأخرى ، يطرأ عليه التعريف «باللام أو الإضافة إلى المعرف باللام» ، فيكون معرفة ، وثالثة لا يطرأ عليه واحد من الأمرين فيكون مجرّدا عن التنكير والتعريف.

ولا إشكال في أنّ اسم الجنس في حالته الثالثة يكون صالحا لكل من الإطلاق والتقييد ، أي للإطلاق الشمولي ، والإطلاق البدلي.

كما أنّه لا إشكال في انّ اسم الجنس في هذه الحالة يكون قابلا للتعيّن بأحد معنيين.

أحدهما : مقدمات الحكمة في المورد الذي تنتج فيه الإطلاق الشمولي ، وحينئذ تتعيّن الطبيعة في تمام الأفراد ، ولا يبقى إبهام في مقام الصدق.

وثانيهما : أن يتعيّن في فرد معيّن ولو بنحو تعدد الدالّ والمدلول ، وحينئذ ، يكون اسم الجنس في كلّ من الموردين متعيّنا صدقا وانطباقا ، ولا يكون مبهما ، غاية الأمر أنّ المعيّن الأول نوعي ، بينما المعيّن الثاني شخصي ، «وهو القرينة الخاصة الدالّة على إرادة شخص معيّن».

وبعد هذا ، نبحث في انّه حينما يدخل على اسم الجنس التنكير أو التعريف ويتغيّر ، حينئذ نسأل : ما ذا يتغيّر من أوضاعه؟.

٥٣٣

قلنا فيما سبق ، انّ اسم الجنس حينما يكون مجرّدا عن التنكير والتعريف ـ كما في الحالة الثالثة ـ يكون قابلا للتعيين ، امّا في الإطلاق الشمولي ، وإمّا في فرد مخصوص ، كما لو تعيّن في الإطلاق البدلي ولو بنحو تعدد الدال والمدلول.

وأمّا لو دخل على اسم الجنس تنوين التنكير ، فقد خرج عن قابلية كلا التعيّنين ، وذلك لأنّ التنكير صيّره مبهما.

أمّا خروجه عن قابليّة تعيّنه بالإطلاق الشمولي ، فلأنّ مقدمات الحكمة إذا جرت في موضوع قوله : «أكرم عالما» ، فإنّها لا تنتج الشمولية ، بل يتعيّن الإطلاق البدلي ، لأنّ لفظ «عالما» أصبح نكرة بتنوين التنكير ، فيتعذّر الإطلاق الشمولي ، إذن ، حينما تجري مقدمات الحكمة في الموضوع المنكّر هنا ، فإنّها تنتج البدلية ، وإن كان مقتضى القاعدة انّ جريان مقدمات الحكمة في الموضوع تنتج الشمولية لكن حيث أنّ الموضوع أصبح نكرة بتنوين التنكير ، تعذّرت الشموليّة وتعيّنت البدلية.

وفي مقام تفسير هذا الانقلاب من الشمولية إلى البدلية يقال : إنّ تنوين التنكير عند ما يدخل على اسم الجنس يلحق بمدلوله قيد الوحدة فيضيّقه ، وبعد إضافة قيد الوحدة إلى مدلوله ، يصبح مدلول قولنا : «أكرم عالما» في قوة قولنا : «أكرم عالما واحدا».

ومن الواضح ، أنّه إذا صار الموضوع مقيّدا بالوحدة ، يستحيل حينئذ ، الإطلاق الشمولي فيه ، فيتعيّن الإطلاق البدلي ، فكأنّ مفهوم «العالم» طعّم بمفهوم الوحدة ، ولذا انسلخ عن قابلية التعيين بالإطلاق الشمولي.

ويرد على هذا التفسير إشكالان ، حلّي ونقضي.

أمّا الإشكال الحلّي فهو أن يقال : إنّ تنوين التنكير ، إذا كان مفاده الوحدة ، فلما ذا يوجب تغييرا في هوية اسم الجنس وإخراجه عن قابليته للشمولية ، مع انّ الوحدة والواحد نفسها أحد أسماء الجنس ، وعليه :

٥٣٤

فالإطلاق الشمولي معقول في الواحد ، ولذا يدخل عليه أداة العموم ، فيقال : «أكرم كل واحد من العلماء» ، فيكون قابلا للعموم الشمولي الأداتي فضلا عن الإطلاق الحكمي ، إذن ، فكلمة «واحد» لا فرق بينها وبين أيّ مفهوم كلّي قيّد بالوحدة كما عرفت.

وأمّا الإشكال النقضي فهو أن يقال : إنّ التنكير لو كان موجبا لانسلاخ اسم الجنس عن القابلية للإطلاق الشمولي ، إذن كيف نتصوّر الإطلاق الاستغراقي في النكرة الواقعة في سياق النهي والنفي ، كما لو قال : «لا ترسم خطا» ، فمع أنّ كلمة «خطّا نكرة فهي تفيد الاستغراقية.

وفي مقام تحقيق هذين الإشكالين نقول : أمّا الإشكال الأول فيقال فيه : إنّ الواحد اصطلاح لفظي له ثلاث معاني :

أ ـ المعنى الأول : هو ان يراد منه الواحد في مقابل الكثير ، وهو الذي يقال بأنّه موجود في ضمن الكثير خارجا باعتبار أنّ الكثير مركّب من عدّة آحاد.

ومن الواضح ، انّ هذا المعنى الواحد ، مفهوم كسائر مفاهيم أسماء الأجناس ، وهو الذي تدخل عليه أداة العموم الشمولي ، ـ كما مرّ في الإشكال ـ وليس المراد من قيد الوحدة الذي يؤخذ في تنوين التنكير ، هذا المعنى.

ب ـ المعنى الثاني : هو أن يراد بالواحد ، الواحد فقط ومع هذه الإضافة ، أي بشرط «لا» من حيث الفرد الثاني ، وفي مثله لو قال : «أكرم فردا واحدا فقط» فإنّه يستحيل الإطلاق الشمولي فيه ، إذ كيف يكرم أكثر من فرد واحد ، مع أنّه أمر بإكرام فرد واحد فقط ، وإلّا ، فإنّ إكرام الفرد الثاني خلف التقييد بالواحد فقط.

وهذا التفسير للواحد ، ليس هو المقصود من الوحدة المأخوذة في تنوين التنكير أيضا.

٥٣٥

ج ـ المعنى الثالث : هو أن يراد بالواحد ، الواحد فقط ، لكن لا الواحد فقط في نفس الأمر ، بل من ناحية هذا اللفظ ، بمعنى انّ اسم الجنس قبل دخول التنوين عليه كان صالحا لأن يقع جزءا من كلام يدلّ على الواحد وعلى المتعدد ، لكن بعد ان دخل عليه التنوين تغيّر حاله من هذه الناحية وأصبح متمحضا في الدلالة على الواحد فقط من ناحية هذا الكلام ، وإن كان يدلّ على أكثر من واحد في الواقع.

وفرق هذا المعنى ، عن المعنى الثاني هو ، انّ الواحد فقط في الثاني ، مرجعه إلى أخذ عدم الفرد الثاني قيدا في الفرد الأول ، بحيث لو قال : «أكرم فردا واحدا فقط» ، فأكرم اثنين من الطبيعة ، لم يكن ممتثلا ، بينما على المعنى الثالث ، ليس المراد من الواحد فقط ، يعني انّ الواحد أخذ «بشرط لا» من حيث الفرد الثاني ، بل أخذ في هذا الكلام لا دلالة له على أكثر من واحد ، فهنا ، «أكرم عالما» ليس مساوقا ، «لأكرم عالما واحدا فقط» ، فلو انّه أكرم اثنين من الطبيعة ، يراه العرف ممتثلا ، ولذلك لم تكن «أكرم عالما» ، تساوق «أكرم عالما واحدا فقط».

وهذا دليل على انّ مفاد النكرة ليس هو المعنى الثاني ، بل مفادها الواحد فقط ، من ناحية مقام الإثبات لا الثبوت ، بمعنى انّه يجب ان لا يكون للكلام دلالة على أكثر من واحد.

نعم ، فيه ، انّ الكلام قاصر عن إفادة وجوب إكرام الفرد الثاني في المعنى الثالث ، ولكن هذا المعنى هو المقصود لنا من أخذ قيد الوحدة في مدلول اسم الجنس في المقام.

وبناء عليه : فقيد الوحدة حالة زائدة وعناية إضافيّة تخرج مدلول اسم الجنس عن صلاحيّة الدلالة على الاستغراق ، إذ لو دلّ على الاستغراق كان خلف دلالته على الواحد فقط من ناحية هذا الكلام.

وأمّا الإشكال النقضي : فيقال : إنّ الاستغراقية ـ كما مرّ معنا ـ لها عالمان.

٥٣٦

الأول : الاستغراقية في عالم الامتثال ، بمعنى انّ الطبيعة المنهي عنها يتوقف امتثالها خارجا على ترك تمام أفرادها ، بخلاف الطبيعة المأمور بها ، فإنّه يكفي في امتثالها الإتيان بفرد واحد منها :

الثاني : الاستغراقية بحسب عالم الحكم ، ومعناه ، انّ الحكم يتعدد بتعدد أفراد الطبيعة ، وفي مقابله البدلية ، ومعناها انّ الحكم واحد له امتثال واحد ، وعصيان واحد.

وحينئذ نقول : إنّ النقض ، إن كان بالمعنى الأول للاستغراقية ، أي الاستغراقية بلحاظ عالم الامتثال ، فهذه الاستغراقية إنّما هي بحكم العقل القاضي بأن ترك الطبيعة المنهي عنها لا يكون إلّا بترك جميع أفرادها ، كما ذكر صاحب الكفاية.

وإن كان النقض بالاستغراقية بالمعنى الثاني. أي بلحاظ عالم الحكم ، بحيث لو قال المولى : «لا ترسم خطا» ، فرسمنا ثلاث خطوط ، نكون قد استحققنا ثلاث عقابات ، وذلك لتعدّد العصيان.

فجوابه : إنّ الاستغراقية في عالم النهي إنّما كانت بواسطة قرينة خارجية انضمّت إلى الدليل فأوجبت ظهورا عرفيا فيه ، وتلك القرينة هي ، غلبة كون المفسدة انحلالية ، إذ هذا هو الذي أوجب ذلك الظهور ، حيث لم ينشأ هذا الظهور من نفس الكلام.

وبهذا تتضح النكتة في انسلاخ اسم الجنس عن قابليته للتعين في الإطلاق الشمولي عند دخول تنوين التنكير عليه.

ومنه يتّضح انسلاخه عن قابليته للتعيين في فرد مخصوص بعد دخول تنوين التنكير عليه أيضا كما في الانسلاخ الثاني ، ففي قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) ، فإنّه هنا لا يمكن أن يريد من لفظ «رجل» شخصا معيّنا ، لا بمعنى انّه ليس للمتكلّم نظر إلى شخص معيّن ، بل بمعنى انّه من ناحية الكلام يجب أن لا يعيّن شخصا ، فهو غير متعيّن كلاما لا في نفس

٥٣٧

المتكلّم ، وذلك من أجل حالة الإبهام والنكارة التي يوجبها التنوين ، فإنّ اسم الجنس بشؤم تنوين التنكير قيّد بأن لا يكون متعيّنا ، وعليه : فلا يناسبه التعيين الاستغراقي إلّا في ضمن واحد.

ومن هنا نستنتج : انّ كل تنوين نراه ونرى معه تعيّنا في الإطلاق الشمولي ، كما في مدخولات أدوات العموم «أكرم كل رجل» فهنا التنوين لم يمنع من الشمولية ، أو تعيّنا في فرد خاص ، كما لو اطّلع المتكلّم على من زارك بالأمس ثم قال في اليوم الثاني : «أكرم رجلا زارك بالأمس» قاصدا ذاك الشخص ، حينئذ ، يكون هذا التنوين تنوين تمكين ، وليس تنوين تنكير ، وذلك لملاءمة هذا التنوين للتعيين في الشمولية أو في الفرد المخصوص ، بينما تنوين التنكير لا يلائم التعيين بأحد وجهيه.

إذن ، فكلّما كان اسم الجنس المنوّن قابلا للانسلاخ عن كلا التعينين المذكورين يكون تنوينه تنوين تنكير.

وأمّا إذا دخلت «لام التعريف» على اسم الجنس ، فإنّها تخرجه من القابلية للتعيين التي كانت له قبل دخولها ، إلى التعيين الفعلي ، ومن أجل ذلك يصبح معرفة ، وهذا التعيين مدلول «للّام» لأنّها موضوعة لجعل مدخولها متعينا ، أي لواقع التعين ، لا بمعنى انّ اللّام موضوعة لمفهوم التعين ، إذ هو مفهوم اسمي قابل للنكارة ، بل هي موضوعة لواقع التعيين بأنحائه المناسبة ، إذ اللّام في موارد العهد الذكري تدلّ على التعيين الذكري ، وفي موارد العهد الذهني تدلّ على التعيين الذهني ، وفي موارد لام الجنس تدلّ على التعيين الجنسي أو على الماهية التي يعبّر عنها تارة بالجنس ، وأخرى بالذهني ، فهي إذن ، تدلّ في كل مورد على النحو المناسب لها ، وإن كانت موضوعة بالوضع العام والموضوع له خاص ، هذا هو المعروف بينهم.

لكن بعض الأصوليين ، كصاحب الكفاية (قده) استشكل في ذلك استشكالا ثبوتيا ، وادّعى انّ اللّام لا تدلّ على التعين ، ولذا ذهب إلى أنّها غير موضوعة للتعيين ولا تدلّ عليه.

٥٣٨

واستشكاله الثبوتي هذا ، يرجع إلى دعوى : إنّ لام الجنس ، ـ بناء على انّها موضوعة للتعيين ـ لا تفيد إلّا التعيين الذهني ، بخلاف موارد العهد ، فإنّه يفترض أن يكون التعين تعينا خارجيا موضوعيا ، بينما في موارد لام الجنس ، فإنّ التعين ليس إلّا ذهنيا ، إذ بحسب الخارج لا تعيّن لهذا الجنس ، لأنّ أفراده كثيرة في الخارج ومنتشرة ، إذن ، فهي لا تدلّ إلّا على وجود الجنس في الذهن فاللّام يكون دالّا على التعين الذهني للجنس ، لأنّ المحدّد بأمر ذهني ، لا يكون إلّا ذهنيا ، إذ كل ما هو مقيّد ومحدّد بمحدّد ، فهو ثابت في وعاء ذلك المحدّد ، والمحدّد هنا ذهني ، فالمحدّد واقع في وعائه ، ولا يعقل وجوده خارجا ، ولا يعقل حينئذ حمله على الخارج إلّا بتجريده عن القيد الذهني.

وهذا خلاف الواقع ، لأنّ المعرّف بلام الجنس يصدق ويحمل على الخارج بما هو معرفة وبلا تجريد ، وهذا يبرهن على انّ اللّام ليست دالة على التعيين.

ولأجل هذا الاستشكال ذهب إلى أنّ اللّام موضوعة للتزيين ، من قبيل اللّام الداخلة على الأعلام ، «كالحسن ، والحسين» حيث انّ اللّام فيهما ليست هي منشأ معرفيّتهما.

وبعد هذا تساءل صاحب الكفاية (قده) ، فقال : إذا لم تكن اللّام موضوعة للتعيين ، إذن ، من أين تأتي المعرفة للكلمة المدخولة للّام؟

ثم هو أجاب عن ذلك ، بأنّ هذا التعريف والمعرفية حكم تعبّدي ، تعبّدتنا به اللغة ، وهو ما يسمّى بالتعريف اللفظي وشبهه بالتذكير والتأنيث ، فكما أنّ مدخولهما فيه ما تأنيثه وتذكيره حقيقي ، «كهند وزيد» ، فكذلك فيه ما هو تعبّدي بتعبّد اللغة ، أي لفظي فقط ، «كعنق ورقبة» ، مع انّ معناهما واحد ، فإنّ لفظ «عنق» مذكر ، ولفظ «رقبة» مؤنث.

وقد توجه جملة من المحققين لحلّ هذا الاستشكال ، نختار منهم محاولة المحقق الاصفهاني (قده) ، حيث ذكر انّ استشكال صاحب الكفاية

٥٣٩

في عدم دلالة اللّام على التعيين ، مبني على تخيّل انّ التعيين الموضوعة له اللام ، هو التعيين الذهني ، مع انّه ليس المراد في موارد لام الجنس ، التعيين الذهني ، بل المراد منه التعيين الجنسي ، فإنّ كلّ ماهية بحسب شئونها وشخصيتها الماهويّة متميزة عن غيرها لا محالة ، وهذا التميز والتعيين ليس أمرا ذهنيّا بل هو محفوظ في أيّ ماهية حتى لو لم يوجد ذهن أصلا ، بل انّ هذا التعين محفوظ في لوح الواقع ، فهو أمر واقعي حقيقي ثابت مع قطع النظر عن الذهن ، فإذا أخذ هذا النحو من التعيين في مدلول لام الجنس ، حينئذ لا يتمّ إشكال صاحب الكفاية (قده) ، ويصحّ ما ذهب إليه المشهور ، من انّ «اللّام» تدلّ على التعيين ومن دون لزوم أي محذور.

وهذه المحاولة من المحقق الأصفهاني غير تامّة ، وذلك لأنّه ما المراد بالتعيين الماهوي للماهيّة في لوح الواقع؟ فإن أريد بذلك نفس مفهوم التعيين الذي هو مفهوم انتزاعي والذي يخطر على الذهن حين سماع كلمة «تعين» ، فمن الواضح انّ هذا المفهوم شأنه شأن سائر مدلولات أسماء الأجناس ، حاله حال العام النكرة في نفسه ، كلفظ «عالم» ولفظ «رجل» ، وحينئذ يكون ضمّه إلى مفهوم «رجل» في قولنا : «الرجل» ، أو إلى مفهوم «علم» في قولنا «العلم» ، لا يخرجه عن كونه نكرة ، وإنّما هو ضمّ نكرة إلى نكرة ، غايته : النكرة المحصّصة كما في قولنا : «ثوب رجل» ، وهذا لا يفيد تعريفا.

وإن أريد منشأ انتزاع هذا المفهوم ، أي واقع ما به الماهية متعيّنة ، فمن الواضح ، انّ ما به الماهية متعينة حينئذ إنّما هو حدودها الداخلة في مدلول اسم الجنس ، أي مدلول المدخول «للام» ، فإنّ مدخول «اللّام» موضوع للماهية بحدودها الذاتية ، وعليه : فاللّام لم تزد شيئا في المقام ، وحينئذ ، فلا يتحصل لنا معنى لحمل التعيين على التعيين الواقعي ، لا مفهوما ولا مصداقا ، لأنّه مفهوم ، حاله حال مدخوله ومصداقه ، أي أنّ منشأ انتزاعه هو الحدود الداخلة في مدلول المدخول ، وعليه ، فمحاولة الاصفهاني غير تامّة.

وعليه فالجواب الصحيح لدفع استشكال صاحب الكفاية هو ، نفس ما

٥٤٠