بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

أجبنا به على استشكاله في أخذ الإطلاق قيدا في المعنى ، حيث ذهب إلى أنّ أخذ الإطلاق قيدا في الموضوع له في أسماء الأجناس ، يوجب كون معناه ذهنيا ، فلا ينطبق على الخارج حينئذ.

وكان حاصل جوابنا على هذا هناك : هو انّه لو كان المقصود أخذ مفهوم التعيين الذهني قيدا ، فمن الواضح انّ هذا المفهوم غير قابل للحكاية عن الخارج ، لأنّه لو جعل حاكيا ، فهو إنّما يحكي عن مصداقه ، ومصداقه واقع التعيين الذهني ، لا الخارج ، وإنّما يصحّ ما قاله صاحب الكفاية ، من لزوم كون الكلام غير صالح للحكاية عن الخارج ، إنّما يلزم ذلك ، لو كان مفهوم التعيين الذهني هو مدلول الكلام.

لكن لم يدّع أحد ، أخذ مفهوم التعيين الذهني ، لوضوح انّ مفهوم التعيين الذهني ليس متعينا ، بل هو مفهوم اسمي قابل للنكارة المحتاجة بدورها للتعيين ، بل المأخوذ قيدا هو ، واقع التعيين الذهني ، بمعنى انّ الواضح حينما يريد الوضع يقرن بين اللفظ وتصور المعنى ، أي الصورة الذهنية للمعنى ، وهذه الصورة الذهنية عبارة عن الصورة المتعيّنة ذهنا ، وهذا ليس فيه محذور ، ولا يلزم منه عدم انطباق مدلول الكلام على الخارج ، لأنّ المقصود من انطباق مدلول الكلام على الخارج ، يعني انّ الصورة الذهنية المربوطة باللفظ ، قابلة للحكاية عن الخارج والفناء فيه.

وهذا محفوظ في المقام ، لأنّ هذه الصورة بما هي صورة ذهنيّة ، قابلة للحكاية عن الخارج والفناء فيه ، ولا نريد بانطباق مدلول الكلام على الخارج إلّا ذلك ، وكأنّ صاحب الكفاية (قده) خلط بين أخذ مفهوم من المفاهيم الثانوية ، وبين أخذ مصداق هذا المفهوم ، فدائما محذور عدم الانطباق على الخارج ، إنّما يكون ، لو أخذنا شأنا من شئون العقل الثاني ، ولا يلزم إذا أخذنا شأنا من شئون العقل الأول.

إذن فالصحيح ما عليه المشهور ، من انّ «اللّام» تدلّ على التعيين حتى في موارد «لام الجنس».

٥٤١

لكن ينبغي أن يعلم انّ هذا التعيين الذي تدلّ عليه «لام الجنس» والمسمّى بالتعيين الذهني ، ليس المراد منه محض الوجود الذهني ، إذ من الواضح انّ محض الوجود الذهني لا يجعل المعنى معرفة ، ولهذا قالوا : بأنّ اللحاظ الآلي مأخوذ في المعنى الحرفي ، ولم يتوهم متوهم انّ المعنى الحرفي يصبح معرفة لأجل ذلك ، بل المراد بالتعيين الذهني تطبيق الصورة الذهنية على الانطباعات المألوفة سابقا والمرتكزة في الذهن عن كلّ ماهية من الماهيات التي نشاهدها في الخارج ، وحينئذ ، كلمة «أسد» تدلّ على الماهية دون الإشارة إلى تلك الانطباعات المركوزة في الذهن عن «الأسد» تدلّ على الماهية دون الإشارة إلى تلك الانطباعات المركوزة في الذهن عن «الأسد» ، ولذا تكون نكرة ، بينما كلمة «الأسد» تدلّ على الماهية ، لكن على صورة ذهنيّة عن الماهيّة منطبقة على نفس تلك الانطباعات المألوفة للذهن والمركوزة فيه للماهية ، وبهذا يحصل التعريف ، فكأنّ هذا يشبه العهد الذكري.

هذا تمام الكلام في دلالة «اللّام» على التعريف.

ثم انّ هناك حالة رابعة لاسم الجنس يتميّز بها ، وهي حالة العلميّة ، فإنّ بعض أسماء الأجناس توصف بأنّها أعلام ، لغة ، والوجدان العرفي العربي على إبهامه ، يحس بفرق ما بين اسم الجنس وعلم الجنس ، إذ هناك فرق بين «أسد وأسامة» ، وبين «ثعلب وابن آوى».

إذن ، فلا بدّ من فرض ميزة في البين اقتضت أن يكون لفظ «أسامة وابن آوى» ، معرفة ، دون لفظ «أسد وثعلب» وفرّقت بينهما وبين أسماء الأجناس الاعتيادية ، وتلك الميزة يمكن أن تكون أحد احتمالات ثلاث.

١ ـ الاحتمال الأول : وهو أقربها ، هي ان تكون هذه الميزة هي التعيين الذهني الجنسي الذي تدلّ عليه «اللّام» عند دخولها على لفظ «أسد» ، وهذا التعيين هنا مستبطن في نفس مدلول لفظة «أسامة» ، فتكون موضوعة إذن بوضع واحد للماهيّة المتعيّنة بذلك النحو من التعين ، إذ من الواضح ، انّ الماهية ، تارة ، تلحظ بما هي هي ، وأخرى تلحظ بما هي مستأنس بها ذهنا سابقا ، فكأنّه من أجل هذا التعيّن الذي نشأ من الاستيناس الذهني بالماهية ، صارت لفظة «أسامة» معرفة وتميّزت عن لفظة «أسد».

٥٤٢

إذن فاللّام في لفظة «أسد» تدلّ على ذلك النحو من الاستيناس ، وهذا هو الذي سمّيناه بالعهد الذهني العام في باب اللّام ، وهذا التعيّن الذهني الذي تفيده «لام الجنس» يكون مأخوذا في مدلول لفظة «أسامة ، وثعالة» ، ومن أجل أخذ هذا التعيّن في المدلول الافرادي للكلمة ، أصبحت لفظة «أسامة» علم ، وفي قوة لفظة «الأسد» ، غايته انها في لفظة «الأسد» بوضعين ، وفي «أسامة» بوضع واحد ودال واحد.

٢ ـ الاحتمال الثاني : ـ ولعلّه أضعفها ـ في ميزة هذه الكلمات عن بقية أسماء الأجناس هو ، أن يكون الإطلاق مأخوذا في مدلول علم الجنس ، وغير مأخوذ في مدلول اسم الجنس ، كما ذكر المشهور سابقا ، من انّ الإطلاق مأخوذ في مدلول علم أسماء الأجناس ، وإن كان عند المتأخرين غير مأخوذ في مدلول اسم الجنس ، بل هو موضوع للطبيعة المهملة غير المتعيّنة وغير المقيّدة حتى بعدم التقيّد.

وحينئذ يقال هنا : إنّ علم الجنس أخذ في موضوعه ذاك الإطلاق ، وهذا نحو تعيّن في الماهية ، لأنّ اسم الجنس كان موضوعا للطبيعة المهملة غير المقيّدة حتى بعدم التقيّد ، بينما هنا قيّدت بقيد عدم التقيد ، ولذا صارت لفظة «أسامة» معرفة دون لفظ «أسد».

ولكنّ هذا الاحتمال بعيد ، لأنّ مجرّد أخذ الإطلاق الحكمي ، بمعنى عدم القيد ، في مدلول الكلمة لا يصيره معرفة ، فإنّ الطبيعة التي تلحظ بلا قيد بما هي بلا قيد لا تخرج عن نكارتها وإيهامها وقابليتها للتعيين إلى أيّ نحو من أنحاء التعيين ، والدليل على ذلك هو ، انّ عددا كبيرا من العلماء القدامى قالوا : بأنّ الإطلاق مأخوذ في مدلول اسم الجنس ، مع انّه لم يتوهم أو يلتزم أحد منهم ، بأنّ اسم الجنس أصبح معرفة وخرج من النكارة والإبهام ، وهذا اعتراف ضمنيّ بأنّ مجرّد أخذ الإطلاق لا يوجب رفع النكارة والإبهام عنه.

هذا مضافا إلى أنّ أحدا من المتأخرين لم ينقض على المتقدمين بأنّ لازم قولكم بأنّ الإطلاق مأخوذ في مدلول اسم الجنس ، ان يكون اسم

٥٤٣

الجنس معرفة ، وبهذا يصير اعتراف الجميع ضمنا ، المتقدمين والمتأخرين ، بأنّ أخذ الإطلاق في مدلول اسم الجنس لا يصيّره معرفة بعد رفع إبهامه.

والخلاصة : هي انّ أخذ الإطلاق في مدلول اسم الجنس لا يخرج النكرة عن نكارتها إلى المعرفة ، سواء في علم الجنس أو في اسم الجنس على تقدير صحة أخذه في هذا الأخير ، وقد تقدّم أنّه لا يصح ذلك.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو احتمال أن تكون أعلام الأجناس في بداية نشوئها في اللغة ، قد جعلت أعلاما لحيوانات شخصية معيّنة ، ثم لكونها ذات تقديس خاص في بلد أو عشيرة ، فكانت هذه الأسماء نسبتها إليها نسبة العلم الشخصي إليها ، ولكن بعد أن انتهت ظروف تقديس ذلك الفرد الخاص من هذه الحيوانات ، بقي هذا الاسم مشيرا إلى نوع ذلك الحيوان وماهيته ، مع احتفاظه بعلميّته ، فالعلمية التي كان قد اكتسبها من خلال جعله اسما شخصيا ما زالت باعتبار عدم زوال الخصائص اللغوية بسرعة.

وهذا أمر محتمل ، وإن كان يبعده أمران.

الأمر الأول : هو انّ أعلام الأجناس هذه لم تختص بخصوص الحيوانات التي كان لها هذه القدسية ، بل هناك حيوانات نكرة في نفسها ، ومع هذا فإنّ لها علم جنس في اللغة ، مع ما لها من الخسّة والنكارة.

الأمر الثاني : هو انّ هذه الأعلام ألفاظ عربية ، ولم يعهد مرور العرب بمثل هذا النوع من الانحراف الديني ـ «عبادة الحيوان» ـ كما في غيرهم من الأمم.

وبهذا تمّ بحث المطلق.

٥٤٤

بحث المقيّد

وهذا البحث يراد فيه تنقيح انّه متى يحمل المطلق على المقيّد ، وكيفية تقييد المطلق بالمقيّد ، وهو بحث أنسب به أن يكون من أبحاث التعادل والتراجيح ، لكنه ذكر هنا بحسب الفهرسة المتعارفة.

ومجمل الكلام فيه هو ، انّ ما يراد جعله مقيّدا ، تارة يكون متصلا ، وأخرى يكون منفصلا ، فالكلام في مقامين.

١ ـ المقام الأول :

هو ما لو كان المقيّد متصلا ، وهو على أقسام.

أ ـ القسم الأول : هو أن يكون ما يراد جعله قيدا ، مذكورا في نفس الجملة الأولى بنحو التقييد كما لو قال : «أعتق رقبة مؤمنة» ، ولا إشكال في لزوم التقييد في هذا القسم ، إذ لا يوجد هنا مطلق كي يحمل عليه القيد ، لأنّ المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة منهدمة ، فالإطلاق غير تام.

ب ـ القسم الثاني : أن يكون ما يراد جعله قيدا ، مذكورا في جملة ثانية ، مع كون الحكم المذكور فيها منصبا على التقييد ، أمرا كان الحكم أو نهيا ، لا على المقيّد ، كما لو قال : «أعتق رقبة ولتكن الرقبة مؤمنة» ، أو ، «لا تكن الرقبة كافرة» ، بحيث انّ الأمر أو النهي تعلّق بقيد الرقبة لا بالرقبة المقيّدة ، فالحكم هنا منصب على التقيّد ، وفي مثله لا ينبغي الإشكال في لزوم التقييد وعدم تمامية الإطلاق ، لأنّ الأمر ظاهر في الشرطية ، والنهي في

٥٤٥

المانعية ، ودليل الشرطيّة والمانعيّة حاكم على دليل المشروط والممنوع ، وعليه : فلا إشكال في لزوم التقييد.

ج ـ القسم الثالث : هو أن يكون ما يراد جعله قيدا ، مذكورا في جملة ثانية مستقلة ، ويكون نهيا عن المقيّد ، لا عن التقييد ، كما لو قال : «أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة» ، وحينئذ ، فإن استظهرنا من لسان الحديث والخصوصيات انّ هذا النهي إرشاد إلى المانعيّة ، فلا إشكال في كون حكمه كالسابق ، في لزوم الحمل على التقييد ، وعدم انعقاد الإطلاق.

وإن لم نستظهر انّ النهي إرشادي ، لكن احتملنا انّه إرشاديّ ، فأيضا لا ينعقد الإطلاق لأنّه لم نحرز عدم التقييد ، باعتبار احتمال كونه إرشادا إلى المانعية ، وهذا معناه ، احتمال عدم تماميّة مقدمات الحكمة. ومعناه : إنّه لا إطلاق.

وإن فرض انّه لم يستظهر ذلك ولو احتمالا ، وإنّما استظهر انّ النهي نفسي ، فحينئذ ، إن بني على جواز اجتماع الأمر والنهي حتى في أمثال المقام ، فلا تعارض بين الجملة الأولى والثانية كي يحمل المطلق على المقيد ، بل يعمل بالمطلق والمقيّد ، وإن بني على امتناع اجتماع الأمر والنهي مطلقا حتى في مثل المقام ، فحينئذ ، إن فرض انّ هذا الامتناع كان أمرا بديهيا عرفا ، فهذا معناه : انّ هذين الخطابين متعارضين من قبيل المتعارضين المتصلين ، لأنّ تعارضهما ببرهان استحالة الاجتماع أمر واضح ، فكأنّهما متناقضان ، وحينئذ يقال : بأنّه يحمل المطلق على المقيد ، أي انّنا نحمل الكلام على التقييد ، بمعنى انّ مقدمات الحكمة لا تجري في المقام ، فلا ينعقد الإطلاق ، باعتبار انّ هذا اللسان يدلّ بالدلالة الالتزامية العرفيّة على عدم شمول الوجوب لهذه الحصة ، وإن فرض انّ برهان الامتناع لم يكن أمرا عرفيا ، بل عقليا نظريا ، إذن فلا تعارض متصل بين الخطابين ، وتكون قرينيّة قوله : «لا تعتق رقبة كافرة» من قبيل قرينيّة المقيّد المنفصل ، كما سيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.

٥٤٦

د ـ القسم الرابع : أن يكون ما يراد جعله قيدا مذكورا في جملة ثانية وكان الحكم فيها متعلقا بالمقيّد مع كونه أمرا كما في : «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» ، وهنا : تارة يفرض استظهار وحدة الحكم المجعول في كلتا الجملتين في نفس الكلام ، وأخرى ، يستظهر تعدّد الحكم ، وثالثة ، لا يستظهر شيء من ذلك في أحد الأمرين من نفس الكلام.

وحينئذ ، فإن استظهر وحدة الحكم ، فلا إشكال في التقييد ، وذلك لاستحالة كون الحكم الواحد مطلقا تارة ، ومقيدا أخرى.

وإن استظهر تعدّد الحكم بقرينة «ما» ، حينئذ ، فلا تعارض أصلا بين المطلق والمقيّد ، ومعه ، فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد ، إلّا إذا ثبت بدليل خارجي وحدة الحكم بنحو غلب على ذلك الاستظهار بالتعدّد ، حيث يصبح حكمه حكم المقيّد المنفصل.

وإن لم يستظهر أيّا منهما من ناحية نفس الكلام ، فقد يتوهم حينئذ ، انّ مقتضى القاعدة هو العمل بالمطلق والمقيّد معا ، لأنّه ما دام لم يعلم بوحدة الحكم ولم يحرز التعارض بينهما ، إذن لم يحرز التقييد ، وما لم يحرز التقييد لا ترفع اليد عن الدليل ، إذن ، فنعمل بهما ، ونثبت في طول العمل بهما تعدّد الحكم.

ولكن هذا التوهّم فاسد ، وذلك ، لأنّه إذا كانت الجملة الثانية ـ «أعتق رقبة مؤمنة» ـ مجملة باعتبار انّها مردّدة بين كونها معبّرة عن نفس الحكم ، وبين كونها معبرة عن حكم آخر ، إذن ، فتكون ممّا يحتمل قرينيّته ، ومع احتمال قرينيّتها على التقييد ، إذن ، لم نحرز المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة ، ومعه ، لا يتم الإطلاق في الجملة الأولى ، وقد أوضحنا سابقا أنّ المقصود من بيان القيد ـ الذي عدمه ، يمثل المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة ـ هو عدم إبرازه في قالب قابل لئن يبرز به ، وهذا المعنى من البيان محتمل الوقوع من المولى في هذا الكلام ، وحينئذ ، فلا تجري مقدمات الحكمة ولا يمكن التمسك بإطلاق الجملة الأولى.

٥٤٧

وفي كل هذه الأقسام التي ذكرناها وثبت فيها لزوم تقييد المطلق بالمقيد وتقديم المقيّد ، يسقط الظهور الإطلاقي فيها تخصصا واقتضاء لا تخصيصا ، لا مزاحمة ، بمعنى انّ الظهور الإطلاقي لا مقتضي له ، لا انه له مقتضي ويسقط عن الحجية لأجل التعارض بينه وبين دليل آخر مقدّم عليه ، وذلك لما أشرنا إليه في مقدمات الحكمة ، من انّ الإطلاق نتيجة لمقدمات الحكمة ، وإحدى مقدمات الحكمة هي عدم بيان القيد ، إذن فكل ما يصلح أن يكون بيانا للقيد يرفع موضوع الإطلاق ، فلا يبقى ظهور إطلاقي اقتضاء وملاكا ، وهذا معنى انّ الظهور الإطلاقي يسقط تخصصا.

وسقوط الإطلاق اقتضاء وذاتا أمر تشترك فيه جميع الأقسام السابقة ، ولكن تختلف في أمر ، وهو انّ بعضها تارة يدلّ بنفسه على هذا التخصص وارتفاع أصل مقتضي الإطلاق دون حاجة إلى ضمّ مصادرة ، وتارة أخرى ، يحتاج بعضها الآخر إلى ضمّ مصادرة خارجيّة حيث انّه لا يدلّ بنفسه على سقوط الإطلاق كما في الشقّ الأول ، فمثلا : في القسم الأوّل منها ـ وهو ما إذا ذكر القيد في الجملة الأولى بلسان «أعتق رقبة مؤمنة» ـ فهنا : انهدام مقدمات الحكمة بالقيد المذكور في الكلام ، وسقوط الإطلاق بذلك ، لا يحتاج إلى دعوى مصادرة إضافة إلى ما ذكرناه ، إذ هذا ممّا يبرهن عليه نفس مقدمات الحكمة بصيغتها السابقة ، لأنّ الإطلاق مرهون بعدم بيان القيد ، وقد بيّنه ، فارتفع مقتضي الإطلاق.

وأمّا في الأقسام الباقية ، فإن بني في المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة على انّ المقصود من عدم بيان القيد ، هو عدم الإتيان بمطلق «ما» يصلح أن يكون بيانا للقيد ، إذن ، فهنا لا نحتاج إلى مصادرة إضافية ، لأنّه في جميع الأقسام الثلاثة إنّما حكمنا بحمل المطلق على المقيّد ، لأنّ القيد قد بيّن بلسان ، «ما» ، فصار الكلام دالّا على القيد بهذا المقدار ، وهو يكفي في عدم تماميّة مقدمات الحكمة ومن ثمّ سقوط الإطلاق.

وأمّا إذا بنينا هناك على انّ المقصود من عدم بيان القيد في المقدمة

٥٤٨

الثانية هو ، عدم بيان القيد بنحو لو كان في مقابله عام لقيّده ، أي عدم بيان بلسان القرينية ، فحينئذ ، عدم تمامية مقدمات الحكمة ، وانهدام الإطلاق الحكمي ، والتخصص فيه ، يكون موقوفا على مصادرة في المرتبة السابقة ، وهي ان يثبت انّ طرز بيان القيد كان بلسان القرينيّة ، إمّا القرينيّة بمعنى الحكومة ، كما هي الحال في القسم الثاني من الأقسام الأربعة لكون دليل التقييد ناظرا إلى المطلق ، وإمّا بنحو القرينيّة النوعيّة ، كالأخصيّة ، لكي يحرز بذلك انثلام مقدمات الحكمة ، كما في القسمين الأخيرين الثالث والرابع.

والخلاصة : هي ، انّه في الأقسام الثلاثة الأخيرة ، أيضا الإطلاق منهدم وساقط تخصصا ، لكن يحتاج في إثبات انهدامه إلى فرض مصادرة وهي ، إثبات القرينيّة.

ثم إنّ هذا المقيّد قد يفرض انّه يتدخل في إثبات مفاده إطلاق من الإطلاقات ، بحيث انّه لو لا ذلك الإطلاق لم يكن موجب للتقييد أصلا ، كما لو قال : «لا يجب عتق الرقبة» ، و «أعتق رقبة مؤمنة» ، فإنّ قوله : «أعتق رقبة مؤمنة» مقيّد لقوله : «لا يجب عتق الرقبة» ، لكن هذا التقييد فرع ان نستفيد الوجوب من ظهور هيئة أعتق ، أي صيغة الأمر.

وأمّا لو كان مفاد هيئة الأمر هو الاستحباب ، لما كان هناك منافاة بين الجملتين ، «لا يجب ... وأعتق» ، وحينئذ ، إن قيل إنّ هيئة «أعتق» تدلّ على الوجوب بالإطلاق ، لا بالظهور ولا بالوضع ، إذن حينئذ لا يصير هذا المقيّد مقيدا إلّا بضم هذا الإطلاق ، وهذا يعني ، انّا نحتاج في انهدام الظهور الإطلاقي وسقوطه تخصصا في قوله : «لا يجب عتق الرقبة» إلى مصادرة على كل حال ، وهي إثبات كون صيغة «افعل» ظاهرة في الوجوب ، سواء بنينا في المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة ، على انّ عدم البيان ، بمعنى عدم الإتيان بمطلق «ما» يكون صالحا بيانا للقيد ، أو بمعنى عدم بيان القيد بنحو القرينيّة ، إذ لو لا هذه المصادرة لصحّ لقائل أن يقول : إنّ هنا إطلاق في قبال إطلاق ، لأنّ قوله : «لا يجب عتق الرقبة» يشمل المؤمنة بالإطلاق ، وقوله : «أعتق رقبة

٥٤٩

مؤمنة» ، يدلّ على الوجوب بالإطلاق ، ولا مرجح لأحد الإطلاقين على الآخر ، لكن مع هذه المصادرة نقول : إنّ هذا الإطلاق الذي نحتاج إليه لإثبات الوجوب في ، «أعتق رقبة مؤمنة» ، يصلح للقرينيّة ، لأنّ موضوعه أخصّ من موضوع ذاك ، والأخصيّة في الموضوع ميزان عرفي للقرينيّة ، وحينئذ نقول : إنّ الإطلاق الحكمي في ، «لا يجب عتق الرقبة» قد انهدم رأسا ، لأنّه فرع عدم بيان ما يكون بيانا للقيد ، والمفروض انّ قوله : «أعتق الرقبة المؤمنة» بيان للقيد ، بينما العكس ليس بصحيح ، لأنّ القرينة تصلح بيانا لذي القرينة ، بينما ذو القرينة لا يكون بيانا للقرينة ، هذا حاصل الكلام في المقيّد المتصل.

٢ ـ المقام الثاني : وهو ما لو كان المقيّد منفصلا.

فنقول : إذا ورد مطلق ومقيّد منفصل ، فإن لم يكن بينهما تعارض وتنافي فنعمل بهما ، إذ لا موجب لحمل أحدهما على الآخر.

وإن كان بينهما تعارض وتنافي ، فلا بدّ من علاجه ، والجمع العرفي في مقام العلاج يقتضي حمل المطلق على المقيّد ، هذا حال الفتوى والدعوى.

وتحقيق هذه الدعوى يكون في مقامين.

١ ـ المقام الأول : في انّه متى يكون بين المطلق والمقيّد المنفصل تعارض ، ومتى لا يكون؟

٢ ـ المقام الثاني : هو انّه إذا فرض وجود تعارض بينهما ، هل يحمل المطلق على المقيّد أم لا؟.

أمّا المقام الأول : فيوجد فيه صور عديدة.

الصورة الأولى : هو ان يفرض انّ المقيّد المنفصل يكون ناظرا إلى المطلق وشارحا له ، وفي مثله ، يكون معارضا للمطلق ، إذ يكون حال المقيّد حال أدلة الشرطيّة والمانعية ونحوها ، إذ لا يعقل إبقاء المطلق على إطلاقه مع إبقاء شرح المقيّد على حاله ، بل لا بدّ من تقديم أحدهما على الآخر ، كتقديم أدلة المانعيّة والشرطيّة.

٥٥٠

الصورة الثانية : هي ان لا يكون هناك نظر وشرح ، لكن المقيّد مخالفا للمطلق في السلب والإيجاب ، كما لو قال : «أكرم كل عالم» ، والمقيّد يقول : «لا يجب إكرام العلماء النحويين» ، ولا إشكال حينئذ في المعارضة بينهما أيضا ، إمّا بلا حاجة إلى ضمّ استحالة اجتماع الأمر والنهي ، وإمّا مع ضمّها.

الصورة الثالثة : هي أن لا يكون المقيّد ناظرا إلى المطلق وشارحا له ، وغير مخالف له في السلب والإيجاب ، وحينئذ ، هذه الصورة فيها فروض.

الفرض الأول : هو ان يكون كل من المطلق والمقيّد شموليا سالبا ، كما لو قال : «لا يجب إكرام العالم» ، ثم قال : «لا يجب إكرام العالم العادل» ، فهنا لا تعارض ولا منافاة بينهما ، لأنّ الأول يلائم الثاني.

الفرض الثاني : هو ان يكون كلاهما شموليا ومثبتا ، كما لو قال : «أكرم العالم» ، وورد ، «أكرم العالم العادل» ، وهنا إن لم نقل بمفهوم الوصف ، إذن فلا تعارض بينهما ، وأمّا إذا قلنا بمفهوم الوصف ولو بنحو الموجبة الجزئية ، فهذا يدلّ على انّ العالم على الإطلاق ليس موضوعا للحكم ، وإلّا كان أخذه مستدركا ، وحينئذ يقع التعارض بينهما.

الفرض الثالث : هو أن يكون كل من المطلق والمقيّد غير شموليين ، بل بدليّين ، كما لو قال : «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» ، فهنا : إن أحرزنا وحدة الحكم ، فلا إشكال في التعارض بينهما ، لأنّ الحكم الواحد لا يمكن أن يكون مطلقا ومقيدا ، وإن لم نحرز وحدة الحكم ، فلا موجب للتعارض بينهما ، وهذا كلّه لا إشكال فيه ، ولكن وقع النزاع والكلام في انّه كيف تحرز وحدة الحكم؟.

ذهب المشهور ووافقهم صاحب الكفاية (قده) إلى انّه لا يمكن إحراز وحدة الحكم من نفس المطلق والمقيّد ، وإنّما يمكن ذلك بواسطة دليل من الخارج ، كالإجماع ونحوه ، وعليه : فإذا ورد مطلق ومقيّد كذلك ، ولم يقم دليل من الخارج على وحدة الحكم فيهما ، فإنّه حينئذ نعمل بهما معا ولا تعارض بينهما.

٥٥١

وقد خالف في ذلك المحقق النائيني (قده) ، فذهب إلى انّه يمكن إحراز وحدة الحكم من نفس المطلق والمقيّد ، ببرهان انه لو ورد حكمان تعلّق أحدهما بعتق طبيعي الرقبة ، وتعلّق الآخر بعتق الرقبة المؤمنة ، لكان نتيجة ذلك حينئذ التخيير بين الأقل والأكثر ، لأنّه إمّا أن يعتق رقبة مؤمنة من أول الأمر ولا شيء عليه ، وإمّا أن يختار الرقبة الكافرة أولا ، وحينئذ ، يجب عليه عتق الرقبة المؤمنة بعد ذلك ، فأمره دائر بين عتق رقبة مؤمنة فقط ، أو عتق رقبتين ، كافرة ، ومؤمنة ، والتخيير بينهما كذلك بلا عناية ، محال ، ومع العناية ، وهو أخذ الأقل بشرط لا ، خلاف ظاهر الدليل ، وهو باطل إمّا ثبوتا ، وإمّا إثباتا ، وحيث يبطل تعدّد الحكم يثبت وحدته.

وهذا الوجه غير تام : وذلك لأنّ التخيير بين الأقل والأكثر الذي يقول بلزومه الميرزا (قده) في تعدّد الحكم فيهما ، إن كان يريد به التخيير في عالم الحكم والجعل ، يعني وجود وجوب تخييري واحد متعلّق بالجامع بين الأقل والأكثر فهو غير صحيح ، لأنّا نقول بوجود وجوبين في عالم الجعل ، أحدهما متعلّق بالأكثر ، والآخر متعلّق بالحصة الخاصة.

وإن كان يريد به التخيير في عالم الامتثال بين الوجوبين وبحسب النتيجة العملية ، فهذا صحيح ، ولكن لا يلزم منه محذور ثبوتي ولا إثباتي.

أمّا عدم لزوم الأول ، فلأنّ الجعل تعيّن على كل حال في كل منهما ، فلا يلزم التخيير في عالم الجعل بين الأقل والأكثر.

وأمّا عدم لزوم الثاني : فلأنّ هذا التخيير شأن من شئون الامتثال ، وليس مفاد الدليل ، إذ مفاد الدليل هو الحكم ، وهو لا تخيير فيه ، وإنّما التخيير في ما هو ليس مفاد للدليل.

وإن شئت قلت : إنّ الذي فيه التخيير ، وهو الامتثال ، ليس مفادا للدليل ، وما هو مفاد للدليل ، وهو الجعل ، ليس فيه تخيير.

وعليه : فالصحيح ما عليه المشهور ممثّلا بصاحب الكفاية (قده).

٥٥٢

٢ ـ المقام الثاني : وهو انّه في حالات تعارض المطلق والمقيّد المنفصل ، ما هي الوظيفة ، وهل نحمل المطلق على المقيّد ، أم لا؟.

وهذا البحث هو ، من أبحاث تعارض الأدلة ، ومحلّه في بحث التعادل والتراجيح ، حيث أنّهم ذكروا هناك قوانين الجمع العرفي ، وذكروا انّ أحدها هو حمل المطلق على المقيّد عند التعارض بينهما.

وحاصل الكلام فيه بشكل يناسب المقام هو ، أن يقال : إنّه عند ما يتعارض المطلق والمقيّد المنفصل ، يكون التعارض في الحقيقة بين ظهور المطلق في الإطلاق ، وظهور للقيد في التقييد.

وحينئذ ، إن بنينا على انّ مقدمات الحكمة ـ التي تنتج الإطلاق ـ منوطة بعدم قيام القرينة على الخلاف ولو منفصلا ، حيث انّ قيام القرينة على التقييد ولو منفصلا يوجب هدم المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة ، وبالتالي هدم الإطلاق ، كما هو مختار الميرزا (قده) ، فحينئذ ، لا نحتاج هنا في مقام تقديم المقيّد على المطلق إلى أيّ برهان إضافي زائدا على أصل مقدمات الحكمة ، لأنّ الإطلاق حينئذ يسقط تخصصا وملاكا ، لأنّ مقدمات الحكمة منوطة بعدم مجيء القيد ولو منفصلا ، وقد جاء ، إذن ، فتقديم المقيد حينئذ يكون على القاعدة.

وإن بنينا على انّ مقدمات الحكمة المنتجة لظهور المطلق في الإطلاق تتم بمجرّد عدم وجود القرينة المتّصلة ، إذن ، يصبح الظهور الإطلاقي فعليا ، والظهور التقييدي فعليا أيضا كما في قوله : «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» ، فإنّه بعد فرض العلم بوحدة الحكم فيهما ، يكون التعارض حينئذ بين ظهورين حاليين فعليّين.

الأول : ظهور حال المتكلّم في انّ تمام ما يرومه يقوله ، وهذا الظهور هو الدالّ على الإطلاق في المطلق.

الثاني : ظهور حال المتكلّم في انّ تمام ما يقوله يريده جدا ، وهذا

٥٥٣

ظهور حالي أيضا دالّ على التقييد في المقيد ، وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن أخذ هذين الظهورين الحاليين ، لأنّه ، إمّا أن نقيّد المطلق ـ وهو «أعتق الرقبة» ـ بالإيمان ، وهذا مرجعه إلى أنّ المولى في المطلق أي ، «أعتق رقبة» لم يقل كلّ ما يرومه ، أي أنّه لم يكن في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، وهذا رفع لليد عن الظهور الأول ، وإمّا ان نعكس ، فنبقي المطلق على حاله ، لكن قيد الإيمان في ، «أعتق رقبة مؤمنة» نحمله على المثاليّة ، وانّه ليس مرادا جدّيا له ، بل مراده الجدي ، عتق اصل الرقبة ، وقد ذكر الإيمان من باب المثال ، وهذا مرجعه إلى انّه لم يرد من قوله : «أعتق رقبة مؤمنة» كل ما قاله ، فنرفع اليد عن الظهور الثاني ، وهذا خلاف الظهور في المقيّد ، وفي مثل ذلك ، نحتاج إلى مصادرة إضافيّة وراء مقدمات الحكمة في مقام ترجيح أحد هذين الظهورين على الآخر.

وهذه المصادرة الإضافية لها حالتان.

الحالة الأولى : هي ان يكون المقيّد ناظرا إلى المطلق ويكون لسانه لسان دليل شرطيّة ، أو مانعيّة ، كما لو قال في دليل منفصل بعد قوله : أعتق رقبة ، و «لتكن الرقبة التي تعتقها مؤمنة» ، فيكون له نظر إلى الظهور الأول ، وفي مثله ، المصادرة التي نحتاجها في المقام هي نظرية الحكومة والتي مفادها : انّ كل متكلّم بكلامين أحدهما مفسّر للمراد من الآخر ، يكون قرينة عليه ، ويسمّى حاكما ، والآخر محكوما ، ومع وجود هذه المصادرة يتقدّم دليل المقيّد على المطلق باعتبار الحكومة ، فإنّ الدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم ، كما هو مفصّل في محلّه.

٢ ـ الحالة الثانية : هي ان يفرض انّ هذا المقيّد ليس ناظرا إلى المطلق ، بل كان كلّ منهما كلاما مستقلا كما لو قال : «أعتق رقبة» ، وقال : «أعتق رقبة مؤمنة» ، وعلمنا بوحدة الحكم فيهما ، ففي مثله : لا يكون المقيّد حاكما على المطلق ، لأنّه ليس ناظرا إلى تفسير المراد من الكلام الذي يشتمل على المطلق ، وإنّما هو بيان في نفسه ، سواء جاء مطلقا أم لا ، إذن فمصادرة

٥٥٤

الحكومة هنا لا تكفي ، بل نحتاج إلى مصادرة أخرى غير الحكومة ، وهذه المصادرة يمكن صياغتها بوجوه.

الوجه الأول : هو ان يدّعى بأنّ الحجيّة التي هي حكم مجعول على الظهور من العقلاء ، مشروط بعدم معارضته بظهور أقوى منه ، وإلّا سقط عن الحجيّة ، وهذه كبرى ، ثم ندّعي انّ المقيّد أقوى ظهورا من المطلق ، لأنّهما وإن كان مرجع الظهور في «أعتق رقبة» ، وأعتق رقبة مؤمنة» إلى ظهور حالي سياقي فيهما معا ، لكن من الواضح انّ ظهور حال المتكلّم في انّ ما يقوله يريده أوضح من ظهور حاله في انّ ما يسكت عنه لا يريده ، إذن فيقدم ظهور المقيد بالأظهرية.

الوجه الثاني : هو ان يقال : بأنّ حجيّة الظهور مشروطة بعدم كونه معارضا بما يصلح للقرينيّة عليه ، والمقصود من القرينيّة هو ما يجعله العرف والعقلاء مفسّرا في الكلامين ، فإنّه إذا تعارض كلامان لمتكلّم واحد ولم يحتمل في حقّه الخطأ ، فإنّ للعرف موازين في جعل أحد الكلامين مفسّرا للآخر ، وحينئذ ، ما ينطبق عليه هذه الموازين يسمّى قرينة ، وما لا ينطبق عليه يسمّى بذي القرينة ، هذا هو الوجه ، ثم ندّعي انّ الأظهرية أحد الموازين العرفية للقرينة ، فإنّ العرف يعتبر انّ الأظهر مفسّر للمراد من الظاهر ، فهو قرينة عليه.

وبناء عليه يقال : بأنّ المقيّد أظهر من المطلق فيقدم عليه ، لأنّ الأظهريّة قرينة على جعل الأظهر مفسّرا للظاهر ، وهكذا نكمل دعوانا بالأظهريّة ونصل إلى نفس النتيجة مع فارق في الصياغة.

٣ ـ الوجه الثالث : هو ان نتحفظ على المصادرة الكبرويّة في الصياغة الثانية ، بمعنى انّ حجيّة كل ظهور مشروطة بعدم معارضته بظهور أقوى منه.

لكن هنا ، نفسّر المقيّد ، أي القرينة ، بالأخصيّة في الموضوع ، فنجعل الأخص موضوعا من الكلامين قرينة على المراد من الكلام الآخر الذي هو أعمّ موضوعا ، لأنّ أحد الموازين العرفيّة النوعيّة في مقام جعل كلام مفسّرا لكلام هو ،

٥٥٥

أن يكون هذا الكلام أخصّ موضوعا من الآخر ، وحينئذ يقدّم المقيّد هنا على المطلق مطلقا ، لأنّه أخصّ موضوعا ، فيكون قرينة على المراد منه.

وفرق هذا الوجه عن سابقيه ، الأول والثاني هو ، انّ هذا الوجه الثالث لا يحتاج إلى دعوى الأظهرية ، بل يكتفي بالقرينة ، والمقيّد هنا حينئذ هو القرينة ، ليس لكونه أظهر ، بل لأنّه أخصّ موضوعا ، فيقدّم على المطلق مطلقا ، لأنّ الأخصيّة في المقيّد محفوظة دائما.

وهذا بخلاف ما لو بنينا على الوجه الأول أو الثاني ، وقلنا : إنّ الميزان هو الأظهريّة ، فإنّ الأظهريّة في أحد الدليلين حينئذ تحتاج إلى إثبات ، ومن هنا ، قد يتفق في بعض الحالات أن لا يكون المقيّد أظهر ، بل يكون مكافئا ، أو يكون المطلق أظهر منه ، مضافا إلى أنه قد يتدخل في إثبات مفاد المقيّد أحيانا ، إطلاق ومقدمات حكمة ، فيكون الظهور في المقيّد حينئذ مساويا للظهور في المطلق ، لأنّ كلّا منهما ثبت بمقدمات الحكمة مساوية مع مقدمات حكمة في الآخر كما عرفت ، ومعه لا يبقى أظهريّة لأحدهما على الآخر ، بينما بناء على الوجه الثالث ، يتقدّم المقيّد على المطلق ، لأنّ ميزان التقديم هو القرينيّة ، وميزان القرينية هو الأخصيّة موضوعا لا الأظهريّة ، والأخصيّة هذه محفوظة في المقام بخلاف الأظهرية ، حيث لا يمكن التقديم حينئذ ، ومن ثمّ لا يمكن الجمع العرفي بهذا الطريق ، فلا بدّ من التفتيش عن حلّ آخر للتوفيق بين المطلق والمقيد ، أو للقول بالتعارض عند عدم وجود ما يمكن معه الجمع.

وهذا الوجه الثالث ، هو المسمّى بمسلك القرينيّة ، وهو مختار الميرزا (قده) ، بينما اختار أحد الوجهين السابقين المحقق صاحب الكفاية (قده).

والصحيح هو ما اختاره الميرزا (قده) ، وتحقيق الحال في هذا الوجه موكول إلى بحث تعارض الأدلّة ، أي بحث التعادل والتراجيح.

وبهذا تمّ الكلام في بحث المطلق والمقيّد.

٥٥٦

المجمل والمبيّن

وفي هذا البحث يوجد بحث واحد مهم لا بدّ من تحقيقه ، إذ يجب على الأصولي أن يعطي ضابطة كليّة ، وهي انّه متى ما ورد دليلان أحدهما مجمل والآخر مبيّن ، فما هو الميزان في رفع إجمال المجمل ببيان المبين ، وما هي الطرق الصحيحة لبيان ذلك ، وهذه الجهة قد أغفلها الأصوليون ولم يتعرضوا لها ، وإنّما بحثوا عن أمور لا علاقة لها بعمل الأصولي ، وإنّما هي من عمل الفقيه ، كالبحث في انّ هذا مجمل ، وذاك مبيّن كما بحثوا في انّ اللفظ الفلاني مجمل أو مبيّن الذي هو من عمل اللغوي.

وعليه نقول : إنّه إذا كان لدينا دليل مجمل فكيف يمكن رفع إجماله وجعله مبيّنا بلحاظ ضمّ دليل آخر مبيّن في نفسه؟

ومقصودنا من المجمل هو الدليل الذي ليس له معنى ظاهر يمكن العمل به.

والدليل المجمل بهذا المعنى على قسمين.

أ ـ القسم الأول : هو أن يكون هذا الدليل المجمل مجمل بالذات ، بمعنى انّه ليس به معنى ظاهر في نفسه بالنسبة إلينا ، من قبيل كلمة «رطل» ، الواردة في بعض الأدلّة ، فإنّها كلمة مردّد مفادها بين الرطل العراقي والمكي والمدني.

ب ـ القسم الثاني : هو أن يكون مجملا بالعرض ، وهو ما كان له معنى

٥٥٧

ظاهر في نفسه ، لكن ثبت بدليل انّ ذاك المعنى الظاهر غير مراد منه واقعا ، وحينئذ ، يتعذّر العمل بمعناه الظاهر ، فيصبح بذلك مجملا بالعرض.

أمّا القسم الأول : وهو المجمل بالذات ، الذي نحتاج لرفع إجماله إلى ضمّ دليل آخر إليه فهو ، على نوعين.

١ ـ النوع الأول : هو أن يكون عندنا دليل مجمل بالذات ، ودليل آخر مبين بالذات ، ونريد رفع إجمال المجمل ، ببيان المبين ، كما لو ورد في رواية انّ «الكر ، ستمائة (١) رطل» ، من دون تعيين أنّه بالمكي الذي هو ضعفه أو العراقي أو المدني ، ثم ورد في رواية أخرى ، أنّ «الكر ألف ومائتا (٢) رطل بالمكي» ، فهو مبيّن ؛ وذاك مجمل بالذات ، وحينئذ ، يبحث في إمكان رفع إجمال الأول المجمل ، ببيان الثاني المبيّن.

٢ ـ النوع الثاني : هو أن يكون كلا الدليلين مجملا في نفسه ، وحينئذ يقع الكلام في أنّه يضم مجمل إلى مجمل هل يمكن رفع إجمال كل منهما بالآخر أم لا؟ كما لو ورد ، انّ الكر ستمائة رطل ، وورد في آخر ، انّ الكر ألف ومائتا رطل ، فكلاهما مجمل من حيث المكية ، والعراقية ، والمدنية.

أمّا النوع الأول ، فله صورتان.

١ ـ الصورة الأولى : هي ان يفرض انّ الدليل المجمل كان مفاده الجامع بين الأمرين المردد بينهما دون أن يكون متعرضا إلى أيّ خصوصية ، بينما كان مفاد الدليل الآخر المبيّن متعرضا للخصوصية التي تعيّن أحد الأمرين ، ومثال الأول ، ما لو ورد دليل يقول : صلاة اللّيل مطلوبة ، من دون أن يعيّن انّ طلبها وجوبي أو استحبابي ، وهذا مجمل يثبت الجامع بين الوجوب والاستحباب دون أن يعيّن أحد الفردين ، إذ لا دليل على إثبات أحدهما أو نفيه ليثبت الآخر ، وفي هذه الصورة لا إشكال في جواز رفع

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ج ١ ـ م ١ ـ ص ١٢٤ ـ حديث ٢ ـ ٣.

(٢) وسائل الشيعة ـ ج ١ ـ م ١ ـ ص ١٢٣ ـ حديث ١.

٥٥٨

إجمال الدليل المجمل ببيان الدليل المبيّن ، وذلك لأنّ هذا الدليل المجمل يثبت الجامع ، وهذا الجامع يشكل لنا ما يشبه العلم الإجمالي بمطلوبية صلاة الليل ، والدليل المبيّن يثبت إمّا بالدلالة المطابقية كما لو كان نظره إثبات أحد الفردين ، أو بالدلالة الالتزامية ، إذا كان نظره متعرّضا لنفي أحدهما ، فيثبت مع ضمه لهذا تطبيق الجامع على الحصة الأخرى ، أي على مصداقه المطلوب ، وهو الخصوصية.

٢ ـ الصورة الثانية : هي ان يفرض كون مفاد الدليل إحدى الحصتين بخصوصها ، لكن نحن لم نشخص المراد منه بعينه كما في مثال : «الكر ستمائة رطل» ، الوارد في رواية (١) محمّد بن مسلم ، فإنّ كلمة رطل هنا مجملة ، وإجمال رطل ليس منشؤه انّها مستعملة في جامع الرطل لأنّ الجامع ليس مدلولا كما في الصورة الأولى ، بل منشؤه عدم العلم بأي رطل أريد حيث أنّ الرطل ، منه المدني ، ومنه المكّي ومنه العراقي ، فالتردد هنا في المعنى المراد ، لا في مصداق المعنى المراد كما في الصورة الأولى ، وحينئذ ، لو ورد في دليل آخر أنّ الكر ألف ومائتا رطل بالعراقي الذي هو نصف المكّي ، حينئذ يقع الكلام في أنّه هل يمكن رفع إجمال ذلك الدليل المجمل ببيان هذا المبيّن ونستكشف أنّ المقصود بالرطل في الرواية القائلة بأنّه ستمائة رطل ، انّه رطل المكي بقرينة الرواية الأخرى التي تصرّح أنّه ألف ومائتا رطل بالعراقي؟

وهنا تارة ، يفرض أنّ اصالة الجهة في صحيحة محمّد بن مسلم ـ الرواية الأولى المجملة القائلة بأنّ الكر ستمائة رطل ـ قطعيّة ، بمعنى أننا لا نحتمل أن يكون ذلك الكلام المجمل قد صدر عن المعصوم تقيّة ، بل هو كلام جدّي أريد منه معناه جدا.

وأخرى ، نحتمل أنّه قد صدر تقيّة.

__________________

(١) الوسائل ـ ج ١ ـ م ١ ـ ص ١٢٤ ـ ح ٢.

٥٥٩

فإن كان الأول ، أي كون اصالة الجهة قطعية ، ففي مثله يحمل المجمل على المبين ، ويتعيّن المراد من الدليل المجمل ، وانّ الرطل قصد منه المكّي ، وذلك لأننا نقول ـ بعد فرض قطعيّة اصالة الجهة ـ : إنّ هذا الدليل المجمل ـ الذي يقول : إنّ الكرّ ستمائة رطل ـ فيه عدّة احتمالات.

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن لا يكون قد صدر عن المعصوم.

وهذا الاحتمال خلاف دليل الحجية إن كان ظنّي السند ، وخلاف القطع بصدوره إن كان قطعي السند.

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون صادرا عن المعصوم ، ولكن أريد منه جدا الرطل العراقي.

وهذا غير محتمل ، باعتبار أنّه خلاف الدليل المبين القائل بأنّ الكرّ ألف ومائتا رطل بالعراقي ، فلا يمكن معه أن يراد من الستمائة رطل ، العراقي أيضا ، لأنّ المبيّن ينفيه.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يكون المراد منه ستمائة رطل بالعراقي ، لكنه لم يذكر العراقي تقيّة.

وهذا خلاف الفرض ، حيث أنّ المفروض ، القطع باصالة الجهة.

وهذه الاحتمالات كلّها ساقطة ، فيتعيّن الاحتمال الرابع.

٤ ـ الاحتمال الرابع : هو أن يكون المراد منه ستمائة رطل بغير العراقي.

وهذا معناه رفع إجمال المجمل بذلك المبيّن.

وإن كان الثاني : أي انّه يحتمل أن يكون قد صدر الكلام من المعصوم تقيّة ، وإنّما هي على خلاف الاصل العقلائي الذي هو اصالة الجد.

ولكن في مثله يمكن القول كصيغة بدويّة للمطلب ، انّه يمكن رفع إجمال المجمل ببيان المبيّن ، بنفس الاحتمالات الأربعة المذكورة ، حيث أنّنا

٥٦٠