بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

والإثبات إنّما يلحظ بالنسبة إلى تمام مقام الإثبات ، أي تمام الوحدة الكلاميّة ، وليس بالنسبة إلى كلّ جزء جزء ، فحينما يأتي في أثناء الكلام ظهور متصل ، كالمخصّص المتصل ، لا يبقى حينئذ ظهور تصديقي حالي في أنه يريد العموم ، وبهذا يكون رافعا للظهور يقينا ، وحينئذ ، لو فرض انّه أراد الخصوص ، لكان هناك تطابق إذن ، بين مقام إثباته وثبوته.

ونفس هذا الملاك ، قد يجري مع الشك في ارتفاع الظهور ، وذلك في موارد إجمال المخصص ، كما لو ورد ، «أكرم كلّ فقير» ، و «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، وتردّد أمر الفاسق بين مرتكب الصغيرة أو هو مع الكبيرة أيضا ، أي تردد أمر الفاسق بين الأقل والأكثر ، فحينئذ ، هنا ، بالنسبة لفاعل الصغيرة ، لا يمكن التمسك بالعام ، وذلك لأنّ العام هنا قد اقترن بما يصلح للقرينيّة ، ولهذا يصير الكلام مجملا ، لأنّ ظاهر حال المتكلم أن يكون مقام إثباته متطابقا مع مقام ثبوته بحسب الفهم الكامل لقواعد اللغة ، وقد يفرض أنّ إنسانا لا يعلم معنى لفظ «فاسق» لعدم معرفته باللغة.

ونحن وإن كنّا لا نفهم الإطلاق من كلمة «الفاسق» لفاعل الصغيرة ، لكن نحتمل دلالتها على مطلق فاعل الذنب بحسب واقع اللغة ، ومعنى هذا ، إنّنا نحتمل أنّ هذا المتكلم لو كان يريد من الفقراء «الفساق» غير فاعل الذنب مطلقا ، لكان مقام إثباته متطابقا مع مقام ثبوته عند العارف باللغة ، واحتمال ذلك معناه : احتمال أن لا يكون هناك ظهور ، هذا أحد الملاكين في زعزعة الظهور.

وكأنّ نظر الميرزا (قده) إلى خصوص هذا الملاك. وإن لم يبرزه بهذه الصياغة ، وحينئذ نقول : انّ هذا الملاك لا ينطبق على محل الكلام ، أي في مورد العام مع الضمير الراجع إلى بعض أفراده ، لأنّ هذا العام في مقابله يوجد ظهور الضمير في عدم الاستخدام.

وقد فرغنا من عدم كون هذا الظهور حجة ، لأنّ اصالة عدم الاستخدام لا تجري في مثل المقام بحسب الفرض ، لأنّ موردها هو الشك في المراد ، والمراد هنا معلوم ، ومعنى انّه ليس بحجة ، يعني انّ العقلاء لا يعوّلون على هذا الظهور في

٣٦١

مقام التفهيم ، وإلّا لو عوّلوا عليه ، فهذا عبارة أخرى عن انعقاد السيرة على العمل بهذا الظهور ، ومع عدم تعويل العقلاء على هذا الظهور ، لا يكون حينئذ موجبا لإجمال ظهور العام في نفسه ، بدعوى انّ العام لو كان مراد المتكلم البعض منه ، فحينئذ ، لم يتطابق مقام إثباته مع مقام ثبوته.

فإن قيل إنّ هناك ظهور يدل على ذلك ، قلنا : انّ هذا الظهور المدّعى لا يعوّل عليه في مقام الإفهام إثباتا ، والمفروض انّ الظهور ينبغي أن يكون بنحو يعوّل عليه العقلاء ، فلو أراد المتكلم أن يعتذر ويقول : إنني أردت البعض بقرينة الضمير.

قلنا : انّ هذا الضمير لا يصلح للقرينيّة.

وكأنّ الميرزا (قده) على ضوء هذا الكلام ، ناظر إلى حصر الملاك بالأول ، بينما يوجد ملاك ثاني.

٢ ـ الملاك الثاني : هو انّ مجرّد اقتران ظهور العام في العموم ـ الذي هو موضوع الحجية ـ بكشف تصديقي متصل به في الكلام ، معاكس له في المفاد ، وإن لم يكن حجة فإنه موجب لضعف ذلك الكشف وتزلزله تكوينا ، لأنّ كون هذا الكشف ليس بحجة لا يخرج عن كونه كشفا ظنيا دخيلا في تحديد وتركيز ذهن السامع حينما يريد اقتناص المرام من الكلام.

فهذا الكشف ، عدم حجيته شيء ، وكونه مزاحما مع كشف العام ومنافيا له شيء آخر إذ لا ملازمة بينهما ، فيقال : إنّ بناء العقلاء لم ينعقد على حجية ظهور في الكلام ابتلى بظهور آخر متصل في نفس الكلام ومكذّب له ، مثل هذا الظهور لا يكون حجة ، وإن لم يكن الظهور الآخر في نفسه حجة ، لعدم الملازمة بينهما ، فضلا عن انّ دليل حجية ظهور العام في العموم ، لا يشمل ما إذا كان مزاحما مع ما يوجب إجماله ، وإن لم يكن حجة.

وهذا يرجع بحسب الحقيقة ، إلى تضييق في دائرة دليل الحجية ، وعلى هذا الأساس ، يكون موجبا للإجمال.

٣٦٢

هل يخصّص المفهوم عاما إذا تعارضا أم لا؟

وهذه المسألة ، قد تكون إثارتها بسبب شبهة مفادها : إنّ المفهوم أضعف من أن يخصّص عموما ، فإنّ عموم العام منطوق ، والدلالة المفهوميّة أضعف من الدلالة المنطوقية.

وحينئذ ، أجيب على هذه الشبهة ، بأنّ المناط في قوة الدلالة وضعفها ، ليس المنطوقيّة والمفهوميّة ، بل المناط في القوة والضعف ، إمّا الأظهريّة ، وإمّا القرينيّة ، وإمّا الورود ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقد يكون منشأ إثارتها شيء آخر عكس ما ذكر ، وهو انّه إذا تعارض العام مع المفهوم ، فيجب أن نقدم المفهوم ، وإلّا فلو لم نقدم المفهوم ، وعملنا بالعام ، فحينئذ ، هل نعمل بالمنطوق أم لا؟

فإن عملنا به ، فهذا تفكيك بين المتلازمين ، وإن رفعنا اليد عن المنطوق ، فهذا جزاف محض ، وإلغاء للدليل بلا موجب لأنّ المنطوق ليس له دعوى في معارضة العام ، وبهذا نستحصل على صورة برهان على تقديم المفهوم.

وحينئذ ، قد يجاب على هذه الشبهة ، بأنّه إذا وجد ملاك آخر يقتضي تقديم العام والعمل به ، حينئذ ، فلا نعمل ، لا بالمفهوم ، ولا بالمنطوق.

وقولكم بأنّ سقوط المنطوق جزاف بجزاف ، لأنه لا معارض له ، هذا القول هو جزاف في نفسه أيضا ، لأنّ المعارضة تسري لا محالة من المفهوم

٣٦٣

إلى المنطوق ، فإنّ العام ، وإن كان أولا وبالذات يكذّب المفهوم ، إلّا انّ المفهوم لازم للمنطوق ، والنافي للازم ، نافي لملزومه ، وبذلك تسري المعارضة إلى المنطوق.

وعلى كل حال ، فالكلام في هذه المسألة يقع في مقامين.

١ ـ المقام الأول : فيما إذا كان المفهوم ، مفهوم الموافقة.

٢ ـ المقام الثاني : فيما إذا كان المفهوم ، مفهوم المخالفة.

المقام الأول : في مفهوم الموافقة :

ومفهوم الموافقة هو ، عبارة عن استفادة حكم لفرد من حكم فرد آخر ، على أساس القطع بالمساوات بينهما في الحكم ، أو على أساس أولويّة هذا الفرد من ذاك الفرد في الحكم ، ويرجع مفهوم الموافقة إلى مدلول التزامي قائم على أساس الفحوى ، أو المساوات ، أو الأولويّة.

وحينئذ ، هذه الملازمة التي هي أساس مفهوم الموافقة ، تارة يكون ملزومها هو أصل المنطوق ، وأخرى يكون ملزومها هو إطلاق المنطوق.

أو قل : تارة يكون ملزومها أصل المدلول المطابقي للقضيّة المنطوقة بقطع النظر عن إطلاقها ، أصلها يستلزم ثبوت حكم آخر بالفحوى ، أو الأولويّة ، وأخرى ، يفرض أنّ إطلاقها يستلزم ذلك لا أصلها.

وعلى كل من التقديرين ، تارة ، يفرض أنّ التعارض بين العام المفروض في مقابل هذا المنطوق ، وبين المفهوم للقضية المنطوقة ، أي يفرض التعارض مستقلا بلا تعارض آخر بين المنطوقين أنفسهما ، وأخرى يفرض التعارض ، بين المنطوقين أنفسهما ، بقطع النظر عن التعارض بين المفهوم والعام ، فهذه أربع صور.

١ ـ الصورة الأولى : هي أن يكون عندنا عام ، ومنطوق له مفهوم مخالف مع ذلك العام ، وهذا المفهوم لازم لأصل المنطوق ، لا لإطلاقه ،

٣٦٤

ومعنى ذلك ، انّه لو كذب المفهوم كذب أصل المنطوق دون إطلاقه ، لأنه لازم له ، ونفرض انّه لا تعارض بين المنطوقين في غير ناحية المفهوم ، وإنّما التعارض بينهما باعتبار هذا المفهوم.

وفي هذه الصورة ، يقدّم المنطوق الذي له مثل هذا المفهوم ، على العام ، سواء كانت نسبة هذا المفهوم إلى العام نسبة الأخص مطلقا ، أو نسبة الأخص من وجه.

وإنّما يقدّم على العام ، لأنّ المنطوق هنا يكون نصا في المفهوم ، لأنّ المفهوم هنا لازم لأصل المنطوق ، ولا يمكن تقديم العام على المنطوق ، لأنه يلزم من ذلك ، إلغاء المنطوق رأسا ، لأنّ المفروض انّ المفهوم لازم لأصل المنطوق ، كما انّه يلزم هذا المحذور ، حتى لو قدّم العام على بعض أفراده ، وحصص المفهوم.

نعم ، لو فرضنا انّ المفهوم المعارض للعام ، كان مساويا مع العام ، أو أعم منه ، بحيث لو ثبت لألغي العام رأسا ، باعتباره مساويا له ، ويبقى شيء بحكم العدم عرفا ، حينئذ ، في مثل ذلك يقع التعارض بين المنطوق والعام ، وذلك باعتبار انّ المنطوق والعام ، كل منهما يوجب إلغاء الآخر ، فإنّ العمل بالمنطوق ، لازمه العمل بالمفهوم ، والمفروض انّ المفهوم مساوي مع العام أو أعم منه ، فلو قدّمناه على العام في تمام موارده ، لزم إلغاء العام.

كما انّ العمل بالعام ، يلزم منه إلغاء المفهوم ، ومع انّ المفهوم هنا لازم لأصل المنطوق ، فإلغاؤه إلغاء لأصل المنطوق ، فيقع التعارض.

فهنا لا تعارض مستقل بين المنطوقين ، وإنّما يسري التعارض إليهما بلحاظ التعارض بين المفهوم والعام.

٢ ـ الصورة الثانية : هي أن يتعارض ، العام والمفهوم ـ مع كون المفهوم لازم لإطلاق المنطوق لا لأصله ، ولا معارضة بين المنطوقين ـ بقطع النظر عن المعارضة القائمة بين العام والمفهوم ، نعم تسري المعارضة من

٣٦٥

المفهوم والعام إلى المعارضة بين المنطوق والعام ، وذلك للتلازم بين المنطوق والمفهوم ، وهنا في مثل هذين الدليلين ، ينبغي أن نتعامل معهما معاملة العامين من وجه ، وإن لم يكونا عامين من وجه حقيقة ، وذلك لأنهما متباينين منطوقا ، ولا اجتماع لهما في مورد واحد ، فلا تعارض بينهما منطوقا ، لأنّ أحدهما في موضوع غير موضوع الآخر ، فمثلا ، لو ورد : «لا تكرم الفسّاق ، وأكرم الجيران العدول للهاشميين» ، وهذا يحرّم إكرام الفسّاق ، لكن مفهوم الموافقة لهذا هو وجوب إكرام الهاشمي بطريق أولى ، فالمعارضة تنشأ بين العام والمفهوم ، لا المنطوق والعام ، فبين المنطوقين لا توجد نسبة منطقيّة ، لكن يعامل معهما معاملة العامين من وجه حكما لا حقيقة ، وإذا عاملناهما معاملة العامين من وجه ، وقع التعارض بينهما وتساقطا ، من دون أن نلحظ النسبة بين المفهوم والعام ، سواء كان المفهوم أخص أو أعم ، إذ هنا ، لا أخصيّة المفهوم تنفع في تقديمه على العام ، ولا أعميّته تنفع في أن يقدّم العام عليه ، وذلك ، لأنّه إذا فرضنا ان المفهوم كان أخص ، فأخصيّته إنّما تنفع لو ثبت في نفسه ، وثبوته فرع ثبوت إطلاق المنطوق ، وإطلاق المنطوق ، طرف للمعارضة مع العام ، وهما متكافئان بحسب الفرض لا ميزة لأحدهما على الآخر ، فلا موجب لتقديم أحدهما ، وكذلك لو فرض انّ المفهوم كان أعم ، فإنّ أعميّته لا تنفع في تقديم العام عليه باعتبار انه أخص منه ، لأنّ تقديم العام على المفهوم فرع نجاة العام من المعارضة مع إطلاق المنطوق ، والمفروض إنّ العام والمنطوق متكافئان ، فلا موجب لتقديمه على إطلاق المنطوق ، فإنّهما إطلاقان لا يصلح كل منهما أن يكون قرينة على التصرف في الآخر ، وقد علم إجمالا بكذب أحدهما ، فيتعارضان ويتساقطان من هذه الناحية.

ثم انّه ينبغي أن يعرف ، بأنّ مفهوم الموافقة يختلف عن مفهوم المخالفة في كيفيّة الاستفادة من الدليل ، وهذا الاختلاف ، يترتب عليه الاختلاف في علاج المعارضة واتخاذ المواقف.

فمفهوم الموافقة ، عبارة عن وجود أو ثبوت حكم يكون من لوازم

٣٦٦

الحكم المذكور في المنطوق ، بحيث لا ينفك عنه ، إمّا لأجل المساواة في الملاك ، أو للأولويّة فيه ، وبهذا يكون الدال على مدلول مفهوم الموافقة هو نفس الحكم المنطوقي ، فقوله تعالى ، (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ، يدل على حكم منطوقي ، وهو حرمة قول أف لهما ، وهذه الحرمة المنطوقية تستلزم حرمة الضرب والإهانة ، فالدال على الحرمة الأولى هو ، اللفظ والكلام ، والدال على الحرمة الثانية هو ، نفس الحرمة الأولى ، أي الحكم المنطوقي ، إذن فهما حكمان مترتبان ، الكلام واللفظ يدل على الأول ، والأول يدل على الثاني.

والدلالة الثانية من هاتين الدلالتين ، تكون قطعيّة دائما ، لأنه مع فرض القطع بالملازمة بينهما ، تكون دلالة الحكم المنطوقي على الحكم المفهومي قطعيّة أيضا ، ومع عدم القطع بهذه الملازمة ، لا دلالة حينئذ للحكم المنطوقي على المفهوم أصلا.

وهذا ، بخلاف الدلالة الأولى ، إذ قد تكون قطعيّة ، كما لو كان اللفظ صريحا في الدلالة على الحكم المنطوقي ، وقد تكون ظنية ، كما إذا كان اللفظ ظاهرا في ذلك أو بالإطلاق.

ثم إنه لا يفرّق في قطعيّة الدلالة الثانية ـ في مفهوم الموافقة ـ بين أصل المدلول وإطلاقه ، فإنّ إطلاق مفهوم الموافقة بلحاظ المرحلة الثانية أيضا يكون قطعيا ، لأنه إذا لم تكن الملازمة المعلومة لها إطلاق ، إذن فلا إطلاق حينئذ في المفهوم ـ الموافقة ـ وإن كان لها إطلاق ، فالإطلاق في المفهوم قطعيّ حينئذ.

نعم قد يكون إطلاق مفهوم الموافقة ظني تبعا لإطلاق الحكم المنطوقي ، وذلك بأن لا يدل صريح اللفظ على الحكم المنطوقي وإنّما دلّ عليه الإطلاق بمقدمات الحكمة ، فالظنية وعدم القطعية ، تكون في الدلالة الأولى.

وهذا كلّه بخلاف مفهوم المخالفة ، فإنّه ليس مدلولا لنفس الحكم

٣٦٧

المنطوقي ، بل هو مدلول للكلام مباشرة ، حيث انّ الكلام فيه دلالتان ، إحداهما على المنطوق ، والأخرى على المفهوم ، فقوله : «إذا جاءك زيد فأكرمه» ، له دلالة على ترتّب الجزاء على الشرط ، وهو المنطوق ، وله دلالة أخرى على أنّ هذا الترتب بنحو الحصر والعليّة ، وهذا هو المفهوم.

إذن ، الكلام في هذا القسم ، يدل على المفهوم بنفسه ، ومن هنا ، كانت الدلالة على المفهوم دلالة ظنيّة من أول الأمر ، لأنّ مرجعها إلى ظهور الكلام ، وكانت المعارضة مع المفهوم غير سارية إلى المنطوق ، وذلك لأنّ المفهوم هنا ليس مفاد الشرطيّة ، بل مفاد خصوصيّة ملحوظة فيها ، بينما المعارضة في مفهوم الموافقة ، تسري إلى المنطوق ، لما تقدم من الملازمة بين المفهوم والمنطوق ، فإنّ المفهوم مدلول للمنطوق ولازم له ، ولازم المعارض معارض.

ثم إنّ مفهوم الموافقة ، ليس هو كل مدلول التزامي ، بل هو المدلول الالتزامي العرفي ، وهو ما كانت فيه الملازمة عرفيّة ، كما في ، استلزام «أف» ، لحرمة «الإهانة» ، أمّا إذا كانت ملازمة لا تستلزم الدلالة على المفهوم إلّا مع العناية ، كإجماع وغيره ، فهذا وإن كان مدلولا التزاميا ، ولكن ليس عرفيا ، ولهذا لا يكون مثله مفهوم موافقة.

ومن هنا ، تكون هذه الملازمة العرفيّة في مفهوم المخالفة ، إمّا بين المفهوم ، وأصل الحكم المنطوقي ، وإمّا بين المفهوم ، وإطلاق الحكم المنطوقي.

فإن فرض الأول ، وحيث انّ الكلام يكون صريحا في أصل الحكم المنطوقي ، إذن تكون كلتا الدلالتين قطعيّة.

وإن فرض الثاني ، وحيث انّ الكلام ليس صريحا في أصل الحكم المنطوقي ، إذن تكون دلالة الكلام على المفهوم ظنيّة ، وهي وإن كانت قطعيّة في نفسها ، لكنها بلحاظ الدلالة الأولى تكون ظنية ، إذ إنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدمتين.

وممّا ذكرنا في مفهوم الموافقة يتضح أمران.

٣٦٨

١ ـ الأمر الأول : هو انّ مفهوم الموافقة لا يمكن التصرف فيه ابتداء بدون التصرف في المنطوق ، وذلك لأنّ المعارضة مع المفهوم ، تسري إلى المنطوق ، للملازمة بينهما كما تقدم ، ومعه ، لا يمكن في مقام علاج التعارض بين المفهوم ومعارضه أن نتصرف بمفهوم الموافقة من دون علاج المعارضة بين المنطوق والمعارض ، بدعوى انّ المعارضة إنما تسري إلى المنطوق تبعا للمعارضة في المفهوم ، فلو قيّدنا المفهوم ورفعنا اليد عنه أو عن إطلاقه ، تنحل المعارضة ، وذلك لأنّ هذا المفهوم لا يمكن رفع اليد عنه ذاتا أو إطلاقا مع التحفظ على المنطوق ، لأنّ المنطوق يستلزمه ويدل عليه دلالة قطعية ، ولا معنى للتصرف فيها فقط.

وعليه ، فإذا اقتضى أمر «ما» تقديم العام على المفهوم ، فلا يمكن تقديمه عليه فقط ، بل لا بدّ من التصرف في أصل المنطوق أو لا بمقدار ما يقتضيه واقع ذلك الأمر ، لأنّ الدلالة الثانية قطعيّة بخلاف الأولى ، فإنها ظنيّة.

وهذا كله بخلاف مفهوم المخالفة ، لأنه لو قدّم العام عليه ، لا يلزم منه التصرف في المنطوق ، بل يكفي فيه أن نتصرف في المفهوم وحده ، وذلك لأنّ دلالة الكلام عليه في عرض دلالة الكلام على المنطوق ، فهما مدلولان للكلام في آن.

٢ ـ الأمر الثاني : هو انّه في مقام التعارض بين مفهوم الموافقة ومعارضه ، لا نلحظ النسبة بين مفهوم الموافقة ومعارضه إذا أردنا أن نقدم مفهوم الموافقة ، لأنه أخص ، بل نلحظ الأخصية ـ النسبة ـ بين مدلول الكلام بما هو مدلول الكلام ، والمعارض.

وتوضيحه : هو انّ مفهوم الموافقة قد يكون من تبعات منطوق ثابت بسبب إطلاق الدليل.

أو قل : قد يكون مفهوم الموافقة لازما لإطلاق المنطوق ، وقد يكون من تبعات منطوق ثابت بأصل الدليل.

٣٦٩

أو قل : قد يكون مفهوم الموافقة لازما لمنطوق ثابت بأصل الدليل ، فلو فرض انّ إطلاق الدليل أثبت حكما منطوقيا ، وهذا الحكم المنطوقي أثبت بدوره حكما مفهوميا ، ثم وقع التعارض بين هذا الحكم المفهومي وبين عام «ما» فحينئذ نلحظ كيفية دلالة إطلاق المنطوق على أخصيّة مفهوم الموافقة بالنسبة إلى العام ، لأنّ الأخصيّة إنّما تكون قرينة عرفية على تقديم أحد المتعارضين عند ما تكون أخصيّة بلحاظ مدلول الكلام بما هو مدلول الكلام ، لا أخصيّة لمدلول من مدلولات إطلاق الكلام ، كما عرفت سابقا في القوانين الأوليّة في بحث العام والخاص ، إذن ، فالمفهوم بما هو هو لا أثر لأخصيّته ، بل لا بدّ من لحاظ منشئه.

ومن هنا نقول : إذا كان مفهوم الموافقة لازما لأصل المنطوق وكان أخصّ من العام ، حينئذ ، يقدّم عليه ، لأنّه حينئذ ، يكون مدلولا للكلام بما هو كلام ، غاية الأمر انه مدلول التزامي عرفي له ، ولا يفرّق في القرينة بين كونها مدلولا مطابقيا وبين كونها مدلولا التزاميا عرفيا ، أمّا إذا كان مفهوم الموافقة لازما لإطلاق المنطوق ، فلا يكون أخص ، ومعه ، لا موجب لتقديمه بلحاظ الأخصيّة.

ثم إنه في مورد تعارض مفهوم الموافقة مع العام ، تارة يكون التعارض بينه وبين العام ، دون أن يكون تعارض بين المنطوق والعام ، بقطع النظر عمّا للمنطوق من مفهوم ، كما لو ورد : «أكرم الجار العادل للهاشمي الفاسق» ، «ولا تكرم الفساق» ، فهنا لا تعارض بين المنطوقين ، وإنّما التعارض بين مفهوم الموافقة للكلام الأول ، والعموم في الكلام الثاني ، لأنّ قوله ، «أكرم الجار العادل للهاشمي الفاسق» ، يدل بطريق أولى على «إكرام الهاشمي الفاسق» ، وهو يعارض عموم المنطوق في الكلام الثاني «لا تكرم الفساق».

وأخرى يكون التعارض بين المنطوق والعام ، مع قطع النظر عن المعارضة بين المفهوم والعام ، كما لو ورد : «أكرم جار الهاشمي» ، و «لا

٣٧٠

تكرم الفساق» ، ومن الواضح ، إن جار الهاشمي يشمل الفاسق ، إذن ، فالعام معارض مع المنطوق ، بنحو العموم من وجه ، مضافا إلى كونه معارض بالمفهوم أيضا.

ومن هنا ، يمكن تقسيم المسألة إلى أربع صور.

١ ـ الصورة الأولى : هي ما إذا كان مفهوم الموافقة لازما لأصل الدليل ، وكانت المعارضة منحصرة بأصل المفهوم فقط ، وحينئذ ، قلنا إنه يقدم المفهوم على العام ، لأنّ المفهوم قطعي بلحاظ كلتا دلالتيه ـ دلالة الكلام على المنطوق ، ودلالة المنطوق على المفهوم ـ فيكون بحكم الأخص من العام ، وبمثابة مدلول عرفي أضيق منه دائرة ، فيصلح للقرينيّة ، فيقدّم عليه.

نعم لو فرضنا انّ مفهوم الموافقة كان مساويا للعام ، أو أوسع دائرة وأعمّ منه ، حينئذ ، يقع التعارض بينهما وإن كان هذا خلاف الفرض ، لأنّ عنوان المسألة ، تخصيص العام بالمفهوم ، وهذا يلزمه كون المفهوم أخص مطلقا من العام أو أخص من وجه كي يقدّم عليه ، كما عرفت سابقا.

٢ ـ الصورة الثانية : هي ما لو كان مفهوم الموافقة لازما لإطلاق المنطوق ، وكانت المعارضة منحصرة بلحاظ المفهوم فقط ، هنا ، يتعامل مع المفهوم والعام معاملة العامين من وجه لما تقدم من لحاظ المنشأ ، لأنّ طرف المعارضة مع العام هو إطلاق المنطوق ، وكون انّ نفس المفهوم أخصّ ، لا أثر له في التقديم على العام ، لأنّ الأخصيّة التي تكون مؤثرة وتشكل قرينة ، إنّما هي أخصيّة مدلول الكلام ، وهنا هذا المفهوم الأخصّ ليس مدلول الكلام ، وإنّما هو مفاد إطلاق الكلام ، ولا معنى لأن يزيد الفرع على أصله ، فإنّ أصل المفهوم الإطلاق ، فيقع طرفا للمعارضة ، ويتحفظ على الأصل.

والحاصل هو انّه إذا لم توجد ميزة للتقديم فلا تعارض.

٣٧١

٣ ـ الصورة الثالثة : هي ما إذا كان مفهوم الموافقة لازما لأصل الدليل المنطوق ، ويفرض انه بين المنطوق والعام معارضة ، بقطع النظر عن المعارضة الناشئة عن مفهوم الموافقة بين المفهوم والعام ، وهنا حينئذ ، لا بدّ من تقديم مفهوم الموافقة على العام ، لأنّه بعد فرض انّ مفهوم الموافقة لازم لأصل الدليل المنطوق ، يكون هذا الدليل حينئذ بلحاظ مفهوم الموافقة أخص من العام على كل حال ، فيقدم دليل المنطوق على العام بلحاظ تقديم مفهوم الموافقة على العام ، سواء كان التعارض الآخر المنطوقي القائم بينه وبين العام أخص مطلقا من العام ، أو العام أخص مطلقا ، أو كانت النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه ، أي كان كل منهما أخص من وجه.

وبتعبير آخر ، توجد هنا معارضتان بين العام والمنطوق ، معارضة بلحاظ المفهوم ، ومعارضة أخرى ، مع قطع النظر عن المفهوم ، وفي الثانية منهما ، تارة يفرض ان المنطوق أخصّ مطلقا من العام ، وأخرى ، يفرض انّ العام أخصّ مطلقا من المنطوق ، وثالثة ، يفرض انّ بينهما عموم وخصوص من وجه ، فالمعارضة الثانية على أقسام ثلاث ، ولكن على جميع تقادير المعارضة الثانية ، فإنّ مقتضى القاعدة في المعارضة الأولى هو تقديم المفهوم على العام ، بعد فرض انّ المفهوم لازم لأصل المنطوق ، فيكون مدلولا لأصل الدليل.

وبعد حلّ المعارضة الأولى ، بتقديم المنطوق على العام باعتبار المفهوم ، نأتي إلى علاج المعارضة الثانية القائمة بين المنطوق والعام بقطع النظر عن المعارضة القائمة بين المفهوم والعام.

وهنا نستعرض النسب الثلاث السابقة المفروضة بين العام والمنطوق ، مع قطع النظر عن المعارضة بين المفهوم والعام.

فإمّا أن يكون المنطوق أخصّ مطلقا من العام ، وإمّا أن يكون العام أخص مطلقا من المنطوق ، وإمّا أن يكون بينهما عموم من وجه.

فإن كان المنطوق أخص مطلقا ، قدّم على العام كما قدّم في المعارضة

٣٧٢

الأولى ، باعتبار وحدة الملاك ، وهي الأخصيّة والنصيّة ، اللهم إلّا أن يفرض ، انّ ما يخرجه المنطوق من تحت العام نتيجة تقديمه في كلتا المعارضتين ، أكثر ممّا يمكن أن يخرج عرفا من تحت العام ، لاستلزامه التخصيص المستهجن عرفا ، فإنه حينئذ ، يخرج المنطوق عن كونه أخص مطلقا ويصبح كأنه معارض ، فيتعامل معه ومع العام كالمتعارضين.

وإن كان العام أخص مطلقا من المنطوق ، فحينئذ ، نخصّص العام بمفهوم الموافقة أولا ، ثم نخصّص المنطوق بالعام ، ولا يبتني هذا على انقلاب النسبة إذ انّ هنا ثلاث أدلة أعمّها المنطوق ، ثم أخص منه العام ، ثم أخص من العام ، مفهوم الموافقة ، ومتى وجدت أدلة كذلك ، قدّم الأخص على الخاص ، ثم الخاص على العام.

وإن كان بين المنطوق والعام ، عموم من وجه ، فإنّ المعارضة الأولى القائمة بين العام والمنطوق بلحاظ المفهوم ، حلّها يكون بتقديم المفهوم كما عرفت ، لكن المعارضة الثانية حيث انّها بنحو العموم والخصوص من وجه ، فإنها توجب التساقط ، فيتساقط العام والمنطوق في مادة التعارض.

نعم لو فرض أن انقلبت النسبة بلحاظ التخصيص ، فقد تختلف النتيجة حينئذ ، فمثلا ، لو فرض انّ رفع اليد عن حصة من العام ـ كان بمقدار ما اقتضاه تقديم مفهوم الموافقة عليه ـ اقتضى أن يصبح العام أخصّ من المنطوق ، فحينئذ ، سوف يخصّص المنطوق لا محالة.

ولكن هذا ، ليس مبنيا على انقلاب النسبة ، لأنّ انقلاب النسبة ، إنّما يكون فيما لو كان القالب للنسبة دليلا ثالثا منفصلا عن الدليلين المتعارضين ، فإنه حينئذ ، يقع النزاع في مقام العلاج ، في انّه هل نلحظ النسبة بين الدليلين بعد ضم الدليل الثالث المنفصل ، أم قبله ، وأمّا لو كان هذا الدليل الثالث متصلا بأحد الدليلين المتعارضين ، فلا إشكال حينئذ في التخصيص من دون التفات إلى انقلاب النسبة وعدمه.

٤ ـ الصورة الرابعة : هي أن يفرض وجود معارضتين ، معارضة بين

٣٧٣

العام والمفهوم ، ومعارضة بين العام والمنطوق ، لكن المفهوم ليس لازما لأصل المنطوق ، بل هو لازم لإطلاقه.

وإن شئت قلت : لو كان مفهوم الموافقة لازما لإطلاق دليل المنطوق ، وكان بين المنطوق والعام معارضة ، بقطع النظر عن المعارضة بين المفهوم والعام ، حينئذ ، نعالج هذا التعارض على ضوء الأقسام الثلاثة السابقة ، فنقول : إن كان المنطوق أخصّ من العام ، قدّم المنطوق بلحاظ كلتا المعارضتين ـ المفهومية ، والمنطوقية ـ لأنّ إطلاق المخصّص مقدّم على إطلاق العام ، اللهم إلّا أن يفرض انتهاء العام ـ بعد تخصيصه بالمفهوم والمنطوق ـ إلى مرتبة لا يصح الانتهاء إليها عرفا كما في التخصيص المستهجن ، بحيث يصبح العام صفر اليدين ، إلّا من نفر قليل من أفراده ، فإنه حينئذ يقدّم العام ، والمنطوق هو الذي يسقط.

وإن كان العام هو الأخص ، والمنطوق هو الأعم ، حينئذ ، يقدّم العام على المنطوق بلحاظ المعارضة الثانية ، فنرفع اليد عن إطلاق المنطوق في مورد العام.

وأمّا المفهوم الثابت بإطلاق المنطوق المعارض مع العام ، فإن كان قد ثبت بنفس إطلاق المنطوق الذي سقط بالتخصيص ، حينئذ يسقط تبعا له سواء كان أخص من العام أم لا ، وإن كان ناشئا من إطلاق المنطوق لغير مورد إطلاق العام ، فحينئذ ، لا بدّ من علاج هذه المعارضة ، فلا بدّ من معالجة معارضة إطلاق المنطوق لغير مورد العام ، مع مورد الخاص ، وهنا تتحول المعارضة إلى معارضة مطلقة ، وحينئذ يكون المنطوق بلحاظ مورد العام معارضا له ، وبلحاظ مورد الافتراق معارضا له ، وبلحاظ مورد الاجتماع معارضا له ، ومعه لا يصلح للتخصيص ، ويكون التعارض بنحو التباين والتساقط.

وبتعبير آخر يقال : إذا كان المفهوم لازما لإطلاق المنطوق المفترق عن العام ، حينئذ ، سوف يكون العام الأخص من المنطوق ، معارضا له في جميع دلالته المجتمعة معه والمفترقة عنه ، إحداهما بالمباشرة ، والأخرى

٣٧٤

بالملازمة ، ومعه لا يصلح للتخصيص ، بل يكون التعارض بنحو التباين والتساقط ، وقد يختلف باختلاف الحالات.

والقسم الثالث من أقسام النسبة بين العام والمنطوق هو ، أن يكون بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، وحينئذ ، ففي مادة الاجتماع في المعارضة الثانية ـ العام والمنطوق ـ يتساقطان.

وحينئذ ، فإن فرض انّ مفهوم الموافقة كان منشؤه إطلاق المنطوق لمادة الاجتماع ، فهو يسقط أيضا بالتبع ، ولا ينظر إلى المفهوم نفسه ، وإن كان مفهوم الموافقة من تبعات إطلاق المنطوق لغير مادة الاجتماع ـ مادة الافتراق ـ فحينئذ ، لا بدّ من حساب هذه المعارضة أيضا ، فيكون هذا المنطوق بمادة اجتماعه معارضا منطوقا ، وبمادة افتراقه معارضا مفهوما ، وهذا يعني انّه معارض بتمام مدلوله.

ثم إنه في المورد الذي يكون فيه المفهوم ناشئا من إطلاق المنطوق لمادة الاجتماع ، فإنه يسقط تبعا لسقوط الإطلاق.

لكن لو فرضنا انّ ما يخرجه المنطوق والمفهوم من العام في معارضتهما له ، كان أكثر ممّا يتحمله العام ، ـ أي يكون التخصيص مستهجنا ـ حينئذ ، يتجه المنطوق نحو السقوط ، وينجو العام من السقوط ، باعتبار انّ إطلاق المنطوق لمادة الاجتماع هو الأعم ، ويصبح العام هو الأخص من المنطوق ، فيقدم العام لا محالة.

نعم لو فرض إنّ إطلاق المنطوق لمادة الاجتماع لا يخرج ـ بالمفهوم والمنطوق ـ أكثر ممّا يطيقه العام ، حينئذ ، يتساقطان معا لا محالة.

وبما ذكرنا ، يتضح عدم صحة ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني (قده) (١) ، من انّه في موارد مفهوم الموافقة لا بدّ من ملاحظة النسبة بين المنطوق والعام ، ولا أثر للمفهوم.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ج ١ ـ ص ٣٥٢.

٣٧٥

فإنّ هذا إنما يصح في خصوص ما إذا كان المفهوم لازما لإطلاق المنطوق في مورد معارضته مع العام لا مطلقا كما تقدم بيانه ، وبهذا يتم الكلام في الصور الأربعة.

المقام الثاني : تخصيص العام بمفهوم المخالفة :

إذا تعارض العام مع هذا المفهوم ، فقد تبيّن ممّا سبق ، وجود فرق بين تعارض مفهوم الموافقة مع العام ، وبين تعارض مفهوم المخالفة مع العام ، حيث ذكرنا أنّ مفهوم الموافقة لازم للحكم المنطوقي ، ولذا يكون التعارض معه تعارضا مع ذاك الحكم المنطوقي.

وأمّا مفهوم المخالفة ، فهو مدلول التزامي للفظ مع قطع النظر عن دلالته على الحكم المنطوقي ، ولذا التعارض معه ، لا يلزم منه التعارض مع المنطوق ، ذلك ، لأنّ الشرطيّة تدل على أمرين.

الأمر الأول : ترتب الجزاء على الشرط ، وهذا هو المنطوق.

الأمر الثاني : إنّ الترتب بنحو العليّة الانحصاريّة وهذا مستلزم للمفهوم ، والتعارض مع الحيثيّة الثانية للدليل ، لا يلزم فيها التعارض مع الحيثيّة الأولى.

وتعارض العام مع مفهوم المخالفة ، تارة يكون مع أصل المفهوم رأسا ، كما لو ورد «أكرم زيدا» ، ثم ورد ، «إن كان زيد عالما فأكرمه» ، فهنا لو أخذنا بالعام ، أو المطلق ، لزم إلغاء أصل الدلالة على المفهوم رأسا ، لأنّ التعارض حينئذ مع أصل مفهوم المخالفة.

وتارة أخرى يكون معارضا لإطلاق المفهوم ، كما لو ورد : «إذا كان العالم عادلا فأكرمه» ، فهذا يدل بمفهومه على عدم وجوب إكرام العالم الفاسق ، ثم ورد في دليل آخر ، «أكرم العالم الهاشمي» ، فيكون هذا الدليل بإطلاقه أو عمومه منافيا لإطلاق المفهوم ، فلو أخذنا بهذا العموم ، وقلنا بوجوب إكرام كل عالم هاشمي ، فلا يلزم منه إلغاء المفهوم ، بل يلزم منه انّ الهاشمية عدل للعدالة ، وهذا معناه ، تقييد المفهوم ، وهذا التقييد في المفهوم معقول بعد ان أجبنا في بحث المفهوم عن شبهة مفادها :

٣٧٦

إنّ مفهوم الشرط لا يقبل التقييد ، وانّه يسقط بسقوط الجملة الشرطية ، لأنه إن كانت الشرطية دالة على العليّة الانحصاريّة فلا يعقل وضع ولو بديل واحد للشرط ، لأنه خلف الشرط حينئذ ، ولو وضعنا بديلا انهدم الانحصار ، ومعه ، لا موجب لنفي احتمال البديل الثالث.

وهذه الشبهة قد أجبنا عنها سابقا وقلنا : إن المفهوم يمكن تصويره بنحو يكون قابلا للإطلاق والتقييد بحيث يبقى المفهوم ثابتا بلحاظ ما يحتمل عدليته زائدا على عدليّة ما يشك في عدليته.

وحينئذ ، بناء على إمكان التفكيك بين أصل المخالفة ، وإطلاق المخالفة ، يمكن أن نفترض فرضين.

١ ـ الفرض الأول : هو أن يكون العام معارضا مع إطلاق مفهوم المخالفة.

٢ ـ الفرض الثاني : هو أن يكون العام معارضا مع أصل مفهوم المخالفة.

أمّا الفرض الأول : وهو كون العام معارضا مع إطلاق مفهوم المخالفة ، ففيه صورتان.

الصورة الأولى : هي أن يكون عموم العام بالوضع لا بمقدمات الحكمة ، من قبيل : «كل» وغيرها.

الصورة الثانية : هي أن يكون عموم العام بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

أمّا الصورة الأولى : فإن فرض فيها انّ العام كان متصلا بالشرطية ذات المفهوم التي يعارض إطلاقها ، حينئذ ، يقدم عموم العام على إطلاق مفهوم الشرطية ، وذلك لأنّ إطلاق المفهوم إنّما يتم بمقدمات الحكمة ، فإذا تمّ إطلاقه لذلك ، أمكن التمسك به.

ومن الواضح ، انّ إحدى مقدمات الحكمة هي عدم الإتيان ببيان صالح لإثبات القيد ، والعموم الوضعي يشكل بيانا صالحا لإثبات القيد ، فيهدم مقدمات الحكمة المتوقف عليها المفهوم ، إذن ، فلا ينعقد للمفهوم إطلاق ، وهذا بخلاف العكس ، لأنّ عموم العام وضعي ، وهذا ما عبّروا عنه ، بأنّ

٣٧٧

الظهور التنجيزي لا يعارض بالظهور التعليقي ، والأول مقدم ولو كان التعارض بينهما بنحو العموم من وجه.

وأمّا إذا فرض كون العام منفصلا عن الشرطية ذات المفهوم ، فحينئذ ، دعوى تقديم العام على إطلاق المفهوم ، يتوقف على تماميّة أحد بيانات ثلاثة.

١ ـ البيان الأول : هو أن يقال : بأنّ العام حتى مع فرض انفصاله عن المفهوم ، يهدم مقدمات الحكمة التي هي أساس الإطلاق ، بدعوى ، انّ إحدى مقدمات الحكمة هي عدم الإتيان ببيان صالح لأن يكون قيدا.

وهذا البيان ، أعم من كونه متصلا أو منفصلا ، على خلاف بين الآخوند والميرزا (قده) في اتصاله وانفصاله في بحث مقدمات الحكمة ، حيث يذهب الآخوند (قده) إلى كون هذا القيد متصلا ، بينما يذهب الميرزا (قده) إلى الأعم ولو كان منفصلا.

وحينئذ ، فإن بني على الأول ، فلا معنى لدعوى ورود العام وانهدام مقدمات الحكمة ، لأنّ المقدمات في هذا الفرض تكون قد تمّت وتنجزت في جانب المفهوم ، فيصح وقوع المعارضة بين إطلاق المفهوم وعموم العام ويكون التعارض بين ظهورين تنجيزيّين.

وأمّا إذا بني على الثاني ، حيث يقال بظهور العام ولو كان منفصلا ، حينئذ ، يقدم ظهور العام على إطلاق المفهوم لانهدام مقدمات الحكمة في جانب المفهوم بسبب وجود القيد المنفصل ، حتى لو كانت النسبة بينهما عموم من وجه.

ومن الواضح إنّ تقديم العام في هذا القسم مبني على ما ذهب إليه الميرزا (قده).

وهذا المسلك غير صحيح : كما ستعرف بيانه في بحث مقدمات الحكمة ، وإنّما الصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية (قده) ، من كون القيد

٣٧٨

ـ البيان ـ الهادم لمقدمات الحكمة ، هو القيد المتصل فقط ، وعليه : فبمجرد انفصاله يستقر ظهوران للعام والمفهوم ويكون التعارض بين ظهورين تنجيزيّين للعام والمفهوم.

٢ ـ البيان الثاني : هو أن نجمد على قاعدة ذكرها الميرزا (قده) كضابط كلّي للقرينيّة والجمع العرفي حيث قال : إنّ كلّ دليل ـ في فرض اتصاله بالعام ـ يحكّمه العرف ويقدّمه ، فكذلك يكون في حال انفصاله ، فالمقدّم في فرض الاتصال ، يقدّم في حال الانفصال ويكون هو القرينة.

فلو بنينا على هذه القاعدة ، حينئذ ، نقول في محل كلامنا : بأنّا لو جمعنا بين المفهوم والعام ، لقدّمنا ظهور العام على إطلاق المفهوم ، إذن ، ففي فرض انفصال العام يجب تقديمه أيضا.

ولكن هذا الضابط ليس هو نكتة القرينية ، بل هو معبّر عن موارد القرينيّة ، إذ ليست النكتة ، إنّ شيئا لو كان على فرض الاتصال قرينة ، تعيّن كونه قرينة على فرض الانفصال ، وإنّما هذا الكلام شبه معرّف وصياغة فنية عرفية للضوابط ، وأمّا نكتة المطلب فلا يكفي فيها مجرد كونها كذلك ، إذ قد يكون نفس الانفصال يؤدي إلى اختلاف درجة الظهور هنا وهناك.

نعم في فرض كون الظهورين تامين في أنفسهما وتنجيزيّين يتم ذلك ، فلو اتصل أحدهما بالآخر وكان الظهور الفعلي المحصّل للكلام على طبق أحد هذين الظهورين ، فهذا يعني انّ هذا الظهور هو المعوّل عليه عقلائيا ، أو الأقوى دلالة في مقام تفهيم المراد ، حينئذ ، في فرض الانفصال يكون هو المعوّل عليه في مقام استكشاف المراد الجدي.

وأمّا لو فرضنا انّ نكتة التقديم كانت متقومة بنفس الاتصال وغير محفوظة في فرض الانفصال ، فلا يمكن حينئذ تصحيح هذا الضابط.

٣ ـ البيان الثالث : هو أن يقال : بأنّ مقدمات الحكمة وإن تمّت في المفهوم ـ لأنّ البيان المتصل غير موجود ـ وحينئذ ينعقد للمفهوم ظهور في

٣٧٩

الإطلاق ، ويصبح لدينا ظهوران تنجيزيّان متعارضان ، لكن لأنّ ظهور العام أقوى من ظهور المطلق ، فيقدم حينئذ ظهور العام ، لأنه أقوى من ظهور المطلق.

وهذا الكلام ، مقبول كقاعدة كليّة وقد أشرنا إلى نكتته الأساسيّة في بحث المفاهيم ، وهي انّ مرجع الظهورات الوضعيّة إلى اصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات ، لكن اصالة التطابق هذه ، تارة يراد بها انّ ما قاله المتكلم إثباتا يريده ثبوتا ، وهذا الجانب الإيجابي لهذه الاصالة ، وأخرى يراد بها انّ ما لم يقله إثباتا لا يريده ثبوتا ، وهذا الجانب السلبي لها.

والظهورات الوضعية ، مرجعها إلى اصالة التطابق بالمعنى الأول ، لأنّ الظهور الوضعي معناه : انّه قد قال هذا ، وحينئذ ، إذا قال المتكلم كلاما وشككنا بأنه هل أراد معناه أم لا؟ حينئذ ، بمقتضى هذا الأصل نثبت انّه أراده.

بينما الظهور الإطلاقي مرجعه إلى المعنى الثاني فيها ، لأنها ترجع إلى قولنا : انّه لم يذكر القيد ، وحيث لم يذكره ، إذن ، فلا يريده.

وقد قلنا هناك : إنّ ظهور الحال التطابقي في الجانب الإيجابي أقوى من ظهور الحال التطابقي في الجانب السلبي ، فإذا تعارض هذان الظهوران قدّم الأول على الثاني ، وهذه هي نكتة تقديم الظهور الوضعي على الظهور الحكمي ، إلّا إذا كان هناك نكتة خاصة تقتضي العكس.

ونكتة تقديم الظهور الوضعي في العام ثابتة في المقام ، لأنّ العام يدل على العموم بالوضع ، وهذا يعني : إنّ المتكلم قال العموم ، ولكنه ليس انّه لم يقل الإطلاق ، بل لم يقل القيد ، وحينئذ يدور الأمر بين أن يكون قد قال العموم ولا يريده ـ وهذا يلزم منه خرق الجانب الإيجابي من اصالة التطابق ـ وبين أن يكون لم يقل القيد وأراده ـ وهو خرق للجانب السلبي من اصالة التطابق ـ والأول أشدّ من الثاني ، فيقدّم العموم على الإطلاق.

وهذا صحيح في نفسه ، إذن ، العام إذا كان معارضا مع إطلاق المفهوم

٣٨٠