بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

ننفي الأول منها ، بخلافه لدليل الحجية وخلافه للقطع بصدوره ، بعد احتمالنا لصدوره ، وننفي الثاني ، باعتبار خلافه للدليل المبيّن ، وننفي الثالث ـ وإن كان موجودا وجدانا ـ لكن ننفيه بخلافه للمفروض وباصالة الجهة ، وحينئذ يتعيّن الاحتمال الرابع ، وهو أنّ الكرّ ستمائة رطل بغير العراقي ، وهكذا يرتفع الإجمال بالمبين.

وهذا المطلب ـ وهو رفع إجمال المجمل ببيان المبيّن ـ كنّا نستشكل فيه بهذا التقريب.

وذلك الاستشكال يمكن تقريبه بوجهين.

١ ـ الوجه الأول : هو أن يقال : إنّ اصالة الجهة والجد هنا لا تثبت إلّا مدلولها المطابقي أو الالتزامي لأنّها اصل عقلائي وليست اصلا عمليّا ليمتنع في حقها إثبات مداليلها الالتزامية ، وحينئذ ، المقصود إثباته باصالة الجهة هو ، كون الكرّ ستمائة رطل بالمكّي ، وهذا المعنى لم يحرز انّه مدلول مطابقي لاصالة الجهة ، ويقطع بأنّه ليس مدلولا التزاميا لها ، لأنّ مدلول اصالة الجهة هو جدّية المراد الاستعمالي ، أو المراد الجدي الاستعمالي من الكلام ، والمراد الاستعمالي هو ، إمّا الرطل العراقي ، أو الرطل المكّي ، وحينئذ ، فإن كانت كلمة رطل قد استعملت في المكّي ، إذن فهذا الذي نريد إثباته بالجهة هو مدلول مطابقي لها ، لكن لو كان المراد الاستعمالي من كلمة رطل هو العراقي ، إذن فالذي نريد إثباته باصالة الجهة حينئذ ليس مدلولا مطابقيا ، ولا مدلولا التزاميا لها ، لأنّه من الواضح انّ المدلول المطابقي لها حينئذ هو الرطل العراقي ، وهذا ليس عين المكّي ولا يستلزمه ، وعليه : فكيف نثبت قضية باصالة الجهة مع أنّها ليست مدلولا مطابقيا ولا التزاميا لها.

والخلاصة : هي انّه على تقدير احتمال أن يكون المعصوم قد أراد من قوله : الكرّ ستمائة رطل ، يعني بالعراقي ، لكن تقية ، لكن يحتمل أيضا أن يكون قد أراد جدا ستمائة رطل بالمكّي ، فحينئذ ، ما المعين لأحد الاحتمالين؟

قلنا سابقا : إنّ اصالة الجهة تعيّن حمله على المكّي جدا ، إذ لو حملنا

٥٦١

على الرطل العراقي لانهدمت اصالة الجهة بالتقريب المتقدّم ، وذكرنا انّ هذا التعيين يستشكل عليه بوجهين.

١ ـ الوجه الأول : هو انّ اصالة الجهة يثبت بها مدلولها المطابقي أو الالتزامي ، وكون الكرّ ستمائة رطل بالمكي لم يحرز كونه مدلولا مطابقيا ولا مدلولا التزاميا لها ، بل هو ، إمّا مدلول مطابقي لها ، وإمّا مدلول مقابل لمدلولها المطابقي «لو أريد بالرطل ، العراقي» ، إذن ، الرطل المكّي مدلول مطابقي لها ، لكن على أحد احتمالين ، وعليه : فكيف نثبت باصالة الجهة مطلبا ليس بالمدلول المطابقي ولا الالتزامي لها.

٢ ـ الوجه الثاني : لتقريب الاستشكال على الشقّ الثاني من الوجه الثاني وهو احتمال كون الكلام قد صدر تقية ، وقد شبهناه بإجراء اصالة الاستصحاب في الفرد المردّد وذلك لأنّ المدلول الاستعمالي للكلام مردد بين معنيين ، يقطع بعدم جدّية أحدهما على تقدير كونه مفادا للكلام ، ويحتمل جدية الآخر على تقدير كونه أنّه هو المفاد ، فإن أردنا إجراء اصالة الجد بلحاظ ما يحتمل جديته ، فلا محرز لكونه هو مفادا الكلام ، وإن أردنا إجراؤها في الجامع لإثبات جدّيته ، فالجامع ليس مدلولا ، وإن أردنا إجراؤها في واقع ما هو المدلول على إجماله ، بأن نشير بهذا العنوان الإجمالي إلى واقع ما هو مفاد الدليل في علم الله ونقول انّه هو المفاد الجدّي حيث يكون العنوان الإجمالي مجرّد مشير إلى ما هو المفاد ، لا أنّه هو المفاد ، فهذا أيضا غير صحيح ، لأنّ المشار إليه هنا مردد بين ما هو مقطوع البطلان ، وعدم الجديّة على تقدير ، وغير محرز الوجود على تقدير آخر ، فيكون من قبيل إجراء اصالة الاستصحاب في الفرد المردّد ، أي انّ الظهور في الجدية المشار إليه بهذا العنوان مردّد بين ما يقطع ببطلانه ، وما لا يحرز وجوده ، وإحراز مثل هذا الظهور لا يكون إحرازا لظهور حجة لكي تثبت على أساسه لوازمه.

وهذا الإشكال ، وإن كنّا نبني عليه سابقا ، لكن تبين لنا أخيرا أنّه قابل للجواب.

٥٦٢

وتوضيح الحال في جوابه : هو أن يقال : إنّه حينما يفرض انّ كلاما «ما» يتردّد مدلوله الجدّي بين شيئين ، كما لو صدر كلام من المعصوم يقول فيه : «صلّ» ، وتردّد مدلوله الجدّي بين الوجوب أو الاستحباب ، ففي مثله : واقع المراد الجدّي مردّد ، أي انّ ما هو مدلول جدّي بالحمل الشائع مردّد ، أي أنّ واقع ما تعلّق به إرادة المتكلّم مردّد ، إذ كما يحتمل أن يكون هو الوجوب ، يحتمل أن يكون هو الاستحباب ، لكن على كلا التقديرين سواء كان المدلول الجدّي هو الوجوب أو الاستحباب فهناك حالة ثابتة محفوظة في الكلام ، وهي أنّ الكلام ليس هزلا بل هو جدّي وهذه صفة قائمة بنفس الكلام ومحفوظة فيه.

ونحن في مقام تعيين واقع المدلول الجدّي ، نحتاج إلى ملاحظة ما هو الظاهر من الدليل ، فيقال مثلا : إنّ صيغة «افعل» ظاهرة في الوجوب ، فحملها على الوجوب ليس لأجل التحفظ على جدّية الكلام ، فإنّ جدّية الكلام محفوظة على كلا التقديرين.

وهذا المثال يوضح لنا معنى اصالة الجد ، فإنّه ليس المقصود بها الأصل الذي يعيّن لنا واقع المراد الجدّي بالحمل الشائع ، بل اصالة الجد هو الأصل الذي يعيّن لنا صفة قائمة في الكلام ، وهي جدّية الكلام في مقابل هزليّته ، وهذه الصفة يعيّنها ظهور حالي سياقي نسمّي اعتباره العقلائي باصالة الجهة ، من دون تعيين مصداقي الجدّ وانّه الوجوب أو الاستحباب ، إذ انّ هذا يتعيّن بظهور آخر.

وإذا توضّح عندنا معنى اصالة الجدّ ، حينئذ ، يندفع هذا الإشكال ، لأنّ الإشكال كان مبنيا على تخيّل انّ أصالة الجهة مفادها تعيين واقع المدلول الجدّي ، حيث يقال حينئذ : إذا كان المقصود إثباته باصالة الجهة هو كون الكرّ ستمائة رطل بالمكّي أو بالعراقي ، فحينئذ يأتي هذا الإشكال ، حيث يقال : إنّه كيف يثبت باصالة الجدّ قضية لم نحرز كونها مدلولا مطابقيا لها ويقطع بعدم كونه مدلولا التزاميا لها أيضا ، إذ لو كان مدلولها جعل الكريّة

٥٦٣

لستمائة رطل بالعراقي ، فالرطل المكي حينئذ ليس مدلولا مطابقيا ، لأنّ مدلولها المطابقي حينئذ هو الرطل العراقي ، ولا التزاميا ، لأنّ الرطل المكي يغاير الرطل العراقي.

ولكن بعد الالتفات إلى أنّ اصالة الجهة ليس مفادها واقع المدلول الجدي ، بل مفادها إثبات صفة قائمة بالكلام ، وهي كون الكلام جديّا في مقابل كونه هزليا ، إذن ، فهو مدلول مطابقي لاصالة الجهة ، وهو متعيّن على كل حال ، وليس مرددا بين شيئين.

وحينئذ ، قبل أن يأتي الدليل المبيّن نقول : إنّ هذا المدلول المطابقي لاصالة الجهة يناسب كلا الاحتمالين للمدلول الجدّي للكلام ، إذ لعلّ هذا الكلام جدّي وكان مفاده جعل الكرية لستمائة رطل بالعراقي ، كما أنّه لعلّه جدّي ، ومفاده جعل الكريّة لستمائة رطل بالمكّي ، إذن ، فالمدلول الجدّي لاصالة الجهة يناسب كلا الاحتمالين لو لا مجيء المبيّن ، لكن بعد مجيء المبيّن نعلم أنّ ستمائة رطل بالعراقي ليس كرّا في الواقع ، وأنّ المولى لم يجعل لها الكرّيّة ، حينئذ ، يثبت أنّ جدّيّة الكلام التي هي المدلول المطابقي لاصالة الجهة ، تستلزم أن يكون المراد من الكلام جعل الكرّية لستمائة رطل بالمكي ، لأنّ جدّية الكلام لا تناسب إلّا مع ذلك.

إذن ، فالقضية التي نريد إثباتها باصالة الجدّ هي ، مدلول التزامي لاصالة الجدّ ، إذ لو كان المراد الجدّي هو الرطل العراقي ، إذن لا يكون الكلام جدّيا ، لكن سبق وعرفت أنّ اصالة الجدّ تعيّن لنا صفة قائمة في الكلام ، هي جدّية الكلام في مقابل كونه هزليا.

وبهذا نكون قد أثبتنا باصالة الجدّ مدلولا التزاميا لها ، وبهذا يندفع الإشكال ، لأنّ المدلول المطابقي لاصالة الجهة هو جدّية الكلام ، وهذه الجدّية تلازم كون المراد من الكلام هو الرطل المكّي ، لأنّه لو كان المراد الرطل العراقي لما كان الكلام جدّيا ، وبذلك يجوز في هذه الصورة رفع إجمال المجمل بالمبيّن.

٥٦٤

٢ ـ النوع الثاني : من القسم الأول ، وهو ما إذا كان كلّ من الدليلين مجمل بالذات ، وكان هذان الدليلان المجملان على نحو ، بحيث أنّ بعض محتملات كلّ منهما يتطابق مع بعض محتملات الآخر ، ولكن بعض محتملات كلّ منهما يتعارض مع بعض محتملات الآخر ، أي أنّه كان في كلّ دليل منهما احتمالان ، وعلى تقدير حملهما على أحد احتماليهما لا يتعارضان ، وعلى تقدير حملهما على احتماليهما الآخرين يتعارضان.

ومثال هذا النوع روايات «الكرّ» كما وردت في الأخبار (١) لا كما مثّلنا سابقا ، حيث أنّ صحيحة محمّد بن مسلم تقول : «الكرّ ستمائة رطل» وبلا أيّ قيد ، ومرسلة ابن أبي عمير تقول : «الكرّ ألف ومائتا رطل» وبلا قيد أيضا.

وحينئذ نقول : إذا حملت الرواية الأولى على المكّي ، والثانية على العراقي ، فهما متّفقتان ، لأنّ الرطل المكّي ضعف الرطل العراقي ، وأمّا إذا عكسنا الأمر أو حملناهما معا على المكّي ، أو معا على العراقي ، فهما متعارضتان ، وحينئذ ، في مثل هذا ، هل يمكن رفع الإجمال بذلك الحمل وتعيين الحكم؟

لا إشكال في هذه الفرضية في حجية كلا الدليلين على إجمالهما ، وذلك لأنّ ما يسقطهما عن الحجية إنّما هو التعارض ، والتعارض غير محرز بينهما في المقام وإن كان محتملا ، ومجرّد احتمال التعارض لا يوجب سقوطهما عن الحجية إلّا إذا كان محرزا ، إذ المناط في السقوط هو إحراز المعارض ، وحينئذ إذا ثبتت حجيّة كلّ من الدليلين بدليل الحجية ، فيكون عندنا قضيتان مجملتان.

وحينئذ نقول : إنّه يمكن رفع الإجمال في المقام بوجه يتمّ حتى لو فرض أنّنا أمضينا الإشكال وسلّمناه في النوع السابق ، وذلك بأن نقول :

إنّنا لا نريد هنا أن نحمل الرطل في رواية الستمائة على المكّي ،

__________________

(١) الوسائل ـ ج ١ ـ م ١ ـ ص ١٢٣ ـ ١٢٤ ـ باب ١١ ـ مقدار الكر بالأرطال.

٥٦٥

ونحمله في الرواية الثانية على العراقي ، ليقال انّه بأيّ دليل كان هذا الحمل؟ فيأتي الإشكال حينئذ ، وإنّما نقول : إنّ هاتين القضيتين على إجمالهما حجة ، وحينئذ ، نأخذ من كلّ منهما معنى من المعاني ، فنقول : إنّ قول المعصوم في الرواية الأولى ، إنّ الكرّ ستمائة رطل ، يمكن أن يقصد به المكّي ، كما يمكن أن يقصد به العراقي أو المدني ، لكن على جميع التقادير يدلّ على أنّ الكرّ لا يزيد عن ستمائة رطل بالمكي ، لأنّ المكي أكبرها ، وهذا لازم مشترك محفوظ على جميع التقادير ، وبهذا نكون قد أثبتنا الحدّ الأعلى للكرّ ، لأنّ الكرّ لا يزيد عن ألف ومائتا رطل بالعراقي لأنّ الرطل المكّي ضعف الرطل العراقي ، ثم نقول : إنّ قول المعصوم في الرواية الثانية ، الكرّ ألف ومائتا رطل ، يمكن أن يقصد به المكي كما يمكن أن يقصد به العراقي أو المدني ، لكن على جميع التقادير يدلّ على أنّ الكرّ لا ينقص عن ألف ومائتي رطل بالعراقي ، لأنّ الرطل العراقي أقلّها وهذا يعني أنّ الكرّ لا ينقص عن ستمائة رطل بالمكّي لأنّ المكّي ضعف العراقي ، وبهذا يثبت أنّ المراد في الرواية الأولى هو أنّ الكرّ ستمائة رطل بالمكّي ، وأنّ المراد في الرواية الثانية أنّ الكرّ هو ألف ومائتا رطل بالعراقي ومن الواضح أنّ ستمائة رطل بالمكي تساوي ألفا ومائتي رطل بالعراقي لأنّ الرطل المكي ضعف الرطل العراقي.

وبهذا يكون قد ارتفع الإجمال في كلتا الروايتين والدليلين ، بدون حاجة إلى تعيين كلّ منهما وتعيين المراد منه باصالة الجهة ، وبلا تورّط في الإشكال السابق.

وأمّا القسم الثاني : وهو المجمل بالعرض ، ونقصد به الدليل الذي لو خلّي وطبعه لكان له ظهور ومعنى ظاهر ، لكن دلّ دليل من الخارج على عدم جواز العمل على طبق هذا الظهور ، وبذلك أصبح فيه شوب إجمال بالعرض ، وحينئذ ، يتمّ تعيين مفاد هذا الدليل بأحد طرق.

١ ـ الطريق الأول : هو أن يعيّن مفاده بنفس الظهور الأولي له ، وذلك فيما لو فرض أنّ المفاد الثاني الذي نريد حمل الدليل عليه ، أنّه كان جزءا من

٥٦٦

المفاد الأول ، ويتمّ ذلك فيما لو كان الظهور الأول انحلاليا حسب أجزاء ذاك المدلول ، لأنّه إذا سقط هذا الظهور الأول بلحاظ بعض أجزاء المدلول فإنّه يبقى بلحاظ بقية أجزائه الأخرى ، فيتعيّن مفاد الدليل بنفس الظهور الأول ، وهذا هو المتّبع في العمومات المخصصة ، والمطلقات المقيدة ، حيث يتعيّن مفادها في الباقي بنفس الظهور الأول بعد البناء على انحلالية الدليل العام أو المطلق ، كما تقدّم تحقيقه في بحث حجيّة العام في الباقي.

٢ ـ الطريق الثاني : هو أن يتعيّن مفاده ، لا بالظهور الأول الساقط ، بل بظهور ثانوي طولي في نفس الدليل ، وذلك بعد أن يفرض انّ هذا الدليل فيه ظهوران طوليان ، فمثلا صيغة «افعل» إذا بني على أنّ الوجوب مدلول وضعي لفظي لها ، حينئذ يكون ظهورها الأولي في الوجوب ، لكن مع قطع النظر عن الوجوب وبعد صرفه عنه ، حينئذ يكون لها ظهور ثانوي في الاستحباب في مقابل بقية الأحكام «الإباحة والكراهة والحرمة» ، وحينئذ يكون الظهور الظهور الأول فعلي فيحمل على الاستحباب إعمالا للظهور الثانوي.

٣ ـ الطريق الثالث : هو أن يتعين مفاده باعتبار الظهور المطابقي للدليل الهادم ، وذلك فيما لو فرض أنّ الدليل الهادم كان حاكما حيث يهدم الظهور في الدليل الأول ـ المحكوم ـ لكن بلسان التفسير ، وعليه : فهو يعطي معنى جديدا للدليل ، فيتعين هذا المعنى الجديد بالدلالة المطابقية للدليل الهادم نفسه.

٤ ـ الطريق الرابع : هو أن يتعيّن مفاد هذا الدليل المجمل بالدلالة الالتزامية للدليل الهادم ، وتوضيحه هو أن اصالة الجهة في الدليل المجمل ـ ولنفرض أنّه «افعل» ـ تارة يفرض أنّها قطعيّة ، وأخرى يفرض أنّها ظنيّة ثابتة بالأصل أو بالتعبّد العقلائي ، فإنّ فرض أنّ اصالة الجهة في الدليل المجمل كانت قطعية حيث نعلم أنّ افعل صدر بداعي الجدّ ، وكان الدليل الهادم ينفي الوجوب لأنّه يقول : صلاة الليل ليست واجبة ، بينما الدليل الأول يقول : صلّ صلاة الليل ، فحينئذ ، الدليل الهادم بدلالته المطابقية لا يعيّن مفاد

٥٦٧

الدليل المهدوم لأنّه ليس حاكما عليه ليكون معينا لمفاده بالتفسير ، لكنه بدلالته الالتزامية يعيّن مفاد الدليل المهدوم ، لأنّه يثبت بالالتزام أنّ مفاد افعل ليس هو الوجوب ، إذ لو كان مفاده الوجوب لكان تقية ، ونحن نقطع بعدمها حسب الفرض ، إذن فلازم نفي الوجوب في الدليل الهادم ، مع قطعنا بعدم التقية ، هو أن يكون مفاد افعل غير الوجوب ، وهذا معنى تعيين مفاد افعل بالدلالة الالتزامية للدليل الهادم محضا ، ولكن هذا يتمّ فيما لو كان غير الوجوب منحصرا في معنى واحد فإنّه حينئذ يتعيّن غير الوجوب بالدلالة الالتزامية للدليل الهادم.

أمّا إذا فرض أنّ غير الوجوب كان أكثر من معنى ولم يكن هناك ظهور طولي يعيّن واحدا بعينه في مقابل الباقي ، فحينئذ ، غاية ما يثبت بالدلالة الالتزامية للهادم هو أحد المعنيين الآخرين دون ترجيح لأحدهما على الآخر ، وحينئذ ، إن كان هناك أثر مشترك بين المعنيين يترتّب خارجا ، فإنّه يثبت ، هذا كلّه إذا كانت اصالة الجهة قطعية في المهدوم.

وأمّا إذا كانت اصالة الجهة في الدليل المجمل ظنية ، أي أنّ التقيّة كانت محتملة ، فحينئذ ، الدليل الهادم بدلالته الالتزامية لا يعيّن غير الوجوب ، لأنّه غاية ما يدلّ عليه هو ، أنّ الوجوب ليس بمراد جدّي ، وحينئذ ، لعلّه أريد غير الوجوب ، ولعلّه أريد الوجوب تقية ، فنحتاج حينئذ إلى ضمّ اصالة الجهة ليتعيّن مفاد الدليل المهدوم.

٥ ـ الطريق الخامس : هو أن يتعيّن مفاد الدليل المهدوم بضمّ اصالة الجهة وذلك ، فيما إذا كانت الجهة ظنيّة لا قطعيّة ، فلو ورد عندنا «صلّ صلاة الليل» ، ثم ورد ما يدلّ على نفي الوجوب ، حينئذ ، يقال : إمّا أن يراد من «صلّ صلاة الليل» ، الوجوب جدّا ، أو الوجوب تقيّة ، أو الاستحباب.

أمّا الأول : وهو إرادة الوجوب جدا ، فهو خلاف الدليل الهادم ، إذ المفروض أنّه أقوى.

وأمّا الثاني : وهو إرادة الوجوب تقيّة ، فهو خلاف اصالة الجهة ، لأنّ

٥٦٨

اصالة الجهة هي الأصل الذي يعيّن لنا صفة قائمة في الكلام وهو جدّية الكلام في مقابل هزليته وهذه الصفة يعيّنها ظهور حالي سياقي نسمّي اعتباره العقلائي باصالة الجهة من دون تعيين مصداقي الجدّ من أنّه الوجوب أو الاستحباب ، فإنّ تعيين المصداق هذا يكون بظهور آخر.

إذن ، إذا كان المراد هو الثاني ، وهو إرادة الوجوب تقيّة ، فهو خلاف اصالة الجهة ، لأنّ ظهور حال المتكلّم في جدّية الكلام باعتبارها صفة قائمة بالكلام ، وحينئذ ، يتعيّن الثالث ، وهو الاستحباب ، فيكون تعيين الاستحباب ، بضمّ اصالة الجهة إلى دلالة الدليل الهادم ، وضمّ اصالة الجهة في المقام مرجعه إلى التمسّك بالظهور الحالي للمتكلّم في انّه جاد في كلامه.

ومن هنا قد يتشكل إشكال جديد بسبب التمسّك باصالة الجهة ، فيقال : إنّ هذا الظهور ـ وهو ظهور حال المتكلّم في كونه جاد في كلامه ـ معارض بظهور آخر ، وهو ظهور حال المتكلّم في انّه يستعمل اللفظ فيما وضع له ، والمفروض أنّ صيغة «افعل» موضوعة للوجوب ، وحينئذ ، نحن بين محذورين ، لأنّه لو فرضنا أنّ صيغة «افعل» ، استعملت في الوجوب تقيّة ، فهذا خلاف اصالة الجهة ، وإن فرضنا أنّ الكلام استعمل في غير الوجوب جدا ، فهذا على وقف اصالة الجهة ، لكنّه خلاف اصالة الحقيقة ، وظهور حال المتكلم في أنّه يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي.

وهذا الإشكال ، لا يتمّ على تقدير ، ويتمّ على تقدير آخر ، وذلك لأنّ علمنا بعدم إرادة الوجوب جدا ، تارة يكون بدليل متفصل ، وأخرى يكون بدليل متصل.

فإن كان بدليل منفصل ، حينئذ ، يكون الظهوران الحاليّان المذكوران منعقدان بالفعل ، لكن بعد قيام القرينة المنفصلة على كذب أحدهما حجية لا ذاتا ، لا بدّ حينئذ من رفع اليد عن حجيّة أحدهما وليس عن أصله وذاته.

وحينئذ نقول : بأنّ ظهور اللفظ في أنّه استعمل في معناه الحقيقي ، لا حجيّة له ، لأنّه ، لا أثر عملي يترتّب على كون المتكلّم قد استعمل اللفظ في

٥٦٩

معناه الحقيقي بعد فرض العلم بأنّ المعنى الحقيقي غير مراد ، نعم ، أثره الوحيد هو إسقاط حجيّة ذلك الظهور بالمعارضة ، إذن ، أثره الوحيد هو المعارضة ، ومن الواضح ، أنّ المعارضة ليست أثرا عمليا عقلائيا ، بينما ظهور حال المتكلّم في كونه جادا في كلامه ، لا أثر عملي ، باعتبار أنّه يدلّ بالدلالة الالتزامية على الحكم بالاستحباب.

إذن فالظهوران بعد استقرارهما لا يتعارضان حجيّة ، ولكن كلّما تعارض اصلان كان أحدهما ذا أثر عملي ، والآخر لا أثر عملي له ، قدّم ما كان ذا أثر عملي على ما ليس له أثر ، إذن فهنا تجري اصالة الجهة والجدّ بلا معارض لكونها ذات أثر عملي ، باعتبار دلالتها الالتزامية على الاستحباب.

وأمّا إذا كان علمنا بعدم إرادة الوجوب جدّا بواسطة دليل متّصل ، كما هو الحال في بعض الموارد التي يكون المرتكز في أذهان الطائفة ، انّ هذا الحكم غير ثابت ، كما لو قال المعصوم : «إذا توضأت فاغسل رجليك» ، فإنّه من الواضح عدم وجوب ذلك ، وما دلّ على عدم جدّية الوجوب هو ، الارتكاز المتشرعي المعاصر للمعصوم ، وهذا الارتكاز هو القرينة المتّصلة على عدم إرادة الوجوب جدّا من الكلام ، وفي مثله يحصل تعارض بين الظهورين ذاتا وفي اصل تكونهما لكونهما متعارضين تعارضا متّصلا ومعه لا ينعقد اصل الظهور.

ولا ينفع هنا ما ذكرنا آنفا من القول : بأنّ أحد الظهورين له أثر عملي فيقدّم على الآخر ، حيث لا أثر عملي له فيسقط فاقد الأثر بالمعارضة حينئذ ، لأنّ هذا الكلام إنّما يفيد في مرحلة جعل الحجيّة ، وهي تأتي بعد مرحلة انعقاد الظهورين ، وهنا لا استقرار لهما كما عرفت.

ومن هنا تنفتح أبواب كثيرة ، وهي انّه في جميع الموارد التي تأتي أدلّة من قبل المعصومين ، ويكون مفادها غير ثابت عند المتشرعة المعاصرين لهم عليهم‌السلام بحسب مرتكزاتهم ، نحملها على التقيّة لا الاستحباب ، بخلاف الموارد التي ليس فيها مثل تلك المرتكزات على خلافها ، فإنّه حينئذ ، لا بأس بإجراء اصالة الجهة وتعين الاستحباب. وهذا خط سيّال في الفقه.

٥٧٠

وبتمام الكلام في المجمل ، انتهى ما أردنا تحقيقه من الأصول اللفظية ، وبه تمّت دورة كاملة في مباحث الألفاظ ، وكان انتهاؤها في ليلة الأربعاء ، ١٣ صفر ١٣٩٧ هجرية ، الموافق ٢ / ٢ / ١٩٧٧ م في مقبرة الشيرازي بجانب باب الطوسي للصحن الحيدري الشريف ، على أن نستأنف الشروع في بحث الأصول العملية بعد زيارة الأربعين.

وقد استغرقت هذه الدورة خمس سنوات وأربعة أشهر وعشرون يوما ، وقد بلغ عدد دروسها ، ستمائة وخمسة عشر درسا.

فنحمد الله تعالى كما هو أهله ، ونستعينه على ما يأتي ، فإنّه حسبنا ونعم الوكيل والنصير ، كما نسأله أن يحفظ أستاذنا ومؤدّبنا ومقتدانا ، سماحة آية الله العظمى ، السيد محمد باقر الصدر بحفظه ، ويديم إفاضاته وإفاداته ونشر مواهبه علينا وعلى جميع المسلمين ، بجاه محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، وأن يمتّع بطول بقائه كلّ المسلمين ، آمين.

المفتقر إلى عفو ربّه تعالى

حسن عبد الساتر

٥٧١
٥٧٢

الفهرس

العام والخاص

الفصل الأول : في العام........................................................... ٧

الجهة الأولى : تعريف العموم....................................................... ٧

أقسام العموم.................................................................. ١١

الجهة الثانية : أدوات العموم..................................................... ١٩

سنخ العموم الذي تدل عليه «كل»........................................... ٤٣

الجمع المحلّى باللّام........................................................... ٤٧

النكرة في سياق النفي أو النهي................................................... ٨٠

الفصل الثاني : في التخصيص.................................................... ٨٤

حجية العام المخصص في الباقي بعد التخصيص وعدمها.......................... ٨٤

المحاولة الأولى............................................................... ٨٧

المحاولة الثانية............................................................... ٩١

المحاولة الثالثة.............................................................. ١٢٠

استدراك له علاقة بالمطلب المتقدم............................................ ١٤٥

حجية العام مع المخصص المجمل............................................. ١٤٩

المخصص المجمل مفهوما.................................................... ١٥٤

إذا كان المخصص المجمل مفهوما متصلا بالعام ودائرا بين الأقل أو الأكثر......... ١٥٥

إذا كان المخصص المجمل مفهوما متصلا بالعام ودائرا بين المتباينين................ ١٥٩

٥٧٣

إذا كان المخصص المجمل منفصلا ودائرا بين الأقل والأكثر...................... ١٦٥

إذا كان المخصص المجمل منفصلا ودائرا أمره بين المتباينين....................... ١٧٢

الشك في كون المخصص متصلا أم منفصلا................................... ١٧٦

الفرق العملي بين كون المخصص متصلا وبين كونه منفصلا..................... ١٨١

الميزان الفني في تعيين كون الدوران بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين.............. ١٨٩

الميزان في كون المفهومين الدائرين بين الأقل والأكثر ، هل هو المفهوم والمصداق الخارجي ١٩٠

الشبهة المصداقية.......................................................... ١٩٥

المخصص المنفصل المجمل مصداقا وكان الشك في المصداق الزائد................. ١٩٥

المخصص المتصل المجمل مصداقا ومرددا بين الأقل والأكر....................... ١٩٦

المخصص المتصل المجمل مصداقا ومرددا بين متباينين............................ ١٩٧

المخصص المنفصل المجمل مصداقا ومرددا بين متباينين........................... ١٩٨

التعويض عن التمسك بالعام ، باستصحاب العدم الأزلي........................ ٢٣١

المواضع التي يحتاج فيها لاستصحاب العدم الأزلي............................... ٢٣٢

المسلك الأول............................................................. ٢٣٣

المسلك الثاني.............................................................. ٢٣٤

تحقيق في النعتية ، في طرق الوجود والعدم........................................ ٢٤٢

الأثر الذي يتميز به أخذ العدم النعتي على العدم المحمولي....................... ٢٧١

تقسيم النعتية عند الميرزا (قده)............................................... ٢٧٣

جواز التمسك بالعام لنفي التخصيص وإثبات التخصص....................... ٢٨٨

في جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص............................... ٢٩٩

المقام الأول : في أصل وجوب الفحص....................................... ٢٩٩

المقام الثاني : في مقدار الفحص.............................................. ٣١٩

في ثمرة هذا البحث............................................................ ٣٢٥

تخصيص العام بالضمير الراجع إلى بعض أفراده................................... ٣٢٩

مقتضي جريان اصالة العموم ، واصالة الإطلاق................................ ٣٣٠

٥٧٤

كيفية علاج التعارض الواقع بين الأصلين..................................... ٣٣٥

هل يخصص المفهوم عاما إذا تعارضا أم لا؟....................................... ٣٦٣

المقام الأول : تخصيص العام بمفهوم الموافقة.................................... ٣٦٤

المقام الثاني : تخصيص العام بمفهوم المخالفة................................... ٣٧٦

بيان كيفية تقديم المفهوم وطرح عموم العام..................................... ٣٩١

تعقب الاستثناء لجمل متعددة............................................... ٣٩٣

تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد........................................... ٤٠٩

الجهة الأولى من الإشكال................................................... ٤٠٩

الجهة الثانية من الإشكال................................................... ٤١٠

في علاج الإشكالين....................................................... ٤١٣

دوران الأمر بين النسخ والتخصيص............................................. ٤٢٠

متى يكون النسخ ممكنا ، ومتى يكون التخصيص ممكنا.......................... ٤٢٠

صور دوران الأمر بين النسخ والتخصيص..................................... ٤٢٣

المسلك الأول في معنى اصالة عدم النسخ وتقديم التخصيص عليه................ ٤٢٤

المسلك الثاني.............................................................. ٤٢٥

المسلك الثالث............................................................ ٤٢٧

تعيّن التخصيص مطلقا عند المشهور.......................................... ٤٤٣

في دوران أمر الخاص بين كونه مخصصا أو ناسخا للعام.......................... ٤٤٤

البداء....................................................................... ٤٤٦

أصول البداء في القرآن والسنة وكتب الديانات الأخرى.......................... ٤٤٧

خصائص البداء عند أئمة أهل البيت عليهم‌السلام................................... ٤٤٩

الحلول المقترحة لحل الإشكال الموجه على البداء................................ ٤٥١

الفرق بين العلم بالشيء واتخاذ القرار......................................... ٤٥٣

تصنيف القرار الرباني إلى قضية تنجيزية وأخرى تعليقية.......................... ٤٥٤

تصور آخر في بيان وجه آخر من البداء يوضح المعجزة والدعاء................... ٤٥٦

نسخ الكتب السماوية السابقة لا يستلزم التناقض.............................. ٤٥٨

٥٧٥

ورود البداء بمعنى الظهور في الصحاح والتفاسير ولزوم كون إرادة الله حادثة......... ٤٥٩

المطلق والمقيد

الفصل الأول : اعتبارات الماهية................................................. ٤٦٣

معاني اسم الجنس.......................................................... ٤٧٧

التقابل بين الإطلاق والتقيد ، من أي أنواع التقابل............................. ٤٧٨

ثمرات هذا التقابل.......................................................... ٤٧٩

الفصل الثاني : مقدمات الحكمة................................................ ٤٨١

المسلك الأول............................................................. ٤٨١

المسلك الثاني.............................................................. ٤٨٧

تشخيص مقدمات الحكمة.................................................. ٥٠٣

تنبيهات مقدمات الحكمة................................................... ٥١٦

حالات اسم الجنس........................................................ ٥٣٣

بحث المقيّد................................................................... ٥٤٥

المقام الأول : المقيّد المتصل.................................................. ٥٤٥

المقام الثاني : المقيّد المنفصل................................................. ٥٥٠

دعوى علاج التعارض بين المطلق والمقيّد المنفصل بحمل المطلق على المقيّد.......... ٥٥٠

المجمل والمبيّن................................................................. ٥٥٧

القسم الأول : المجمل بالذات............................................... ٥٥٨

النوع الأول............................................................... ٥٥٨

النوع الثاني................................................................ ٥٦٥

القسم الثاني : المجمل بالعرض............................................... ٥٦٦

نهاية بحوث الدليل اللفظي.................................................. ٥٧١

الفهرس...................................................................... ٥٧٣

٥٧٦