بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، حيث يقول : بأنّ جعل الإمارة يستلزم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ، فالمولى إذا أخّر البيان عن وقت الحاجة والعمل ، فحينئذ ، يكون الحكم الظاهري قد فوّت عليه المصلحة وأوقعه في المفسدة. وحينئذ : يجاب بما أجيب به «ابن قبة».

وإن أريد من محذور قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، هو نقض المتكلم لغرضه بما هو متكلم لا بما هو شارع.

فجوابه : هو ، انّه من قال بأن هذا المتكلم غرضه الشخصي بما هو متكلم هو توضيح تمام مرامه ، نعم لو كان الغرض النوعي للمتكلم هو توضيح تمام مرامه عادة ، لا الغرض الشخصي له ، وأخرّ البيان عن وقت الحاجة ، للزم حينئذ نقض الغرض النوعي لا الشخصي ، وحينئذ ، لا استحالة في أن ينقض المتكلم غرضه النوعي ، لأنّه قد لا يكون الغرض النوعي غرضا له ، فنقضه حينئذ ، لأنّه شذّ عن النوع ، ليس فيه استحالة.

إذن فتأخير البيان عن وقت الحاجة ليس فيه قبح ولا محذور سوى شبهة «ابن قبة» ، وعليه : لا يشترط في إمكان التخصيص ، مجيء المخصص قبل وقت العمل بالعام ، بل يمكن كونه مخصصا ، سواء ورد قبل وقت العمل أو بعده.

وأمّا النسخ ، فأيضا هناك كلام مشهور فيه وحاصله : انّ الناسخ يجب أن يجيء بعد وقت العمل بالمنسوخ ، إذ لا يعقل أن يكون قبله.

وهذا الكلام صوري أيضا ، لأنّ هذا الكلام إن كان بملاك انّ النسخ رفع للحكم الثابت ، ورفع الشيء فرع ثبوته ، فما لم يجيء وقت العمل ويصبح الحكم فعليا ، لا يكون الناسخ قابلا لرفع ذلك الحكم ، لأنه لم يثبت الحكم لكي ينسخ.

إن كان هذا الكلام بهذا الملاك ، فجوابه : إنّ النسخ وإن كان رفعا ،

٤٢١

والرفع فرع الثبوت ، لكنه حينئذ هو رفع بلحاظ عالم الجعل وعالم القضية الكلية ، لا بلحاظ عالم فعليّة المجعول خارجا ، وأمّا مجيء وقت العمل فهو دخيل في فعلية المجعول لا الجعل ، فمثلا : وجوب الحج له ثبوتان ، ثبوت فعلي ، وثبوت بنحو القضية الشرطية ، وما نسخ هو الثبوت بنحو القضية الشرطية حتى قبل مجيء وقت العمل ، إذن ، فهذا البيان واضح البطلان.

وإن كان اشتراط أن يكون الناسخ بعد مجيء وقت العمل بالمنسوخ ، باعتبار أنّ النسخ قبله موجب للغويّة قبل ذلك ـ بعد فرض كون المولى سنخ مولى يعلم بأنّه سينسخ الحكم ، لا أنه مولى يحصل له البداء حيث يعقل في حقه النسخ حينئذ ـ فإنه حينئذ ، إن كان جعله للحكم مع التفاته بأنّه سينسخه قبل مجيء وقت العمل ، فهو لغو ، إلّا إذا كان جعله هذا امتحانا ، وقد أخطأنا فسمّينا رفع الامتحان نسخا خلافا لمصطلح الأصوليين ، حيث انّ النسخ عندهم عبارة عن رفع حكم ثابت حقيقي.

وإن كان جعل هذا المولى للحكم من دون التفات منه إلى أنه سينسخه قبل مجيء وقت العمل ، فهذا خلف علمه المطلق ، فإن كان هذا هو البرهان على اشتراط مجيء الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ، فهذا لا يشمل ما لو فرض إنّ عدم مجيء وقت العمل كان من باب الصدفة ، بمعنى أنّ جعل الحكم ثبت ومرّ عليه زمن كان في معرض أن يصبح فعليا لكنه صدفة لم يصبح فعليا ثم نسخ ، أي إنّ عدم مجيء وقت العمل بالحكم المجعول وعدم صيرورته فعليا كان صدفة ، فإنّ الصدفة هذه بعدم صيرورته فعليا ، أمر غيبي لا يمكن إحرازها إلّا بعلم غيبي ، فحينئذ ، لا لغويّة في جعل الحكم ، لأنّ العلم الغيبي دخيل في تصحيح الخطابات الصادرة من المولى إلى الناس ، وهذا الخطاب بما انّه عرفي ، يكون معقولا ومؤثرا لأنّه لا يراد به إلّا أن يكون في معرض أن يؤثر ، وهذا كاف في صحة جعله.

نعم ، لو فرض انّ عدم مجيء وقت العمل كان حتميا لا صدفة ، فهو لغو حينئذ.

٤٢٢

وبهذا يتضح ، انّه لا التخصيص يشترط في إمكانه وروده قبل حضور وقت العمل بالعام ، ولا النسخ يشترط في إمكانه وروده بعد حضور وقت العمل.

وقد قلنا في أول الكلام ، إنّ مسألة دوران الأمر بين النسخ والتخصيص تحتاج إلى مقدمة تبحث في انّه متى يمكن النسخ ومتى يمكن التخصيص وبعدها نعرف انّه إذا دار الأمر بينهما أيّهما الذي ينبغي أن يقدم.

وإلى هنا كان الكلام في المقدمة ، وعلى ضوئها نعالج مسألة دوران الأمر بين التخصيص والنسخ فنقول : إنّ دوران الأمر بين التخصيص والنسخ له صورتان.

الصورة الأولى : هي أن يتأخر العام عن الخاص ، وحينئذ يدور الأمر بين كون العام ناسخا للخاص ، وبين كون الخاص مخصصا للعام.

الصورة الثانية : هي أن يتأخر الخاص عن العام ، وحينئذ ، يدور أمر الخاص بين كونه مخصصا وكاشفا عن عدم شمول حكم العام لمورده وموجبا لخروج موضوعه عن حكم العام من أول الأمر ، وبين أن يكون ناسخا ، فينفي ثبوت حكم العام في مورده في الزمان اللاحق ، أي من حين صدور الخاص فما بعد ، بمعنى انّ الخاص من أول الأمر وابتداء يكون حكمه هو الحكم الواقعي.

أمّا الصورة الأولى : وهي ما لو فرض كون الأمر دائرا بين مخصصيّة المتقدم للمتأخر أو ناسخيّة المتأخر للمتقدم ، فإنّ المعروف فيها بين الفقهاء عملا والأصوليين نظرا واختيارا ، تقديم التخصيص.

وقد يستشكل في توجيه ذلك حيث قيل : بأنّه ما هي النكتة في تقديم التخصيص على النسخ ، أو اصالة عدم النسخ على اصالة عدم التخصيص؟

وهذا الاستشكال تختلف صياغته الفنية بحسب المسالك في معنى اصالة عدم النسخ وفي حقيقة النسخ ، وحينئذ سوف نذكر ثلاث مسالك في

٤٢٣

معنى اصالة عدم النسخ ، يترتب على ضوء كل مسلك منها صياغة خاصة للاستشكال.

المسلك الأول : هو أن يقال : إن النسخ تخصيص وتقييد في الأزمان ، فإنّ الدليل كما يمكن تخصيصه بحسب الأفراد ، يمكن تخصيصه بحسب الأزمان أيضا ، فالنسخ تصرف في الدليل في عالم الكلام ، لا في عالم ما وراء الكلام ، إذ وراء الكلام لا نسخ أصلا ، لأنّ الحكم في عالم الجعل من أول الأمر يكون مجعولا مقيدا بزمان مخصوص ، وحينما ينتهي هذا الزمان المخصوص ينتهي موضوع الحكم بحسب الحقيقة ، لا انّ هناك حكم ثابت ويرفع ، هذا بحسب عالم الثبوت ، لكن بحسب عالم الإثبات ولسان الدليل ، فإنّ الدليل ظاهر في العموم الأزماني ، أي إنّ المجعول لم يؤخذ فيه زمان دون زمان ، إذن فيشمل كل الأزمنة ، بخلاف التخصيص ، فإنه يؤخذ فيه فرد دون فرد ، وهكذا يكون النسخ والتخصيص كلاهما تصرف في عالم الإثبات ، أي رفع اليد عن إطلاق الدليل ، لكن الأول بلحاظ الأزمان ، والثاني بلحاظ الأفراد.

وعليه : فالنسخ والتخصيص روحهما شيء واحد ، لكن أحدهما تصرف في عامود الزمان ، والآخر تصرف في الأفراد.

وبناء على هذا المسلك ، يكون معنى اصالة عدم النسخ ، عبارة عن اصالة الإطلاق والعموم في المجعول بلحاظ الزمان ، فكما نتمسك باصالة الإطلاق والعموم بلحاظ الأفراد ، فيما إذا شك في انّ التوارث بين المهاجرين والأنصار هل يختص بخصوص الشيوخ منهم ، أو انّه يعمّ الشباب أيضا ، كذلك نتمسك باصالة الإطلاق في دليل التوارث ، لو شككنا في انّ هذا الدليل هل يشمل تمام الأزمنة أو بعضها.

وبعد اتّضاح أنّ النسخ تصرف في مقام الإثبات ، يكون معنى هذا الأصل إذن ، هو ، اصالة الإطلاق.

وبناء على انّ اصالة عدم النسخ معناها ذلك ، حينئذ ، يكون التعارض

٤٢٤

بين العام المتأخر والخاص المتقدم تعارض بين إطلاقين ، أحدهما ، الإطلاق الازماني للخاص ، والذي نسميه باصالة عدم النسخ ، لأنّ مقتضاه ، إنّ الحكم المجعول في الخاص ثابت في كل الأزمان ، أي حتى بعد ورود العام ، والثاني الإطلاق الأفرادي للعام ، فإنّ مقتضاه انبساط حكم العام من حين صدوره على كل أفراده بما فيهم ذاك الخاص ، وهذان الإطلاقان ، النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه.

فمادة افتراق الإطلاق الأزماني للخاص ، هي زمان ما قبل ورود العام ، لأنه في هذا الزمان لا يوجد عام ليتعارض مع الخاص.

ومادة افتراق العام هو ، حكم غير الخاص من الأفراد ، فإنّ حكم غير الخاص ، لا يعارض مع العام ، أو فقل : حيث انّ العام فيها لا معارض له حينئذ.

ومادة الاجتماع بينهما ، هي حكم أفراد الخاص بعد ورود العام.

وحينئذ يقال : بأنه إذا كانت النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص ، فلما ذا يقدّم الإطلاق الأزماني في الخاص ، والمسمّى باصالة عدم النسخ ، على الإطلاق الأفرادي في العام ، والمسمّى باصالة عدم التخصيص؟

المسلك الثاني : هو أن نبني على أنّ النسخ تصرف في مرحلة الثبوت وفي عالم الجعل والتشريع ، وذلك بأن يكون المولى قد جعل الحكم مطلقا من دون أن يأخذ الزمان قيدا في المجعول ، على نهج القضية الحقيقية ، فالإطلاق في الدليل كان مطابقا للواقع ، لأنّ الجعل كان على وجه الإطلاق ، والدليل كان يعبر عن هذا الإطلاق في الجعل ، غاية الأمر ، انّ هذا الجعل الذي صدر من المولى على وجه كلي ومطلق كان له نحو بقاء واستمرار عرفي وخارجي بحسب عالم المولوية ما لم يرفع المولى يده عنه ، وحينئذ ، المولى حينما يريد أن ينسخ الحكم ، يرفع يده عن هذا الجعل ، فالنسخ إذن ، ليس عبارة عن انتهاء أمد المجعول ، لأنّ المجعول لم يؤخذ فيه قيد بزمان خاص لينتهي أمده بانتهاء ذلك الزمان ، بل النسخ هو رفع اليد عن نفس الجعل

٤٢٥

باعتبار انّ الجعل له بقاء واستمرار ، كالفسخ في العقد الخياري ، فإنّه فسخ لنفس العقد الذي هو يمثل الجعل ، فإنّ المولى حينما يريد الفسخ يرفع يده عن هذا الاستمرار والبقاء ، غاية الأمر انّ هناك فرقا بين المولى سبحانه وتعالى ، وبين المولى العرفي ـ الإنسان ـ فإن المولى تعالى حينما جعل الحكم بنحو كلي ومطلق يعلم من أول الأمر بأنه سوف يرفع يده عن هذا الجعل بعد مدة ، بخلاف المولى العرفي فإنه يتخيّل له بأن هذا الجعل سوف لن يرفع يده عنه ، بل قد لا يعلم بذلك أبدا ، إذن فالنسخ بناء على هذا هو عبارة عن رفع اليد عن الجعل كما هو الحال في النسخ العرفي.

وبناء على هذا المسلك ، فإنّ اصالة عدم النسخ حينئذ ، ليس معناها اصالة الإطلاق ، لأنّ اصالة الإطلاق ، مرجعها إلى توسعة دائرة المجعول ، والنسخ ليس تقييدا في المجعول كي نحتاج إلى اصالة الإطلاق لنتمسك بها لنفي القيد ، بل هو رفع للجعل ، ولا يمكن التمسك بإطلاق نفس الدليل لنفي النسخ باعتبار انّ هذا الدليل مفاده أصل حدوث الجعل ، وليس ناظرا إلى مرحلة بقائه واستمراره.

وبعبادة أخرى ، إنّ الدليل باعتباره جملة إنشائية ، فهو لا يتكفّل إلّا إنشاء الجعل ، وأمّا بقاء الجعل واستمراره فإنّهما ليس من شئون الجملة الإنشائية ، بل هما من شئون جملة خبرية أخرى وفي عهدتها ، إذن فعدم النسخ لا يمكن إثباته بإطلاق الدليل ، لا بإطلاق المجعول ، لأنّ النسخ ليس تقييدا في المجعول لننفيه بإطلاق المجعول ، ولا بإطلاق الجعل ، لأنّ الدليل يوجد الجعل وينشئه ، وإطلاق الجعل ، يستحيل أن يتكفله نفس دليل ذلك الجعل الذي يكون إنشاء لذلك الجعل ، لأنّ ذلك الدليل لا نظر له إلى بقاء الجعل وارتفاعه إذ ليس هذا من شأنه ، وإنّما البقاء والاستمرار من شئون الجملة الخبريّة.

إذن ، بناء على هذا المسلك فعدم النسخ لا يمكن إثباته بالإطلاق ، لا بلحاظ الجعل ولا بلحاظ المجعول.

٤٢٦

نعم ، يمكن إثبات اصالة عدم النسخ باستصحاب بقاء الجعل ، فإنّ الجعل له بقاء واستمرار عقلائي ، وحينئذ ، إذا شك في بقائه ، فإنه يجري استصحاب بقائه ، وهذا أصل عملي لا لفظي.

وهكذا ، تصبح اصالة عدم النسخ أصلا عمليا وليست أصلا لفظيا ، غاية الأمر ، انّ هذا الاستصحاب بالخصوص لا يتوقف على تماميّة صحيحة زرارة في الاستصحاب ، بل هذا الاستصحاب هو مورد إجماع المسلمين وقبل صحيحة زرارة.

وبناء على هذا المسلك ، تكون صياغة الإشكال أوضح حيث يقال : إنّه بعد أن تبيّن انّ اصالة عدم النسخ أصل عملي ، واصالة عدم التخصيص أصل لفظي ، ومع التعارض لا بدّ من تقديم الأصل اللفظي ـ أي اصالة عدم التخصيص ـ على الأصل العملي ـ أي على اصالة عدم النسخ ، فكيف ذهبتم إلى تقديم اصالة عدم النسخ؟

المسلك الثالث : هو أن يقال : إنّ حقيقة النسخ هي ما ذكرناه في المسلك الثاني حرفا بحرف ، لكن يضاف هنا فيقال : إنّ اصالة عدم النسخ ليست أصلا عمليا ، كما انّها ليست اصالة الإطلاق ، بل مرجع اصالة عدم النسخ إلى ظهور معتبر وحجة معتبرة عند العقلاء ، وذلك انّ هذا المولى ـ لإنسان ـ الذي نتكلم عنه ، يختلف نسخه عن نسخ غيره من الناس ، فإنه سنخ مولى وإن كان يعمل كما يعمل الناس والموالي العرفيين من جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية بنحو يشمل تمام الأزمنة ، لكن هو يعلم انّ إطلاق هذا الجعل للأزمنة المتأخرة ، سوف يرفع اليد عنه.

وهذا معناه : إن جعل الحكم بلحاظ الزمان المتأخر إنّما كان لمجرد الاستطراق إلى مصلحة في جعل هذا العام ، إذن ، وبناء على هذا ، فالشك في النسخ ، مرجعه إلى الشك في إنّ إطلاق الجعل ثبوتا هل هو جدّي أم استطراقي إلى مصلحة في نفس الظهور؟

وهنا يدّعى وجود ظهور عرفي عقلائي في جدّية الجعل ، بمعنى انّ

٤٢٧

ظاهر الجعل ان يكون جعلا لملاكات مولوية باعثية وتحريكية حقيقية ، لا إنّه جعل لمجرد الاستطراق ، أي لإظهار العموم للعامة ، وهذا الظهور هو اصالة عدم النسخ ، إذن ، فتكون اصالة عدم النسخ راجعة إلى أصل لفظي.

وبناء على هذا المسلك ، تكون صياغة الإشكال بأن يقال : إنّه هنا ، نواجه ظهورين متعارضين ، أحدهما ظهور العام في العموم ، والآخر هو ظهور الجعل في الخاص في الجديّة ، فإن كان الخاص مخصصا انثلم الظهور الأول ، وإن كان العام ناسخا ، فالثاني لم ينثلم إطلاقه لكن معناه ، إنّ الجعل فيه بلحاظ ما بعد ورود العام كان جعلا استطراقيا لا جديا.

إذن ، فهما ظهوران متكافئان ، ولا موجب لتقديم أحدهما على الآخر.

هذه كانت صياغة الإشكال بناء على كل من المسالك الثلاثة.

ولحل هذه المشكلة ، يوجد ثلاث اتجاهات ، متمثلة بأجوبة ثلاث عن هذه المشكلة.

الجواب الأول : وهو يصلح جوابا للإشكال بناء على المسالك الثلاث ، دون أن يرتبط بمسلك دون مسلك ، وحاصله : هو انّ المشكلة كانت تفترض أصلا موضوعيا حاصله : إنّ العام المتأخر ورودا وخطابا هو متأخر مفادا ومدلولا أيضا.

إلّا انّ هذا الأصل الموضوعي غير صحيح ، لأنّ العام المتأخر ، هو متأخر ورودا وخطابا فقط ، وليس متأخرا مفادا ، وذلك لأنّ جميع الخطابات الصادرة من الشارع كلها ناظرة إلى نقطة زمانية واحدة ، وهي زمان التشريع ، فمثلا ، الخاص الصادر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتقدم على العام الصادر من الإمام عليه‌السلام صدورا ، لكنه يساويه مفادا ، لأنه لا يريد إثبات حكم مجعول من حين صدور الخطاب من الإمام عليه‌السلام بل هذا كأيّ خطاب صادر عن الأئمة عليهم‌السلام ، ناظر إلى زمان نزول الوحي والشريعة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذن ، فالنقطة الزمنية الملحوظة في العام هي نفسها ملحوظ في الخاص ، وعليه

٤٢٨

يكون الخطابان كما لو تقارنا زمانا ، فكما لا يستشكل في التخصيص في صورة تقارن العام والخاص ورودا ، فكذلك في محل الكلام ، لأنّ نفس النكتة المستدعية للتخصيص مع التقارن ـ وهي أنّ العمل بالعام يكون موجبا لإلغاء الخاص رأسا ، بخلاف العكس ـ تستدعيه مع تأخر العام صدورا ، إذن فنفس النكتة المستدعية للتخصيص في سائر الموارد تستدعيه هنا أيضا.

وهذا البيان صحيح ، ويعتمد عليه في بيان تقديم التخصيص ، لأنّه من الواضح انّ الخطابات الصادرة عنهم عليهم‌السلام ، هي بحسب ظهورها العرفي ، ناظرة إلى إثبات متعلقاتها في زمن التشريع ولو باعتبار ارتكازيّة انّه لا تشريع بعد زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكون هذا الارتكاز قرينة على الظهور في ذلك المعنى.

لكن هذا البيان لا يتم في بعض الحالات ، وذلك ، كما لو فرضنا انّ الخاص والعام معا كانا واردين في زمن صدور التشريع في عصر وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في القرآن الكريم ، بأن ورد الخاص في السنة الأولى من الهجرة ، ثم ورد العام في السنة الخامسة منها ، فهنا ليس في هذه الخطابات القرآنية قرينة لبيّة عامة تستدعي أن يكون نظرها جميعا إلى نقطة زمنيّة واحدة ، وليس في العام ظهور في انّه ناظر إلى السنة الأولى ، لوضوح أنّ الشريعة في دور النزول شيئا فشيئا كانت في دور التكامل شيئا فشيئا ، فهي لم تكتمل عناصرها إلّا بعد انتهاء الوحي ، وعليه ، ففي فترة نزول الوحي كل خطاب يصدر منه يكون ظاهرا في تعيين مفاده من حين صدوره ، وليس له ظهور في انّ مفاده ناظر إلى ما قبل ذلك إلّا بعناية ، إذن فهذا البيان لا يتم هنا ، وحينئذ لا يتعيّن التخصيص ، وتبقى المشكلة موجودة وبحاجة إلى جواب آخر.

الجواب الثاني : وهذا الجواب ، يرتبط بالمسلكين الأول والثالث القائلين بأنّ اصالة عدم النسخ ، واصالة عدم التخصيص ، مرجعهما إلى ظهورين لفظيين عرفيين ، وهما متعارضان ، وحينئذ يقال : بأنّه لو سلّمنا وتنزلنا عن الجواب الأول وافترضنا وقوع معارضة بين إطلاقي وظهوري الخاص والعام ـ ظهور الجديّة في الخاص ، وظهور العام في العموم ـ إلّا انّنا

٤٢٩

هنا نقول بلزوم تقديم اصالة عدم النسخ لأنها أقوى من اصالة عدم التخصيص ، بمعنى انّ الظهور النافي للنسخ ، يقدّم على الظهور النافي للتخصيص ، لأنه أقوى.

وهذا التقديم يمكن أن يبيّن بأحد تقريبات ثلاث.

التقريب الأول للجواب الثاني : هو أن يقال : إنّه بما أنّ التخصيص أمر شائع ـ حتى قيل : «ما من عام إلّا وقد خص» ـ فهو يوجب تزعزع ظهور العام في العموم ، بخلاف النسخ ، فإنّه لمّا كان حالة نادرة الوقوع لذا يكون الظهور الذي ينفي النسخ محكما وقويا ، إذن ، فكثرة انحزام ما ينفي التخصيص تجعله أضعف ممّا ينفي النسخ ، فإذا تعارضا ، يقدم ظهور اصالة عدم النسخ ، أي الظهور الذي ينفي النسخ.

وتماميّة هذا التقريب تتوقف على أمور.

الأمر الأول : هو أن تكون كثرة التخصيص من جانب العمومات ، وندرة النسخ في المنسوخات قد بلغت حدا يوجب الأقوائيّة في الظهور وقوة الظن النوعي الخارجي بالتخصيص ، وبلغت حدا يوجب الأضعفية في النسخ ، ولا يكفي مجرد قوة الظن الشخصي معيارا لتقديم أحد الظهورين على الآخر ما لم يصبح ظنا نوعيا بأقوائية أحد الظهورين على الآخر ، لأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور الأقوى بما هو ظهور عرفي ، لا الأقوى احتمال مطابقيّة للواقع احتمالا شخصيا ، إذن لا بدّ لصاحب هذا التقريب من إثبات كون كثرة التخصيص وقلة النسخ قد بلغت حدا توجب كون ظهور العام في العموم بما هو ظهور عرفي أضعف.

الأمر الثاني : هو أن يكون ورود هذا العام بعد استقرار كثرة التخصيص خارجا ، وظهور انّ المولى يخصص كثيرا ، إذ من الواضح انّ تناقص درجة الظهور في العموم يكون أمرا تدريجيا وبمقدار تزايد درجة الظهور في التخصيص.

٤٣٠

وهذه مسألة تحتاج إلى مرور زمن طويل كي تستقر هذه الفكرة في أذهان العرف وتتحول إلى شعور ارتكازي يضعّف هذا الظهور في قبال ذاك.

ولو فرضنا انّ هذا حصل في فترة متأخرة ، إذن فعند حصولها لم يكن ظهور العام أقل من ظهور الخاص ، وحينئذ لا ينطبق هذا الكلام على ما قبل هذه الفترة التي ارتكزت فيها هذه الفكرة المذكورة.

الأمر الثالث : هو أن يبلغ شيوع التخصيص حدا يصدق معه دعوى : «انّ ما من عام إلّا وقد خص» أو لا ، وهذه الدعوى وإن كانت صحيحة في باب المطلقات بالجملة ، كما في المطلقات الدالة على الإطلاق بمقدمات الحكمة ، لكن في باب العمومات الدالة على العموم بالوضع فهي غير مسلمة ، وذلك لقلة هذه العمومات الوضعية ، خصوصا بناء على المختار ، من انّ الجمع المحلّى باللّام ، والمفرد المحلّى باللام ، والجمع المضاف ، والنكرة في سياق النفي ، كل هذا ليس من أدوات العموم ، وإنّما العموم الوضعي ما كان بأداة ، «كل ، وجميع» ، إذن ، فكل هذه مطلقات حكميّة ، ودائرة العموم الوضعي فيها ضيّقة ، وأمثلتها في الكتاب والسنة قليلة ، وحينئذ ، لا نسلم انّه في حدود هذه الدائرة الضيّقة ، يكون التخصيص شائعا ، كي يوجب تقديمه على النسخ.

التقريب الثاني : لهذا الجواب الثاني هو أن يقال : إنّا قد عرفنا بأنّ الشارع كثيرا ما كان يعتمد على القرائن المنفصلة ، بخلاف العرف كما تقدّم ، وقد ذكرنا سابقا في بحث وجوب الفحص عن المخصّص قبل العمل بالعام ، فقلنا : إنّ العمومات الصادرة من المولى لا يشملها دليل الحجية ، فهي ليست حجة بنفسها ، لأنّ دليل الحجية إنّما هو السيرة العقلائية ، وهي دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهي لم تنعقد على حجية عمومات مثل هذا المولى الذي يعتمد على القرائن المنفصلة ، وإنّما بني على حجيّة عموماته باعتبار سيرة المتشرعة.

ومن الواضح ، انّ سيرة المتشرعة إنّما قامت على حجية هذه العمومات

٤٣١

في غير ما إذا كانت في البين خاص متقدم ، وأمّا مع وجوده واستلزام نسخه بالعام فإنه لم تقم السيرة المذكورة على حجية العام والعمل به.

والحاصل هو ، إنّه أساسا ، دليل حجية هذه العمومات لا إطلاق فيه لهذه الحالة ، وهذا بخلاف دليل حجية الإطلاق الأزماني ، حيث لم يعلم انّه من ديدن الشارع فيه الاعتماد على القرائن المنفصلة ، لندرة النسخ ، وعليه : فيبقي مشمولا لدليل الحجية الذي هو السيرة العقلائيّة ، وهذا هو وجه تقديم الإطلاق الأزماني على الإطلاق الأفرادي.

وهذا الجواب ، أحسن من سابقه ، لأنّه لا يرد عليه كل ما ورد على السابق.

إلّا أنّ هذا الجواب مبني على سقوط العمومات التي تكون في معرض التخصيص عن الحجيّة رأسا عند العقلاء.

وكنّا قد أوضحنا سابقا انّ العام الذي هو في معرض التخصيص ، إذا لم يعثر بالفحص عن مخصّصه فإنّه يخرج من دائرة المعرضيّة ، وقد عرفت انّ دعوى سقوطه عن الحجية رأسا لا موجب لها.

التقريب الثالث للجواب الثاني : هو أن يقال : لو سلّمنا انّ هذه العمومات التي هي في معرض التخصيص قد انعقدت السيرة العقلائية على حجيتها إذا سلمت من هذه المعرضيّة.

لكن سلامة هذه الحجيّة ، مع وجود خاص متقدم صالح لتخصيص هذه العمومات ، هو أوّل الكلام ، إذ تسلم حجية العام عند عدم وجود خاص صالح لتخصيصه ، وأمّا مع وجود خاص واحتمال كونه مخصصا عند العقلاء يكفي في سقوط إطلاق العام عن الحجية ، وهذا بخلاف إطلاق الخاص ، فإنّه سالم عن المعرضية لندرة النسخ ، وعليه : تكون المعارضة بينهما ، معارضة بين الحجة واللّاحجة ، وذلك لسلامة حجية إطلاق الخاص ، وعدم سلامة حجية إطلاق العام ، وهذا التقريب أرقى من سابقيه.

٤٣٢

والخلاصة هي أنّ العام لكونه في معرض التخصيص ، سيّما مع وجود خاص متقدم صالح لتخصيصه ، فإنه والحال هذه لم تنعقد السيرة العقلائية على حجيته.

وقد يتوهم انّ الكلام بنفسه يجري في جانب الخاص حيث يقال : إنّ الخاص هو أيضا في معرض النسخ في المقام ، بدعوى انّ اصالة عدم النسخ مرجعها إلى الإطلاق الأزماني ، والإطلاق معرّض للتقييد ، إذن فنفس المعرضيّة الموجودة في العام هي موجودة في الخاص ، حيث يحتمل كون العام ناسخا له ، وما لم يتخلص من هذه المعرضيّة وهذا الاحتمال في إطلاق الخاص ، فإنه لا يكون حجة كما صار عليه العام.

وهذا التوهم غير صحيح.

وجوابه : يكون بلحاظ المسالك الثلاثة المتقدمة.

أمّا جوابه بلحاظ المسلك الأول ـ والذي يرجع اصالة عدم النسخ إلى الإطلاق الأزماني في دليل الحكم ـ هو أن يقال : إنّ الإطلاقات الأزمانية ليست في معرض التقييد ، لأنّ تقييدها عبارة عن النسخ ، ولمّا كان النسخ نادرا فهو لا يوجب وجود حالة المعرضيّة فيها ، وهذا بخلاف الإطلاقات الإفرادية ، فإنّ شيوع التخصيص الإفرادي يوجب وجود حالة المعرضيّة للتقييد فيها ، ومن ثمّ يوجب وهن حجيّتها ، وعليه : فالإطلاق الأزماني مقتضى الحجية فيه موجود ، والمانع عنها مفقود ، أمّا كون مقتضي الحجية موجود ، فلأنّ ظهور الإطلاق الأزماني لم يبتل بما يعرضه للتقييد ، وأمّا كون المانع عن الحجية مفقود ، فلأنه لا يتصور مانع على تقدير وجوده ، إلّا العموم ، واصالة العموم في نفسها غير جارية ، إذن ، فلا مانع من جريان اصالة عدم النسخ.

وأمّا جواب التوهم على المسلك الثالث فهو ، أن يقال : بأنّه حتى لو فرض انّ النسخ كان كثيرا أيضا كالتخصيص ، رغم هذا ، فإنّ كثرة النسخ حينئذ ، ليس معناه ضعف كاشفية الخطاب ، بل هدم وعدول عن مدلول الخطاب بعد كشفه وصدقه وكاشفيته كما هو مبنى المسلك الثالث ، وحينئذ ،

٤٣٣

كثرة النسخ لا توجب وهنا في كاشفية الخطاب ، لأنّ النسخ ليس منافيا مع كاشفيته ، لأنه لا علاقة للنسخ بضعف الكاشفيّة ، وكثرة عدول المولى عن مدلول كلامه ، لا يبرّر رفع اليد عن مدلول ذلك الكلام وأحكامه ما لم يكن هناك قرينة بالفعل على ذلك ، وبهذا يتضح الفرق بين كثرة النسخ وبين كثرة التخصيص.

وهذا التقريب ، رغم انّه حسن ، إلّا أنّه لا يخلو من إشكال ، وذلك : لأنه متوقف على أصل موضوعي ، وهو كثرة التخصيصات بحيث يكون العام في معرض التخصيص ، معرضيّة توجب وهنه وتزلزلا في كاشفيته وتوقفا من قبل العقلاء في حجيته ما لم يخرج عن تلك المعرضية.

ومن الواضح : انّ هذا الأصل الموضوعي ـ اصالة المعرضية للتخصيص ـ إنّما هو متوفر في كلام الأئمة عليهم‌السلام ، الذين عاشوا ظروفا غير عادية وغير طبيعية في مقام التبليغ ، أدّت إلى أن يكون طرز البيان لديهم عليهم‌السلام ، غير عرفي في بعض الجهات ، ممّا أوجب أن يعتمدوا على القرائن المنفصلة لضيق الخناق.

وأمّا بالنسبة للبيانات الصادرة في عصر التشريع ـ كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سواء كانت قرآنية أو نبوية ، فلم يعلم فيها كثرة التخصيص بالمخصّصات المنفصلة حتى يوجب ذلك ، إلّا إذا فرغنا عن هذه المسألة وأثبتنا فيها انّه كلّما دار الأمر بين النسخ والتخصيص ، فالتخصيص هو المتعيّن ، وأمّا قبل الفراغ عن هذه المسألة وقبل قيام برهان على ذلك ، فنحن نحتمل أنّ ما نراه في موارد المعارضة بين العام والخاص أن يكون من باب النسخ لا التخصيص ، وإذا كان بابه باب النسخ ، فسوف يكون التخصيص قليلا جدا ، ومعه لا يبقى العام في معرض التخصيص بالشكل الذي ذكر ، بحيث يوجب انثلام حجية العام بنظر العقلاء ، ومعه : لا يفيدنا هذا الجواب بالنسبة إلى عصر التشريع ، وإن أفادنا بالنسبة إلى عصر الأئمة عليهم‌السلام ، إذن ، فهو لا يزيد عن الجواب الأول بشيء ملحوظ.

٤٣٤

والحاصل : إنه لا يمكن الاستدلال على تقديم التخصيص بهذا الجواب ، لأنّ هذا الجواب يفترض المعرضية أصلا موضوعيا والمعرضيّة فرع إحراز كثرة التخصيصات المنفصلة الواردة في الكتاب والسنة النبوية ، وكثرة التخصيصات هذه ، لا تحرز إلّا بعد الفراغ عن هذه المسألة وإثبات انّه كلّما دار الأمر بين النسخ والتخصيص فالتخصيص يكون هو المتعيّن ، إذن ، فكيف نثبت هذه المسألة بأصل موضوعي يتوقف إثباته على الفراغ عن هذه المسألة ، إذن فالمسألة دورية ، إذن فهذا الجواب غير مفيد.

الجواب الثالث : هو أن يقال بتقديم اصالة عدم النسخ على اصالة عدم التخصيص بما يشبه الحكومة ، وهذا الجواب يمكن تقريبه بتقريبات ثلاث :

التقريب الأول : هو أنّ اصالة الظهور التي تسمى باصالة عدم التخصيص ليست في مرتبة اصالة الظهور التي تسمى باصالة عدم النسخ ، بل هما في مرتبتين طوليتين ، إذ أنّ هناك مرحلتين مترتبتين.

المرحلة الأولى : مرحلة تعيّن مدلول الكلام ومفاد الدليل ومراد المولى من هذا الكلام.

وفي هذه المرحلة يقال : إنّ المولى قد يريد من العام العموم ، وقد يريد منه الخصوص ، وهنا تجري اصالة عدم التخصيص لإثبات أنّ مراد المولى هو العموم ، ثم بعد أن يتبيّن مراد المولى والمتكلّم ، تأتي المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية : وهي مرحلة تعيّن انّ هذا الحكم هل هو حكم صوري ، أم أنّه حكم جدّي ثابت ومجعول لكي يبقى ، وهنا يوجد ظهور آخر يسمّى باصالة عدم النسخ ، أو باصالة الجدّ ، يثبت جدّية الحكم ويكون هو المحكّم ، إذن ، هنا اصلان ينتسبان إلى مرتبتين من الدلالة ، وحينئذ ، يقال : إنّنا بين أمرين ، فإمّا أن نجمع بين الدليلين جمعا دلاليا بلحاظ المرتبة الأولى ، فتخصّص العام بالخاص ، ويكون الخاص قرينة على أنّ المراد من العام هو الخاص.

٤٣٥

وإمّا أن نجمع بينهما جمعا جهتيا بلحاظ المرتبة الثانية فنقول : بأنّ الجعل الثابت في الخاص لم يجعل لكي يبقى ، بل جعل لكي ينسخ ويلغى ، فننسخ الخاص بالعام.

إذن ، فنحن بين جمعين ، مفاد الأول ، إسقاط اصالة عدم التخصيص ، ومفاد الجمع الثاني ، إسقاط اصالة عدم النسخ ، وحينئذ يقال : بما انّ الجمع الأول رافع لموضوع الجمع الثاني ، فيكون حاكما عليه ، لأنّ المرتبة الثانية في طول المرتبة الأولى.

ومن الواضح ، أنّه ما لم يتعيّن انّ هذا هو مراد المتكلم من الكلام ، سوف لا تصل النوبة إلى المرتبة الثانية لنتساءل ، انّ هذا مراد جدا أم لا؟ وبناء عليه يقدم تخصيص العام على نسخ الخاص ، لأنّنا مع إعمال الجمع العرفي في المرتبة الأولى ، نكون قد رفعنا موضوع الجمع العرفي في المرتبة الثانية ، وهذا هو ما نسب إلى المحقق العراقي (١) (قدس) في مقالاته.

إلّا انّ هذا التقريب غير تام ، وذلك ، لأنّه حتى لو فرض وجود مرتبتين من الدلالة في الكلام كما تقدم ، إلّا انّ هذا التسلسل الرتبي يلحظ في كل دليل دليل برأسه ، إذ في كل دليل دليل رتبته الأولى قبل رتبته الثانية ، وهنا الأمر كذلك ، فإنّ كلّا من الخاص والعام فيه هاتان المرتبتان من الدلالة ، في المرتبة الأولى تجري اصالة الظهور لتشخيص ما هو المراد ، وفي المرتبة الثانية تجري اصالة الظهور لتعين انّ المراد والمدلول هذا جدي وثابت وليس صوريا ، فالمرتبة الثانية في كل من الدليلين ، هي في طول المرتبة الأولى من نفس ذاك الدليل وليس في طول المرتبة الأولى من دليل آخر.

والشبهة هنا لا تريد إيقاع المعارضة بين اصالتي الظهور في مرتبتي الدليل الواحد ليقال بالحكومة ، بل تريد إيقاع المعارضة بين اصالة الظهور في العام ، أي عدم التخصيص ، في المرتبة الأولى من العام ، وبين اصالة

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٦٣.

٤٣٦

الظهور ، أي عدم النسخ في المرتبة الثانية من الخاص ، وهاتان المرتبتان لا طولية بينهما ، وإنّما الطولية بين الأصلين في دليل واحد لا بلحاظ دليلين ، وحينئذ ، لا مسوّغ للحكومة.

التقريب الثاني للجواب الثالث ، وهو للعراقي (١) (قده) أيضا ، وهو صياغة عكسية للتقريب الأول ، وهو مع ذلك ادّعى الحصول على نفس النتيجة ، وهي تقديم التخصيص على النسخ.

وحاصل هذا التقريب هو ، إنّه في التقريب الأول كنّا نقول : إنّ الأصل الجاري في المرتبة الثانية في طول الأصل الجاري في المرتبة الأولى ، ولكن هنا ندّعي أنّ المرتبة الأولى هي في طول الثانية ، لأنّه في المرتبة الأولى يعيّن مدلول الكلام ، وفي المرتبة الثانية نثبت باصالة عدم النسخ انّ هذا المدلول جدي وثابت ، ومن الواضح أنّه ينبغي ان يثبت أوّل الأمر جدّية الكلام ، وبعد ذلك ، يعين المراد منه والمدلول ، إذ من الواضح انّه لا معنى لتعيين المراد من كلام غير جدي ، وعليه : فاصالة الظهور في المرتبة الأولى هي في طول اصالة الظهور في الثانية ، وهذا بعكس التقريب الأول ، فإنّ اصالة الظهور في المرتبة الثانية هي التي تثبت انّ المراد من هذا الكلام جدّي ، فيتحقق بذلك موضوع إجراء اصالة الظهور في المرتبة الأولى ، لتشخيص ما هو المراد في الأولى.

إذن ، بحسب التسلسل ، أولا ، نجري اصالة الظهور في المرتبة الثانية لتثبت أنّ المراد جدّي ، وبعد ذلك ، نجري اصالة الظهور في المرتبة الأولى ، وحينئذ نقول : لا بدّ من إجراء اصالة الظهور في المرتبة الثانية أولا ، أي اصالة عدم النسخ في كل من العام والخاص ، وبذلك يثبت جدّية كلّ منهما ، وحينئذ ، لا يتحقّق تعارض بينهما ، وإنّما ينشأ التعارض بينهما بعد إجراء اصالة الظهور في كلّ منهما في المرتبة الأولى ، لأنّ اصالة الظهور في الخاص

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٣٧

حينئذ هي عبارة عن اصالة عدم التخصيص وان المراد من الكلام هو العام ، واصالة الظهور في العام هي عبارة عن اصالة عدم النسخ وانّ المراد من الكلام هو الخاص ، وحينئذ ، يقع التعارض ، وبما أنّه تعارض في المرتبة الأولى في تعيين مفاد هذا المراد الجدّي ، فلا بدّ من إعمال الجمع العرفي بينهما في هذه المرتبة.

وقد عرفت في التقريب الأول ، أنّ الجمع العرفي بينهما بلحاظ هذه المرتبة إنّما يكون بحمل العام على الخاص وتخصيصه به ، وبهذا يثبت وجوب تقديم اصالة عدم النسخ على اصالة عدم التخصيص ، فإنّ الجمع في هذه المرتبة مفاده إسقاط اصالة عدم التخصيص ، كما عرفت في التقريب الأول ، وبهذا استطاع العراقي أن يصل إلى نفس النتيجة مع عكس الصياغة.

وهذا التقريب غير تام ، وذلك لأنّ التعارض لم ينشأ من إجراء الأصل في كل منهما في المرتبة الأولى فقط ، وإنّما نشأ من إجراء الأصل في كلّ منهما في المرتبتين ، إذ أجرى الأصل في كلّ من الدليلين أولا ، في المرتبة الثانية ، ثم أجري ثانيا في المرتبة الأولى ، وبعد ذلك حصل التعارض ، وحينئذ ، كما يمكن الجمع بينهما بلحاظ المرتبة الأولى المقتضية لإسقاط اصالة عدم التخصيص ، كذلك يمكن الجمع بينهما بلحاظ المرتبة الثانية المقتضية لإسقاط اصالة عدم النسخ.

وإن شئت قلت : إنّ هذا التقريب غير تام ، لأنّه لو فرض انّ هذه الصياغة صحيحة ، لكن التعارض الناشئ من إعمال الظهور في المرتبة الأولى نشأ من مجموع الأصلين لا من خصوص الأصل الثاني أو الأول ، فكلّ من الأصلين كان جزء العلّة للتعارض ، وإلّا فمن الواضح أنّه لو كان الأصل الأول قد أجري وحده في المرتبة الأولى ، لجرى ولم يحدث التعارض ، وكذا لو جرى هكذا في المرتبة الثانية لجرى وحده بدون معارضة ، إذن فالتعارض نشأ من ضمّ كل من الأصلين إلى الآخر في كل من الطرفين ، فالتعارض بين مجموع الأصلين هنا ، ومجموعهما هناك ، ففي كلّ من

٤٣٨

الدليلين أجرينا أولا الأصل في المرتبة الثانية ثم أجرينا الأصل في المرتبة الأولى ، ومن جرّاء ذلك ، واجهنا التعارض ، وحينئذ ، كما يمكن حلّ هذا التعارض بدفع اليد عن اصالة عدم التخصيص ، كذلك يمكن حلّه برفع اليد عن اصالة عدم النسخ.

التقريب الثالث ، للجواب الثالث ، ويدّعى فيه أنّ الحمل على النسخ هو جمع غير عرفي بين الدليلين ، بينما الحمل على التخصيص هو جمع عرفي بينهما ، إذن ، فالأمر ليس دائرا بين جمعين عرفيين ، بل هو دائر بين جمع عرفي ، وجمع غير عرفي ، ولا إشكال حينئذ في تقديم الجمع العرفي.

وبهذا يختلف هذا التقريب عن سابقيه ، لأنّ السابقين كان يتعرف كلّ منهما بأنّه جمع عرفي في نفسه ، وأمّا هنا فيقال : بأنّ الجمع بالحمل على النسخ ليس عرفيا ، وهذا التقريب يمكن أن يبيّن بأحد بيانين.

١ ـ البيان الأول : هو ما ذكره المحقق العراقي (قده) (١). وحاصله : انّ الجمع العرفي إنّما يتصور في مورد يؤدّي الجمع فيه إلى العمل بكلا الدليلين ، لكن مع التصرف في أحدهما أو في كليهما بلحاظ الآخر من تقييد أو تأويل ونحو ذلك ، وأمّا إذا أدّى الجمع إلى طرح أحد الدليلين ، وإسقاطه رأسا كما في الحمل على النسخ ، فهذا لا يكون جمعا عرفيا ، لأنّ معنى الجمع بين الدليلين هو الالتزام بهما معا.

وحينئذ نقول : إنّه في المقام عندنا عام متأخّر ، وخاص متقدّم ، فلو بنينا على نسخ الخاص بالعام فهو يعني أنّه بعد ورود العام لا حجية في الخاص بالنسبة إلينا أصلا ، أمّا بلحاظ زمان ما بعد ورود العام ، فلأنّ الخاص منسوخ ، وأمّا بلحاظ زمان ما قبل ورود العام ، فلأنّه خارج عن محل ابتلائنا ، لعدم وجودنا آنذاك ، إذن فلا معنى لكونه حجة في حقنا ، فالنسخ يعني ، انّ الخاص لن يكون حجة في حقنا على الإطلاق.

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٣٩

وهذا بعكس ما لو بنينا على تخصيص العام بالخاص ، لأنّ التخصيص لا يعني سقوط العام عن الحجية ـ لو قدّمنا الخاص ـ بل يبقى على حجيته بلحاظ غير أفراد الخاص ، إذن ، فالتخصيص موجب للجمع العرفي بين الحجتين بخلاف النسخ ، حيث أنّه لا يوجب الجمع العرفي.

ثم استشكل عليه باستشكالات في مقام التفتيش عن الثمرة للخاص ، وأنّه قد يقال : بأنّ الخاص لو التزم بأنّه منسوخ ، فمع هذا يمكن أن يكون مشمولا لدليل الحجية بلحاظ زمان ما قبل النسخ فيما لو فرض أنّه كان هناك أثر عملي يترتّب فعلا على ثبوت ذلك الحكم ماضيا.

إلّا أنّ الصحيح انّ هذا البيان في نفسه غير صحيح ، وما قيل من انّ الجمع العرفي يشترط فيه أن يكون مؤدّيا إلى حفظ حجية كل من الدليلين فهو غير تام.

وقد تعرضنا لهذا الكلام في بحث تعارض الأدلة ، تحت عنوان ، شروط الجمع العرفي وبيّنا انّ هذا ليس من شروطه. وقلنا هناك : إنّ مفاد دليل الحجية هو التعبّد بمضمون ذلك الدليل وما يستفاد منه عرفا ، بشرط أن يكون لهذا المفاد أثر عملي كي لا يكون لغوا ، وهذا الاشتراط نتيجة مقيّد لبّي في المقام ، لأنّه إذا لم يكن للمفاد أثر ، يكون التعبّد به لغوا ، وحينئذ ، لو فرض أنّ الجمع العرفي في مورد اقتضى تعيين مفاد الخبر لكن مع إلغاء أثره العملي ، حينئذ ، في مثله ، يسقط ذلك الدليل عن الحجية تخصيصا ، لعدم تحقّق شرط حجيته ، ولكن لا يسقط الجمع العرفي عن كونه جمعا عرفيا ، وبقية التفصيل في محله ، إذن فهذا البيان غير تام.

البيان الثاني : وهو مبني على المسلك الثالث القائل : بأنّ اصالة عدم النسخ ليست من شئون الكلام وإنّما هي ظهور حالي في الجعل كما عرفت تفصيله ، وحينئذ يقال : إنّ الحمل على النسخ ليس جمعا عرفيا ، وهذا بخلاف الحمل على التخصيص ، فإنّه جمع عرفي ، وذلك لأنّ الجمع العرفي عبارة عن التصرف في مدلول كلام لحساب مدلول كلام آخر من أجل التوفيق

٤٤٠