بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

٢ ـ البيان الثاني : هو أنه لو تنزّلنا عن الأصل الموضوعي. وفرضنا انّ المخصص المتصل يهدم حجيّة ظهور العام لا أصل ظهوره كما في المخصّص المنفصل ، حينئذ نقول :

بأن ظهور العام في كل من هذين العنوانين ، وإن كان محرزا بناء على إنكار الأصل الموضوعي ، لكن مع هذا لا يمكن التمسك بالعام في أيّ منهما بخصوصه ، لأنّ التمسك بالعام في أحدهما بالخصوص ، إن كان منضما إلى التمسك بالآخر بالخصوص ، فهذا قد برهنّا على بطلانه في النقطة الأولى لأن مرجعه إلى التمسك بالعام في كلا العنوانين.

وإذا فرض أنّ التمسك بالعام لإثبات حكمه لأحد المعنيين بالخصوص دون الانضمام إلى الآخر ، فهذا غير صحيح ، لأنه من الترجيح دون مرجح كما هو واضح.

والحاصل انّ هذين الظهورين حجيتهما معا غير معقولة ، كما بيّناه في النقطة الأولى ، وحجية أحدهما بالخصوص ترجيح بلا مرجح ، إذن فتتساقط الحجيّتان معا ، فلا يعقل التمسك بالعام لا في كليهما ، ولا في أحدهما بالخصوص ، بل بحسب الحقيقة يكون هذان الظهوران متعارضين متكاذبين ، فإن وجوب إكرام كلا المعنيين للموالي وإن لم يكن بينهما تناف بالذات ، لكن بعد ورود المخصص المتصل على عدم وجوب إكرام أحدهما. حينئذ يصير كل منهما معارضا للآخر بالعرض إذ إنّنا نعلم إجمالا بكذب أحدهما ، فيدل كل منهما بالالتزام على أنّ الكاذب هو غيره ، فيكونان من الظهورين المتعارضين ، وحينئذ لا يمكن التمسك بأيّ واحد منهما.

٣ ـ وأمّا النقطة الثالثة : وهي أنّه بعد الفراغ عن عدم جواز التمسك بالعام لإثبات حكمه لكلا المعنيين ، ولا لأحدهما ، حينئذ يقع الكلام ، في انّه هل يمكن ان نثبت بهذا العام ، حكمه لأحدهما على سبيل الإجمال؟. وذلك بأن نقول : إنّ العام يحكم بوجوب «إكرام كلّ فقير» ، والمخصّص هنا ، يستثني واحدا ، لكن هذا الواحد ، مردّد بين اثنين ، حينئذ نقول : إنّه بالعام ، نثبت أنّ الزائد على الواحد يجب إكرامه.

١٦١

وفائدة ذلك ، لو تمّ ، تشكيل علم إجمالي بوجوب إكرام أحد المعنيين ، وهذا العلم الإجمالي منجز بأحد قواعد تنجيز العلم الإجمالي ، وهنا يقال : إنّه يصح التمسك بالعام لإثبات الحكم على المجمل ، وذلك ، بأن نشير إلى من خرج بالتخصيص واقعا ونقول : انّ هذا الخارج ، معيّن عند الله تعالى ، وغيره لم نعلم بخروجه بالتخصيص ، إذن فيكون الشك في تخصيص الغير ، شكا في تخصيص الزائد ، فنتمسك بالعام لإثبات حكمه على غير من خرج بالتخصيص ، وهذا لا يرد عليه شيء من الإشكالات السابقة ، ككون هذا شبهة مصداقية للظهور ، لأن ظهور العام محرز ، لأنّه عند ما نشير إليه بذلك العنوان ، لا نحتمل أنّ ظهور العام سقط فيه ، وإنّما ظهور العام سقط فيمن وقع عليه التخصيص ، لا ما يحتمل أنّه خرج بالتخصيص ، كما أنّ هذا المقدار من الدلالة في العام ، ليس لها معارض ، لأنّ إثبات حكم العام على ذلك العنوان لا يعارضه دلالته على أيّ عنوان آخر ، إذ أنّ ما يقابله هو ، ما خرج بالتخصيص ، ودلالة العام عليه ساقطة عن الحجيّة ، ولا يعارض ما لا موجب لسقوطه عنه ، «غير ما خرج بالتخصيص» لوجود المقتضي ، وهو أصل الظهور ، وفقدان المانع ، وهو المعارضة ، لأنه على تقديره هو ، المعارضة ، ولا معارض ، في المقام ، فيكون حجة في إثبات حكمه للفرد الآخر بعنوان «غير ما خرج بالتخصيص».

نعم هنا مشكلة وحاصلها هو : أنّ ما خرج بالتخصيص له حالتان :

أ ـ الحالة الأولى : هي أن يكون الخارج أمرا متعينا في نفسه ، بحيث انّ الدليل المخصّص المجمل عندنا ، ليس مجملا عند غيرنا في نفس الأمر والواقع ، إذ من هو أكثر اطلاعا على اللغة ، مثلا ، يفهم المراد من هذا المخصص ، وفي مثل ذلك ، يكون ما قلناه معقولا ، لأنّا نشير بهذا العنوان الإجمالي إلى غير من أريد بهذا المخصص ، ونقول عنه ، إنّه متعيّن ، إذن فهو داخل تحت حكم العام ، وهو أمر معقول ، لأنّ المراد من المخصّص متعيّن ، إذن فغيره متعين أيضا.

والحاصل هو أن نعلم من الخارج ، إنّ المولى لم يستثن من العام إلّا

١٦٢

قسما واحدا من قسمين ، هو المخصّص المجمل ، وانّ الآخر داخل تحته ، وفيه لا نحتاج إلى التمسك بالعام للعلم بعدم التخصيص في الآخر ، وللعلم بأن ما صدر من المخصص محصور في المجمل. وهو لا يخرج إلّا أحد الفردين ، وهذا يعني أن الفرد الآخر تحت حكم العام.

ب ـ الحالة الثانية : هي أن يكون مفاد المخصّص غير متعيّن أصلا ، حتى في نفس الأمر والواقع.

ومثاله : ما لو فرض انّ المخصّص كان عقليا ، مرجعه إلى استحالة الجمع بين فردين من أفراد العام ، كما لو فرض ، انّ إكرام زيد من الفقراء ، وإكرام عمرو منهم ، كانا ضدين بنحو لا يعقل جعل الحكم لهما معا ، فلو ورد عام يقول : «أكرم كل فقير» ، وفرضنا مخصّصا بالنحو المذكور ، فهنا ، الذي خرج بالمخصص غير متعيّن ، لأنّ المخصّص هو العقل ، وغاية ما يحكم به هو ، أنّه لا يجب إكرام الاثنين ، لأنّ نسبة المخصص إلى الفردين ، على حد واحد ، ونحن نحتمل ثبوتا عدم وجوب كلا الفردين ، ونحتمل وجوب إكرام أحدهما فقط ، ونريد أن نثبت بالعام وجوب إكرام الفرد الآخر على إجماله.

وحينئذ نقول : انّه كيف نشير إليه؟ فإن قلنا غير الفرد الذي خرج بالتخصيص يجب إكرامه ، فهذا غير معقول ، لأنّ هذا الخارج غير متعيّن ، وحينئذ فغير الخارج بالمخصص ، كذلك هو غير متعيّن ، وغير المتعيّن لا يعقل جعل الحكم عليه.

وحينئذ ، فلا يعقل التمسك بالعام بالنحو المذكور ، لأنّه تمسك به لإثبات الحكم لأمر مبهم ، وهو غير معقول ، وإن كان العقلاء هنا ، لا يعذرون من ترك إكرامهما معا.

وهذه المشكلة ، تستدعي صياغة فنيّة لإثبات حكم العام لأحدهما دون الآخر ، بحيث لا يرد عليه أيّ إشكال.

إذن فحاصل هذه المشكلة هو ، أنّ المخصّص المجمل بنفسه ، أيضا

١٦٣

مردّد بين المتباينين ، فلا نستطيع أن نشير إلى قسم بعينه ونقول : هذا خرج بعينه ، وذاك مشكوك ، ليصح التمسك بالعام ، ولذا كانت الصيغة الأولى التي طرحت لجواز التمسك بالعام في محل كلامنا ، وهي أن نتمسك بالعام لإثبات حكمه ، لغير ما خرج بالمخصص ، فإنّ المخصص وإن كان مجملا عندنا ، إلّا أنّه محدود واقعا ، ولكن هذا يثبت وجوبا إجماليا ، وهو وجوب إكرام غير ما خرج بالمخصص ، وحينئذ ، يتشكل علم إجمالي بوجوب إكرام أحدهما ، وتنطبق عليه أحد قوانين تنجيز العلم الإجمالي.

ولكن يعترض على هذه الصيغة بما عرفته في الحالة الأولى والثانية.

والمثال العملي الحي لهذا ، يمكن تحصيله في باب الأصول العملية ، كما في عموم ، «كل شيء ظاهر حتى تعلم أنّه قذر» ، فإنه حينئذ لو كان عندنا إناءان ، وكل منهما مشكوك الطهارة والنجاسة ، فكل منهما فرد من أفراد موضوع العام المذكور ، لأن كلا منهما بخصوصه لا يعلم بقذارته ، فلو حصل لنا علم إجمالي بنجاسة أحدهما ، ونحن نحتمل نجاسة الاثنين معا ، فهنا العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصل في كلا الطرفين ، لأنّ إجراء الأصل في كلا الطرفين ، فيه مخالفة قطعية ، وإجراؤه في أحدهما معقول ، من حيث عدم المخالفة القطعية ، وحينئذ ، نقول : بأن العام هذا قد طرأ عليه مخصص ، وهو حكم العقل باستحالة إجراء الأصل العملي في كلا الطرفين ، إذن فهو ساقط في أحدهما يقينا ، لكن هل هو ساقط فيهما معا؟ أو انّه يمكن إجراؤه في أحد الطرفين الذي لم يعلم سقوط الأصل فيه على إجماله ، أو أنه لا يمكن ذلك؟.

حينئذ نقول : إنه لا يمكن ذلك ، لأنّ المخصّص العقلي نسبته إلى كلا الطرفين على حد واحد ، فليس له تعيّن ثبوتي في أيّ واحد منهما ، وعنوان : «ما خرج بالمخصص» ، غير متعيّن ، إذن فغير الخارج غير متعيّن.

هذه هي المشكلة ، وعليه ، فلا بدّ من صياغة أخرى للتمسك بالعام في المقام ، بحيث تدفع هذه المشكلة فنقول :

١٦٤

إن التمسك بالعام لإثبات حكمه لكل من الطرفين المحتملين للمخصص ممكن ، لكن ليس على الإطلاق ، بل على تقدير خروج غيره ، لأنّا نعلم إجمالا بخروج أحد الفردين من تحت العام ، ولكن لا ندري بخروج كليهما.

وحينئذ نقول : إنّ العام يشمل هذا الفرد على تقدير خروج الفرد الآخر ، ويشمل الفرد الآخر على تقدير خروج الفرد الأول ، وحينئذ ، نثبت بالعام ، دخول كل من الفردين ، بشرط خروج الآخر ، وبهذا ينتج حكمان على محلين قابلين متعيّنين ، لكن كل منهما مشروط بخروج الآخر ، وهذان الحكمان المشروطان نعلم بتحقق شرط أحدهما ببركة المخصّص المجمل مفهوما ، ويصبحان بقوة العلم الإجمالي المنجّز ، فيتنجز هذا العلم الإجمالي في كلا هذين الفردين.

إذن فيتغلّب على المشكلة ، بتطبيق حكم العام على كل من الفردين بعنوانه التفصيلي ، مشروطا بخروج الآخر ، وحيث نعلم بخروج أحدهما ، نعلم إذن ، بإثبات حكم العام لأحدهما الباقي.

وأمّا الجانب العملي ، فيرجع به إلى السيرة العقلائية حيث انّهم يعملون بالعام في عدا ما خرج.

٣ ـ الفرع الثالث : وهو ما إذا كان المخصص المجمل مفهوما ، منفصلا ، ودائرا أمره بين الأقل والأكثر ، كما في «أكرم كلّ فقير» ، وورد في دليل منفصل ، «لا يجب إكرام فساق الفقراء» ، وكانت كلمة فاسق ، مجملة مفهوما ومرددة بين مرتكب الكبيرة خاصة ، أو الأعم منها ومن الصغيرة.

وهذا الفرع كالأول من حيث الافتراض ، إلّا أنّنا هناك ، فرضنا المخصص متصلا ، وهنا فرضناه منفصلا.

والمعروف هنا هو ، جواز التمسك بالعام بالنسبة للمشكوك.

والتقريب المدرسي لذلك هو ، أن يقال : بأنّ إثبات وجوب الإكرام

١٦٥

لهذا المشكوك ، المقتضي له موجود ، والمانع مفقود ، بحسب مقام الإثبات. أمّا وجود المقتضي ، فلأنّه إثباتا هو ظهور العام ، والمفروض ثبوت هذا الظهور ، لأنّ المخصّص منفصل ، وقد ذكرنا سابقا في الأصل الموضوعي ، انّ هذا المخصص المنفصل لا يهدم أصل الظهور للعام ، وإنّما يسقط حجيّته ، بخلاف المتصل.

وأمّا كون المانع مفقود ، فلأنّ المانع ليس إلّا وجود ظهور آخر مزاحم لظهور العام أقوى منه ، أو مساوي له ، وهذا المانع مفقود ، لأنّ المخصص هنا بلحاظ فاعل الصغيرة مجمل ، والمجمل لا يعقل أن يزاحم الظهور الثابت للعام ، لأنّ المجمل لا كشف له ، بخلاف العام ، ولا يزاحم ما ليس له كشف ، ما له الكشف ، وعليه فيكون العام حجة في موارد إجمال المخصص.

وهذا التقريب وإن كان صحيحا في نفسه ، لكن تعميقه وتحليله بحاجة إلى استعراض المناقشات والاعتراضات الواردة عليه مع تمحيصها.

أ ـ الاعتراض الأول : هو أن يقال : إنّ ظهور العام وإن كان موجودا ، لكن هذا الظهور لا يعلم حجيته إلّا بدليل حجية الظهور ، وهنا لا يمكن التمسك بدليل حجية الظهور لإثبات حجية ظهور العام في فاعل الصغيرة ـ أي في مورد المخصّص المجمل ـ لأنه شبهة مصداقيّة لدليل حجية الظهور.

وتوضيح ذلك هو : انّ العام عند ما ورد من المولى ، انعقد له ظهور في جميع الفقراء ـ أي انعقد ظهور في العموم لتمام أفراده ، ـ وعند ما ورد المخصّص المنفصل ، فباعتبار أقوائيّته أو قرينيّته ، أسقط حجيّة العام بمقداره ، وإن لم يسقط أصل ظهوره ، فصار العام منقسما إلى حصتين ، حصة فيها حجة ، وأخرى ليست بحجة ، والحصة الحجة ، هي التي لا يشملها المخصص ، وهي غير الفساق ، والحصة التي ليست بحجة ، هي التي يشملها المخصّص وهي الفساق.

وحينئذ ، فيقال : إنه بالنسبة للفقير المرتكب الصغيرة ، فأصل ظهور

١٦٦

العام وإن كان محرزا فيه ، لكن حجيّة هذا الظهور غير محرزة فيه ، لأنّه لا يعلم أنّ مرتكب الصغيرة هذا تحت أيّ الحصتين والصنفين هو داخل ، تحت الصنف الذي سقط عن الحجية ، أو تحت الصنف الذي بقي على الحجية ، ومعه لا يمكن إعمال هذا الظهور العمومي في المقام ، لأنه يكون بالنسبة لدليل حجية الظهور شبهة مصداقية.

والجواب على هذا الاعتراض هو ، إنّ المخصص المجمل المنفصل ، يحتمل فيه احتمالان :

أ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون الموضوع الذي حكم عليه بعدم الإكرام هو ، من كان مدلولا لكلمة «فاسق» بما هو مدلول لكلمة «فاسق» ، وكأنّ المولى له خصومة مع هذه اللفظة ، فكلّ من كان مدلولا لهذه الكلمة ، يكون خارجا عن العام ، فتكون مدلوليّة هذه الكلمة مأخوذة على نحو الموضوعيّة في المخصص.

ب ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون الموضوع الذي خرج بالتخصيص وحكم عليه بعدم الإكرام هو ، واقع «الفاسق» لا عنوان مدلول كلمة «فاسق» ، فلا يكون لكلمة «فاسق» أيّ موضوعيّة ، بل هي موضوع من باب الطريقيّة والكشف عن ذات مدلول لفظ الفاسق.

فإذا كان المخصص مسوقا مساق الاحتمال الأول ، بحيث كان الخارج بالتخصيص مدلول كلمة «فاسق» بما هو مدلول ، بحيث يكون له موضوعيّة ، فحينئذ ، لا تكون الشبهة مفهوميّة ، بل تكون الشبهة في المخصص مصداقيّة ، لأنّ مدلول كلمة «فاسق» واضح لا إجمال فيه ، لأنّ هذا المفهوم مركب من «اسم الموصول ، وصلته» ، والموصول وصلته لا غموض فيه ، وإنّما الغموض في مصداق هذا المفهوم ، وحينئذ ، تكون الشبهة مصداقيّة.

ونحن حتى لو قبلنا بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصص ولو كان منفصلا ، ولكن هذا الفرض خروج عن محل الكلام ، لأنّ محل الكلام كون الشبهة مفهوميّة ، فلا بدّ إذن من الأخذ بالاحتمال الثاني.

١٦٧

وعلى الاحتمال الثاني ، وهو أن يكون المخصص قد حكم بعدم وجوب إكرام على واقع مدلول كلمة «فاسق» ، وواقع مدلول فاسق مجمل ، فتكون الشبهة حينئذ مفهوميّة وهو محل الكلام ، لأنّ واقع الفاسق غير مفهوم المراد منه ، هل هو فاعل الكبيرة ، أو الصغيرة كذلك ، وحينئذ نقول : إنّ المخصص المنفصل هذا ، وإن كان يسقط بعض حصص العام عن الحجيّة ، لكن يسقطها بمقدار ما نحرز انّه يشير إليه ، وما نحرز انّه يشير إليه ، هو فاعل الكبيرة ، إذن فلا موجب لإسقاط الحجيّة عمّا يشك في شمول المخصص له ، لأنّ هذا شك في تخصيص زائد ، وفي مثله لا موجب لرفع اليد عن العموم فيه ، فمنشأ توهم الاعتراض هو ، تحميل تفسير العام لعنوان «غير من تدل عليه كلمة فاسق» ، ولكن هذا خلف ، لأنّه تحويل للشبهة من كونها مفهوميّة ، إلى كونها مصداقية.

٢ ـ الاعتراض الثاني : هو أن يقال : صحيح انّ الظهور موجود لوجود المقتضي وعدم المانع كما عرفت ، لكن مع هذا نقول : إن العام رغم كون ظهوره فعليا بالنسبة لفاعل الصغيرة ، وليس له مزاحم فعلي ، إلّا أنّه ليس حجة في مورد إجمال المخصص ، وذلك لأنّ الحجيّة ليست من اللوازم العقلية للظهور ، وإنّما هي حكم عقلائي لا بدّ فيها من الرجوع إلى السيرة العقلائية ، ونحن عند ما نرجع إلى هذه السيرة ، نرى أن العقلاء عند ما يريدون معرفة مراد المتكلم من كلامه ، فإنهم يجمعون كل كلماته وينزلونها منزلة الكلام الواحد ثم يستخلصون مراد المتكلم من مجموعها ، ومن الواضح ، أنّ هذا ، معناه ، تنزيل المخصص المنفصل منزلة المخصص المتصل ، ويشهد لهذا أنهم يقدمون المخصص المنفصل على العام ، مع أنّ المخصص المنفصل لا يهدم ظهور العام ، ومع هذا يرفعون اليد عن ظهور العام بالنسبة لما يشمله المخصص المنفصل ، وليس هذا إلّا لكونهم ينزلون المخصص المنفصل منزلة المتصل بالنحو المتقدم ، وعليه : فإذا كان المخصص المتصل يهدم ظهور العام ، إذن فالمخصص المنفصل يهدمه أيضا ، وإذا ثبت انّ هذا ديدن العقلاء في مقام استخلاص مراد المتكلم ، فإنه حينئذ يترتب على ذلك أمران :

١٦٨

أ ـ الأمر الأول : هو أنّ المنفصل يقدّم على العام ، لكون منزلة المنفصل كمنزلة المتصل.

ب ـ الأمر الثاني : هو أنّ العام يكون مجملا في مورد إجمال المخصّص المنفصل ، لأنّ المخصص المنفصل بمنزلة المخصص المتصل.

وقد ذكرنا سابقا ، إنّ المخصص المتصل إذا كان مجملا مفهوما ، ومرددا بين الأقل والأكثر فإنّه لا يجوز فيه التمسك بالعام ، بل يسري إلى العام ويصيّره مجملا.

ونفس هذا الكلام يجري في المخصص المنفصل بعد تنزيله منزلة المتصل.

والحاصل هو : انّ هذا البناء العقلائي ، يمنع من التمسك بالعام في المقام.

والجواب على هذا الاعتراض الثاني ، حاصله : إن استقرار بناء العقلاء على أن مراد المتكلم يستكشف من مجموع كلماته ، صحيح ، لكن هذا لا يستدعي تنزيل المخصص المنفصل منزلة المخصص المتصل ، بل يستدعي النظر إلى هذه الكلمات المتفاصلة بما هي متفاصلة والموازنة بينها بما هي كذلك ثم استنتاج مراد المتكلم الأساسي من مجموع كلماته بعد هذه الموازنة ، ولا يصح فرضها كلها متصلة لأنه إسقاط لبعض دلالات الكلام الصادر من المتكلم ، وذلك لأن نفس الانفصال بين كلام وآخر يكون له دلالة أيضا ـ على ما بينا في الأصل الموضوعي ـ من أن الظهور التصديقي للعام إنما يستقر بانتهاء الكلام من دون نصب قرينة على خلافه ، إذن ، فالدلالة الناشئة من الانفصال سوف تلغى إذا بني على تنزيل المنفصل منزلة المتصل ، لأنّ هذا خلف ما استقر عليه بناء العقلاء ، من ملاحظة مجموع كلام المتكلم ، وعليه : يكون هذا البناء حينئذ على عكس ما فرّع عليه ، ومن ثمّ فهو غير صحيح.

وإنّما الصحيح هو ، البناء على أنّ استخراج مراد المتكلم ، إنّما

١٦٩

يستوجب ملاحظة مجموعة ما صدر من المتكلم من دلالات وكلمات ، وهذا يستتبع التحفظ على المنفصلات من كلامه ، لا تنزيلها منزلة المتصلات ، لأنّ هذه المنفصلات بنفسها تكوّن دلالات ، فقطع النظر عنها ، معناه ، قطع النظر عن بعض الدلالات ، وهو خلف بناء العقلاء الذي هو ملاحظة جميع الدلالات والكلمات.

نعم لو فرض أنّ المتكلم نفسه ألغى هذه الفواصل في كلامه بإحدى طريقتين ، يتم حينئذ تنزيل المنفصل منزلة المتصل.

أ ـ الطريقة الأولى : هي أن يكون كلامه في مجلس واحد مستمر عادة ، كما لو كانت الجلسة فيه مفتوحة ، كما في حلقة الدرس ، حيث انّ أوّل الكلام فيه متصل بآخر الكلام فيه ، فسكوته حينئذ في نصف الكلام ، لا يوجب ظهور انّ كلامه حينئذ منفصل ، لأنّه سوف يكمل كلامه ، وحينئذ يعتبر كلامه متصلا.

ب ـ الطريقة الثانية : هي أن ينزل المتكلم نفسه ، منفصلاته بمنزلة متصلاته ، كأن يصرّح ويقول : إنّ المنفصلات في كلامي اعتبرها متصلات ، ثم يتفاعل معها كما صرّح ، أو ينصب قرينة على ذلك ، كأن لا يعوّل على الدلالات الناشئة من الانفصال.

وحينئذ ، باستعمال إحدى هاتين الطريقتين ، يكون المخصص المنفصل بحكم المخصص المتصل ، إمّا بالاعتبار الأول وإمّا بالاعتبار الثاني.

لكن كلا هذين الأمرين لم يثبت عن الشارع بالنسبة إلى عموماته وخصوصاته.

إذن فهذا الوجه غير تام ، ولو تمّ للزم أن تكون المعاملة مع المعارض المنفصل ، كالمعاملة مع المعارض المتصل ، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

٣ ـ الاعتراض الثالث : وهو مبني على مسلك المحقق النائيني (قده) في تصوير دلالة العام على العموم ، وفي تصوير مقدمات الحكمة ، إذ قد ذكرنا أنّ هناك خلافا في انّ أداة العموم في قوله : «أكرم كل فقير» ، هل تدل

١٧٠

على العموم بواسطة مقدمات الحكمة ، بحيث تتوقف دلالتها على العموم على جريان مقدمات الحكمة في مدخول الأداة؟ أو انّ أداة العموم نفسها تغني عن مقدمات الحكمة بدون حاجة لإجرائها في المدخول؟

وقد اختار النائيني (١) (قده) المبنى الأول ، واختار صاحب الكفاية (٢) (قده) المبنى الثاني.

ثم إنّ هناك خلاف آخر بين النائيني (قده) وصاحب الكفاية (قده) في باب مقدمات الحكمة.

فمسلك النائيني (قده) في باب مقدمات الحكمة هو ، إنّ إحدى مقدمات الحكمة ، هي عدم بيان القيد ولو منفصلا ، بحيث لو جاء القيد بعده ، تنهدم مقدمات الحكمة.

بينما مسلك صاحب الكفاية (قده) هو أنّ إحدى مقدمات الحكمة هو ، عدم بيان القيد متصلا ، بمعنى انّه بمجرد أن ينهى المتكلم كلامه ولا ينصب قرينة متصلة على القيد ، فتتم مقدمات الحكمة ، ويثبت الإطلاق.

والصحيح في كل من الخلافين ، هو ، كلام صاحب الكفاية (قده).

وحينئذ : بناء على مسلك النائيني (قده) من أنّ أداة العموم تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة في المدخول ، وانّ من مقدمات الحكمة ، عدم بيان القيد ولو منفصلا.

حينئذ يقال : لو قال المولى «أكرم كلّ فقير» ، ثمّ قال بعد مدة : «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، فباعتبار عدم اطّلاع السامع على اللغة ، يشك في معنى كلمة «فاسق» وأنها هل تدل على مرتكب الكبيرة فقط ، أو على الأعم منها ومن مرتكب الصغيرة؟

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٥٨ ـ هامش أجود التقريرات. ص ٤٤٠ ـ ٤٤٩.

(٢) كفاية الأصول ـ المشكيني ص ٣٣٤ ـ ٣٣٣.

١٧١

حينئذ قد يقال : إنّه بناء على مسلك الميرزا (قده) لا يمكن التمسك بالعموم لإثبات حكمه على مرتكب الصغيرة ، لأنّ شمول أداة العموم لفرد هو ، فرع شمول مقدمات الحكمة لهذا الفرع ، وإحدى مقدمات الحكمة هي عدم صدور ما يكون بيانا للقيد ولو منفصلا ، وفي المقام ، يحتمل أن يكون هذا المخصص المنفصل بيانا لعدم إرادة إكرام مرتكب الصغيرة ، لأنّ المفروض أنّا لا نعلم مدلول كلمة «فاسق» مفهوما إذ لعلّ لها دلالة تشمله ، وعليه ، فلا تتمّ مقدمات الحكمة ، لأنّ المورد شبهة مصداقيّة لمقدمات الحكمة ، وإذا لم تتم مقدمات الحكمة ، فلا تكون أداة العموم دالة على العموم ، وحينئذ ، بناء على هذا ، يتعذّر علينا التمسك بالعام في مثل هذا المورد ، بل هنا يتعذر التمسك بالعام بمجرد احتمال صدور المخصص المنفصل ، فضلا عن صدوره ولو مجملا ، ولذا ينبغي جعل هذا من اللوازم الباطلة لكلا مبنيي الميرزا (قده) في المسألة.

والمخلص الوحيد لمدرسة الميرزا (قده) هو ، أن يتمسك بالأصل العملي ، كالاستصحاب مثلا ، فيقال : قبل صدور هذا المخصّص المنفصل ، كان الظهور الإطلاقي تاما ، وبعده نشك في ارتفاعه ، فنستصحب ظهوره الأول وهو ، فرع مقدمات الحكمة ، والمفروض انّها غير تامة ، وهذا غير التمسك بالعام الذي هو محل كلامنا ، لكنّه اعتراض مبني على مسلك غير صحيح ، وبذلك يكون الاعتراض غير صحيح.

وبهذا اتضح أنّ الصحيح هو التمسك بالعام في مورد إجمال المخصص المنفصل مفهوما والدائر بين الأقل والأكثر.

وبهذا يتضح أيضا بطلان جميع الاعتراضات على هذه المسألة.

٤ ـ الفرع الرابع : وهو فيما إذا كان المخصص منفصلا ومجملا مفهوما ، ودائرا أمره بين المتباينين ، كما إذا ورد ، «أكرم كلّ فقير» ثم ورد ، «لا تكرم زيدا الفقير» ، وتردّد أمر زيد ، بين زيدين من الفقراء.

وهذا الفرع يشبه الفرع الثاني وهو فيما إذا كان المخصص متصلا

١٧٢

ومجمل مفهوما ودار أمره بين المتباينين. غايته ان المخصص المجمل مفهوما. كان هناك متصلا ، بينما هنا نفرضه منفصلا ، ولذا فإننا نتكلم هنا على نفس المنهجة هناك في الفرع الثاني : وحينئذ يمكن تصوير التمسك بالعام في ثلاث نقاط.

١ ـ النقطة الأولى : هي أن نتمسك بالعام هنا في كلا الفردين ، ونثبت إكرام كلا الزيدين.

وهذه النقطة بهذا الشكل غير صحيحة ، على الرغم من أنّ ظهور العام تام في كلا الفردين ، ولا يتزعزع بطرو المخصّص المنفصل ، وذلك لأنّ طرو المخصص المنفصل يوجب سقوط حجية ظهور العام في مورده الذي هو ، إمّا زيد الأول ، وإمّا زيد الثاني ، وعليه ، فحجيّة الظهور ساقطة في أحدهما ، وحينئذ ، فإذا أعملنا العام في كلا الظهورين ، كان معناه ، إعمال العام بظهور ساقط عن الحجيّة يقينا ، وهو غير جائز ، وعليه فلا يجوز إعمال العام في كلا الفردين.

٢ ـ النقطة الثانية : هي إعمال العام في أحدهما بعينه وعنوانه التفصيلي ، فنتمسك بالعام لإثبات وجوب إكرام زيد الأول مثلا ، دون الثاني ، أو العكس ، دون العكس.

وهذا أيضا غير صحيح ، وذلك لأنه بعد فرض كون المخصص في المقام حجة على الرغم من انفصاله ، فإنّه حينئذ لا يعقل إعمال العام حتى في أحد الموردين ، وذلك لأنّ إعماله في أحدهما إن كان مع إعماله في الآخر ، فقد عرفت بطلانه في النقطة الأولى ، وإن كان إعماله في الآخر من دون إعماله في الأول ، فهو ترجيح بلا مرجح ، لأنّ نسبة العام إلى كلا الفردين ، على حد سواء ، واحتمال شمول المخصّص لكل منهما على حد واحد أيضا ، فتعيّن أحدهما للعام ، والآخر للخاص ، ترجيح بلا مرجح أيضا.

٣ ـ النقطة الثالثة : هو أن نتمسك بالعام لإثبات حكمه لغير ما خرج بالمخصص ، فإنه بعد ما ورد خطاب «أكرم كل فقير» ، ثم ورد «لا تكرم زيدا

١٧٣

الفقير» ، حينئذ نعلم إجمالا ، بأنّ أحد الزيدين غير المشخّص عندنا خارج بهذا المخصّص عن عموم «أكرم كلّ فقير» ، لكن لا ندري ، أيّ زيد منهما هو الخارج ، هل هو زيد الآخر على إجماله هو الخارج أو لا؟

نعم يجوز التمسك بالعام ، لإثبات حكمه بوجوب الإكرام لعنوان الفرد الآخر غير الخارج بالمخصص ، وفائدة هذا الوجوب غير المشخص عندنا هو ، أنّه يتشكّل لدينا علم إجمالي بوجوب إكرام أحد الزيدين ، ونطبق على هذا العلم قواعد تنجيزه ، وإن كان الفرد الخارج متعيّن في الواقع ، فإنّه حينئذ ، يصبح التمسك بالعام كما عرفت في الفرع الثاني ، حيث ذكرنا هناك ، انّ هذا الفرد ـ وهو غير ما خرج بالمخصص ـ وهو الذي وقع مصبا لحكم العام ، تارة يكون متعينا في الواقع وفي أفق المخصص. كما في «لا تكرم زيدا الفقير» حيث لا بدّ من أن يكون قد أريد منه فردا معيّنا لم نعلمه ، حينئذ ، لا إشكال في صحة التمسك بالعام ، لأنّنا نطبق حكم العام على الفرد الآخر الذي لم يخرج بالمخصص ، مشيرين إليه بهذا العنوان الإجمالي ، فنقول : غير ما أريد بكلمة زيد يجب إكرامه.

وتارة أخرى ، يكون هذا الفرد الخارج غير متعيّن في الواقع وفي أفق المخصص نفسه ، فإنّه حينئذ لا يصح التمسك بالعام في غير ما خرج بالمخصص ، لأنّ العنوان الذي خرج بالتخصيص من تحت العام غير متعين ثبوتا ، ومعه ، فغير الخارج أيضا غير متعيّن ثبوتا ، ومعه ، لا يعقل أن نثبت بالعام وجوبا على فرد غير متعيّن في نفس الأمر والواقع.

وهذه المشكلة ، كنّا قد وضعنا لها حلا في الفرع الثاني ، أمّا هنا ، فسوف نواجه إشكالا حتى في فرض كون الفرد الخارج بالتخصيص متعيّنا في الواقع ، والذي كان لا إشكال فيه في الفرع الثاني ، ومثاله هو نفس مثالنا المتقدم ، «أكرم كلّ فقير» ، و «لا تكرم زيدا الفقير» ، فهنا : زيد الفقير متعين بحسب الواقع في أحد الفردين ، لكن مع هذا فإنّنا هنا ، نواجه إشكالا في التمسك بالعام.

١٧٤

وحاصل هذا الإشكال هنا هو ، انه بعد فرض كون المخصّص منفصلا قد انعقد للعام ظهوران فعليان في كلا الفردين ، وكل منهما في نفسه ، يقتضي حجية نفسه ، وحينئذ ، بعد ورود المخصّص المنفصل ، فهو لا يهدم أصل الظهورين ، وإنّما يهدم حجيته بمقدار ما وصل إلى المكلف ، وهذا يعني ، أنّ المخصّص يكذّب أحد هذين الظهورين في العموم ، وحينئذ ، يحصل العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، ومع حصول هذا العلم ، يحصل التكاذب والتعارض بين الظهورين ، ومع حصول التعارض يتساقطان عن الحجية ولا يبقى أيّ منهما حجة حينئذ ، لأنّه مقتضى القاعدة.

وحينئذ ، فالذي يريد أن يتمسك بالعام لإثبات وجوب إكرام «غير من خرج بالتخصيص» ، هل يريد أن يتعامل مع عنوان «غير من خرج بالتخصيص» ، وكأنّه فرد ثالث للعام ، بحيث يكون للعام ثلاثة أفراد ، زيد الأول ، وزيد الثاني ، وزيد الثالث الذي لم يخرج بالتخصيص؟ إذا كان هكذا يريد ، فهو واضح البطلان ، لأنّه لا يوجد للعام إلّا فردان ، وعنوان «غير من خرج بالتخصيص» عنوان ثانوي مشير إلى أحد هذين الفردين ، وليس إلى فرد آخر مقابل لهما.

وإن كان يريد أن يجعل هذا العنوان مشيرا إلى ذلك الفرد الذي يثبت حكم العام في حقه ، فهو أيضا غير صحيح ، لأنّ هذا الفرد ، إمّا زيد الأول ، وإمّا زيد الثاني ، والمفروض إنّ العام تعارض ظهوره في الأول مع ظهوره في الثاني ، وحينئذ يكون العام مشيرا إلى فردين ، تعارض ظهورهما فيه ، فيكون العام مشيرا إلى فرد لم يبق العام حجة فيه.

وهذه المشكلة لم نكن نواجهها في الفرع الثاني ، لأنّه هناك ، في فرض كون المخصّص متصلا بالعام لم ينعقد للعام ظهوران فعليّان في كلا الفردين ليقع التعارض ، والتساقط بينهما ، بل انعقد للعام ظهور واحد في فرد واحد ، وهو عنوان «غير من خرج بالتخصيص» بنحو يكون هذا العنوان مشيرا إليه ، وهذا الظهور لم يسقط عن الحجية ، فبقي الخارج بالتخصيص بلا حجيّة ،

١٧٥

وصار متعيّنا ، لأنّ عنوان «غير من خرج بالتخصيص» صار متعينا ، أي إنّ ما بقي تحت العام ـ وهو «غير من خرج بالتخصيص» ـ صار متعيّنا أيضا.

والجواب عن هذا الإشكال ، يمكن أن يكون بإحدى صيغتين.

١ ـ الصيغة الأولى : وقد ذكرناها في مبحث تعارض الأدلة ، حيث قلنا هناك ، انه في موارد تعارض الدليلين اللذين يعلم بكذب أحدهما فقط ، ولا يعلم بكذب الآخر ، يمكن أن يقال : بأنّ التعارض بين حجيّة هذا الدليل ، وحجيّة ذاك الدليل ، ليس بنحو لا يثبت أحد الدليلين على نحو الإجمال ، ولذا لم نقل بالتساقط المطلق بينهما ، كما بنيت هذه الشبهة عليه ، بل قلنا : إنّ مقتضى القاعدة أن تبقى حجيّة أحدهما على نحو التخيير بينهما ، وبناء عليه : فالإشكال هنا لا موجب له ، وسوف يأتي تفصيل ذلك وتحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

٢ ـ الصيغة الثانية : هي نفس الصيغة التي تقدمت في الجواب عن هذا الإشكال الوارد في الفرع الثاني ، فيما لو كان المخصّص متصلا ، ولم يكن الفرد متعيّنا في الواقع ، فنفس ذلك الحل يأتي هنا.

بقي الكلام في عدّة تنبيهات ، تحسن الإشارة إليها.

١ ـ التنبيه الأول : هو أنّا قد لاحظنا أنّ المخصّص المجمل مفهوما والدائر أمره بين الأقل والأكثر ، يختلف حاله مع الاتصال عن حاله مع الانفصال نظريا وعمليا ، إذ في صورة الاتصال ، سوف يوجب إجمال العام ، وحينئذ يمتنع التمسك به في المورد المشكوك ، بينما في صورة الانفصال يجوز التمسك بالعام في الفرد المشكوك كما تقدّم.

ومن هنا ، يقع الكلام فيما إذا ورد هذا المخصّص ، ولم يحرز أنّه متصل أو منفصل ، ولم يقم دليل على أحدهما ، فشكّ في ذلك ، فما ذا نصنع حينئذ؟

وهذا الفرض يكون حينئذ من صغريات افتراض احتمال القرينة

١٧٦

المتصلة ، لأنّ مرجعه إلى احتمال أن يكون العام قد اقترن بالمخصّص عند وروده.

وقد بنى المشهور في مورد احتمال القرينة المتصلة على عدم الإجمال ، والتمسك بظهور العام ، وفصّلوا بين احتمال قرينيّة الموجود ، واحتمال وجود القرينة ، وقالوا : إنّ احتمال وجود قرينة متصلة ، إن نشأ من الأول ، كان العام مجملا ، وإن نشأ من الثاني فقد بنوا هنا على أنّ الأصل عدم القرينة ، وتمسكوا بظهور العام.

وحينئذ ، إذا بنينا على مبنى المشهور ، فيمكن التمسك بالعام ، لأنّ مقامنا من قبيل الشق الثاني ، لأنّ أصل وجود القرينة محرز ، لكن كونها قرينة متصلة أمر غير محرز ، فيكون الشك ، شكا في اتصال القرينة ، والأصل عدمه ، وهذا يعني ، جواز التمسك بالعام في مورد إجمال المخصص وكون اعتباره منفصلا ، لأنّ الأصل عدم الاتصال.

لكن التحقيق هو ، أنّ احتمال القرينة المتصلة إذا لم يقم دليل خاص على نفيه ، فهذا الاحتمال يوجب إجمال الظهور ، سواء نشأ هذا الاحتمال من الشك في اتصال القرينة ، أو من الشك في أصل وجود القرينة المتصلة.

والنكتة في ذلك هي ، أنّ احتمال وجود القرينة المتصلة يوجب عدم الجزم بفعلية الظهور لما بيّناه في الأصل الموضوعي ، من أنّ المخصص المتصل يهدم أصل الظهور ، وحينئذ ، فاحتمال وجود الهادم معناه ، عدم إحراز وجود المنهدم ، إذن فالشك في أصل القرينة يوجب الشك في أصل فعليّة الظهور ، لأنّه على فرض وجود المخصّص المتصل ، معناه ، فرض عدم فعليّة الظهور ، ومع الشك في أصل فعليّة الظهور ، لا يمكن التمسك بدليل حجيّة الظهور ، لأنه يكون شبهة مصداقيّة لدليل حجية الظهور.

وأمّا ما يدور على ألسنتهم من التمسك باصالة عدم القرينة ، فقد بيّنا سابقا ، انّ هذا الأصل ، أصل عقلائي قائم على أساس نكتة كشف نوعيّة ، كما هو الحال في سائر الأصول العقلائيّة في مقام الإحراز.

١٧٧

ونكتة الكشف هنا في المقام ، هي الظهور ، وحينئذ ، إذا استقرّ للكلام ظهور وأصبح فعليا ، حينئذ ، يكون هذا الظهور بنفسه كاشفا نوعيا عن عدم القرينة ، ومن هنا يجري العقلاء اصالة عدم القرينة المنفصلة عند الشك في وجودها ، وذلك لأنه استقر للكلام ظهور.

وأمّا مع احتمال القرينة المتصلة المساوق لاحتمال عدم ثبوت ظهور للعام في العموم أبدا ، حينئذ ، لا يكون في البين كاشف نوعي لينفي القرينة ، وعليه : فلا تجري اصالة عدم القرينة ، وحينئذ يكون الكلام مجملا بمجرد احتمال القرينة المتصلة.

وعليه : فإذا ورد عام ، ورد مخصّص مجمل مفهوما ومردد بين الأقل والأكثر ، وشككنا في انه متصل أو منفصل ، فحينئذ لا يمكن التمسك بالعام ، لأنّ احتمال القرينة المتصلة يوجب إجمال العام ، بل نتعامل مع المخصّص وكأنه متصل.

نعم إذا اتفق وجود دليل خاص ينفي احتمال وجود القرينة المتصلة ، فحينئذ ، يكون دليلا على عدم كون ذلك المخصّص متصلا ، كما إذا شهد شاهد ثقة ، بأنّ المولى لم يرد هذه القرينة.

وهذا ما نعمله في باب الروايات.

ولكن حينئذ ، قد يقال إشكالا على ذلك ، بأنه بناء على ما ذكرتم سوف ينسد باب العمل بالروايات ، لأنّنا دائما نحتمل وجود القرينة المتصلة ، ومعنى ذلك هو ، عدم جواز التمسك بظهور هذه الأحاديث.

والجواب عليه هو ، انّه في هذه الروايات يوجد دليل خاص ينفي احتمال وجود القرينة المتصلة ، وذلك الدليل هو شهادة الراوي بعد فرض كونه ثقة وحجة فيما يرويه.

وتوضيحه هو أن الراوي حينما يروي حديثا عن المعصوم عليه‌السلام ، فظاهر حاله انه في مقام نقل تمام ما يكون له دخل في هذه الواقعة المعيّنة ، إذن ، فيكون لكلامه مدلولان.

١٧٨

أ ـ المدلول الأول : مدلول إيجابي ، وهو نقل هذه الألفاظ بخصوصيّاتها ونقل كونها صادرة عن المعصوم.

ب ـ المدلول الثاني : هو مدلول سلبي ، وهو أنّ المعصوم لم يقع منه غير ما نقله.

ونحن بهذه المدلول الثاني السلبي ، ننفي احتمال وجود القرينة ، وحيث انّ الراوي شهادته حجة ، إذن فكما يقبل منه شهادته في المدلول الإيجابي ، تقبل منه شهادته في المدلول السلبي أيضا.

ومن هنا ، نقع في إشكال وفي نوع واحد من القرائن ، وهي القرائن التي لا يلتزم الراوي عادة بنقلها ، وذلك لأنّ القرائن على قسمين :

١ ـ القسم الأول : قرائن ذات طابع حواري شخصي ، ومثلها ، الراوي ملتزم بنقلها ، فيكون عدم نقله لها شهادة على عدمها.

٢ ـ القسم الثاني : قرائن تقوم على أساس المرتكزات العرفيّة التي يكون لها دخل في فهم الكلام ، وهذه المرتكزات كثيرا ما تكون متصلة وتشكّل قرينة على فهم المرتكزات ، لأنّ المقصود بالاتصال ، ليس الاتصال الصوتي ، بل المقصود به ، الاتصال المعنوي ، وهذا موجود في المرتكزات التي تشكّل في الكلام ما بواسطته يفهم المعنى ، وهذا ما يسمى عند الفقهاء بمناسبات الحكم والموضوع ، وهذه القرائن لا يتعهد الراوي بنقلها ، وحينئذ لا يكون عدم نقلها دليلا على عدمها لأنّه لا ينقل ـ بنقله للرواية ـ ما يكون ذا طابع اجتماعي ، حيث انّه لا يؤرّخ للمجتمع ، ومن هنا ينشأ إشكال آخر ، وهو أن احتمال القرائن المتصلة التي تكون من هذا القبيل ، لا يمكن نفيها بشهادة الراوي ، بل نحتاج فيها إلى تتبع ملابسات عصر صدور الرواية ، وحينئذ ، إن حصل اطمئنان بعدم وجود ارتكاز ، عملنا بإطلاق الرواية ، وإن حصل الشك في وجود مثل هذه القرينة ، كان ذلك ممّا يوجب إجمال العام.

وبهذا اتّضح ، أن المخصّص إذا دار أمره بين الاتصال والانفصال ،

١٧٩

وكان أمره دائرا بين الأقل والأكثر ، فحينئذ ، نتعامل معه معاملة المتصل ، إلّا مع قيام الدليل على عدمه.

٢ ـ التنبيه الثاني : هو أنّ سنخ ما قلناه في التنبيه الأول ، نقوله في المخصّص الدائر أمره بين المتباينين ، فهذا المخصص تارة يكون متصلا ، وأخرى يكون منفصلا ، وحينئذ ، يجب أن نلاحظ انه ، هل يوجد فرق عملي بين كونه متصلا ، وبين كونه منفصلا ، أو لا يوجد؟

فإذا وجد فرق ، فحينئذ ، نلاحظ صورة الشك ، وإذا لم يوجد فرق عملي ، فلا معنى لملاحظة صورة الشك.

ولكن قد يقال : إنه لا فرق عملي بينهما ، لأنّه لا يجوز التمسك بالعام في فرض دوران المخصص بين المتباينين ، سواء كان متصلا ، أو منفصلا لإثبات حكم العام لكلا الفردين ، ولا لأحدهما بالخصوص ، وإن جاز التمسك بالعام لإثبات حكمه لعنوان «غير ما خرج بالتخصيص» بنحو إجمالي كما تقدم.

ولكن هناك فرق نظري يختلف باختلاف التخريج ، باعتبار انّه في المتصل ، أصل الظهور غير موجود ، بينما في مورد المنفصل ، الظهور موجود ، لكن المعارضة قائمة بين حجيّة كلّ من الظهورين.

إذن ، من الوجهة النظرية ، الفرق واضح ، فإنّ المتصل يهدم أصل ظهور العام بمقداره ، والمنفصل لا يهدم أصل الظهور.

وأمّا من الوجهة العمليّة ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّه لا يوجد فرق عملي على ضوء ما تقدم في النقاط الثلاثة للتمسك بالعام ، لأنّ التمسك بالعام لإثبات حكمه لأحد الفردين بخصوصه ، أيضا هو غير جائز ، سواء كان متصلا أو منفصلا ، والتمسك به لإثبات حكمه للفرد الآخر على إجماله جائز على كل حال ، سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا.

والخلاصة : هي أنّه بعد أن عرفت سابقا الفرق النظري بين المخصص

١٨٠